الشيعة الجذور والبذور

محمود جابر

الشيعة الجذور والبذور

المؤلف:

محمود جابر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-46-1
الصفحات: ١٧٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

العرب إلّا ويعرف اسم أبيه وجدّه وأجداده من بعده ، وهذه خاصة بالعرب وحدهم ، وليس أحد من العرب إلّا يسمي آباءه أباً فأباً ، حاطوا بذلك أحسابهم ، وحفظوا به أنسابهم ، فلا يدخل رجل في غير قومه ، ولا ينسب إلى غير نسبه ، ولا يدعى لغير أبيه (١).

والنتيجة رجل باسمين أو اسمين لرجلين ، من الحيرة تارة ، ومن صنعاء تارة أخرى ، ومن حمير تارة ثالثة ، أو من عموم اليمن كلها ، ولم يعرف سادتنا متى ولد ، او متى أسلم ، ولماذا سمي بابن السوداء ، فهل صحب أمّه معه حيث سار حتّى غلبت سمتها على اسمه فعرف به ، فهم ولا يعرفون اسمه على وجه الدقة رغم أنّهم يعرفون اسم كلب أصحاب الكهف ، وأسماء من في الكهف موجودة في كتب التفسير ، ومجالس العرب ، وكان البحث عن أسمائهم أمراً بالغ الصعوبة والتحري ، فهل كلب أصحاب الكهف من المهم معرفته حتّى تتثبت الأمّة ، فبحثوا ودققوا ؟! وأنّ أمر ابن سبأ كان من الهيّن ، فلم يتحققوا من النقل والضبط ، وغفلوا ، وضيّعوا ما هم عنه مسؤولون ، وعن هذا الذي هو ابن سبأ إن كان بريء فلماذا اتّهموه ، وإن كان متّهم فلماذا تركوه يفتن الأمّة ، مع أنّهم ضربوا المعارضين بمنتهى الشدّة ، وهم من خيرة الصحابة كعمار وابن مسعود وغيرهم ، هذا ما لم نعرفه ، والقوم ليس عندهم جواب على ذلك.

_______________

(١) ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، ص٢٧٧.

١٤١

ما هي فحوى الروايات التي جاءت فيه ؟

١ ـ قال محمّد فريد وجدي : السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في الانتصار لعلي ، وزعم أنّه كان نبياً ، ثمّ غلا فزعم أنّه الله ، ودعا إلى ذلك قوماً من أهل الكوفة ، فاتصل خبرهم بعلي ، فأمر بإحراق قوم منهم ، ثمّ خاف من إحراق الباقين أن ينتقض عليه قوم فنفى ابن سبأ للمدائن ، فلمّا قتل علي زعم ابن سبأ أنّه ليس المقتول علياً ، وإنّما هو شيطان صور على صورته ، وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر إنّما هو علي ، وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام ، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة ، فذكر لهم أنّه وجد في التوراة أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا سمعوا ذلك قالوا لعلي إنّه من محبيك ، فرفع علي قدره وأجلسه تحت منبره ، ثمّ بلغه عنه غُلوه فيه ، فهمّ بقتله فنهاه ابن عباس فنفاه إلى المدائن (١).

وقد ذكر الشعبي : أنّ عبد الله بن السوداء كان يعين السبائية على قولهم ، وكان ابن السوداء في الأصل من يهود الحيرة.

٢ ـ قال أحمد عطية الله : ابن سبأ رأس الفرقة السبائية من الشيعة ، وهو عبد الله بن سبأ كان من يهود صنعاء ، وأظهر إسلامه في خلافة

_______________

(١) محمّد فريد وجدي ، دائرة معارف القرن العشرين ، مادة سبأ ، ٥ / ١٧.

١٤٢

عثمان يعرف بابن السوداء ، انتقل إلى المدينة وبثّ فيها أقوالاً وأراء منافية لروح الإسلام ونابعة من يهوديته ومن معتقدات فارسية كانت شايعة في اليمن ، برز في صورة المنتصر لحق عليّ ، وادعى أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمّد ، كما ادعى أنّ في علي جزءاً إلهياً ، طاف بأنحاء العراق ناشراً دعوته ، فطرده عبد الله بن عامر من البصرة ، فنزل الكوفة وأوغر صدور الناس على عثمان ، وانتقل إلى دمشق في ولاية معاوية ، وفيها التقى بأبي ذر الغفاري ، وحرّضه على الثورة مدّعياً أنّه ليس من حق الأغنياء أن يقتنوا مالاً ، وأُخرِج من الشام فَنَزل مصر فالتف حوله الناقمون على عثمان ، وفيهم محمّد بن أبي بكر وأبو حذيفة ، ووضع على لسان علي أقوالاً لم يقلها كادعاء علم الغيب ، وبعد استشهاد علي قال : إنّه لم يقتل وسيرجع ، وبذلك وضع فكرة الرجعة بين الشيعة (١).

٣ ـ علي بن إسماعيل الأشعري : السبئية أصحاب عبد الله بن سبأ يزعمون أنّ علياً لم يمت ، وأنّه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ، وذكروا عنه أنّه قال لعلي : أنت أنت ، والسبئية يقولون بالرجعة (٢).

٤ ـ قال عبد القاهر البغدادي : الفصل الأوّل في ذكر قول السبئية

_______________

(١) أحمد عطية الله ، القاموس الاسلامي ، ٣ / ٢٢٢.

(٢) أبو الحسن الأشعري ، مقالات الإسلاميين ، ١ / ١٥.

١٤٣

وبيان خروجها عن ملّة الإسلام. السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي بن أبي طالب ، وزعم أنّه كان نبياً ، ثمّ غلا فزعم أنّه إله ، ودعا إلى ذلك قوماً من غِواة الكوفة ، ورفُع خبرهم إلى علي رضي‌الله‌عنه وأمر علي بإحراق قوم منهم في حفرتين حتّى قال بعض الشعراء في ذلك :

لترم بي الحوادث حيث شاءت

إذا لم ترم بي في الحفرتين

ثمّ إنّ علياً خاف من إحراق الباقين منهم اختلاف أصحابه عليه ، فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن ، فلمّا قتل علي زعم ابن سبأ أنّ المقتول لم يكن علياً كان شيطاناً تصور للناس في صورة علي ، وأنّ علياً صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى بن مريم عليه‌السلام.

وقد روي عن عامر بن الشراحيل الشعبي أنّ ابن سبأ قيل له : إنّ علياً قد قتل ، فقال : إن جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته ، لا يموت حتّى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها.

وهذه الطائفة تزعم أنّ المهدي المنتظر هو علي دون غيره.

إنّ عبد الله بن السوداء كان يعين السبئية على قولها ، وكان الحيرة فأظهر الإسلام ، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة ، فذكر لهم أنّه وجد في التوراة أنّ لكل نبي وصياً ، وأنّ علياً وصي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه خير الأوصياء كما أنّ محمّداً خير الأنبياء ، فلمّا سمع ذلك منه شيعة علي قالوا لعلي : إنّه من محبيك ، فرفع علي قدره ،

١٤٤

وأجلسه تحت منبره ، ثمّ بلغه عنه غلوه فيه فهمّ بقتله ، فنهاه ابن عباس عن ذلك وقال : إن قتلته اختلف عليك أصحابك ، وأنت عازم على قتال أهل الشام ، وتحتاج إلى مداراة أصحابك ، فلمّا خشي من قتله نفاه إلى المدائن. فافتتن به رعاع الناس بعد قتل علي رضي‌الله‌عنه ، وقال لهم ابن السوداء : والله لينبعن لعلي في مسجد الكوفة عينان تفيض إحداهما عسلاً والأخرى سمناً ، يغترف منهما شيعته.

وقال المحققون من أهل السنة : إنّ ابن السوداء كان على هوى دين اليهود ، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده ; لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه‌السلام ، فانتسب إلى الرافضة السبئية حين وجدهم أعرق أهل الأهواء في الكفر (١).

٥ ـ قال ابن حزم : من الفرق الغالية الذين يقولون بالألوهية لغير الله عزّ وجل أوّلهم فرقة من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري لعنه الله أتوا إلى علي بن أبي طالب ، فقالوا مشافهة : « أنت هو » ، فقال : « ومن هو » قالوا : « أنت الله » ، فاستعظم الأمر ، وأمر بنار فأججت ، وأحرقهم بالنار ، فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار : « الآن صح عندنا أنّه الله تعالى ; لأنّه لا يعذّب ، بالنار إلّا رب النار » وفي ذلك يقول : لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً (٢).

_______________

(١) عبد القاهر البغدادي ، الفرق بين الفرق ، ص ٢٣٥ : ٢٣٣ ، باختصار.

(٢) ابن حزم ، الفصل في الملل والنحل ، ٤ / ١٤٢.

١٤٥

٦ ـ قال الشهرستاني : وهو ـ أي : عبد الله بن سبأ ـ أوّل من فرض القول بإمامة علي ، ومنه انشعبت أصناف الغلاة. وقال : وإنّما أظهر ابن سبأ هذه المقالة بعد انتقال علي رضي‌الله‌عنه. واجتمعت عليه جماعة ، وهم أوّل فرقة قالت بالتوقف والغيبة والرجعة ، وقالت بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي (١).

٧ ـ قال الطبري : إنّه لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبي ذر فقال : يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول : المال مال الله ، ألا إنّ كل شي لله ، كأنّه يرد أن يحتجنه دون المسلمين ، ويمحو اسم المسلمين ، فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله ؟ قال معاوية : يرحمك الله يا أبا ذر ألسنا عباد الله ، والمال ماله ، والخلق خلقه ، والأمر أمره ؟ قال : فلا تقله. قال : فإنّي لا أقول إنّه ليس لله ولكن سأقول مال المسلمين. قال : وأتى ابن السوداء أبا الدرداء ، فقال له : من أنت ؟ أظنك والله يهودياً ، فأتى عبد الله بن الصامت فتعلّق به ، فأتى به معاوية فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر (٢).

لمّا أرسل عثمان عماراً إلى مصر ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال استماله السبئيون ، وكان كنانة بن بشر هذا واحداً منهم (٣).

_______________

(١) الشهرستاني ، الملل والنحل ، ٢ / ٣٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٦٦ نقلاً عن تحقيق محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم ص ٧٢.

(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٩٩ ، نقلاً عن المصدر السابق.

١٤٦

وذكر في أحداث سنة خمس وثلاثين : كان عبد الله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء أمّه سوداء ، فأسلم زمان عثمان ، ثمّ تنقّل في بلدان المسلمين ، يحاول ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ، ثمّ البصرة ، ثمّ الكوفة ، ثمّ الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ، فأخرجوه حتّى أتى مصر ، فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول : لعجب ممن يزعم أنّ عيسى يرجع ، ويكذّب بأنّ محمّداً يرجع ، وقد قال الله عزّ وجل ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) (١) فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى قال : فقُبِل ذلك عنه ، ووضع لهم الرجعة ، فتكلموا فيها ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّه كان ألف نبي ، ولكل نبي وصي ، وكان علي وصي محمّد ، ثمّ قال : محمّد خاتم الأنبياء ، وعلي خاتم الأوصياء ، ثمّ قال بعد ذلك : من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووثب على وصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتناول أمر الأمّة ، ثمّ قال لهم بعد ذلك : إنّ عثمان أخذها بغير حق ، وهذا وصي رسول الله ، فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه ، وابدأوا بالطعن على أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس ، وادعوهم إلى هذا الأمر ، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

_______________

(١) القصص : ٨٥.

١٤٧

٨ ـ قال ابن كثير : في باب ذكر مجي الأحزاب إلى عثمان للمرّة الثانية ، وساق نفس ما قاله الطبري وزاد ، ومعهم ابن السوداء وكان أصله ذمياً فأظهر الإسلام ، وأحدث بدعاً قولية وفعلية (١).

مناقشة (الروايات) :

هذه ثمانية (روايات) جامعة شملت أصحاب السير والتاريخ والمغازي ، وأصحاب المقالات والفرق ، والمؤرّخون المعاصرون ، وأصحاب الموسوعات العلمية.

وكما اختلفوا فيما سبق في اسمه ، ومن أيّ البلاد هو ؟ ومتى خرج بدعوته ؟ فهاهم يختلفون ـ أيضاً ـ في مقالته ، فمنهم من قال : إنّه قال إنّ علياً هو النبي ، وفي نفس المقال قال : ادّعى ابن سبأ في علي أنّه إله أو جزء من إله ، وهم محمّد فريد وجدي وأحمد عطية الله وعبد القاهر البغدادي وابن حزم والشهرستاني. وقالوا : إنّ ابن سبأ ادّعى أنّ علياً وصي محمّد ، رغم أنّهم قالوا : بنبوّته وألوهيّته. كل ذلك بدون وعي وتأمل ، فقالوا : إنّ ابن سبأ قال إنّ علياً إله ، ونبي ، ووصي النبي ، وأنّه في السحاب ، فأيّ نبي قبله سكن السحاب ؟! أو أيّ وليّ سكن السحاب ؟! أو أي إله سكن السحاب ؟! أكانوا القوم بلا عقول حتّى تسري فيهم هذه الدعوة ؟!

_______________

(١) الحافظ ابن كثير ، البداية والنهاية ، ٧ / ١٧٣.

١٤٨

وتحدّثوا فيما تحدّثوا فيه أنّه طاف في الحجاز ، والكوفة ، والبصرة ، والشام ، ومصر ، وهذه الأمصار كانت تعجّ بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا مصر فكان بها حوالي خمسون صحابياً ، منهم : عمرو بن العاص ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعقبة بن عامر ، وأبو زمعة البلوي ، وبصرة الغفاري ، وبصرة بن أبي بصرة ، وخرشة بن الحارث ، وجنادة الأزدي ، وسعيد بن يزيد الأزدي ، والأنماري ، ومعاوية بن خديج ، ومسلمة بن مخلد بن الصلت ، وعبد الرحمن بن عديس ، فهل يترك أهل مصر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتّبعوا هذا اليهودي حديث العهد بالإسلام ؟! وما هذا الذي يؤهّله حتّى يتطاول على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمع الناس حوله ؟!

وإنّ كان في مصر خمسون صحابياً وعددٌ من التابعين ، فإنّ في الكوفة ما يزيد عن مائة وخمسين هم من خلّص أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله منهم : عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو موسى الأشعري ، والبراء بن عازب ، وعبيد بن عازب ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة ، وحجر بن عدي ، وخزيمة بن ثابت ، والنعمان بن ثابت ، وغيرهم من الصحابة والتابعين ممن روى عن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي موسى ، منهم : شريح القاضي ، وسعيد بن جبير ، وسعد بن حذيفة ، وقيس بن زيد ،

١٤٩

وأويس القرني ، وسعد بن مالك ، فكيف ترك الناس كل هؤلاء وافتتنوا برجل ليس له في الإسلام قدم ؟! وكيف ترك الناس كل هؤلاء واتّبعوا صاحب دعوة تنقض الإسلام ، وترفع لواء الكفر ؟!

والعجب العجاب تلك الطريقة التي اتّبعها عمّال الأمصار معه ، كما قال الطبري وغيره ، من أنّهم لم يستوقفوه ، وإنّما أخرجوه من مصر إلى البصرة ، ثمّ إلى الكوفة ، ثمّ إلى الشام ، ثمّ إلى مصر ، وكأنّهم يدفعونه إلى أن ينشر دعوته في الأمصار !! أفتونا يا سادتنا هل هذه الدعوة عقوبتها النفي ؟!

وهنا ملاحظة أُخرى وهي : أنّه لو أسلم ابن سبأ أو ادّعى الإسلام فليس عليه رقيب أو حسيب من الناس في إسلامه ، أمّا إذا ادّعى النبوة لنفسه أو لأحد غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو ادّعى الألوهية لأحد من الناس أو قال بحلول جزء إلهي في أحد ، فكيف يترك صاحب المقال دون عقاب شرعي على كفره ؟!

ولماذا لم يعاقبه الخليفة عثمان رغم أنّه كان شديداً مع بعض أصحاب رسول الله كعبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر ؟! وكيف تركه معاوية والي الشام رغم أنّ عبادة بن الصامت التقى به وأتى به إلى معاوية ، وقال له : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر ، فلماذا سيّر أبا ذر إلى الخليفة ، وطرد ابن سبأ إلى مصر ، لماذا ؟! الذي فعله ؟ وهل كان

١٥٠

ابن سبأ أقوى من النبي في دعوته حتّى يتبعه أصحابه كأبي ذر وعمار ابن ياسر وعبد الرحمن بن عديس ؟!

كيف يُلبِس على الناس هذه الأقوال ؟! وبأيّ سلطان فعله وهو ليس صحابياً ، أو محدثاً أو فقيهاً ، ولا شيء من هذا كله ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصحاب العلم حضور ؟!

وكيف تركه الإمام علي عليه‌السلام الذي لم يخش الناس ، وهو الذي حارب الزبير ، وطلحة ، وعائشة ، ويترك هذا الدعي دون عقوبة ، سوى إخراجه إلى المدائن ؟!

وهناك روايات تقول : بأنّ علياً عليه‌السلام حرق قوماً من أتباعه وخاف الفتنة فتركه ، فكيف يحرق الأتباع ويترك المتبوع ؟!

وكيف استطاع هذا الدعي الحدث أن يحدث هذه الفتنة العظيمة بين أمّة النبي الخاتم ؟! ويدعو الناس إلى قتل عثمان وتستجيب الناس لحاقد كافر غالي خارج عن الإسلام ، فأيّ الناس هم ؟!

فما بالك بأنّ هؤلاء الذين تلاعب بهم ابن سبأ هم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحواريوه ، وأمناؤه ، وآل بيته ، وأزواجه ، فإمّا أنّ هؤلاء أطاعوه ، أو منعهم خشيته وهذا مالا يعقله عاقل ، وإمّا أنّهم علموا ولم يدعوا فترفّعوا عن هذا الأمر ، وهذا يستحيل عن الذين جاء فيهم القرآن بدعوتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإمّا أنّهم تسامحوا معه ،

١٥١

فلماذا تسامحوا مع ابن سبأ وشددوا على كبار الصحابة كأبي ذر أفيدونا يرحمكم الله ؟! أكان عثمان أم معاوية أم علي أم عمّال الأمصار يرعون دم الذمي وأهل الكتاب المارقين ، ويوغلون في دماء إخوانهم ، كما فعل الخوارج مع عبد الله بن خباب بن الأرت ؟!

مدى صحة هذه الروايات

نقول : إنّ ما سقناه من روايات نقلناها عن محمّد أبو زهرة ، ومحمّد فريد وجدي ، وأحمد عطية الله ، وأحمد أمين ، وحسن إبراهيم حسن ، والمقريزي ، والذهبي ، وابن حزم ، وعبد القاهر البغدادي ، وعلي بن إسماعيل الأشعري ، وابن كثير ، والشهرستاني ، والطبري ، وهؤلاء يمكن أن يصنّفوا في مجموعات ثلاث هي :

باحثون معاصرون ، وأصحاب موسوعات ، وفقهاء.

أصحاب المقالات والفرق.

أصحاب التاريخ والسير والمغازي.

المجموعة الأولى : الباحثون المعاصرون ، وأصحاب الموسوعات ، والفقهاء ، وهم :

محمّد فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين : أشار إلى أنّه نقل ذلك عن الطبري.

محمّد أبو زهرة في تاريخ المذاهب الإسلامية : يشير أنّه نقل عن الطبري.

١٥٢

أحمد عطية الله في القاموس الإسلامي : نجده في مادة « سبأ » ينقل رواية تشابه رواية الطبري وابن كثير.

أحمد أمين في فجر الإسلام : اقترب إلى ما قاله السيد محمّد رشيد رضا في كتابه السنة والشيعة ، وكذلك ينقل عن ابن خلدون والطبري في صفحة (٤٢٣) وكذلك في صفحة (٤٣٨) ، وفي نهاية هذا المبحث ينقل عن المستشرق ولهوسن.

حسن إبراهيم حسن في كتابه تاريخ الإسلام السياسي : وهو يسجّل في هامش الصفحة (٣٥٢) أنّه نقل من الطبري.

محمّد رشيد رضا في كتابه السنة والشيعة ـ والذي نقل عنه أحمد أمين ـ يقول : إنّ التشيّع ، لعلي كان مبدأ تفرّق هذه الأمّة ، وكان مبتدع أصوله يهودي ، واسمه عبد الله بن سبأ ، أظهر الإسلام خداعاً ، وقد نص في كتابه على أنّ المصدر الذي اعتمد عليه الكامل في التاريخ لابن الأثير.

ولهوسن ـ والذي اعتمد عليه أحمد أمين كأحد مصادره ـ في كتابه الدولة الأموية وسقوطها ، وقال تحت عنوان « السبئية وروح النبوة » : وتبرز في هذه الظروف فرقة في الكوفة كانت بعيدة عن الأنظار يطلق عليه اسم السبئية تغيّر شكل الإسلام تغييراً تامّاً ،ويقول: إنّ السبئية مشتقة من ابن سبأ ، وهو يهودي من اليمن. وقال تحت عنوان :

١٥٣

« السبئية متطرّفون تقمصيون » وللمتطرفين أسماء مختلفة لا تدل إلّا على ظلال لا قيمة لها من المعاني ، وكانوا أوّلا يسمّون السبئية. ويقول سيف بن عمر : إنّ السبئية كانوا من أوّل الأمر من أهل الشر والسوء في تاريخ حكم الله ، هم قتلة عثمان ، فتحوا باب الحرب الأهلية ، وأسسوا فرقة الخوارج. وبعد أن حدد اسم سيف في موضعين مختلفين يشير إلى أنّه استند في مصدره إلى الطبري.

فهذه هي المصادر التي اعتمد عليها هذا الصنف من الناس تنحصر في « ابن خلدون وابن الأثير وابن جرير الطبري » وسوف نبحث في هذه المصادر التي اعتمدوا عليها.

المجموعة الثانية : أصحاب المقالات والفرق ، وهم :

علي بن إسماعيل الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين ، وعبد القاهر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق ، وابن حزم في كتابه الفصل بين الملل والنحل ، والشهرستاني في كتابه الملل والنحل وغيرهم.

والحق أنّهم أخذوا هذه المقالات من أفواه الناس ، ومن معاصريهم دون سند ، وما أوردوه من سند مما تكلّموا به إنّما هو أقوال تُحكى عن فلان عن فلان ، مع ما في كتبهم من تناقض وسخف بيّن قد أوردنا بعضه ، وسوف نكمله فيما بقي لنا من كلام.

المجموعة الثالثة : أصحاب التاريخ والسير والمغازي ، وهم :

١٥٤

المقريزي المتوفى ٨٤٨ هـ في الخطط : أورد كلاماً يشبه كلام أهل الفرق ، وأقوالاً أخرى تشبه روايات سيف بن عمر.

وابن خلدون المتوفي ٨٠٨ هـ في تاريخه : المبتدأ والخبر ، فإنّه قد أورد قصّة السبئية في ذكره حادثة الدار والجمل ، فقال : هذا أمر الجمل ملخصاً من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به وسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين (١).

وأمّا ابن كثير المتوفى ٧٧٤ هـ ، فقد أورد القصّة في ج ٧ من تاريخه البداية والنهاية « باب ذكر مجيء الأحزاب إلى عثمان للمرّة الثانية من مصر » فقال في ص ١٧٣ منه : سيف بن عمر التميمي عن محمّد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان ، وقاله غيرهم أيضاً ، قالوا : لمّا كان في شوال سنة خمس وثلاثين ، خرج أهل مصر في أربع رقاق على أربعة أمراء ومعهم ابن السوداء ، وكان أصله ذمياً فأظهر الإسلام ، وأحدث بدعاً قولية وفعلية ، قبّحه الله.

ونقل القصّة حتّى إذا انتهى من سرد واقعة الجمل ص ٢٥٢ منه قال : هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله.

والذهبي المتوفى ٧٤٨ هـ في كتابه تاريخ الإسلام : فإنّه قد أورد ذكر ابن سبأ في حوادث سنة خمس وثلاثين لدى ذكره مقتل عثمان بن

_______________

(١) ابن خلدون ، التاريخ ، ٢ / ٤٣٨.

١٥٥

عفان في ج ٢ / ١٦٩ ، وقال سيف بن عمر عن عطية عن يزيد الفقعسي قال : لمّا خرج ابن السوداء إلى مصر ... الحديث.

وهو هنا ينقل من سيف بن عمر وكتابه الفتوح والردة حيث جعله أحد مصادره التي ذكرها في مقدّمة كتابه قال : طالعت على هذا التأليف من الكتب مصنفات كثيرة ، ومادته من : الفتوح لسيف بن عمر ، وتاريخ ابن الأثير ، وتاريخ الطبري (١).

ابن الأثير المتوفى ٦٣٠ هـ في كتابه الكامل في التاريخ : يذكر القصة كاملة في حوادث سنة ٣٠ ـ ٣٦ هـ ، وهو يرجعها كما قال في مقدّمته إلى الطبري ، قال : فإنّي لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً إلّا ما فيه زيادة بيان أو اسم إنسان أو مالا يطعن على أحد منهم في نقله ، وإنّما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقاً الجامع علماً ، وصحة اعتقاد وصدقاً.

وبذلك فإنّ هؤلاء الكتّاب يرجعون إلى الطبري في ما ينقلون عن عبد الله بن سبأ والسبئية ، فما هو مصدر الطبري ؟

الطبري المتوفى سنة ٣١٠ هـ في كتابه « تاريخ الأمم والملوك » في حوادث سنة ٣٠ ـ ٣٦ هـ ذكر قصة ابن سبأ والسبئية في مقتل عثمان وحرب الجمل عن طريق سيف وحده ، وللطبري إلى أحاديث سيف

_______________

(١) الذهبي ، تاريخ الإسلام ، المقدّمة ١ : ١٢.

١٥٦

طريقان ، الطريق الأوّل : في ما رواه مشافهة عن عبيد الله بن سعيد الزُهري عن عمّه يعقوب بن إبراهيم عن سيف.

الثاني : السري بن يحيى عن شعيب بن ابراهيم عن سيف.

ومن تتمة البحث أن نعرف قيمة هذه الروايات ، ومدى صحتها ، ومن هم هؤلاء الرجال عن طريق ترجمة رجال السندين ؟

ترجمة رجال السندين :

الطريق الأوّل : عبيد الله بن سعد الزهري عن عمّه يعقوب بن إبراهيم عن سيف.

هو : عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري أبو الفضل البغدادي ، روى عن أبيه وعمّه يعقوب وأخيه إبراهيم بن سعد ويونس بن محمّد وأبي الجواب وروح بن عبادة وغيرهم ، ولد سنة ١٨٥ هجرية ، ووثّقه الدارقطني. قال البغوي ومحمّد ابن مخلد : مات في ذي الحجة سنة ستين ومائتين (١).

وأبوه هو : سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ويكنى أبا إسحاق ، ولي قضاء واسط في خلافة هارون ، وكان يروي كتب أبيه ، وسمع منه بعض البغداديين ، وتوفي في سنة إحدى ومائتين (٢).

_______________

(١) ابن حجر العسقلاني ، تهذيب التهذيب ، ٧ / ١٥.

(٢) محمّد بن سعد ، الطبقات الكبير ، ٩ / ٣٤٥.

١٥٧

وعمّه الذي يروي عنه ، هو : يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري ويكنى أبا يوسف ، وكان ثقة مأموناً ، وكان يروي عن أبيه المغازي ، وغيرها ، وتوفي سنة ثمان ومائتين (١).

وفي تهذيب التهذيب أبو يوسف المدني نزيل بغداد وروى عن سيف ابن عمر الضبي (٢).

الطريق الثاني : السرى بن يحيى عن شعيب بن ابراهيم عن سيف.

هو : أبو عبيدة السري بن يحيى بن السري الكوفي كما في كتاب « ذكر أخبار اصبهان » لأبي نعيم ص ٢٣.

وقال عنه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم : وكان صدوقاً (٣) ، وذكره ابن حبان في الثقات (٤).

وأمّا شعيب بن ابراهيم الكوفي ، راوية كتب سيف عنه ، فيه جهالة انتهى. ذكره ابن عدي وقال ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار وفيه بعض النكرة (٥).

ترجمة سيف بن عمر :

هو كما في تهذيب التهذيب : سيف بن عمر التميمي البرجمي.

_______________

(١) مرجع سابق ٩ / ٣٤٥.

(٢) ابن حجر العسقلاني ، تهذيب التهذيب ، ١١ / ٣٨.

(٣) الجرح والتعديل ٤ : ٢٦٣ ، رقم ٦٣٤٤.

(٤) كتاب الثقات ٥ : ٢١١ ، رقم ١٥٤٩.

(٥) لسان الميزان ٣ : ١٤٥.

١٥٨

ويقال : السعدي. ويقال : الضبي. ويقال : الأسدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح.

قال ابن معين : ضعيف الحديث. وقال مرّة : فلْسٌ خيرٌ منه.

وقال أبو حاتم : متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي.

وقال أبو داود : ليس بشي.

وقال النسائي والدارقطني : ضعيف.

وقال ابن عدي : بعض أحاديثه مشهورة ، وعامتها منكرة لم يتابع عليها.

وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الأثبات ، قال : وقالوا : إنّه كان يضع الحديث.

قلت : بقية كلام ابن حبان اتّهم بالزندقة.

وقال البرقاني عن الدارقطني : متروك.

وقال الحاكم : اتّهم بالزندقة ، وهو في الرواية ساقط.

قرأت بخط الذهبي مات سيف زمن الرشيد (١).

فهذا سيف وهذه أحاديثه التي ذكرها الأقدمون للمعرفة ، فإذا هي تنقل جيلاً بعد جيل حتّى تجدها عمدة في التاريخ ، رغم أنّ سادتنا العلماء قالوا في سيف مثلما قال مالك في الخمر ، ورغم أنّ قصّة ابن سبأ لم ترد إلّا من هذين الطريقين المنتهيين إلى سيف بن عمر.

_______________

(١) تهذيب التهذيب ٤ : ٢٩٥ ، رقم ٥٠٦.

١٥٩

بيد أنّ الكبر وضيق الأفق أخذ بالبعض أن يقول مقالة تشبه مقالة علي السالوس في موسوعته عندما قال : ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة ، ولرفع هذه التهمة الثابتة ، ألّف مرتضى العسكري الشيعي كتاباً عن عبد الله بن سبأ ، وقال : إنّه شخصية خرافية لا وجود لها ، وأنّ قصّته وضعها سيف بن عمر ، واشتهرت عن طريق الطبري. وما قاله هذا الشيعي غير صحيح ، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر (١).

ورغم فساد مرجعيات قصّة ابن سبأ من حيث السند ، ورغم اضطراب متنها في أكثر من موضع ، فسند القصّة يحتوي الكذاب والوضّاع والمجهول ، بيد أنّ علي السالوس في موسوعته يؤكّد أنّها ثابتة ومشتهرة.

نعم ، القصّة مشتهرة ، ولكنها غير ثابتة ، فالثبوت يتطلّب الوجود والحقيقة والصحة فأين صحة الرواية ؟! وعلماء الرجال وأصحاب الحديث يكذبون سيف بن عمر ويتهمونه بالزندقة ، وهي لم تنقل إلّا من طريقه وإليه تنتهي ، وليس لها طرق أُخرى حتّى يقوّي بعضها بعضاً. وقديماً قال علماء المنطق : وليس كل مشهور صادقاً ، فإنّ المشهور لا يقابل الكاذب حتّى يجب أن يكون صادقاً ، بل يقابل الشنيع (٢).

_______________

(١) علي السالوس ، مع الشيعة الاثنى عشرية ١ : ١٦.

(٢) الجوهر النضيد : ٢٣٥.

١٦٠