حوار مع صديقي الشيعي

المؤلف:

الهاشمي بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-428-0
الصفحات: ١٦٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

على المدينة والذي بدوره يعطيه لزوجة الحسن حتّى لا يبقى في الأمة معارض له ، ويُتوّج جهوده الإعلامية والرشويّة فيصبح أميراً للمؤمنين وخليفة للمسلمين فياله من خليفة ويا لهم من مسلمين !!

ويظهر معاوية حقيقته التي طالما سعى لإخفاءها خوفا من شوكة الصحابة الأجلاّء وخوفا من السقوط. أما وقد فتك بالصالحين منهم واشترى ذمم الباقين (١) ، فلا بأس بالتعرّي وكشف السّوءة ، فيقول مجاهرا غير مستح قولته الشهيرة : « إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتصوموا ، لكنّي قاتلتكم حتّى أتأمّر عليكم !! » (٢).

وما الصلاة وما الحجّ وما الإسلام أصلاً أمام المُلك الّذي لبسه غصبا وأورثه ملكا عضوضا إلى بني أمية من بعده حتّى كاد الإسلام يعود أثرا بعد عين ، وحتّى وصل الأمر بأمراء بني أمية أن يضربوا الكعبة بالمنجنيق ، ويستبيحوا المدينة المنوّرة ، ويسخر الحجّاج بن يوسف من طواف المسلمين بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنبره ويقول : إنّما يطوفون بأعواد ورمّة ، وينصحهم بأن يطوفوا بقصر « أمير المؤمنين » عبدالملك بن مروان بالشام (٣).

نعم ، ما كان أظلمها من صفحات في تاريخنا الإسلامي ، فأبو ذر

_____________________

١) كقتله للصحابي الجليل حجر بن عدي باعتراف أُمّ المؤمنين عائشة وباعترافه هو نفسه حيث كان يقول : الويل لي من حجر يكرّر ذلك ثلاثاً ، أنظر : البداية والنهاية لابن كثير ٨ / ٤٩.

أمّا أكبر ذمّة لصحابي اشتراها معاوية فهي ذمة أبي هريرة.

٢) أنظر : البداية والنهاية لابن كثير ٨ / ١٣١.

٣) أنظر : الكامل للمبرد ١ / ٢٢٢ ، العقد الفريد لابن عبد ربه ٥ / ٣١٠.

٦١

صاحب السّابقة يموت وحيدا شريدا في صحراء الرّبذة ، ومعاوية لا يموت إلاّ وهو يلعب مع جواريه وخصيانه بالدّولة الإسلامية العريضة من المشرق إلى المغرب.

وليس عسيراً بعد ذلك على معاوية بما يملك من مال وبطش أن يجعل من نفسه كاتب الوحي (٢) ، وخال المؤمنين (٣) ، بل حتّى هادياً مهديّا (٤) وأن يضع الفضائل الزائفة فيمن أحبّه ، وأن يلعن وينتقص من أبغضه (٥).

وليس عجيبا بعد أن ترى في حكّام اليوم الذين يحكمون بلدانهم لفترات محدودة أن يحرّفوا التاريخ ويقرّبوا من شاؤوا ويبعدوا من شاؤوا حتّى يصبح أحدهم الربّ الأعلى على سيرة فرعون ، وكلّهم كمعاوية مجتهدون مخطئون لهم أجر واحد ، والبركة في المضيرة لمن يشتهيها والسّيف لمن يخافه !.

ومن يدري فلعلّ ماكيافيلّي اطلع على تاريخنا وبنى على سيرة معاوية مدرسته الفكريّة ، من يدري ؟!

_____________________

١) ولا ندري متى كتب الوحي وقد أسلم يوم الفتح في أواخر حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

أنظر : صحيح مسلم : فضائل الصحابة فضائل أبي سفيان ٤ / ١٩٤٥ ، مسند أحمد ٤ / ٢٢٦ حديث رقم ٢٦٥١.

٢) لأنّه أخو أم حبيبة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي أبغضت أباها كما أبغضت أخاها.

٣) في حديث مزعوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهم اجعله هادياً مهديّا وأهد به ! » أنظر صحيح الترمذي ٦ / ١٥٧ حديث ٣٨٤٢.

٤) كأمره لوعّاظه في طول البلاد وعرضها بلعن علي بن أبي طالب على المنابر واستمرّ ذلك إلى ٧٠ سنة. أنظر : تاريخ الطبري حوادث سنة ٥١.

٦٢



شرعية الحكم في الإسلام ... لمن :

كان الفصل شتاءاً ، وكنت أستغلّ فترة مابعد الغروب لأقوم بجولة في أطراف المدينة ، حيث أشعر بالأنس في تلك الأوقات حيث تأخذني قدماي في جولة هادئة ، وتذهب بي مخيّلتي بعيدا محلّقة نحو أفق سحري ، فأطير بعيدا عن رتابة الواقع وأمشي وأمشي حتّى أشعر أنّني قطعت شوطا كبيراً في جولتي ، وأشعر بلفح نسمات باردة فأميل إلى إحدى المقاهي حيث غالباً ما ألتقي بأحد شباب حيّنا فنخوض في موضوعٍ مَا ، وكثيرا ما ينضمّ إلينا بعض الأصدقاء ليشاركوننا الجلسة ، وكانت هكذا جلسات فرصة لي للخروج من رتابة الدروس ولإعادة البعض من الحيويّة الضرورية لمواجهة التحضير لامتحان آخر السّنة الذي كان آخر عقبة للدخول إلى الجامعة.

كنت في أكثر الأحيان ألتقي بصديق الدراسة القديم ـ المتشيّع ـ حيث كنت أشتاق إلى مجالسته لخفّة ظلّه والروح الساخرة التي كان يتميز بها ، فضلا عن أنّه شدّني إليه لما يحمله من أفكار جديدة عليَّ لم أتعوّد على سماعها من قبل ولكلّ جديد لذّة كما يقولون.

في إحدى جلساتي معه وجدته أحضر كتاباً كبيراً ذو غلاف أحمر قاني وكان قد وضعه أمامه على الطاولة ، نظرت إلى العنوان فإذا به « صحيح مسلم » وقد كتب بحروف مذهّبة ، وكتبت عبارة « أصحّ الكتب بعد كتاب

٦٣

الله » تحت العنوان.

مسكت هذا الكتاب ـ وكان مجلّدا واحدا لجزئين فقط ـ لأول مرة في حياتي ، إذ نحن مع الأسف لا نقرأ كتبنا ، ولماذا نقرأ ؟! ألسنا على المحجّة البيضاء ! يا له من غرور مغلّف بجهل مركّب ! إنّ المستشرقين صاروا يعرفون عنّا أكثر ممّا نعرف عن أنفسنا نحن ، وقد يأتي يوم ـ لا سمح الله ـ يَطبخون لنا فيه تاريخا حسب ذوقهم وأهدافهم ويقدمونه لنا بديلا عن تاريخنا (١).

عندما نظرت إلى العبارة كان في نفسي منها شيء ! ما معنى أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى ؟! يعني أنّه في المرتبة الثانية. يا له من قياس عجيب !! ما أسهل أن نصدر أحكاما جزافا لتمرير كثير من الأشياء ، دائما نذهب ونقيس أنفسنا بالله وكتبنا بكتابه العزيز !

كان صديقي قد وعدني مرّة بأن يحضر لي صحيح مسلم لأنّه أكّد لي أنّ حديث : « تركت فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما ، لن تضلّوا بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (٢) هو الحديث المتواتر عند المسلمين.

لكنّي أصررت علىٰ أنّ المشهور هو حديث : « كتاب الله وسنّتي » (٣).

_____________________

١) وقد بدأوا فعلا وما فعله جرجي زيدان في قصصه وتأليفاته كان ضربة البداية.

٢) أنظر : مستدرك الحاكم ٢ / ١٤٨ ، مسند أحمد ٣ / ١٧.

وقد ورد في مسلم شبيها وقريباً في ألفاظه من هذا ، أنظر : مسلم كتاب الفضائل باب من فضائل علي بن أبي طالب.

٣) أنظر : موطّأ مالك : ٦٠٢ حديث رقم ١٦٦٢.

٦٤

فتحت الكتاب حيث المكان الذي عيّنه لي صديقي بورقة صغيرة ، قرأت الحديث كما أخبرني صديقي ، تعجّبتُ !! اللّهم زدْنا علماً ، وقفزت في ذهني أفكار وأفكار كمن كان يريد مخرجا سريعاً لما هو فيه ، لكني عجزت فاشتعل قلبي غيضا على هؤلاء الّذين أوقعونا في ورطة لا مخرج منها ، ويا ليتها كانت الورطة الوحيدة فما أكثر ما تورّطوا فيه وورّطونا فيه معهم.

قال صديقي : وليس فقط مسلم هو الذي أورد هذا الحديث ، بل أورده كثير من المفسرين والمحدثين من أمثال أحمد بن حنبل في مسنده ، والترمذي والحاكم والطبري وابن حجر في صواعقه ، والسيوطي الشافعي في الدر المنثور ، وابن الأثير في النهاية وغيرهم ممّا لا يحصيه عاد.

قلت : لكن المشهور عندنا هو حديث : « كتاب الله وسنّتي » ، حتّى حفظناه عن ظهر قلب وردّدناه في كلّ مجمع وعلى كلّ منبر ، حتّى سارت به الركبان.

قال : ربّ مشهور لا أصل له ، وعلى افتراض وجود وصحة الحديث فهو يفسّر الحديث الصحيح الأوّل حيث إنّ سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي سنّة أهل البيت والعكس صحيح وإذا لم يكن الأمر كذلك لصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متناقضا في قوله وأحاديثه.

ثمّ أدار صديقي صفحات أخرى من صحيح مسلم ، وقال : اقرأ !

قرأت عن أبي هريرة قال : « لا تمتلىء ( النار ) حتّى يضع الربّ رجله فتقول : قط قط ويزوي بعضها إلى بعض » (١).

_____________________

١) أنظر : صحيح مسلم ٢ / ٤٨٢ ، مسند أحمد ٣ / ١٣٤ ، العقيدة الواسطية لابن تيميّة : ٧٦.

٦٥

تملكني العجب من هذا الحديث وتذكرت حديث صديقي عن أبي هريرة وقيمة أحاديثه ، لكني أسررتها في نفسي ولم أُبدِ ذلك له ، وتركت صديقي يعلّق بنفسه على الحديث حتّى أرى ما يقول فيه ، وبالتّالي ما يقول الشيعة حوله.

قال صديقي : لو أعملت عقلك وفكرك لعلمت تهاوي هذا الحديث الذي يرويه أبو هريرة الدوسي :

فأوّلا : هذا القول يعني أنّ الله أخطأ في تقديره لعرض وسعة جهنّم فيضطرّ لأن يضع فيها رجله حتّى تمتلأ.

وثانياً : الله يضرب بقوله في القرآن عرض الحائط. أليس هو القائل : ( فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) (١) الآية. فكيف يقول الله لأملأنّ جهنّم ثم يضطر بعد ذلك لوضع رجله فيها حتّى يملأ فراغاتها ؟!!

ثمّ لا نتحدث بعد عن رجل الله التي يريدنا أبو هريرة أن نتصوّرها كرجله المتشقّقة الحافية التي لم تحضن نعلاً إلاّ في أخريات عمره. ولعلّ أبا هريرة نسي أن يحدثنا عن رجل الله الأخرى ، هل تبقى معلّقة في الهواء أم يضعها الله تعالى في الجنّة لأنها كذلك عريضة واسعة رحبة.

قاطعت صديقي قائلا : لكن قد يكون القصد من رجل الله شيء مجازيّ كما ورد في القرآن عن يد الله وأعينه وغيرها ؟! وقد تكون الرجل هنا هو غضب الله حيث يرفس أهل النّار فيها رفْساً.

ضحك صديقي ضحكة عريضة ، وقال : إنّ الحديث من أساسه

_____________________

١) سورة ص : ٨٤ ـ ٨٥.

٦٦

باطل ، لأنّه لا يَسنده شيء من العقل ولا من القرآن الكريم فكيف نلجأ إلى التأويل ؟!

وعلى ذكر التأويل ، إنّ المجسّمة والمشبهة وأبرزهم في وقتنا الحاضر الوهّابية لا يجوّزون التأويل ، لأنّه عندهم تعطيل ولذا يسمّوننا معطّلة بزعمهم ، وقد أحسنتَ إذ ذكّرتني بهذا الموضوع المهمّ ، فإنّه أساس لفهم القرآن ولفهم أصل التوحيد الذي يدّعي حمل لواءه كثير من الأعراب البوّالين على أعقابهم.

ولهذا كان مرجعنا في فهم القرآن هو خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأئمة المعصومين الّذين قرنهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن في قوله : « تركت فيكم الثّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (١).

وليس لنا الأخذ بالظّاهر في كثير من الآيات ، لأنّ ذلك يؤدّي بالباحث إلى القول بتناقض كتاب الله المجيد.

فمرّة يقول الله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (٢) ، وأخرى يقول : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) (٣) ، ومرّة يقول لموسى : ( لِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي ) (٤) ، وأخرى يقول : ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) (٥) ، فتُذكر اليد بلفظ المفرد وأخرى بلفظ الجمع ، وكذا العين.

_____________________

١) المستدرك للحاكم ٣ / ١٤٨ كتاب معرفة الصحابة.

٢) سورة الفتح : ١٠.

٣) سورة الذاريات : ٤٧. ويقول ابن تيميّة باثبات اليدين لله تعالى ، أنظر : العقيدة الواسطية : ٦٦.

٤) سورة طه : ٣٩.

٥) سورة الطور : ٤٨.

٦٧

ومرّة أخرى نقف على آية أخرى أعجب وهي قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (١) ، أو قوله : ( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) (٢) فإذا سلّمنا بأنّ لله يداً أو عيناً أو جارحة ( كما يليق بجلاله تعالى ) ـ على رأى الوهّابيين ـ لكانت كلّها فانية ، زائلة حسب الآية التي تذكر هلاك كلّ ذلك ما عدى الوجه.

قلت متعجّبا : وهل هناك من المسلمين من يعتقد بأنّ الهلاك يوم القيامة يطال حتّى الله تعالى ؟!

قال صديقي : على افتراض أنّنا سلّمنا بأنّ الله تعالى مركّب من أجزاء ـ سبحانه وتعالى ـ فلماذا يَطَاله هلاك وصاعقة القيامة بعضا من الله ؟! ومعنى هذا إنّ الله إمّا أنّه يفجّر صاعقة لا يستطيع السيطرة عليها حتّى تطاله كما طالت مخلوقاته ، أو أنّ القيامة حدث خارج عن قدرة الله بحيث تأتي على « الربّ والمربوب » ؟!

قلتُ مغضباً : والله لا أعتقد أنّ جدّتي رحمها الله على بساطة فكرها تؤمن بهكذا عقيدة فيمن خضع له كلُّ شيء ، سُبحانه وتعالى عمّا يقول السّفهاء.

عقب صديقي وقد علت نبرة صوته وظهرت علامات الحزم على جبينه قائلاً : يا ليت ; ثمّ يا ليت ; وقف الأمر عند هذا الحدّ ! لقلنا : اشتبه على إخواننا الأمر والتزموا بظاهر الكتاب ، لكنّهم في كثير من الأمور ضربوا بصريح الآيات عرض الجدار.

قلت له : هات لي مثالا على ما قالوا.

_____________________

١) سورة القصص : ٨٨.

٢) سورة الرحمن : ٢٧.

٦٨

قال : إنّهم يَزعمون أنّ الله فوق سماواته على عرشه ، عليٌّ على خلقه (١) ، بل وزادوا على ذلك وقالوا : إذا جلس سبحانه على كرسيّه سُمع له ( أي الكرسي ) أطيط ( صوت ) كأطيط الرحل الجديد ، من ثقل الله تعالى (٢).

قلت : أليس الله على العرش ؟!

قال : يظهر من رواة الحديث أنّهم رأوا معاوية بن أبي سفيان أو ملوك بني أمية وملوك بني العبّاس ، وما كانوا فيه من جبروت وما كان لديهم من عروش مذهّبة وغيرها حتّى نسبوا ذلك إلى الله تعالى !

صحيح إنّنا نجد في القرآن كلمة العرش والكرسي لكن لا يعني أنّها تشبه عروش الجبابرة والطواغيت ، أليس الله تعالى يقول في أشهر آية نقرأها ليلا ونهارا وهي آية الكرسي حيث يقول : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) (٣) ، فهل يعني هذا أنّنا جالسون في العرش مع الله إذ وسع العرش حتّى الأرض ، فهل العرش داخل فيها أم أنّها هي في العرش ؟!

قلت : عفواً ـ قليلاً قليلاً حتّى أفهم جيّداً ما تقول ، فهل تقصد أنّ عرش الله ليس في السماء دون الأرض ، وليس في مكان دون آخر ؟!

ردّ صديقي : المسألة مجازيّة وكنائيّة.

_____________________

١) أنظر : سنن ابن ماجة ١ / ٦٩ باب فيما أنكرت الجهمية ، و ١ / ٢٩ نفس الباب ، وكذلك العقيدة الواسطيّة لابن تيميّة.

٢) انظر : سنن أبي داود ٤ / ٢٤٣.

٣) سورة البقرة : ٢٥٥.

٦٩

ثمّ استرسل قائلاً : « مشكلة البعض هو أنّهم كالحمار يحمل أسفارا ، نعم هم يعرفون العربية لكن لا يفقهون من فنّها وبديعها قليلا ولا كثيرا ، ولو تنظر في تاريخ العرب والألفاظ العربية لوجدت أنها تستعمل المجاز والكناية دائما أبدا ، أليس يقال مثلا : إنّ فلاناً ـ الملك أو الأمير أو الخليفة ـ بسط يده على البلاد ؟! فهل كانت يده طويلة جداً حتّى بسطها في طول البلاد وعرضها ؟!

أو قد يقال في بعض البلاد : جلس الأمير أو الملك على العرش يوم كذا أو سنة كذا ، لكن لا يُقصد بذلك أنّه جلس على كرسيّه الخشبيّ ، فقد يكون في ذلك اليوم الذي تولّى فيه الحكم واقفا طول اليوم يتقبّل التّهاني والتّبريكات ، أو قد يكون راكبا متوجّها لتسلّم مقاليد الأمور ، القصد طبعا هو أنّ فلاناً الحاكم تسلّط على المقاليد يوم كذا من سنة كذا وليس هو الجلوس البسيط السّاذج.

إذا فهمت هذه الأمور فارجع إلى قوله تعالى : ( الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ) (١) ، والاستواء يعني قدرته تعالى ، أي أنّه ممسك بزمام السماوات والأرض يقهرها بقدرته ويصرّفها بحكمته ، ولهذا قال مالك بن أنس لمّا سُئل عن هذه الآية : « الإستواء معلوم والكيفُ مجهول والسّؤال بدعة ».

ثمّ لا تنظر بعد في زعمهم أنّ الله في السماء بمعنى الفوقية والعلوّ المادي لأنّه مردود بصريح القرآن ، حيث يقول تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي فِي

_____________________

١) في الحديث « الكرسي موضع قدمي الله والعرش لا يقدّر قدره ؟! ». أنظر : مستدرك الحاكم ٢ / ٢٨٢ ، كتاب التفسير تفسير آية الكرسي.

٧٠

السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ) (١) ويقول : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٢) ، أو قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) (٣) ، أما بقية الآيات فتؤول إلى معان أخرى وإلاّ صار القرآن متناقضا.

وختام القول : قوله تعالى عن نفسه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ ) شَيء ) (٤) و ( لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) (٥) ، نعم ، إذا كان الجماعة قد أخذوا دينهم عن اليهود والنصارى ، فحقّ لهم القول إنّ الله تعالى في السماء ، وأنّه يشبه مخلوقاته وغيرها فهذا في التّوراة والإنجيل كثير.

نظرتُ إلى ساعتي فوجدتُ أنّ الوقت قد أخذنا أكثر من اللازم ، فقمت بعد أن تواعدت مع صديقي على لقاء آخر.

كانت خطواتي تتجه إلى البيت متسارعة ، وشعرتُ بأنّ ذهني أصبح فسيحا جدّا عمّا كان عليه من قبل ، فسيح بالدرجة التي شعرت معها وأنا أتطلّع في صفو السّماء وزينتها أنّ هذا الكون على رحابته وسعته لا يعدو أن يكون جوزة في كفّي أو خاتما في خنصري ، وشعرت للمرّة الأولى بمعنى أن يكون الإنسان مكرّما على جميع ما خلق الله تعالى ، والسرّ هو في ما وهب الله تعالى لنا من عقول قد تتّسع لتبتلع السماوات والأرض وتقول هل من مزيد. كانت فرحتي عظيمة وكأنّ كلّ الأشياء التي كانت

_____________________

١) سورة الزخرف : ٨٤.

لكن ابن تيميّة ومن والاه يصرّون أن الله في السماء ، أنظر : العقيدة الواسطية : ٧٧.

٢) سورة البقرة : ١١٥.

٣) سورة الحديد : ٤.

٤) سورة الشورى : ١١.

٥) سورة الإخلاص : ٤.

٧١

تتراءى أمامي من شجر وتراب ونجوم ، استحالت جديدة ، وكأنها خُلقت لِتوّها ، وحمدت الله تعالى على أنّ دين الإسلام لا يُعارض العقل والفطرة السّليمة ، فكم تجرّعنا من الغُصص ونحن نواجه في نقاشاتنا إشكالات الملاحدة والعلمانيّين وما كان لنا من جواب لهم إلاّ صُفرة الوجه ، وقولنا الذي نُقنع به أنفسنا بأنهم أصحاب النار ولا فائدة من النقاش معهم ، وإننا سنضحك منهم غدا كما يضحكون هم منّا اليوم.

في تلك اللّيلة نمت ملىء جفوني وكأن الله ألبسني جسدا لطيفا مثاليّا وبالكاد كنتُ أحسّ بوجوده معي ...

٧٢



التشكيك .. أو الفتنة :

كنتُ واقفاً بجانب دكّان والدي عشيّة أحد الأيّام ، وفجأة وفي بداية الشارع الطويل لحيّنا لاحَ لي أحد معارفي القدماء ، لقد ميّزته ببدنه الممتلىء وقدّه القصير نسبيّاً ، بدأ يقترب شيئاً فشيئاً ثم مال إلى حافة الطريق حيث كنتُ واقفاً ، حيّاني بابتسامته البريئة ثمّ مدّ يده مصافحاً لي ... :

أين أنت يا ولد ...؟ قالها مستفسراً عن قلّة ظهوري وطول غيابي عنه.

قلت له : مشغول يا أخي ، زد على ذلك أنّ فصل الشتاء مُفرّق للجماعات حيث نهاره قصير لا يسمح للإنسان بأنْ يكون له برنامج عريض للزيارات واللقاءات.

ثمّ سألته عن أحواله ؟

فأجاب بأنّه يستعدّ لأن يسافر إلى فرنسا ليُكمل دراسته العلميّة هناك ؟

ثم بلا مقدمات أدار وجهة الكلام إلى مسألة التاريخ الإسلامي ، وقال لي : إنّ التاريخ الإسلامي يحتاج إلى إعادة دراسة وتحقيق ، فقد عشنا طول أعمارنا نردّد ما كُتب لنا وما خطّه الأولون دون دراية أو تحقيق حتّى صارت أشياء كثيرة عندنا من المسلّمات.

٧٣

وأردف قائلاً : لا تنس أن التاريخ مفتاح مهمّ لفهم كثير من الحقائق التي تمسّ عقيدتنا نحن المسلمين.

أجبته معلّقاً ولا زلت بَعدُ لم أُدرك مغزى كلامه : يا أخي إنّ الدعوات لإعادة قراءة أو كتابة التاريخ كثيرة وليست جديدة ، ولكن من هو القادر على القيام بهذا العمل ، وقد نتجاوز على تاريخنا العظيم بهذه الأبحاث ونفض الغبار هذا فتبقى الأجيال القادمة محرومة من تاريخنا الزاهر الباهر الذي لم يبق لدينا اليوم كمسلمين شيء نفاخر به غير هذا التاريخ الذهبي.

ابتسم الأخ وقال : لم أقصد هذا ! نُعيد قراءة التاريخ دون التجاوز عليه ، بل نطابق ما كتبه المؤرخون ونربط الخيوط ببعضها البعض حتّى نحصّل نتيجة وفهما جيّدا لتاريخنا.

اعتذرت من هذا الأخ للحظات لأنظر في حاجة أحد المشترين الذي وقف أمام دكّان الوالد بدرّاجته الناريّة ...

نعم ـ عدت إليه مواصلا حديثي : إنّ المسألة ليست بالسهولة التي نتصوّر ، وإن كنتُ في الأصل موافقا لك حول ضرورة النظر بعين علمية محايدة بعيدا عن الأهواء والمثاليّات ، خاصّة وأنّ المؤرخين كانوا يكتبون ما يمليه عليهم ملوك عصرهم.

لم يطل كلامي معه بقدر ما تواعدنا على مواصلة الحديث في فرصة لاحقة إذا ماواتتنا الظروف ، فالموضوع شيّق وشائك في نفس الوقت.

ابتعد الأخ بضعة أمتار وإذا بأحد معارفي الّذي لاحظت منذ بداية

٧٤

حديثي مع الأخ المغادر أنه كان يحوم حولنا ولا يقدر أن يقترب منّا ، وكأنّ لديه أمراً مهمّاً يمنعه التردّد من المبادرة لقوله ، وإذا به يسرع متجهاً إليّ ، حتّى إذا ما اقترب منّي بادرني قائلا : أتعرف هذا الشخص ؟!

أجبته : نعم ، إنّه فلان ، ولي معه سابق معرفة ، خيرا ماذا هناك ؟!

أجابني : إنّه شيعيّ ، قالها وكأنّه يكشف لي سرّاً من أسرار الكون الخفيّة ، ثم أردف قائلا : وأنا أنصحك أن لا تسمع لقوله ، ولا تُعر كلّ ما يقول ذرّة اهتمام.

قلت مستغرباً : أوّلا أنا لا أعرف أنّه شيعي ، ثم إنّه لا يَسعني أنْ يُقبل عليّ أيّ إنسان مسلّما أو مكلّما فلا أعيره اهتماماً.

قال : لكن الشيعة وضعهم يختلف ، إنّهم يستدرجون الإنسان قليلاً قليلاً حتّى يوقعونه في حبائلهم ، ويفتحون عليه باباً من الفتنة لا يخرج منه أبداً ، والفتنة أشد من القتل ، زد على ذلك أنهم يؤمنون بالتقيّة ويستخدمونها أبشع استغلال.

قلت متعجّباً : وما التقيّة ؟!

أجابني : إنّها وسيلة يُخفون من ورائها عقائدهم الباطنية ، وهي تجيز لهم حسب رأيهم استخدام كلّ الوسائل والموبقات للوصول إلى غاياتهم.

لم تقنعني نصيحة الرجل المشفق عليّ بقدر ما أثار انتباهي هذه الكلمة الغريبة ، والتي لم أكن أعرف إلى ذلك اليوم معناها .. التقية !!

ولا يزول عجبي من قوم يخافون من الكلام ، ولكن ما أشبه اليوم بالبارحة ! فقد كان مشركوا مكّة يتجنّبون سماع آيات الذكر الحكيم حتّى

٧٥

لاَ يُسحرون بها بزعمهم ، وقد أشار الله تعالى إلى فعلهم ذاك بقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (١).

بل العجب أنّ بعضهم يُفتي بحرمة قراءة كتب الشيعة لأنها كتب ضلال بزعمه ! وعلى افتراض كونها كذلك وكون الشيعة ضُلاّل ، هلاّ تصدّيتم لإعادتهم إلى الهدى بالحكمة والموعظة الحسنة فإنّ في ذلك أجر عظيم ؟!

وكالعادة كنتُ متشوّقاً أن ألتقي بصديقي الشيعي ، لأنني هذه المرّة كنت متّهماً له في نفسي أنه خاتلني وخادعني ولم يقل لي بصراحة عن حقيقة معتقداته ، على أنه كان هناك صوت خفي في داخل نفسي يكذّب لي هذه التهمة الباطنية ، إذ ليس من المعقول أن يخفي عليّ هذا الصديق أشياء منكرة عمّا يعتقد ، وما الداعي لذلك وهؤلاء الشيوعيّون عندنا يجاهرون بإنكار الخالق سبحانه وبلا حياء ولا خجل ولا حتّى مجاملة ؟! وما عسى ما كان أخفاه صديقي عنّي ؟! هل هناك أعظم من إنكار الخالق جلّ وعلا ؟! أو إنكار الرسالة والرسول ؟!

نعم ، هناك بعض الأصوات ترتفع بتهم أخرى من قبيل أن الشيعة حقداً على الإسلام يريدون هدمه من الداخل !

لكن في سبيل بناء أيّ دين ؟! وها نحن في هذا القرن نشهد أنّ كثيراً من المحسوبين على السنّة قد فعلوا ما اتُّهم به الشيعة بحذافيره ، فهذا « كمال آتاتورك » وجماعته في تركيا قد نجحوا في القضاء على الخلافة العثمانيّة ، وجعلوا الإسلام وقوانينه أثراً بعد عين في مدّة زمانيّة صغيرة

_____________________

١) سورة فصّلت : ٢٦.

٧٦

جدّاً قياساً بتاريخ الشيعة.

ثم كيف لايتسنّى لأحد من المسلمين كشف هذه الخطّة وفضحها ، وكأن الشيعة منظّمة سرّية ذات تنظيم سرّي دقيق يصعب على أي كان اختراقه ؟!

وما بال اليهود ـ على دهائهم ـ قد انفضحت أغلب ـ إن لم نقل كلّ ـ خططهم الهدّامة في السيطرة على بلاد المسلمين ، حتّى صارت كلّ أهدافهم مكشوفة ، بل لا يجدون في صدورهم حرج من التبجّح بها والإعلان عن نيّتهم في المضي فيها قدما ؟!

ثم ما بال الغرب الإستعماري قديما وحديثا لم يتفطّن لسلاح الشيعة الفتّاك هذا ضد الإسلام فيعمل به رغم ما لديه من الإمكانيّات والمهارات التي لا يحلم الشّيعة بأن يملكوا عشر معشارها ؟!

ثم بعد هذا وذاك ألم يأمرنا الله ورسوله بأن نأخذ بالظاهر وأنّ مناط الإسلام هو النطق بالشهادتين ، حتّى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكتفى من كلّ شخص بهذا الحدّ للدخول في الإسلام بما في ذلك أفواج المنافقين التي كانت تملأ المدينة من حوله ؟! أليس نقرأ في كتاب الله تعالى هذه الآية الصريحة التي تنتقد من يجعل من نفسه وصيّاً ومرجعا على إسلام الغير ، فيحكم بإسلام البعض ويكفر البعض الآخر وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ  ... ) (١) الآية.

_____________________

١) سورة النساء : ٩٤ ، « لمّا عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتلِ من تكلّم بكلمة

٧٧

ألم يصلّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رأس منافقي المدينة عبد الله بن أُبي بن أبي سلول رغم معرفة الجميع بنفاقه بشهادة كتاب الله عليه ؟!

كانت هذه كلّها تَساؤلات تأخذني يَمنة ويسرة ، ولكنّي فضّلت انتظار الفرصة السانحة حتّى أقف على حقيقة الأمر وجليّة الموضوع ، فإنّ الله تعالى يأمرنا بالتثبت وعدم التسرع في إلقاء الحكم كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١) ، قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... ) (٢) الآية.

_____________________

الشهادة ... » [ تفسير الفخر الرازي التفسير الكبير ] ، والمعنى : لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدلّ على إسلامه ( لستَ مؤمنا ) وإنّما فعلت ذلك خوف القتل ، بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه » [ تفسير روح المعاني للآلوسي ٣ / ١١٤ تفسير الطبري ٥ / ١٤٢ ].

١) سورة الحجرات : ٦ ، نزلت في حقّ الصحابي الأموي الوليد بن عقبة عندما كذب على رسول الله واتهم قوما بالباطل فأنزل الله في حقه هذه الآية.

٢) سورة الحجرات : ١٢.

٧٨



حديثُ التقيّة :

كنت أمشي مسرع الخطى عشية يوم ممطر وأنا أتجه إلى بيت صديقي الشيعي ... طرقتُ الباب فخرج لي والد صديقي وهو أحد أعلام الصوفية في مدينتنا حيث كان له مريدون و « مشجّعون » على رأي هواة كرة القدم ، ولطالما شعرت أن الصوفية بكل طرقها رهبانيّة الإسلام ، حيث حصروا الإسلام في بضعة أوراد وجملة من المدائح والأذكار ، وكثيراً ما كنت أُنزّه الإسلام أن يقتصر فقط على هذه الجنبة الروحيّة ولا يخرج إلى مجالات الحياة الأخرى بما فيها من تعقيد وتجدّد.

نعم جميل أن يقترب الإنسان من تلك الحالة الروحية ، لكن الاقتصار على هذا الجانب فقط نقص كبير.

وممّا زاد تعجّبي من طرق الصوفية ، هو تلك الشطحات العجيبة والحركات الغريبة التي يقومون بها ! ولقد كنتُ حاضراً ذات ليلة في سهرة صوفيّة حيث كانت روائح البخور وأصوات المديح والذكر تختلط مع أصوات قرع الدفوف فيصبح الموقف أشبه بالسيرك ، وحينما يحمى الوطيس يتناول أحدهم عقرباً حيّا فيبتلعه ، ويمسك آخر بجمر الموقد دون أن يؤثر فيه شيئاً ، وذاك ينام على الشوك دون وقاية تذكر ، وكلّها تصرّفات لا تُسمن ولا تغني من جوع.

لم يطل بي الوقوف بقدر ما استدعى لي ابنه الذي خرج مستبشراً

٧٩

ومعتذراً عن التقصير في زيارته لي ، ثم قادني مرحّباً إلى غرفته الصغيرة المرتّبة في قعر منزلهم ، حيث وجدته منشغلا بكتابة رسالة إلى أحد أرحامه في الخارج.

اقتربتُ قليلاً من المدفئة الكهربائية لأجفّف نفسي حيث كان شعر رأسي يقطر ماءاً وكان البرد قد أثّر على يديّ وأذناي ، في حين انشغل صديقي بإحضار قهوة ساخنة لنا.

قال صديقي وقد أحضر القهوة معه : خذ لك هذا الفنجان من القهوة حتّى تشعر بالانتعاش بعد ما صرت كالفرخ المسكين بعد هذا البلل.

قلت له ممازحاً : قد لا تكون هذه قهوة ؟!

قال مستغرباً ـ ولم يتفطّن بعد إلى مرامي من هذا السؤال الغريب ـ : إنّها ليست مُسكرة على أيّة حال.

فقلت : إذا كان الأب صوفيّاً والابن شيعيّا فأنا أخشى أنّه إذا لم تُسكرني هذه القهوة فإنّها قد تأخذني الآن في نشوة صوفيّة أجد نفسي معها أنني في العراق زائراً مقام الشيخ عبدالقادر الجيلاني أو ربّما اكتشف أنها عصير برتقال برائحة القهوة !!

ضحك صديقي حتّى احمرّ جبينه وقال : أظنك جئت تستفسر عن التقية ، وأكيد أنّك صرت تشكّ في كلّ شيء حتّى في إسمي وقهوتي !!

قلت : لماذا لم تخبرني أن أساس مذهبكم هو التقيّة ، بل إنّ دينكم هو التقيّة ؟! والآن هات ما في جعبتك من صحيح وباطن عقائدكم ودعك من التهرّب فقد انكشفتْ لي هذه الخدعة ؟

قال صديقي : هوّن عليك ، لقد أعطيت المسألة ما لا تستحق.

٨٠