إفادات من ملفّات التاريخ

محمّد سليم عرفة

إفادات من ملفّات التاريخ

المؤلف:

محمّد سليم عرفة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-17-X
الصفحات: ٢٦٩

حتى أنقذكم الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، ( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) (١) ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة قذف أخاه عليّاً في لهواتها ، ولا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية من العيش فكهون آمنون وادعون (٢) ، حتى اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وشمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأفكين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً فيكم ، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، ولقربه متلاحقين ، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، إنما زعمتم خوف الفتنة ( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) (٣).

فهيهات! وأنّى بكم وأنّى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ،

____________

١ ـ المائدة : ٦٤.

٢ ـ إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن عائشة ، ومن بعده رواية عروة عن عائشة.

٣ ـ التوبة : ٤٩.

٦١

زواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ، وأوامر واضحة ، أرغبة عنه تريدون ، أم لغيره تحكمون؟! بئس للظالمين بدلا! ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ).

ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ، تسرون حسواً في ارتغاء ، ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنُونَ ) (١)؟

يا بن أبي قحافة : أترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً إدّاً! فدونكها مخطومه مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون »!

ثم قُمت خطيباً ، فحمدتُ الله وأثنيت عليه وصليت على محمّد وقلت :

يا خير النساء وابنة خير الآباء ، والله ما عدوت رأي رسول الله ولا عملت إلاّ بإذنه ، وإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وإنّي أشهد الله وكفى بالله شهيداً ، إنّي سمعت رسول الله يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » (٢).

____________

١ ـ المائدة : ٥٠.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٢.

٦٢

هذا الحديث لم يروه إلاّ أبو بكر ، ولا يحقّ له الاستشهاد به; لأنّه لو كان هذا الحديث صحيحاً لكان عرفه أكثر الصحابة ، وأيضاً الإمام علي عليه‌السلام باب مدينة العلم الذي كان يلازم رسول الله دائماً ، وكتاب الله أيضاً يشهد بأنّ الأنبياء يورثون كما استشهدت سيّدة نساء العالمين عندما قالت لأبي بكر :

ـ ( وَوَرِثَ سـلَيْمانُ داوُدَ ) (١).

ـ ( يرِثُنِي وَيـرِثُ مِنْ آلِ يَعْقـوبَ ) (٢).

ـ ( يُوصِـيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيـيْنِ ) (٣).

ثمّ قالت لي : لئن مُت اليوم من كان يرثك؟

قلت : ولدي وأهلي.

قالت : فلم ورَثت أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دون ولده وأهله؟

فقلت : فما فعلت يا بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).

قالت : بلى ، إنّك عمدت إلى فدك ، وكانت صافية لرسول الله وآله فأخذتها ، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنّا.

فقلت لها : يا بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، لم أفعل (٤)!

____________

١ ـ النمل : ١٦.

٢ ـ مريم : ٥ ـ ٦.

٣ ـ النساء : ١١.

٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢.

٦٣

قلت لها : من يشهد بأنّ رسول الله قد أنحلك فدك؟ فجاءت بعليّ وأُمّ أيمن والحسنين وشهدوا لها بذلك.

فجاء عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدوا أنّ رسول الله كان يقسّمها ، فصدّقت كلام عمر وعبد الرحمن بن عوف وصدقت كلامها.

وقلت لها : كان رسول الله يأخذ من فدك قوتكم ويقسّم الباقي ويحمل منه في سبيل الله ، فما تصنعين بها؟

قالت : أصنع بها كما صنع بها أبي.

فقلت : فلك عليّ الله أن أصنع فيها كما صنع فيها أبوك ، فهجرتني فاطمة فلم تكلّمني حتى ماتت (١).

موت فاطمة عليها‌السلام وهي غاضبة على أبي بكر :

س ١٣ ـ هل حاولت إرضاء فاطمة عليها‌السلام بعد ذلك؟

ج ـ لقد حاولت ، وجاءني عمر ، فقلت له : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقنا جميعاً إلى فاطمة ، فلم تأذن لنا ، فأتينا عليّاً فكلّمناه ، فأدخلنا عليها ، فلمّا قعدنا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّمنا عليها فلم ترّد السلام.

____________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦ ٢١٨.

٦٤

ثمّ قالت : « أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله تعرفانه وتفعلان به »؟

قلنا : نعم.

فقلت : « نشدتكم الله ، ألم تسمعا رسول الله يقول رضى فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة أبنتي فقد أحبّني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني »؟

قلنا : نعم ، سمعناه من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ).

قالت : « فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت أبي لأشكونكما إليه ، ثمّ قالت : والله لأدعون الله عليكم في كلّ صلاة أُصليها » (١).

س ١٤ ـ هذا يعني أنّ فاطمة ماتت وهي ساخطة عليك وعلى عمر؟!

ج ـ نعم ، حتى إنّها أوصت عليّاً أن يدفنها ليلا ويخفي قبرها (٢).

س ١٥ ـ هل طالبتك فاطمة عليها‌السلام بشي آخر؟

ج ـ بعد منعي فاطمة من إرثها من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأرض فدك

____________

١ ـ الإمامة والسياسة : ٣١.

٢ ـ صحيح البخاري ٥ : ٨٣ ، كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر.

٦٥

طالبتني فاطمة بسهم ذوي القربى (١) ، قائلة : لقد حرمتنا أهل البيت ، فأعطنا سهم ذوي القربى ، وقرأت آية : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (٢).

فقلت لها : سمعت رسول الله يقول : سهم ذي القربى لهم في حال حياتي وليس لهم بعد موتي (٣).

ولكني أعطيت عليّاً وفاطمة دابة رسول الله وحذاءه (٤).

س ١٦ ـ لا أعرف سبب إعطائكم دابة الرسول وحذائه لعليّ وفاطمة عليهما‌السلام وهي من الإرث مع ما تقول من منع الإرث لهم ، وهذا يؤكّد أنّ ما ذهبتم إليه هو المنع الاقتصادي فقط ، وكان قصدك من هذه القرارات التي اتخذتها أنّك منعت آل البيت من كلّ الموارد التي كانت مخصّصة لهم حال حياة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهكذا حرم أهل البيت عليهم‌السلام من إرث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن المنح ومن الخمس الوارد في القرآن ، والصدقة محرمة عليهم فمن أين يأكلون بحقّ الله؟

فقد روى مسلم : إنّ النبيّ كان إذا أُتي بطعام سأل عنه ، فإن كان

____________

١ ـ تاريخ الذهبي ١ : ٣٤٧.

٢ ـ الأنفال : ٤١.

٣ ـ مسند ابن راهوية ٥ : ٢٧.

٤ ـ شرح نهج البلاغة لابن الحديد ١٦ : ٢١٤ ، بلاغات النساء : ١٢ ـ ١٥.

٦٦

هدية أكل منها ، وإن كان صدقة لم يأكل منها وردّ الصدقة .. ومرّ النبيّ بتمرة بالطريق فقال : « لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ».

وإنّ الحسن بن علي عليه‌السلام أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كخ كخ ، إرم بها ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ».

وفي رواية : « إنّا لا تحلّ لنا الصدقة » (١).

ج ـ إنّي أعول من كان رسول الله يعول ، وأنفق على من كان رسول الله ينفق عليه (٢) ، فآل محمّد يأكلون ، ليس لهم أن يزيدوا على المأكل! (٣)

س ١٧ ـ هذا يعني أنّك اتّبعت سياسة تفقير المعارضة لكي لا يلتفت إليهم أحد ولا يفكروا بمعارضتك؟

ج ـ لقد أحسست بعد فترة بهذا الإجحاف الذي طال آل البيت ، وكان كلّه بسبب الخلافة ، وإنّ غضب فاطمة وسخطها عليّ وقولها إنّها ستدعوا عليّ في كلّ صلاة ، وأدركت أنّي أوّل الضحايا من هذه

____________

١ ـ صحيح مسلم ٣ : ١١٧ ، كتاب الزكاة ، باب تحريم الزكاة على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى آله ، مسند أحمد ١ : ٢٠ ، سنن أبي داود ١ : ٣٧٣ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٣ : ٨٩.

٢ ـ سنن الترمذي ٣ : ٨١.

٣ ـ صحيح ابن حبان ١١ : ١٥٣ ، مسند الشامين للطبراني ٤ : ١٩٨ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٣.

٦٧

البيعة فخرجت قائلا : « يبيت كلّ واحد منكم معانقاً حليلته مسروراً في أهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، أقيلوني بيعتي » (١).

ولكنّ القوم أمروني بالبقاء ، وتعلّلوا بسبب ظاهري مفاده : خشيتهم من عدم استقامة الأمر ورخاوة العروة ، فاضطررت للبقاء مرغماً.

حرق الأحاديث ومنع روايتها :

س ١٨ ـ لماذا قُمتَ بجمع ما كُتب من الأحاديث الشريفة وقُمتَ بإحراقها ، وأمرتَ الناس ألاّ يحدّثوا عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

ج ـ كنت قد جمعت في كتاب خمسمائة حديث ، وبعد وفاة الرسول قمت بإحراقها مخافة أن أكون قد أخذت هذه الأحاديث عن رجل قد ائتمنت ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلت ذلك (٢).

ثمّ جمعت الناس وقلت : إنّكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله ، فمن سألكم قولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله

____________

١ ـ الإمامة والسياسة : ٣١.

٢ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ٥.

٦٨

وحرّموا حرامه (١).

س ١٩ ـ هل منعك رواية الحديث كان برأيك ، أم أنّه كان لديك نصّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك؟

ج ـ كان برأيي ولم يكن لدي أي نصّ بذلك ، وإنّما خشيت من اختلاف الناس في رواية الحديث; لأنّهم بدأوا في الاختلاف في بداية عهدي.

س ٢٠ ـ على ماذا اختلف المسلمون وقد كنتم قريبي عهد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل اختلفوا في عدد ركعات الصلاة أم على صيام شهر رمضان؟

ج ـ لا ، كان جلّ خلافهم في مسألة الخلافة بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ).

س ٢١ ـ يتبادر هنا سؤالان؟

١ ـ إمّا أن تكون الأحاديث التي انتشرت في بداية عهدك تؤكّد النصّ على خلافتك ، أو كما تدّعي ترك الأمر شورى بين الناس. ولو كانت كذلك لما كان هناك داع لمنع رواية أو كتابة هذه الأحاديث؟!!

٢ ـ وإمّا أن تكون في خلاف ما ذهبتم إليه من البيعة ونصر لمخالفيك وفي إبراز فضائلهم وأحقيّتهم في هذا الأمر ، فأحببت صرف الناس عن الخوض في ذلك الأمر وتوجيههم إلى القرآن؟

ج ـ نعم ، هذا صحيح; لأنّ الناس بعد أن سمعوا بمقالة عليّ وأنّه

____________

١ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ٣.

٦٩

أحقّ منّي بهذا الأمر ، بدأوا برواية أحاديث تؤيّده ، لذلك أمرت بحرق الأحاديث وعدم كتابتها أو التحدّث بها والاكتفاء بالقرآن (١).

____________

١ ـ إنّ ما يؤكّد هذا الهدف الذي سنّه أبو بكر ومَن جاء بعده ما رواه الزبير بن بكّار ( ت٢٥٦ ) بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد قال :

قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً سنة ( ٨٢ هـ ) وهو ولي عهد ، فمرّ بالمدينة ، فدخل عليه الناس فسلّموا عليه ، وركب إلى مشاهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله التي صلّى فيها وحيث أصيب أصحابه بأُحد ، ومعه أبان بن عثمان وعمرو بن عثمان وأبو بكر بن عبد اللّه ، فأتوا قباء ومسجد الفضيخ ومشربة أُمّ إبراهيم وأُحد ، وكلّ ذلك يسألهم ، ويخبرونه عمّا كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب به سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه.

فقال أبان : هي عندي ، وقد أخذتها مصحّحة ، ممّن أثق فيه.

فأمر بنسخها ، وألقى إلى عشرة من الكتاب فكتبوها في رق.

فلمّا صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وذكر الأنصار في بدر فقال : ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل ، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمضوا عليهم ، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان : أيها الأمير لا يمنعنا ما صنعوا ... أن نقول بالحقّ ، هم ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان : ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتى أذكره لأمير المؤمنين لعلّه يخالفه ، فأمر بذلك الكتاب فخرق وقال : أسأل أمير المؤمنين إذا رجعتُ ، فإن يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك ، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان ، فقال عبد الملك : وما حاجتك أن تقدّم بكتاب ليس لنا فيه فضل؟ تعرّف أهل

٧٠

حروب الردّة :

س ٢٢ ـ بعد أن سكن لك الأمر في المدينة وبايعك الناس ، إمّا رغبة أو رهبة أو طمعاً ، ماذا فعلت بمن عارضك من خارج المدينة من القبائل؟

ج ـ لقد انتظرت حتى عاد جيش أُسامة بن زيد الذي كنت قد سيّرته كما أمر رسول الله ، وعندما عاد عزمت على مقاتلة المرتدين من القبائل وهم كانوا على فئتين :

____________

الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها!

قال سليمان : فلذلك يا أمير المؤمنين أمرتُ بتخريق ما كنتُ نسخته حتى استطلع رأي أمير المؤمنين.

فصوّب رأيه.

راجع الموفقيات للزبير بن بكار : ٣٣٢ نقلا عن معالم المدرستين للعسكري : ٢٦١.

ذكرتُ ذلك لأقول : إن كان بنو أميّة وبعد أن استتب لهم الأمر لا يتحمّلون ذكر فضل الأنصار ، فكيف يتحملون ذكر فضل أهل البيت وسيدهم أمير المؤمنين؟!

ويدلّ عليه ما روي : أنّ خالد القسري ـ أحد ولاة بني أُميّة ـ طلب من أحدهم أن يكتب له سيرة النبيّ.

فقال الكاتب : فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة علي بن أبي طالب أفأذكره؟

فقال خالد : لا ، إلاّ أن تراه في قعر جهنم ..

راجع الأغاني : ١٩ : ٥٩ نقلا عن الصحيح من سيرة النبيّ للعاملي : ٣٥٨.

٧١

ـ فئة أعلنوا الردّة جهرة عن الإسلام ، وهؤلاء بعضهم ادّعى رؤساؤهم النبوّة.

أوّلهم ـ مسيلمة الكذّاب وكان على قبيلة بني حنيفة شرقي جزيرة العرب ، وهذا ادّعى النبوّة قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وثانيهم ـ الأسود العنسي بصنعاء كلاهما ادّعى النبوّة إمّا قبيل حجّة الوداع أو بعدها في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي مات فيه.

ثالثهم ـ طليحة بن خويلد الأسدي ، الذي ادّعى النبوّة أيضاً في بلاد بني أسد في مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

رابعهم ـ ادّعت النبوّة سجاح بنت الحارث التميمية بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ـ وفئة من قبائل العرب المسلمين امتنعوا عن أداء الزكاة. فبعضهم حبسها ، وبعضهم توّقف يترقّب ما يصير إليه أمر الخلافة ، وبعضهم قال : نأخذها من أغنيائنا ونعطيها فقراءنا ، وإعلاني الحرب على هذه القبائل المرتدة كان فيه أهم داع إلى توحيد الكلمة في المدينة ، حتّى إنّ علي بن أبي طالب أنهى عزلته ودعاني إلى بيته للبيعة.

وقد قال في ذلك : « فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله ، أن أرى فيه ثلمة أو هدماً تكون المصيبة به

٧٢

عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل » (١).

س ٢٣ ـ لا خلاف في ضرورة الحروب التي قمت فيها ضدّ القبائل التي جهرت في ردّتها عن الإسلام ، لكن السؤال عن القبائل التي أمسكت الزكاة فهؤلاء لم يرتدّوا عن الدين ، بل منعوا الزكاة ، لذلك نريد أن نسمع منك عن حالهم ، وما كانت حجّتهم لمنع الزكاة؟

ج ـ هؤلاء كانت حجّتهم أنّهم كانوا يدفعون الزكاة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حال حياته ، وأمّا بعد موته فإنّهم لن يدفعوها لي ، بل سيأخذونها من أغنيائهم ويردّونها على فقرائهم.

س ٢٤ ـ لم تقل كلّ أعذارهم ، لذلك سأعرض عليك حججهم!

فهذا الحارث بن سراق ، أحد شيوخ كندة في حضرموت يقول :

نحن إنّما أطعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان حيّاً ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه ، وأمّا ابن أبي قحافة فلا ، والله ما له في رقابنا طاعة ولا بيعة!

ثم قال :

أطعنا رسولَ اللهِ إذ كانَ بيننا فيا عَجَباً ممّن يطيع أبا بكر (٢)

والأشعث بن قيس ، زعيم كندة كان يقول لقومه :

إن كنتم على ما أرى فلتكن كلمتكم واحدة ، إلزموا بلادكم ،

____________

١ ـ نهج البلاغة ٣ : ١١٩ ، من كتاب له عليه‌السلام.

٢ ـ الفتوح لابن أعثم ١ : ٤٧.

٧٣

وحوطوا حريمكم ، وامنعوا زكاة أموالكم ، فإنّي أعلم أنّ العرب لا تقرّ بطاعة بني تيم بن مرة ، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم (١).

وبنو ذهل ، من كنده ، سار إليهم زياد بن لبيد أمير حضر موت ، يدعوهم إلى السمع والطاعة ، فقالوا له : وإنّك لتدعوا إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد!

قال زياد : صدقتم ، فإنّه لم يُعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد ، ولكنّا اخترناه لهذا الأمر.

فقالوا له : أخبرنا لم نحيتم عنها أهل بيته وهم أحقّ الناس بها والله تعالى يقول : ( وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْض فِي كِتابِ اللّهِ ) (٢)؟

فقال زياد لمتكلّمهم : إنّ المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك.

فقال له الحارث بن معاوية الذهلي الكندي : لا والله ، ما أزلتموها عن أهلها إلاّ حسداً منكم لهم! وما يستقرّ في قلبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه!! فارحل عنا أيّها الرجل فإنّك تدعوا إلى غير رضى.

فوثب آخر من القوم فقال : صدق والله الحارث ، أخرجوا هذا الرجل عنكم ، فما صاحبه بأهل للخلافة ، ولا يستحقّها بوجه من

____________

١ ـ الفتوح لابن أعثم ١ : ٤٨.

٢ ـ الأنفال : ٧٥.

٧٤

الوجوه ، وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأُمّة من نبيّها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله!! (١)

مالك بن نويرة : وكان النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استعمل مالكاً على صدقات قومه ، فلمّا بلغه وفاة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فرّق الصدقات على فقراء قومه ، ولم يبعث بها إليك ، وقال :

فقلت خذوا أموالكم غـير خـائف

ولا نظر فيما يجيء من الغدِ

فإن قام بالدين المحقوق قائمٌ أطعنا

وقـلـنـا الـدين دينُ محمّدِ

 وقد أمر مالك رجال قبيلته بعدم التحزب وعدم رفع السلاح ، وعندما دخل عليهم خالد بن الوليد بجيشه وخيله فدهشوا لذلك وقالوا لهم : من أنتم؟

فأجابهم خالد نحن مسلمون.

فقال مالك وأصحابه : ونحن مسلمون!

فقال لهم خالد : فضعوا أسلحتكم ، وأذّن أصحاب خالد وأذّن أصحاب مالك وصلّى القوم صلاة واحدة.

بعد ذلك ماذا حصل؟

ساقهم أصحاب خالد أسارى ووضعوا القيود في أيديهم ، فأمر

____________

١ ـ الفتوح لابن أعثم ١ : ٤٩.

٧٥

خالد أن يُقتل رجالهم صبراً أمام مالك! فصاحوا : إنّا مسلمون فعلى ماذا تأمر بقتلنا؟!

قال : والله لأقتلنكم!! فضربت أعناقهم صبراً واحداً بعد واحد ، ثمّ جاء الدور لمالك ، فلم يشفع له عند خالد احتجاجه بإسلامه وصلاته ، ولا شفع له شهادة أبي قتادة الأنصاري بإسلامه ، الذي كان على الخيل التي حصرتهم.

وبعد أن أكثر فيهم القتل وسبى نساءهم ، دخل على زوجة مالك ابن نويرة من ليلته ، فعندها أقبل أبو قتادة بالنبأ إليك يا خليفة ، وكان قد عاهد الله ألاّ يشهد مع خالد حرباً بعد هذه! وتكلّم عمر عندك يا أبا بكر في خالد رجاء أن تقيم عليه حدّ الله ، لقتله هؤلاء المسلمين ، ودخوله بزوجة المقتول من ليلتها.

وقال عمر : عدو الله ، عدا على امرئ مسلم ، فقتله ونزا على امرأته!

لكنّك قلت له : هيه يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد.

ولذلك وديت قوم مالك ورددت سباياهم (١).

____________

١ ـ تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٤ ، أُسد الغابة لابن الأثير : ٩٥ ، والاصابة لابن حجر ٥ : ٥٦٠ ، سير أعلام النبلاء ١ : ٣٣٧ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٣ : ٣٢ ، فوات الوفيات للكتبي ٢ : ٢٤٢ ، البداية والنهاية لابن كثير ٦ : ٣٥٥ ، الإكمال في أسماء الرجال للتبريزي : ٥٦.

٧٦

ـ وهل هذا يكفي؟ ألم تسمع قول الله تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى اِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١).

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لخالد عندما قتل أحد المشركين بعد أن أطلق الشهادتين : « اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد » (٢).

س ٢٥ ـ هل أنت نادم على شيء بعد كلّ الذي حصل؟

ج ـ أجل والله ، ما آسى إلاّ على ثلاث فعلتهن ليتني كنت تركتهن :

ـ ليتني تركت بيت علي ، وليتني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد أعلنوا علي الحرب.

ـ وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين أبي عبيدة أو عمر فكان هو الأمير وكنت أنا الوزير.

ـ وليتني حين أُتيت بالفجاءة السلمي أسيراً أنّي قتلته ذبيحاً أو أطلقته نجيحاً ولم أكن أحرقته بالنار (٣).

____________

١ ـ النساء : ٩٤.

٢ ـ صحيح البخاري ٧ : ١٥٤ ، كتاب الدعوات ، باب رفع الأيدي في الدعاء ، سنن النسائي ٨ : ٢٣٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٥١.

٣ ـ مجمع الزوائد للهيثمي ٥ : ٢٠٣ ، الاكمال في أسماء الرجال للتبريزي : ٢١.

وقال : « والخبر صحيح ، وقال الطرابلسي في فضائل الصحابة : إنّه حديث حسن. كذا في منتخب كنز العمال ( ٢ / ١٧٢ ) » ، تاريخ الطبري ٢ : ٦١٩ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٣٠ : ٤٢٠ ، كنز العمال للهندي ٥ : ٦٣٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٥١.

٧٧

وأنا أقول لك : ليتك يا أبا بكر لم تظلم الزهراء عليها‌السلام ولم تؤذها ولم تغضبها ، فقد أغضبت بضعة المصطفى ، والله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها ، فمن آذاها فقد آذى أباها بنصّ الحديث ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » (١).

وقال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٢).

وليتك تركت صاحبيك وعضديك أبا عبيدة وعمر وبايعت علياً عليه‌السلام الذي استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد باركت له بإمرة المسلمين بغدير خم بقولك وصاحبك عمر : بخِ بخ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولانا ومولى كلّ مسلم ومسلمة (٣).

وليتك لم تحرق السنة النبوية الشريفة قبل أن تحرق الفجاءة السلمي حتى لا تجتهد بالرأي مقابل النصوص.

____________

١ ـ مسند أحمد ٤ : ٥ بلفظ « فاطمة بضعة منِّي يؤذيني ما آذاها ، وينصبني ما أنصبها » ، صحيح البخاري ٤ : ٢١٠ ، كتاب المناقب ، باب مناقب المهاجرين باللفظ المذكور ، صحيح مسلم ٧ : ١٤١ ، كتاب المناقب ، باب مناقب فاطمة ، سنن ابن ماجه ١ : ٦٤٤ ، سنن أبي داود ١ : ٤٦٠ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٥٩ ، وغيرها من المصادر الأخرى الكثيرة.

٢ ـ التوبة : ٦١.

٣ ـ هذه المقولة لعمر بن الخطّاب كما في مسند أحمد ٤ : ٢٨١ ، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي ٧ : ٥٠٣ ، نظم درر السمطين للحنفي : ١٠٩.

٧٨

عهد أبي بكر باستخلاف عمر :

س ٢٦ ـ ماذا حصل عند مرض موتك ولمن أوصيت بالخلافة؟

ج ـ عندما أحسست بدنوّ أجلي دعوت عثمان بن عفان وقلت له : اكتب عهدي ، فكتب عثمان وأمليت عليه :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهد في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلا فيها ، إنّي أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ، فإن تروه عدلا فيكم ، فذلك ظنّي به ورجائي فيه. وإن بدلّ وغيّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون » (١).

س ٢٧ ـ ولكن يقولون : إنّك عندما بدأت إملاء الكتاب أُغمي عليك ، وإنّ عثمان هو الذي كتب اسم عمر فيه.

ج ـ نعم ، فعندما وصلت إلى قولي : إنّي أستخلف عليكم ، أُغمي عليَّ ، فكتب عثمان ـ عمر بن الخطاب ، وعندما أفقت قلت له اقرأ : وذكر اسم عمر.

فقلت : أنى لك هذا؟

قال : ما كنت لتعدوه.

____________

١ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٣٧ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ : ٢٠٠ ، الثقات لابن حبان ٢ : ١٩٢ ، تاريخ الطبري ٢ : ٦١٨.

٧٩

فقلت له : أصبت (١).

س ٢٨ ـ عندما دفعت الكتاب وعلم الصحابة بهذا ، هل وافقوا عليه ، أم تحفّظوا أم عارضوا؟

ج ـ بعدما فرغت من كتابة الكتاب دخل علىّ قوم من الصحابة منهم طلحة فقال : ما أنت قائل لرِّبك غداً وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً ، تفرق منه النفوس ، وتنفض عنه القلوب.

فقلت : أسندوني ـ وقد كنت مستلقياً ـ فأسندوني.

فقلت لطلحة : أبالله تخوّفني؟! إذا قال لي ذلك غداً قلت له : ولّيت عليهم خير أهلك (٢).

س ٢٩ ـ هذا يعني أنّ الصحابة لم يكونوا راضين عن استخلاف عمر وقد فرضته عليهم فرضاً بدون استشارتهم ، والنتيجة هي التي تنبّأ بها الإمام علي عليه‌السلام عندما قال لعمر : « احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً » (٣).

وهذا بالضبط ما قاله أحد الصحابة لعمر بن الخطّاب عندما خرج

____________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٦٣ ، كنز العمال للمتقي الهندي ٥ : ٦٧٦ ، الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ : ٣٠٠ ، الثقات لابن حبان ٢ : ١٩٢ وغيرها من المصادر.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٦٤.

٣ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٢٩.

٨٠