الشيعة الجذور والبذور

محمود جابر

الشيعة الجذور والبذور

المؤلف:

محمود جابر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-46-1
الصفحات: ١٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين ؟! وأمر به فضرب عشرين سوطاً.

وكان ملك يزيد بن معاوية أربع سنوات ، ومات سنة أربع وستين للهجرة.

الثالث : معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، استخلف بعهد من أبيه عند موته في ربيع الأوّل ، وقد ولي ثلاثة أشهر ، ومات دون أن يستخلف ، وقد عاش عشرين سنة. وقيل : ملك أربعين ليلة. وقيل : شهرين.

الرابع : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُميّة ، ولد بمكة بعد ابن الزبير بأربعة أشهر ، وكان يلقّب بخيط باطل.

وقال الواقدي : أسلم الحكم في الفتح ، وقدم المدينة فطرده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل الطائف ، فلمّا قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قدم المدينة.

وقد كان مروان كاتب عثمان ، وهو من أكبر الأسباب التي دخل بها الداخل على عثمان ; لأنّه زوّر على لسانه كتاباً في محمّد بن أبي بكر.

وقال حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى قال : كنت بين الحسن والحسين ومروان ، والحسين يساب مروان ، فجعل الحسن ينهاه ، فقال مروان : إنّكم أهل بيت ملعونون. فغضب الحسن وقال : ويلك ، قلت هذا ، فوالله لقد لعن الله أباك على لسان نبيه وأنت في صلبه.

وقال الأعمش عن عطية ، عن أبي سعيد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا

٤١

بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دولاً ودين الله دغلاً ، وعباد الله خولاً ». أي : خدماً وعبيداً.

الخامس : عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ولد سنة ستة وعشرين ، بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير ، وكان حكمه على الشام ومصر ، وابن الزبير على باقي البلاد حتّى سنة ثلاث وسبعين عندما قتل ابن الزبير فكانت الجماعة له.

ولمّا جهّز يزيد بن معاوية جيشاً إلى مكة قال عبد الملك : أعوذ بالله ، أيبعث إلى حرم الله ؟! فضرب يوسف بمنكبه وقال : جيشك إليهم أعظم.

وقال أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني : ثنا أبي عن أبيه ، قال : لما نزل مسلم بن عُقبة المدينة دخلت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجلست إلى جنب عبد الملك ، فقال لي عبد الملك : أمن هذا الجيش أنت ؟ قلت : نعم. قال : ثكلتك أمك ، أتدري إلى من تسير ؟ إلى أوّل مولود ولد في الإسلام ، وإلى ابن حواري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلى ابن ذات النطاقين ، وإلى من حنّكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما والله إن جئته نهاراً وجدته صائماً ، ولئن جئته ليلاً لتجدنّه قائماً ، فلو أنّ أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبّهم الله جميعاً في النار. فلمّا صارت الخلافة إلى عبد الملك ، وجّهنا مع الحجاج حتّى قتلناه.

وقال ابن عائشة : أفضي الأمر إلى عبد الملك والمصحف في حجره ، فأطبقه وقال : هذا آخر عهدي بك.

٤٢

ولمّا احتضر دخل عليه الوليد ـ ابنه ـ يبكي ، فقال : ما هذا ، تحن حنين الأمة إذا مت فشمر وائتزر والبس جلد النمر ، وضع سيفك على عاتقك ، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه ، ومن سكت مات بدائه.

وتوفي سنة ست وثمانين. وقتل في عهده ابن الزبير وسعيد بن جبير وأحرقت الكعبة.

السادس : الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص. استخلف بعهد من أبيه وكان دميماً ، إذا مشى تبختر في مشيته ، وكان أبواه يترفانه ، فشب بلا أدب.

وكان جبّاراً ظالماً ، وفتحت في أيامه فتوحات عظام ، وكان ملكه تسع سنين ، وعاش إحدى وخمسين سنة ، ومات سنة ست وتسعين للهجرة.

السابع : سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولي الملك سنة ست وتسعين بعد الوليد بعهد من أبيه عبد الملك.

وعن ابن سيرين قال : يرحم الله سليمان بن عبد الملك افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لوقتها ـ وكان بنو أمية يؤخّرون الصلاة ـ واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى : ثنا أبي ، عن أبيه قال : جلس سليمان بن عبد الملك في بيت أخضر على وطاء أخضر عليه ثوب اخضر ، ثمّ نظر في المرآة فأعجبه شبابه وجماله فقال : كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

٤٣

نبياً ، وكان أبو بكر صديقاً ، وكان عمر فاروقاً ، وكان عثمان حيياً ، وكان علياً شجاعاً ، وكان معاوية حليماً ، وكان يزيد صبوراً ، وكان عبد الملك سائساً ، وكان الوليد جبّاراً ، وأنا الملك الشاب. فما دار عليه الشهر حتّى مات. ومات سنة تسع وتسعين.

الثامن : عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية (أبو حفص) ولد سنة ست وستين عام وفاة معاوية أو بعده بسنة في المدينة.

وتولّى الخلافة بعهد من سليمان بن عبد الملك ، أشار به عليه رجاء ابن حلوة ، ولكن عمر : أقال الناس من البيعة ، فرفض الناس غيره. وبدأ بأسرته وأهل بيته فأخذ ما بأيديهم من الأموال وسمّاها مظالم ، وكان يقول : لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت فيكم العدل.

وتوفي في يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة ، ومات ابن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر ، وكانت خلافته مثل خلافة أبو بكر تسع وعشرين شهراً.

التاسع : يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان ، ومات بسهم أصابه سنة خمس ومائة للهجرة.

العاشر : هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ، تولّى الخلافة بعهد من أخيه يزيد بن عبد الملك ، وكان بخيلاً وحازماً.

٤٤

وقتل زيد بن علي ، وصلب بدنه بالكوفة أربع سنوات ، ومات من ورم أصابه في حلقه حتّى قتله.

الحادي عشر : الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، ولد سنة تسعين ، فلمّا احتضر أبوه لم يمكنه أن يستخلفه ; لأنّه صبيّ ، فعقد لأخيه هشام وجعل هذا ولي العهد من بعد هشام.

قال أحمد في مسنده : ثنا أبو المغيرة أنا ابن عياش هو إسماعيل حدثني الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر قال : ولد لأخي أم سلمة ولد فسمّوه الوليد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سميّتموه بأسماء فراعنتكم ليكون في هذه الأمّة رجل يقال له الوليد لهو أشد لهذه الأمّة من فرعون لقومه ».

وفي لفظ بعضهم : (لهو أضرّ على أمتي) ، وفي لفظ آخر : (لهو أشدّ على أمتي).

قال المعافي الجريري : كنت جمعت من أخبار الوليد شيئاً ومن شعره الذي ضمنه ما فخر به من خرقه وسخافته وخسارته وحمقه.

تُهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبارٌ عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب مزّقني الوليد

والوليد هذا كان فاسقاً خمّيراً لوّاطاً ، راود أخاه سليمان عن نفسه ،

٤٥

ونكح زوجات أبيه وقيل : إنّه لم يصح عنه كفر ولا زندقة لكنّه اشتهر بالخمر والتلوّط !!

الثاني عشر : يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم ، الملك الملقّب بالناقص لنقصه من أرزاق الجند ، وقد دعا الناس إلى القدر ـ كما قال الشافعي ـ وحملهم عليه ، وقرّب غيلان وأصحابه.

الثالث عشر : إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، ولم يمكث طويلاً ، وقد كان سيّء السيرة ، وخلعه مروان بن محمّد ، وهو آخر ملوك بني أمية.

الرابع عشر : مروان بن محمّد الملقّب بالحمار ، وكان ملكه ثلاثة أشهر.

ونتيجة لما وقع من الظلم والجور والفسق والفجور في زمن الأمويين استغل بنو العباس هذا الأمر ، ورفعوا شعار آل البيت ، وبه أسقطوا الدولة الأموية.

بنو العباس :

دخل السفاح عبد الله بن محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس الكوفة ، وبويع يوم الجمعة رابع عشر ربيع الأوّل سنة اثنين وعشرين ومائة ، وقام فيهم خطيباً يحمد الله ويثني على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويذكر فضل أهل البيت والخلفاء الراشدين حتّى قال : ثمّ وثب بنو حرب وبنو مروان فانبذوها وتداولوها فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها بما

٤٦

ملأ الله لهم حيناً حتّى آسفوه فلمّا آسفوه انتقم منهم بأيدينا وردّ علينا حقّنا وتدارك بنا أمّتنا وولي نصرنا والقيام بأمرنا ليمنّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا ، وإنّي لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير ، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح ، وما توفيقنا أهل البيت إلّا بالله (١).

بيد أنّه بعد انتهاء ليلة العرس ، بدت سياسات الملك تزحف حتّى قتل الأخ أخاه (٢) ، ثمّ أخذ الترف والغرور يطغى رويداً رويداً حتّى تحللت الخلافة العباسية إلى دويلات صغيرة.

وسنستعرض أمثلة على ما لحق بآل البيت عليهم‌السلام في زمن العباسيين :

١ ـ لمّا حملت الرؤوس إلى الهادي ، ووضع رأس الحسين (الحسين ابن علي بن الحسن السبط) بين يديه قال : كأنّكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت (٣).

٢ ـ إنّ من يمعن النظر في تاريخ الإسلام يعلم علم اليقين أنّ غالب من خرج من آل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان ذلك منه إلّا عن مصيبة نابته وضنك مسّه وفاقة لحقته وذلّ أهانه ، فإنّ الأمويين كانوا يمنّون على الموالي وصعاليك العرب بمئات ألوف الدنانير ، ويعطونهم الإقطاع

_______________

(١) علي بن أنجب الشهير بابن الساعي ، تاريخ الخلفاء العباسيين ، ص ٨.

(٢) كقتل المأمون أخاه الأمين.

(٣) المرجع السابق ، ص ٣٢.

٤٧

والضيعات ، ويستعملونهم على الممالك ويستوزرونهم ، ويقتّرون على الفاطميين حتّى يصير الفاطمي في ضيق ومحنة شديدة بحيث لا يجد ثمن جارية زنجية يصون بها عفّته ، ولا ثمن كسوة يستر بها بدنه.

ويرى أنّ الموالي لبني أمية الذين يشاركونهم في شرابهم وفسقهم وفجورهم يتقلّبون في أنواع الرفاهة. فهنالك يهزّ الجماعة الفاطمية شرفهم ونخوتهم فيخرجون لا خروجاً على الطاعة ولا نقضاً للبيعة ، ولكن يقولون أرض الله واسعة ، فيهاجر أحدهم إلى ناحية من الأرض فيها قوم من أمّة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا وصلهم حرّكتهم نخوة الدين فاحترموه وأكرموه ، وألفته قلوبهم واجتمعوا عليه. فمتى بلغ خبره الأمويون قالوا : خرج وربّ الكعبة. وساقوا عليه القواد والجنود ، ولا يزالون حتّى يتركوه شهيداً. وكذلك بنو العباس (١).

٣ ـ وفي سنة ثلاث وثمانون ومائة استشهد الإمام موسى الكاظم بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ببغداد في حبس الرشيد مسموماً.

وقد بعث الإمام عليه‌السلام إلى الرشيد لمّا كان محبوساً برسالة : « إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون ».

وفي أوائل السنة العاشرة بعد المائتين توفي ولي الله الإمام إبراهيم

_______________

(١) المرجع السابق ص ٣٢ ـ ٣٣.

٤٨

المرتضى بن موسى الكاظم عليه‌السلام مسموماً ببغداد ، وقد قدم بغداد بعهد وثيق من المأمون ، ولكن الله يفعل ما يشاء ، وأنشد ابن السماك الفقيه :

مات الإمام المرتضى مسموماً

وطوى الزمان فضائلاً وعلوما

قد مات في الزوراء مظلوماً كما

أضحى أبوه بكربلا مظلوما

فالشمس تندب موته مصفرة

والبدر يلطم وجهه مغموما (١)

٤ ـ إنّ عداء المتوكّل لعلي بن أبي طالب وذرّيته كان مشهوراً حيث أمر بهدم قبر الحسين السبط وأهل بيته فهدّمت. وقتل يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكّيت ، وذلك أنّه قال يوماً : أيما أحب إليك ولداى المعتز والمؤيد أم الحسن والحسين ؟ فقال والله إنّ قنبراً خادم علي خير منك ومن أولادك ، فقال المتوكّل : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات.

وكان عنده رجل مخنث يقال له عبادة يتمسخر بعلي بن أبي طالب فيشد على بطنه شيئاً ويدخل وهو يرقص ، ويقول : قد جاءكم الأنزع البطين عليّ خليفة المسلمين والمتوكّل يضحك غير أنّ ولده المنتصر نهاه وقال كُل أنت ابن عمك ولا تدع هذا المخنث يأكل لحمه. فقال :

غار الفتى لابن عمه

رأس الفتى في حرأمه

ما بعد غزو التتار :

وعجز الحالمون أن يرجعوا الحق إلى قناته. وفي صراع هذه

_______________

(١) المرجع السابق باختصار ص ٦٨.

٤٩

الأحداث ضُرب الحلم بواقع خروج جماعة التتار الآتية من وسط آسيا زاحفة على وجه العالم الإسلامي ، فعمدوا إلى المدائن العامرة بالخراب والدمار حتّى تحوّلت بغداد حاضرة العالم إلى مدينة غير آهلة بالسكّان لا يسكنها إلّا الهوام ، وتهاوى الجسد تحت سنابك الخيل.

وكان المماليك وهم (رقيق) قد وصلوا إلى حكم مصر بعد أن ضعفت الدولة الأيّوبية فحكموا البلاد مدّة قرنين ونصف ، وقد نجح الظاهر بيبرس في إحياء الخلافة العباسية في القاهرة ، وهو الذي أتى بأبي العباس عمّ المعتصم آخر الخلفاء العباسيين إلى القاهرة بعد أن استطاع الهرب من الاجتياح التتاري لبغداد ، وبدأت سلسلة الخلفاء في القاهرة من سنة ٦٠٩ هـ حتّى وصل عدد من تقلّد الخلافة في القاهرة ثلاثة عشر خليفة.

بيد أنّ نفوذ هؤلاء الخلفاء لم تتعدّى سوى تقليد السلاطين المماليك ، ووصل الحال بالخلفاء بأنّهم كانوا تابعين وليس متبوعين. وظلّ هذا الحال حتّى دخل سليم الأوّل القاهرة سنة ٩٢٢ هـ واضعاً بذلك نهاية الخلافة العباسية في القاهرة.

وبذلك قامت الخلافة العثمانية في الأستانة وكان منها حكم مطلق ، وتفريق بين المسلمين حتّى أنّ السلطان سليم الأوّل استصدر من الهيئة الإسلامية فتوى تجيز إعدام الذين يعتنقون المذهب الشيعي من رعايا الدولة ، واعتبارهم مرتدّين عن الإسلام.

٥٠

وكذلك استعلاء الأجناس الأخرى كالترك والشركس على العرب وأهل الشرق ممّا جعل فكرة القومية تأخذ في النفوس مجراها للخروج من هذا الاستبداد العرقي حتّى قامت الدولة التركية مقام الخلافة العثمانية ، وفي استفتاء شعبي أجرته الجمعية الوطنية التركية كان رفض الناس للخلافة وسقوطها ليعلنوا ذلك في مارس سنة ١٩٢٤ ، وكان مؤتمر القاهرة الإسلامي في مصر عديم الجدوى في محاولة إرجاع الخلافة.

فانظر ما فعله الملوك في الناس حتّى رفضوا أمراً يعتبره الكثير أنّه من الدين !!!

وبعد مضي ما يقرب قرناً من الزمان من سقوط الخلافة ، واجتماع قوى الشر على الأمّة الذين استعمروا بلادنا ، ونهبوا خيرنا ، وحاصرونا وأذاقونا سوء العذاب ، ما كان ذلك ليحدث لولا تفرّق المسلمين إلى فرق وأحزاب وجماعات متفرّقة لا مجتمعة ، متخاصمة لا تتصالح ، تتقاتل لا تتحاب وتتصالح. أقول : « أليس فيكم رجل رشيد ؟؟!! ».

اختلاف الناس فى العقيدة :

أمّا الخلاف الذي كان في مسألة الخلافة أو الإمامة بما له من أبعاد نصوصية أو شورية فقد دخل حيّز آخر من الخطورة حتّى وصل إلى « التوحيد » ليكون مجالاً للخصومة والتكفير لا الدراسة والعلم ..

ومن المسائل التي أثيرت وأريقت بسببها الدماء ، مسألة مُرتكب

٥١

الكبيرة ، فقد أثارها الخوارج وسيوفهم في أيديهم ، والخصام بين المسلمين قد بلغ غايته حتّى أنّهم كانوا يرعون دم الذمي ، ولا يرعون دم المسلم ابن جلدتهم ; لأنّهم ذهبوا ـ وبئس ما ذهبوا إليه ـ أنّ مرتكب الكبيرة كافر مستباح الدم.

ثمّ تجددت هذه المسألة بين الحسن البصري وتلميذه ابن عطاء ، فجعلت التلميذ يضاد شيخه ومعلّمه ، ويعتزل مجلسه ، ويكوّن مجلساً آخر يتصدّر فيه برأيه ، وقد كان واصل يرى أنّ مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ، وإنّما منزلة بين المنزلتين ، أي : فاسق وكان الحسن البصري يرى أنّ مرتكب الكبيرة (منافق) !!!

ثمّ جاءت مسألة أخرى عن خلق القرآن فزادت النار اشتعالاً ، بين الأمّة من المعتزلة ومن خالفهم في ذلك ، وتعصّب المأمون ومن أتى بعده لرأي المعتزلة وانقسمت الأمّة على نفسها حتّى إذا ما جاء أحد ملوك بني العباس انتصر لرأي أحمد بن حنبل وجماعة معه ، لتدور الرحى مرّة ثانية من القتل والسجن والتعذيب. وظلّ الحال كما هو عليه حتّى بعد أن حاول أبو الحسن الأشعري محاولة التقريب بين المعتزلة وغيرهم من أهل السنة ، ولكن قامت خصومة شديدة بينه وبين المعتزلة من جهة ، وبين الحرس القديم لأهل السنة من جهة أُخرى. وفي عهد الملك طغرلبك السلجوقي انتصر الكرامية في خراسان وغيرها ، فعذّب الأشاعرة ففرّوا إلى الحجاز.

٥٢

وفي عهد الوزير نظام الملك ناصر الأشاعرة عذّب غيرهم وشرّدهم حتّى طغى مذهب الأشاعرة على غيره ، وذاقت المعتزلة الاضطهاد حتّى انمحت آثارهم.

وتطوّر هذا الخلاف إلى ما هو أخطر من هذا ، فقد عمد البعض على أن يقيم هذه الخصومة على أساس من الدين ، لتكون الخصومة مشروعة لا إثم فيها ، ويثاب أصحابها.

وأمّا قضية المذاهب الإسلامية والفرق فيجب أن نتعامل معها من منظور رحب داعين إلى وفاق لا خصام ، وإلى اجتماع والتئام وليس إلى قطيعة وانفصام. وثمة نقطة جوهرية تتصل بمنهج التعامل مع هذه القضية وهي أنّ نقاط الاتفاق أكثر بكثير من نقاط الاختلاف فعلينا جميعاً تقوية نقاط الاتفاق والاشتراك ، والحوار والنقد البنّاء حول نقاط الاختلاف ، وأن لا يتحوّل الاختلاف إلى التفكير.

مصالحات تاريخية :

إنّنا في عصر يتّجه فيه الجميع إلى التكتلات دفاعاً عن المبادئ والمصالح. ونحن أمّة سبّاقة إلى كل خير ، فما بالنا نتأخّر ويتقدّم غيرنا ، وما بالنا نتخاصم ويتصالح غيرنا.

وما يدعونا إلى الدهشة والحزن معاً ، أنّنا سبقنا هؤلاء في محاولة إجراء الحوار والاتحاد منذ قرون عديدة ، ولكن لماذا ماتت محاولاتنا وأنتجت محاولاتهم ؟!

٥٣

لقد شهدت مصر سنة ١٩٤٧ م تشكيل دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وللأستاذ الأكبر محمود شلتوت مقدّمة في قصّة التقريب قال : « كان يجلس المصري إلى الإيراني أو اللبناني أو العراقي أو الباكستاني ، ويجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الإمامي والزيدي ، حول مائدة واحدة ، تدوي بأصوات فيها علم ، وفيها أدب ، وفيها تصوّف ، وفيها فقه ، وفيها مع ذلك روح الأخوّة وذوق المحبّة والمودّة ، وزمالة العلم والعرفان ».

وأصدرت اللجنة مجلة (رسالة الإسلام) وشعارها ( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١).

وفي الحقيقة لا يوجد خلاف وشقاق ونزاع بين الشيعة والسنة ، بل الخلاف والشقاق وراءه أجندة سياسية ومصالح فئوية وحزبية ، وكان وراء هذه النزاعات الحكّام الظلمة أمثال بني أمية وبني العباس. وهذا الخلاف أحدث فجوة وشقاق أمكنه من التأثير سلباً على فكرة التقارب بين الفريقين.

ولم يكن كتاب منهاج السنة فى نقض كلام الشيعة والقدرية لابن تيمية إلّا حلقة في هذا النزال والجدل المرير الذي جاء في إطار المناظرة بينه وبين حسن بن يوسف بن المطهر الحلي المشهور بالعلامة المتوفى سنة ٧٢٦ هـ ، وردّاً على كتابه (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) ،

_______________

(١) الأنبياء : ٩٢.

٥٤

وتناول الشيعة ومنهجها بالكثير من المبالغات والسخرية.

وفي أوائل القرن التاسع عشر قامت حركة تجديدية جعلت الحواجز تتساقط بين المسلمين ، وأخذت العلاقات أبعاد جديدة من الودّ والتفاهم ، وكان هدف المجددين هو وحدة الأمّة سنة وشيعة. وكان من هؤلاء السيد جمال الدين الأفغاني الذي اعتبر أنّ هذا الأمر أهمّ ما يقابل الأمّة في تلك الظروف من تحدّي ، وقد كان الرجل ساعياً وراء حلمه منادياً به ، يحمل بين جنباته قدراً غير قليل من رباطة الجأش وسعة الصدر ، ويرى أنّ القرآن يدعو إلى الوحدة والتحرّر من كل القيود التي تتلاعب بالأمّة حتّى تستطيع أن تنجز مهمّتها حيث أنّها حاملة لرسالة إلهية جاءت لدحض الجبّارين والمستكبرين ، وتثبيت التوحيد ، فالرؤية الشرعية والمصلحية تستدعي وحدة الأمّة.

وتجلّى نجاح هذه الحركة في أكثر من موقف ، منها : تظاهر مسلمي الهند من أجل تأييد الثورة المهدية ضدّ الإنجليز المحتلين فى السودان ، ومنها : تحريض علماء الشيعة في العراق وإيران شيعتهم على قتال الإنجليز في الحرب العالمية الأولى ، رغم ما فعلته فيهم الدولة العثمانية ، بيد أنّ تيار الوحدة وانعقاد أواصر الأخوّة بين السنة والشيعة كان أقوى من كل حدث سابق عليه.

ورغم أنّ حركة التجديد لم تؤت كل ما نعقده عليها من آمال إلّا أنّها وفّقت على الأقل في القضاء على كثير من العقبات ، واستطاعت الوصول

٥٥

إلى نقاط اتفاق ، واعتبروا الوحدة الإسلامية هدفاً أبعد من حدود الخلافات المذهبية والعقائدية ، ويجب أن ينتقل الخلاف من مساحة الخصوصية إلى مساحة الحوار.

وقد استمر الشيعة في نضالهم من أجل وحدة الأمّة ، فاشتركوا مشاركة فعلية في مؤتمر بيت المقدس ١٩٢١ م ، وشارك مندوب اليمن ، ومندوبان من إيران ، ومفتي الشيعة فى سوريا ، ومندوب عن شيعة العراق ، وكانت لهذه المشاركات دلالة على أنّ قضية الخلاف بين الشيعة والسنة خلاف مفتعل. ويمكن أن تبنى وجهات النظر بينهما مرّة أُخرى على احترام كل من الطرفين ، وأن يكونوا وحدة سياسية واجتماعية.

وفي عام ١٩٤٧ م أنشأت في مصر دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، والتي أصبحت مجمع للحوار بين الفرق الإسلامية.

وقد أثّر إحياء الاجتهاد والمدارسة الجديدة في إعادة النظر التاريخي بين السنة والشيعة على الحوار مع الشيعة لتحقيق مصلحة الأمّة ، ففي فبراير ١٩٥٩ م نشرت مجلة الأزهر الرسمية في القاهرة فتوى شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت ، والتي نصّت على جواز التعبّد بفقه الشيعة الإمامية ، وكان هذا يعني الاعتراف بالتشيع كمذهب رسمي إلى جوار المذاهب الفقهية الأخرى ، وهذه الفتوى كانت تحت عنوان (الإسلام دين الوحدة) ، واستطاع الشيخ أن يدحض التعصّب ، ويرصد مضارّه وآثاره ،

٥٦

وأن يقدّم حلّاً إسلامياً في إرساء دعائم الإسلام ضماناً لرفاهية الأُسرة والمجتمع.

وتزامنت هذه الفتوى مع حركات تصالحية فى صدور (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي ، و (وسائل الشيعة) للحرّ العاملي ، وكلٌّ منهما حاز على إجازة الأزهر وتأييده ، واستمرّ هذا الجهد العظيم ، وعقدت أواصر الصداقات والمراسلات بين كلا الطرفين.

وعلى غلاف المجلة الخلفي جاءت مواد القانون الأساسي للجمعية ، والتي نصّت على العمل على جمع أرباب المذاهب الإسلامية الذين باعدت بينهم آراء لا تمسّ العقائد التي يجب الإيمان بها ، والسعي لإزالة ما يكون من نزاع بين شعبتين أو طائفتين من المسلمين والتوفيق بينهما ، وظلّ هذا الفريق يعمل بتوفيق من الله تعالى على مدى ستة عشر عاماً حافلة بالنجاح عبر (رسالة الإسلام) ، ثمّ انتهى هذا الحلم مع الظروف السياسية سنة ١٩٦٤ م.

أفلا نفيق اليوم والعالم يرمى المسلمين بقوس واحد ؟! وها هي الأحزاب ، وإن شئت فقل التحالف الدولي يتسلّط علينا ، ويحتل بلادنا بلداً بعد آخر.

وعقب قيام الشاه في إيران بالاعتراف بالكيان الصهيوني عام ١٩٦٠ م عقد الأزهر مؤتمر في أغسطس من نفس العام ، وأصدر بياناً

٥٧

طالب فيه من كل مسلمي العالم أن يعلنوا الجهاد ضدّ الشاه ونظامه في إيران الموالي لإسرائيل ، وبعد ثلاث سنوات تمّ إلغاء دار التقريب في مصر ، وعلى أثر ذلك انعقدت القيادة لآية الله روح الله الخميني ، وانعقدت جبهة بين رجال الدين المناضلين من إيران والقوميين العرب الناصريين ضدّ الشاه ، وحظيت هذه الحركة باحترام قلّما يذكر مثله. وبانتصار الثورة الإسلامية في إيران ١٩٧٨ ـ ١٩٧٩ م وصل التعاون الشيعي السني إلى مرحلة دقيقة لإنهاء النزاع المذهبي بين السنة والشيعة إلى الأبد. بيد أنّه في أقل من عام ، وبدوافع عدّة ، ومؤامرات لا تخفى عن الكثير تحوّلت المصالحات إلى حرب طاحنة لم يكن العراق وإيران هم ميدانها فحسب ، لكن أصبحت ميادين الحرب كُثُر من صحافة وإعلام ومنابر وغيره.

إنّ حلم الوحدة الذي يداعب أحلام المسلمين ، والذي ربما لا يعلم الكثير منّا أنّه يقف حجر عثرة أمام قوى الشر العالمية ، وحركة الاستعمار التي تريد أن تكون هذه الأمّة فِرَق وجماعات متنازعة للسيطرة عليها ، ولسرقة خيراتها الطبيعية ، والتحكّم في طرق التجارة العالمية.

فقامت الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠ م فأحرقت الأخضر واليابس ، وتبدد كل هذا الجهد ، وظهرت أدبيات الحرب في صورة

٥٨

كتابات أكثر فجاجة وقسوة سيطرت على الوعي العام الثقافي والديني في البلاد التي يسكنها أغلبية سنية ، ومازال السواد الأعظم من أهل السنة يعتبرون الشيعة خارجين عن الإسلام ، ومع كل ما سبق نقول : إنّنا نعيش مرحلة غاية في الدقّة والضيق ، فبلاد العرب والإسلام على مرمى صواريخ الأعداء ، وكل يوم تضرب بها بلد ، وتهدم بها نظام ، وتتلاعب بآخر.

والكلمة الأخيرة في هذه المرحلة توجب علينا أن نقيم من كل هؤلاء جبهة واحدة ممتدة ذات طابع ثورى أمام الأعداء ، وهذه الجبهة يجب أن تكون مقرونة برؤية فكرية متجانسة ومتّسعة لكافة الأمّة حتّى تكون معركتنا مع هذا العدو معركة حاسمة فإمّا الكل وإمّا الفناء مستمسكين بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١).

إنّ العمل على وحدة المسلمين أصبح شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة ، والواجب علينا جميعاً أن نعيد النظر في كثير من دواعي التشرذم والخلاف.

_______________

(١) آل عمران : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٥٩

ونحن في حاجة ماسّة إلى جهد مشابه ، بل أكثر لما بذله علماؤنا الأعاظم من جهد في سبيل وحدة هذه الأمّة ، أمثال :

الشيخ الإمام عبد المجيد سليم ، والشيخ الإمام محمود شلتوت ، والسيد الإمام الأكبر الحاج آغا حسين البروجردي ، والإمام محمّد الحسين آل الكاشف الغطاء ، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، والإمام الشيخ محمّد تقي القمي ، والأستاذ محمّد جواد ، والإمام الدكتور محمّد أبو زهرة ، والإمام أبي القاسم الموسوي الخوئي ، والدكتور محمّد محمّد المدني ، وغيرهم الكثير الذين أضاءوا للأمّة نوراً من نور النبوّة ، وأعطونا فهماً. نسأل الله تعالى أن ينير قبورهم بما بذلوا للأمّة ولوحدة المسلمين.

ويجب أن نتوقّف وقفة إجلال وتحيّة لمسلمي جنوب لبنان حيث إنّ نصرهم هو الأمل الوحيد منذ أكثر من نصف قرن ، والذي تحققه جهة غير نظامية تلتف حول قاعدة شرعية وفقهية واضحة ، استطاعت أن تنزل بالعدو الصهيوني أروع وأعظم الهزائم منذ عمر الصراع العربي الإسرائيلي ، ولقد انسحب وولي الأدبار دون قيد أو شرط ، فهل يمكن لعاقل أن يصف هؤلاء المجاهدين بأنّهم من أهل الأهواء أو الزيغ. هذا والله داء عضال.

ما زالت الدنيا تتذكّر تلك الفتوى العظيمة التي أصدرها آية الله العظمى الإمام الخميني ، حيث أهدر دم كاتب تطاول على القرآن الكريم

٦٠