إفادات من ملفّات التاريخ

محمّد سليم عرفة

إفادات من ملفّات التاريخ

المؤلف:

محمّد سليم عرفة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-17-X
الصفحات: ٢٦٩

ودلالة هذا الحديث أنّ لي كلّ ما كان لنبيّ الله هارون إلاّ النبوّة ، يعني كان لي منه استخلافه من بعده كما لا يخفى على المتتبع.

حديث السفينة :

عن ابن إسحاق ، عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر الغفاري يقول وهو آخذ بباب الكعبة : أيّها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكر فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق » (١).

وقد عهد إلىّ النبيّ الأُمّي صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنه لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق » (٢).

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب » (٣).

____________

الترمذي ٥ : ٣٠٢ و ٥ : ٣٠٤ ، مستدرك الحاكم ٢ : ٣٣٧ ، و ٣ : ١٠٩ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٤٠ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٠٩.

١ ـ مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٦٨ ، المعجم الصغير للسيوطي ١ : ١٣٩ ، و ٢ : ٢٢ ، الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٣٧٣ ، كنز العمال للمتّقي الهندي ١٢ : ٩٤.

٢ ـ سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦ ، مسند أحمد ١ : ٩٥ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١٣٣ ، أسد الغابة لابن الأثير ٤ : ٢٦ ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ١٠.

٣ ـ المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٦ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١١٤ ، الجامع الصغير ١ : ٤١٥ ، كنز العمال للمتّقي الهندي ١٣ : ١٤٨ ، تذكرة الموضوعات للفتني : ٩٥ ، كشف الخفاء للعجلوني ١ : ٢٠٣ ، فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، للغماري ، وهو كتاب كامل في حديث الباب.

١٨١

وقد حاول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلال مسيرته ودعوته أن يقرن دائماً بيني وبين القرآن وأهل البيت كما يعبر عن ذلك حديث الثقلين المروىّ عند المسلمين جميعاً ولزوم التمسّك بأهل البيت كما هو دلالة حديث السفينة.

والموقع المتميز لنا أهل البيت واضح صريح في آية التطهير وحديث المنزلة والتأكيد على الولاء والحبّ لنا أهل البيت كما تفرض ذلك آية المودة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١).

ولم يكتفِ الباري عزّ وجلّ بهذا ، بل أمر رسول الله بالتصريح بالولاية لي والخلافة من بعده في آخر حياته وهو في حجّة الوداع عندما نزلت آية التبليغ.

آية التبليغ :

قال تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ

____________

١ ـ الشورى : ٢٣.

١٨٢

تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

نزلت هذه الآية أثناء العودة من حجّة الوداع.

روى الطبراني عن حذيفة أنّه قال : لمّا صدر رسول الله من حجّة الوداع نهى أصحابه عن سمرات ( نوع من الشجر ) متفرّقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهن ، ثمّ بعث إليهن فقم ما تحتهن من الشوك وعمد إليهن فصلى عندهنّ ثمّ قام خطيباً فقال :

« يا أيها الناس إنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ نصف عمر الذي يليه من قبله ، وإنّي لأظنّ يوشك أن اُدعى فأُجيب ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون فماذا أنتم قائلون »؟

قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيراً.

قال : « أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وإنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ».

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال : « اللهمّ اشهد ».

ثمّ قال : « يا أيّها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فهذا مولاه ( يعني أنا ) اللهمّ

____________

١ ـ المائدة : ٦٧.

١٨٣

وال من والاه وعاد من عاداه » (١).

وموارد أُخرى ذكرناها سابقاً.

ثمّ لم يتفرّقوا حتى نزلت هذه الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) (٢).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الله اكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي » (٣).

آية الولاية :

قوله تعالى في سورة المائدة : الآية ٥٥ :

( اِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٤).

س ٥ ـ مولاي إنّ ما قلته وأوردته من النصوص ممّا لا شكّ فيه ولا يترك مجالا لمشكّك أو مرتاب ، ولكن يبقى أمر ، وهو أنّ أهل الخلاف يقولون : إنّ الولي في هذه الآية والحديث بمعنى المحبّ

____________

١ ـ المعجم الكبير للطبراني ٣ : ١٨٠.

٢ ـ المائدة : ٣.

٣ ـ شواهد التنزيل للحسكاني ١ : ٢٠١.

٤ ـ المائدة : ٥٥.

١٨٤

والناصر لا بمعنى الإمام والخليفة فما قولك؟

ج ـ للأسف إنّ علماء السوء وفقهاء البلاط على مرّ العصور حاولوا التعتيم على هذه النصوص ، ولمّا لم يجدوا ما يناقضها ولتواترها ، فقد حاولوا صرف معناها عن مدلولها ، وأقول لك : ليس من يقول بذلك بأفقه ولا أعلم ممّن كان على زمننا في عهد رسول الله ، فحتى من خالفني وابتزّني حقيّ لم ينكر هذه الصيغة ولم يحورها عن معناها ، فهذا عمر بن الخطّاب بعد حديث الغدير قال لي : هنيئاً لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة (١).

وثانياً ـ إن نزول آية التبليغ ، وهي تبيّن أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان خائفاً يكتم أمراً فطالبه ربّ العزة أن يفصح عن هذا الأمر الذي أمره فيه وهو يعصمه من الناس ، فهل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخشى أن يقول للناس إنّ علياً محبّكم وناصركم ، وقد قالها في كلّ يوم من حياته وسيرته؟

ولكن لا يقول ذلك إلاّ من أعمت العصبية بصيرته ، لذلك لا يرى إلاّ من حيث تريه نفسه الأمّارة بالسوء ، وياليتهم حفظوا لي حتى المحبّة والنصرة؟!

____________

١ ـ مسند أحمد ٤ : ٢٨١ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٣.

١٨٥

س ٦ ـ سيّدي ما معنى أنّهم لم يحفظوا لك المحبّة أو النصرة؟

ج ـ ألم تقرأ التاريخ؟!

هل حفظ عمر لي هذه عندما حاول حرق بيتي وفيه فاطمة والحسنان؟!

وهل حفظها عندما قال لي عندما رفضت البيعة : إذاً تقتل؟!

وهل حفظها معاوية عندما أعلن الخروج عليّ وعلى الشرعية ومن ثمّ قتل ولدي الحسن؟!

وهل حفظها يزيد عندما قتل ابني الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء؟!

أم أنّهم نسوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق (١)؟

وقوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٢).

وهل حفظتها عائشة أُمّ المؤمنين عندما منعت من دفن ابني الحسن بجوار جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلة : لا تدخلوا بيتي من لا أُحبّ؟

____________

١ ـ صحيح مسلم ١ : ٦١ ، كتاب الفضائل ، باب مناقب علي ( رضي الله عنه ) ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٢ و ٢٥٥ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦.

٢ ـ الشورى : ٢٣.

١٨٦

س ٧ ـ مولاي يحتجّ أهل الخلاف على ثبوت خلافة الخلفاء بمبايعتك لهم ، ولو كان عندك نصّ لما بايعتهم؟

ج ـ بشان النصّ فقد بيّنت لك النصوص والآيات الواردة في إمامتي ، ولو كان لمن سبقوني نصاً واحداً من هذه النصوص لما أحرقوا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكتبوها ودوّنوها وتوسّعوا واهتموا بها.

وأمّا بشأن بيعتي للخلفاء فسأذكر لك :

فبيعة أبي بكر تمّت وقد كنّا منشغلين بخطبنا الفادح بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم نعنَ إلاّ بتجهيزه ، وما إن واريناه في قبره حتى كان أهل السقيفة قد أكملوا أمرهم وانتهزوا فرصة انشغالنا ، فأبرموا البيعة وأحكموا العقدة وأجمعوا أخذاً بالحزم كلّ من يوهن بيعتهم أو يدخل التشويش إلى عامتهم.

وعندما دخلوا إلى المسجد وقال عمر : قوموا بايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعته الأنصار ، فقام عثمان ومن معه من بني أُميّة فبايعوا ، وقام سعد بن أبي وقاص ومن معه من بني زهرة فبايعوا ، أمّا أنا والعباس ومن معنا من بني هاشم فقد انصرفنا إلى رحالنا ومعنا الزبير والمقداد وأبو ذر وعمّار بن ياسر وغيرهم.

وعندما افتقدنا أبو بكر ، أمر عمر أن يأتي إلينا ، فما كان منه إلاّ أن أتى بعصابة فيها خالد بن الوليد وآخرون فدعا بالحطب وقال :

١٨٧

والذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها فقيل له : يا أبا حفص ، إنّ فيها فاطمة الزهراء؟ فقال عمر : وإن!! فخرج من كان بالدار إلاّ أنا.

ووقفت فاطمة ، فقالت : لا عهد لي بقوم أسوأ محضراً منكم ، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّنا.

وعندما حاولوا إخراجي بالقوة من الدار نادت بأعلى صوتها :

« يا أبت يا رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة » (١).

والخلاصة : فعندما قدمت على أبي بكر قال عمر : بايع.

فقلت : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم لا أُبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً؟

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد منكم فأعطوكم المقادة وسلّموا الإمارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّاً وميّتاً فأنصفونا إن كنت تؤمنون ، وإلاّ فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون.

____________

١ ـ الإمامة والسياسة ١ : ٣٠.

١٨٨

فقال عمر : إنّك لست متروك حتى تبايع.

فقلت له : احلب له حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يرده عليك غدا (١).

وما قلته بحقّ عمر قد تحقّق إذ عيّن أبو بكر عمر خليفة من بعده.

ثمّ قلت : يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.

فقال عمر : إذاً نضرب عنقك.

فقلت : إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله.

قال عمر : أمّا عبد الله فنعم ، وأمّا أخو رسوله فلا.

فقال أبو بكر : لا أكرهه على شيء ما دامت فاطمة إلى جانبه.

فقال أبو عبيدة ابن الجراح لي : يا بن عمّ رسول الله ، إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور.

وهذا القول ( التبرير بكبر السنّ ) مردود بتعيين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُسامة بن زيد قائداً للجيش ، وأمر مشيخة القوم وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بإطاعته.

فقلت لهم : الله الله يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا

____________

١ ـ المصدر السابق.

١٨٩

أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به; لأنّنا أهل البيت ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأُمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية؟!

والله إنّه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بعداً.

فقال بشير بن سعد الأنصاري : لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ، ما اختلف عليك اثنان.

فقلت : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم يدفن وأخرج أنازع الناس سلطانه؟

فقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

ثمّ لحقت بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن قد جفّ بعد وأنا أصيح وأبكي وأنادي :

« يا بن أُمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني » (١).

وقد مرّ معنا احتجاج الإمام علي عند ذكرنا بيعة أبي بكر في أوّل

____________

١ ـ الإمامة والسياسة ١ : ٢٩.

١٩٠

فصل ، ومصادرها هناك.

وقد قلت في خطبتي الشقشقية أصف حالي بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا ، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً ، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً ، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ. فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى ، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً ، وَفي الحَلْقِ شَجاً ، أرى تُرَاثي نَهْباً » (١).

وكم مرة قلت : « اللَّهُمَّ إنَّي أَسْتَعْدِيكَ عَلى قُرَيْش وَمَنْ أَعَانَهُمْ! فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي ، وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي ، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي .. وقد قال قائل إنك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص : فقلت : بَلْ أَنْتُمْ وَاللهِ أحْرَصُ وَإِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَأَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ » (٢).

ولم أُبايع أبا بكر إلاّ بعد أن توفّيت عنّي فاطمة عليها‌السلام ، أي بعد ستة

____________

١ ـ نهج البلاغة ١ : ٣١ ، الخطبة : ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢ ـ نهج البلاغة ٢ : ٢٠٢ الخطبة : ٢١٧.

١٩١

أشهر من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ماتت كمداً وحسرة على أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما حصل لها ولي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مخالفة قريش علينا ، وعندما رأيت الفتن تأتي كقطع الليل المظلم بايعت وقد قلت في ذلك : « فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإسلام ، يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دِينِ مُحَمَّد فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسلام أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً ، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّام قَلاَئِلَ ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ » (١).

« ولاَ يُعَابُ الْمَرْءُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ ، إِنَّمَا يُعَابُ مَنْ أَخَذَ مَا لَيْسَ لَهُ » (٢).

وقد وقفت يوم الشورى ( شورى عمر ) ثمّ قلت : « لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم تغيير ذلك.

فقلت : أُنشدكم الله أيها النفر جميعاً ، أفيكم أحد وحّد الله قبلي؟

قالوا : لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل منكم أحد له أخ مثل جعفر يطير في الجنة مع الملائكة؟

____________

١ ـ نهج البلاغة ٣ : ١١٩ الخطبة : ٦٢.

٢ ـ نهج البلاغة ٤ : ٤١ ، المختار من حكم أمير المؤمنين.

١٩٢

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : أُنشدكم الله ، هل فيكم أحد له عمّ كعمي حمزة ، أسد الله وأسد رسوله سيّد الشهداء غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : أُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء أهل الجنة غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم باللّه ، هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشر مرّات وقدّم بين يدي نجواه صدقة قبلي؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ليبلغ الشاهد الغائب ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك واليَّ وأشدّهم لك حبّاً ولي حبّاً ، يأكل معي من هذا الطير ، فأتاه وأكل معه ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

١٩٣

فقلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لأعطينّ الراية غداً رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يده ، إذ رجع غيري منهزماً ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لوفد بني وليعة : ( لأبعثنّ إليكم رجلاً نفسه كنفسي ، وطاعته كطاعتي ، ومعصيته كمعصيتي ، يقتلكم بالسيف ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد قال فيه رسول الله : ( كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغض هذا ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد سلّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف ملك من الملائكة منهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد قال له جبرائيل : ( هذه هي المواساة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّه منّي وأنا منه. وقال جبرائيل : وأنا منكما ) غيري؟

١٩٤

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد نودي من السماء : ( لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبيّ غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي قاتلت على تنزيل القرآن وتقاتل على تأويل القرآن ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلّى العصر في وقتها غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

فقلت : هل فيكم أحد أمره رسول الله أن يأخذ براءة من أبي بكر ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، نزل فىّ شيء؟ فقال : ( إنّه لا يؤدّي عني إلاّ علي ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١٩٥

( لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ كافر ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، أتعلمون أنّه تعالى أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي ، فقلتم في ذلك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما سددت أبوابكم ولا فتحت بابه ، بل الله سدّ أبوابكم وفتح بابه؟

قالوا : اللهمّ نعم.

قلت : فأُنشدكم بالله أتعلمون أنّه ناجاني يوم الطائف دون الناس ، فأطال ذلك فقلتم : ناجاه دوننا ، فقال : ( ما أنا أنتجيته ، بل الله انتجاه )؟

قالوا : اللهمّ نعم.

قلت : فأُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الحقّ مع علي وعلي مع الحقّ ، يدور الحقّ مع علي كيف دار؟

قالوا : اللهمّ نعم.

قلت : فأُنشدكم بالله ، أتعلمون أنّ رسول الله قال : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض؟

قالوا : اللهمّ نعم.

قلت : فأُنشدكم الله ، هل فيكم أحد افتدى رسول الله من المشركين بنفسه واضطجع في مضجعه غيري؟

١٩٦

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ودّ العامري ، حيث دعاكم إلى البراز غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله هل فيكم أحد أنزل الله فيه آية التطهير حيث قال : ( اِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم بالله ، هل فيكم أحد قال له رسول الله : ( أنت سيّد العرب ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا.

قلت : فأُنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما سألت الله شيئاً إلاّ سألت لك ) غيري؟

قالوا : اللهمّ لا (١).

س ٨ ـ مولاي إنّ من استبدّ عليكم بالخلافة كانت حجّته كما قال عمر لابن عباس بأنّ قريش قد كرهت أن تجمع لكم النبوّة والخلافة ، فنظرت قريش لنفسها فأصابت ، ولو أنّكم وليتموها لتداولها بنو

____________

١ ـ شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٥ : ٢٨.

١٩٧

هاشم ولما وصلت إلى قريش ، لذلك أزاحوا الأمر عنكم ، فما قولك في ذلك؟

ج ـ نعم ، لقد صرّح عمر بن الخطّاب بذلك لابن عباس في حوار دار بينهما قائلا : إنّ قريشاً قد كرهت أن تجمع لنا النبوّة والخلافة فنجحف على قومنا بجحاً بجحاً ، وهم يعلمون بأنّ رسول الله قد قال : ( أنا سيّد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين ، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر ، أوّلهم عليّ وأخرهم القائم المهدي ) (١).

لذلك أرادوا صرفها عنا ، وذلك لأنّ قريشاً كانت تنظر إلى الخلافة نظرة الرياسة والزعامة والقيادة ، وبنظرة جاهليّة قبليّة ، وقد توحّدت بطون قريش لوجود صراع قديم بين أُميّة وهاشم ، فقد ساد هاشم بعد أبيه ، فحسده أُميّة بن أخيه عبد شمس ، فتكلّف أن يصنع ما يصنع هاشم ، وقالوا : أنت تتشبه بهاشم وعجز عن مجاراته ، فعيّرته قريش ، فدعا هاشماً للمنافرة في نفر ونزلوا على الكاهن الخزاعي ، فقال الكاهن قبل أن يخبروه خبرهم : والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر ، وما اهتدى بعلم مسافر ومن منحدر غائر ، لقد سبق هاشم أُميّة إلى المفاخر ... فبعد هذا عاد هاشم إلى مكّة ونحر الإبل وأطعم الناس ، وخرج أُميّة إلى الشام فأقام فيها

____________

١ ـ ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ٢ : ٣١٦.

١٩٨

عشر سنين ، فكانت هذه أوّل عداوة بينهما وتوارثها بنوهم بعد ذلك (١).

وكان يقال لهاشم وإخوانه عبد شمس والمطلب ونوفل : أقداح النضار. ويقال لهم : المجبرون ، لكرمهم وفخرهم وسيادتهم على العرب.

فقد حاز قصي شرف مكّة ، فكان بيده السقاية والرفادة والحجابة والندوة واللواء ، وإنّ أكبر أولاد قصي عبد الدار ، إذ شرف بزمان أبيه وذهب شرفه كلّ مذهب ، ثمّ صارت السقاية لعبد المطلب ، ومن بعده لأبي طالب ، والقيادة كانت لعبد مناف ، ومن بعده لولده عبد شمس ، ثمّ لابنه حرب ، ثمّ لابنه أبي سفيان ، فكان يقود الناس في غزواتهم ، ودار الندوة في يد عبد الدار ، وقصي هو جماع قريش لذلك سمّي مجمعاً (٢).

وكان الأمويون يعتقدون بأنّ مقاليد الأُمور بأيديهم ، وهم أصحاب الملك ، أليست القيادة في أيديهم؟

وفي أحسن الظروف ، فإنّ بني هاشم وبني المطلب من جهة ، وبني أُميّة وبني نوفل من جهة أُخرى ، كانا كفرسي رهان يتعاوران

____________

١ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ٧٦.

٢ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ٢.

١٩٩

زعامة قريش ، وبالتالي زعامة العرب والسبق فيها.

ولقد فضّل الله هاشماً على أُميّة ، وقدّم هاشماً وأخر أُميّة بفضله في ما بعد.

وكان أبو سفيان يعلم مثل غيره أن سيأتي نبي فيأخذ منه شرف القيادة ، وهذا النبيّ سيكون من سلالة عبد مناف ، وبعد معاناة ، اقنع أبو سفيان نفسه بأنّه بالذات سيكون النبيّ; لأنّه لا يوجد ـ حسب رأيه ـ من هو جدير بالنبوّة سواه.

وأفصح عن هاجسه لبعض الذين يرتاح إليهم.

وأنّه لأمر مشين ـ حسب تفكير أبي سفيان ـ أن تراه بنيات ثقيف يتبع غلاماً من بني عبد مناف وعبثاً حاول ابن أُميّة أبي الصلت أن يغيّر طريقة تفكير أبي سفيان.

فيقول أُميّة مشفقاً : كأنّي بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي ، يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد ، وهذا ما حصل عند فتح مكّة.

ومن سوء طالع أبي سفيان أنّ بني هاشم ـ كافرهم ومؤمنهم ـ احتضنوا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندما جهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة قاومه أبو سفيان وأركان القيادة في مكة بكل الأساليب.

وعندما لم ينثن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله واحتضنه الهاشميون اتفقت قريش

٢٠٠