إفادات من ملفّات التاريخ

محمّد سليم عرفة

إفادات من ملفّات التاريخ

المؤلف:

محمّد سليم عرفة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-17-X
الصفحات: ٢٦٩

كنت زوّرت في نفسي مقالة أُقدمها بين أيدي أبي بكر ، وقد كنت أداري منه بعض الحدّ.

وكان هو أوقر منّي وأحلم ، فلمّا أردت أن أتكلّم قال : على رسلك! فكرهت أن أعصيه.

فقام فحمد الله وأثنى عليه ، فما ترك شيئاً كنت زوّرت في نفسي أن أتكلّم به لو تكلّمت إلاّ قد جاء به أو أحسن منه.

وقال : أمّا بعد يا معشر الأنصار ، فإنّكم لا تذكرون منكم فضلاً إلاّ وأنتم له أهل ، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، وهم أوسط العرب داراً ونسباً ، ولكن رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة الجرّاح.

فلمّا قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال : أنّا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب (١).

فقالت الأنصار : لا نبايع إلاّ عليّاً (٢).

فارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، فلمّا أشفقت الاختلاف قلت لأبي بكر : ابسط يدك أُبايعك ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه أبو عبيدة ، وقام بشير بن سعد وكان من سادات الخزرج فبايع خشية أن يصل

____________

١ ـ تاريخ الطبري ٢ : ٤٤٦ ، البداية والنهاية ٥ : ٢٦٦.

٢ ـ تاريخ الطبري ٢ : ٤٤٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٢.

١٠١

الأمر إلى الأوس ، وكانت بينهم خلافات متجذّرة ، فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذه ، فبادروا إليه ، فأخذوا سيفه منه فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة ، فقال : فعلتموها يا معشر الأنصار ، أمّا والله لكأنّي بأبنائكم على أبواب أبنائهم ، قد وقفوا يسألونهم بأكّفهم ولا يسقون الماء.

قال أبو بكر : أمنا تخاف يا حباب؟

قال : ليس منك أخاف ولكن ممّن يجيء بعدك.

قال أبو بكر : فإذا كان ذلك كذلك فالأمر إليك وإلى أصحابك ، ليس لنا عليك طاعة.

قال الحباب : هيهات يا أبا بكر ، إذا ذهبت أنا وأنت وجاءنا بعدك من يسومنا الضيم.

فقال سعد بن عبادة يخاطبني : أمّا والله لو أنّ لي ما أقدر به على النهوض لسمعتم منّي في أقطارها زئيراً يخرجك أنت وأصحابك ، ولألحقتك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع ، خاملاً غير عزيز ، فبايعه الناس جميعاً حتى كادوا يطئون سعداً ، فقال سعد : قتلتوني.

فقلت : اقتلوه ، قتله الله.

فقال سعد : احملوني من هذا المكان ، فحملوه فأدخلوه داره وترك أياماً ، ثمّ بعث إليه أبو بكر أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك.

١٠٢

فقال : أمّا والله حتى أرميكم بكلّ سهم في كنانتي من نبل ، وأخضب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بمن معي من أهلي وعشيرتي ، ولا والله لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربّي ، وأعلم حسابي ، فلمّا أتي بذلك أبا بكر من قوله قلت له : لا تدعه حتى يبايعك.

فقال لنا بشير بن سعد : إنّه قد أبى ولجّ وليس يبابعك حتى يقتل ، وليس بمقتول حتى يقتل ولده معه ، وأهل بيته وعشيرته ، ولن تقتلوهم حتى تقتل الخزرج ، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس ، فلا تفسدوا على أنفسكم أمراً قد استقام لكم ، فاتركوه فليس تركه بضاركم ، وإنّما هو رجل واحد ، فتركناه وقبلنا مشورة بشير بن سعد (١).

وتمّ الأمر وخرجنا من السقيفة وأبو بكر هو الخليفة.

الخليفة الأوّل صورة :

س ٩ ـ المتتبّع لأمر بيعة أبي بكر يرى أنّك كنت وراء كلّ ما حصل ، وكان بإمكانك أن تكون أوّل خليفة ، ولكنّك تركت الأمر

____________

١ ـ الإمامة والسياسة : ١٧.

١٠٣

لأبي بكر ، وفضّلت أن تكون القوة الضاربة في مواجهة ما سيحدث ، ويكون أبو بكر هو الذي في الصورة.

ج ـ هذا صحيح ، والأمر يعود لأمرين.

الأوّل : أنّني ذو طبع حاد وفىَّ غلظة ، وهذا مما كان يُنفّر القوم منّي ، وبذلك صرّح طلحة وبعض المهاجرين الذين دخلوا على أبي بكر في مرض موته بعد ما علموا بأمر استخلافه لي ، فقالوا له : ما أنت قائل لربّك غداً وقد وليت علينا فظاً غليظاً تنفر منه النفوس وتنفضّ عنه القلوب (١)؟

وقد كان أبو بكر أوقر مني وأحلم.

والثاني : كوني الرجل الثاني في خلافة أبي بكر يعطيني امتيازات ، فأنا كنت مدبّر كلّ الأُمور وخيوطها بيدي ، عاقبتها تكون لي آخراً ، وأمّا سخط الناس عن أعمالي إن أسأت فكان يأتي على الخليفة لا علي أنا ، لأنّي أمام الناس كنت أنفذ ما يطلبه هو ، لذلك كنت في خلافة أبي بكر نظريّاً الرجل الثاني وعمليّاً الخليفة ، فقد كنت أتخذ القرارات وأنفذ الخطط وأحلّ وأربط ، وحتى إنّي أرد

____________

١ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٣ : ١٩٩ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٣٠ : ٤١١ ، أُسد الغابة لابن الأثير ٤ : ٦٩ ، كنز العمال ٥ : ٦٧٥ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٣ : ١١٦.

١٠٤

قرارات قد يتخذها الخليفة فمثلا; كتب أبو بكر لعيينه بن حفص والأقرع بن حابس كتاباً ، فأخذاه إليّ لأشهد ، فلمّا شاهدت الكتاب لم يعجبني ، فتفلت فيه فوراً ومحوته ، فرجعا إلى أبي بكر وقالا له : والله لا ندري أأنت الأمير أم عمر؟

فقال أبو بكر : بل هو ، لو شاء كان.

ثمّ جئت إلى أبي بكر وقرعته بشدّة على هذا الكتاب.

فقال لي أبو بكر : فلقد قلت لك : إنّك أقوى منّي على هذا الأمر لكنّك غلبتني (١).

ولذلك فضّلت أن يكون هو الخليفة الأوّل ، وأنا معه أساعده وأُشير عليه ، ويكون الأمر لي من بعده ، وذلك بعد أن تكون الأُمور قد استقامت واستتبّت وسار كلّ شيء حسب ما خطّطت وبهدوء ، وأكون قد قمعت المعارضين ممّن لن يبايع واستملت البعض ، وكأنّ الأمر ليس لي وإنّما كنت أنفّذ ما يطلب منّي وحسب ، وقد فهم علىٌّ هذا منّي عندما أمرته أن يبايع أبا بكر فقال لي : « احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً » (٢) ، وهذا ما كان.

____________

١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٢ : ٥٩ ، كنز العمال للمتقي الهندي ٣ : ٩١٤ ، تاريخ مدينة دمشق ٩ : ١٩٦.

٢ ـ الإمامة والسياسة لابن قتيبة : ١٨.

١٠٥

كراهيّة جمع النبوّة والخلافة لبني هاشم :

س ١٠ ـ تقول : إنّ قريشاً كانت تكره علياً ، وتكره أن تجمع لبني هاشم النبوّة والخلافة ، ولكن تشدّدك في أمر فرض بيعة أبي بكر على عليّ عليه‌السلام ومحاولتك إحراق بيت فاطمة عليها‌السلام وكلّ ما جرى بعد ذلك من منع الإرث ، وأُمور أُخرى ، تبيّن وكأنّ في الأمر شيئاً خاصّاً بينك وبين الإمام علي عليه‌السلام ، وكأنّك أنت من أصحاب هذه الفكرة؟

ج ـ إنّ كره قريش لبني هاشم شيء مفروغ منه ، ولذلك استخدمت ذلك لصالحي ، فلم أكن قبل الإسلام بموقع اجتماعي مميّز ، ولم يكن لي شأن يذكر ، فقد كنت أعمل مبرطش أكتري للناس الإبل والحمير وآخذ عليه جعلا (١).

وبنو عدي لم يكونوا مع العير ولا مع النفير ، ولم يقاتلوا محمّداً ولم يقاتلوا قريشاً كما قاتل أبو سفيان (٢).

ولم أقتل أو أجرح مشركاً في المعارك التي خاضها النبيّ.

لذلك كان لا بدّ لكي أجمع كلمة قريش أن يكون هناك أمر مشترك بيننا ، ألا وهو إبعاد عليّ وبنيه عن الخلافة ، وبذلك يرتفع قدري عندهم ويصبح لهم مصلحة فىّ.

____________

١ ـ تاج العروس ٩ : ٥٨ ، مادة برطش.

٢ ـ المغازي للواقدي ١ : ٤٥.

١٠٦

وهذا بالضبط ما حصل ، فإنّ إبعادي لعليّ عن الخلافة بمنع الرسول من كتابة العهد له رفع قدري إلى القمة ، وعلى هذا وحّدت كلمة قريش من المهاجرين والطلقاء لهدف محدّد ، وهو الحيلولة بين بني هاشم وبين أن يجمعوا النبوّة والخلافة بعد وفاة النبىّ (١).

وبذلك سلّمت لي قريش عمليّاً رئاسة التحالف أو الحزب ، وكانت بيدي خيوط اللعبة السياسية ، وأخذت أواجه المعارضين للبيعة وأنا مستند إلى جدار قويّ من القوّة والمنعة ، وكيف ما أفعل فلن أجد منكراً أو مستنكراً.

فلو هدّدت بقتل عليّ فالكلّ يسكت.

ولو هممت بإحراق بيت فاطمة فالكلّ يسكت.

والسكوت هنا أوضح بيان على موافقتهم على ما أقوم به.

س ١١ ـ ما الخطوات التي مرّرتها لأبي بكر لإقصاء أهل البيت عن أمرهم في الخلافة وإبعاد الناس عنهم؟

ج ـ أوّلا : منع رسول الله من كتابة العهد لعليّ بن أبي طالب ، وذلك في رزيّة يوم الخميس (٢).

ثانياً : حرمان أهل بيت النبوّة من إرث النبيّ.

____________

١ ـ تاريخ الطبري ٣ : ٢٨٩ ، الكامل في التاريخ ٤ : ٦٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٢ : ٢١.

١٠٧

فرأيت أنّ أوّل خطوة بعد وفاة النبيّ هي أن يُحرم عليّ وفاطمة وابناهما وآل محمّد من ميراث محمّد ، فلا يرثون من مال النبيّ شيئاً ، واستدللت على ذلك بأنّ رسول الله قال لأبي بكر : « إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ».

وعندما احتجّت فاطمة وقالت : « ومن يرثك إذا مت »؟

قال أبو بكر : ولدي وأهلي.

فقالت : « فما لنا لا نرث النبيّ »؟!

فرددّ أبو بكر مقولته السابقة.

فقال علي : ( وَوَرِثَ سـلَيْمانُ داوُدَ ) (١) ، ( يرِثُنِي وَيـرِثُ مِنْ آلِ يَعْقـوبَ ) (٢).

فسكت أبو بكر وانصرف مصراً على قوله (٣).

ثالثاً : حرمان أهل البيت من فدك ، وهي منحة من رسول الله لفاطمة ، ومع أنّ فاطمة احتجّت عند أبي بكر وقدّمت شهوداً على منحة رسول الله فشهدت على ذلك أم أيمن ورباح مولى الرسول وعليّ ، ولكن قرارنا كان قد أحكم قبل ذلك.

____________

١ ـ النمل : ١٦.

٢ ـ مريم : ٥ ـ ٦.

٣ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ٣١٥ ، عنه في كنز العمال ٥ : ٦٢٥.

١٠٨

رابعاً : حرمان أهل البيت من الخمس الوارد في القرآن ، فلمّا حرم أبو بكر فاطمة من إرثها ومن منح الرسول ، طالبتنا بسهم ذوي القربى.

فقالت لأبي بكر : « لقد حرمتنا أهل البيت ، فأعطنا سهم ذوي القربى » ، وقرأت الآية : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (١).

فقال لها أبو بكر : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : « سهم ذوي القربى للقربى حال حياتي وليس لهم بعد موتي » (٢).

خامساً : منع رواية الحديث وحرق ما كان مكتوباً منها; لأنّ الكثير منها يذكر عليّاً خاصة ، وأهل البيت عامة ، وفضائلهم ، وأحقيّتهم في هذا الأمر.

منع رواية الحديث :

س ١٢ ـ وهل وافقك الناس على منع رواية الحديث؟

ج ـ إنّ منع كتابة الحديث لم أبتدعه أنا; لأنّ قريشاً كانت تنهى عن كتابة الحديث على عهد رسول الله ، فقد قال عبد الله بن عمرو بن

____________

١ ـ الأنفال : ٤١.

٢ ـ كنز العمال ٥ : ٦٢٩.

١٠٩

العاص : كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله ، فنهتني قريش ، وقالوا : تكتب كلّ شيء من رسول الله؟ ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب والرضى ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأومأ إلى فيه وقال : « اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ الحقّ » (١).

س ١٣ ـ متى بدأتَ بمنع كتابة الحديث؟

ج ـ بدأتُ بمنع كتابة الحديث منذ كان رسول الله على فراش الموت ، فمنعته من كتابة كتاب يعصم الناس من الضلالة; لأنّي علمت أنّ رسول الله سوف يذكر عليّاً.

وبعدها أشرتُ على أبي بكر بمنع الحديث ، فحرق أبو بكر ما كان عنده من الحديث ، وقد بلغ خمسمائة حديث ، وأمر الناس إن اختلفوا أن يعودوا لكتاب الله ويدعوا حديث الرسول ، ولكنّه ترك ما بأيدي الناس من كتب.

ولكن عندما وصلت الخلافة لي أمرتُ الناس بعدم رواية الحديث ، وهدّدت بالضرب كلّ من أكثر من رواية الحديث ، وقد خطبت الناس يوماً قائلا : أيّها الناس ، إنّه بلغني أنّه قد ظهرت في

____________

١ ـ مسند أحمد ٢ : ١٦٢ ، سنن الدارمي ١ : ١٢٥ ، سنن أبي داود ٢ : ١٧٦ ، فتح الباري ١ : ١٨٥ ، المستدرك ١ : ١٠٥ وغيرها من المصادر.

١١٠

أيديكم كتباً ، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي ، فظنّوا أنّي أريد النظر فيها لأقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوني بكتبهم فأحرقتها بالنار (١).

أقول : لو أنّك وصاحبك أبا بكر وأنتما على منصّة الخلافة جمعتما السنّة النبويّة وحفظتماها في كتاب خاصّ بها لوفّرتم على أنفسكم وعلى الأُمّة الخير العميم ، ولما دخل في السنّة النبويّة ما ليس منها ، ولما احتجتم إلى الاجتهاد مقابل النصوص الصريحة ، ولكان الإسلام بكتابه وسنّته واحداً أُمّة وعقيدة.

وأمّا ما فعلتموه من جمع السنن والأحاديث ، وإحراقها ومنع روايتها ونقلها ، وحبس من تخافون عدم امتثاله لأمركم ، فقد جرّ إلى هذه الأُمّة الويلات والاختلاف.

وإنّ إزاحة أمر الخلافة عن صاحبها ، وضربكم بعرض الحائط الآيات والأحاديث الواردة فيه وفي العترة الطاهرة من أهل بيت النبوّة ، ومن أجل هذه اضطررتم إلى أن توحّدوا صفوفكم وتتحزّبوا أنتم والطلقاء من قريش ومن بني أُمّية لتبعدوا هذا الأمر عن أهله ، ممّا أسس لوصول بني أُميّة إلى سدّة الحكم ، وعزل أهل البيت عن هذا الأمر في البداية وقتلهم وتشريدهم بعد ذلك.

____________

١ ـ الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ١٨٨ ، تاريخ الإسلام للذهبي ٧ : ٢٢١.

١١١

وهذا يفتح علينا السؤال التالي :

س ١٤ ـ وهل اكتفيتَ بذلك ، أم كان لك تصرّف آخر؟

ج ـ لمّا أعيتني الحيلة بالرغم من تهديدي ووعيدي وحرقي لكتب الأحاديث ، بقي بعض الصحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول الله عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالناس الذين يسألونهم عمّا سمعوه من رسول الله ، فرأيت أن أحبس هؤلاء النفر في المدينة وضربت عليهم حصاراً وإقامة جبريّة (١).

س ١٥ ـ وهل أدّى الحجز ومنع الحديث من كفّ الناس عن التحدّث بحديث رسول الله؟

ج ـ إنّ منعي لرواية الحديث لم يكن ليعطي النتيجة المطلوبة ، إلاّ إذا استعضت ، عن رواية الحديث بشيء آخر يشغل المسلمين عنه وخاصّة عند اجتماعهم بعد الصلاة ، فإنّهم كانوا يتذاكرون ويتحدّثون

____________

١ ـ توضيح : وروى ابن إسحاق عن عبدالرحمن بن عوف قال : « والله ما مات عمر حتى بعث إلى أصحاب رسول الله من الآفاق : عبدالله بن حذيفة وأبي الدرداء وأبي ذر الغفاري وعقبة بن عامر فقال : ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق.

قالوا : تنهانا؟

قال : لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت » كنز العمال ١٠ : ٢٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٠ : ٥٠٠.

١١٢

بحديث رسول الله ، لذلك كلّفت تميم بن أوس الدارمي (١) أن يجلس لهم بعد الصلاة من كلّ يوم ليفسّر لهم القرآن بما عنده من علم أهل الكتاب ، أي يفسر القرآن بالإنجيل والتوراة ، وكنت أجالس كعب الأحبار (٢) ووهب بن منبه (٣) ، وآخذ عنهم بعض الأخبار.

____________

١ ـ تميم بن أوس الداري : كان راهباً نصرانياً ، قدم المدينة بعد غزوة تبوك وأظهر الإسلام ، وفي عصر الخليفة الثاني عمر قرّبه وألحقه بأهل بدر في العطاء ، وخصص له ساعة في كل أسبوع يتحدّث فيها قبل الصلاة من يوم الجمعة بمسجد الرسول ، وجعلها عثمان على عهده ساعتين في يومين ، وقد بلغ من ثقة الخليفة عمر به أن عيّنه إماماً يصلّي بالناس صلاة التراويح. وبقي تميم الدارمي في المدينة إلى أن قتل عثمان ، فانتقل إلى الشام وعاش في كنف معاوية ومات سنة أربعين للهجرة ، روى عنه جماعة من الصحابة أمثال : أنس بن مالك ، وأبي هريرة ، ومعاوية ( معالم المدرستين ، مرتضى العسكري ٢ : ٤٨ ـ ٤٩ ).

٢ ـ كعب الأحبار : كان من أحبار اليهود ، أظهر الإسلام على عهد الخليفة عمر ابن الخطّاب ، وطلب من عمر البقاء في المدينة ، وبواسطته وأمثاله تسرّبت إلى الحديث طائفة من أقاصيص اليهود والإسرائيليات ، وكان بعض الصحابة يسألونه عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد وتفسير القرآن : وروى عنه أنس بن مالك ، وأبو هريرة ، ومعاوية ، وعبدالله بن عمر ، وعبدالله بن الزبير ، وأسلم مولى عمر ، وعطاء بن يسار ، وقد روى عنه الترمذي وأبو داوود والنسائي ( أضواء على السنّة المحمديّة ، محمود أبو رية : ١٤٦ ).

٣ ـ وهب بن منبه : كان فارسي الأصل ، هاجر جده إلى اليمن ، وهناك أخذ آباؤه

١١٣

س ١٦ ـ وماذا فعلتَ بمن خرج من المدينة للحرب؟

ج ـ من كان يخرج من المدينة للغزو كنت أوصيه بعدم الحديث عن رسول الله والاكتفاء بكتاب الله.

فمثلا بعثت بعثاً فيه قرظة بن كعب إلى الكوفة ، فشيعتهم فمشيت معهم إلى موضع حراء ، وقلت لهم : أتدرون لم مشيت معكم؟

قالوا : لحقّ صحبة رسول الله ، ولحقّ الأنصار.

فقلت : لكنّي مشيت معكم لحديث أردت أن أحدّثكم به ، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم ، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم أزيز كأزير المرجل ، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم ، وقالوا : أصحاب محمّد ، فأقلوا الرواية عن رسول الله ثمّ أنا شريككم.

فلما قدم قرظة بن كعب على القوم ، قالوا : حدّثنا.

__________________

آداب اليهود وتقاليدهم ، وقيل : إنّ والده منبهاً قد أسلم في اليمن ، وإنّ ابنه وهباً كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها.

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ : « إنّه عالم أهل اليمن ، ولد سنة ٣٤ هـ وتوفي بصنعاء سنة ١١٠ هـ وقيل سنة ١١٦ هـ ، أدرك بعض الصحابة وروى عنهم ، كما روى عنه كثير من الصحابة منهم : أبو هريرة ، وعبدالله بن عمر ومن أقواله : أنّي قرأت من كتب الله ٧٢ كتاباً » أضواء على السنّة المحمديّة ، محمود أبو رية : ١٤٩ ـ ١٥٠.

١١٤

قال : نهانا عمر (١).

فهذا كان لمن خرج ، ومن لم يستطع أن يحفظ لسانه ويطيع أمري أمرته بملازمة المدينة كما ذكرت لك آنفاً.

س ١٧ ـ هل تعلم أنّ ما قمتم به أنت وأبو بكر من إحراق ما كتب من الحديث ، ومنع روايته ، فبسببه انتشرت بعد ذلك الكثير من الأحاديث الموضوعة المفتعلة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك كان له التأثير السلبي على حياة المسلمين في معرفة أحكام دينهم. وقد اضطررتم للاجتهاد مقابل النصوص الصريحة ، وبذلك عمّ الخلاف ونشأت الحركات والمذاهب الإسلامية؟!

وقد جمعت لك عدّة اجتهادات مقابل النصوص الصريحة ، وقد كنت تجتهد برأيك ، ثمّ تجتهد بما يخالفه ، فلماذا هذا ، وهل كان عن قصد أم ماذا؟

فمن اجتهاداتك :

ـ أنّك أبطلت التيمّم لمن أجنب ولم يجد ماءً (٢).

____________

١ ـ سنن ابن ماجه ١ : ١٢ ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٧.

٢ ـ أخرج مسلم في صحيحه ١ : ١٩٣ ، كتاب الحيض ، باب التيمم ، أنّ رجلا أتى عمر فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء.

فقال : لا تصلِّ.

١١٥

ـ وكان من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يخصّ المؤلّفة قلوبهم بسهمهم الذي فرضه الله لهم كما أقره الله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

ولكنّك أبطلت العطاء المفروض في خلافتك واجتهدت مقابل النصّ ، وقلت لهم : لا حاجة لنا بكم فقد أعزّ الله الإسلام وأغنى عنكم.

وقد ذكرنا أنّ بعض المؤلّفة قلوبهم أتوا أبا بكر وطالبوه بسهمهم ، فكتب لهم أبو بكر ، ولكن عندما جاؤوا إليك مزّقت الكتاب ، فرجعوا إلى أبي بكر ، فقالوا : أأنت الخليفة أم هو؟

فقال : بل هو إن شاء.

____________

فقال عمّار بن ياسر : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأمّا أنت فلم تصل ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلّيت.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك ».

فقال عمر : اتق الله يا عمّار!

قال عمّار : إن شئت لم أُحدث به.

١ ـ التوبة : ٦٠.

١١٦

وتراجع أبو بكر فيما كتب موافقاً لرأيك ( صاحبه عمر (١) ).

ـ وقد بدّلت حكم الله في شأن الطلاق برأيك واجتهادك ، حيث جعلت الزوجة تحرم على زوجها إذا ذكر لفظ الطلاق ثلاث مرات في موقف واحد ، مع أنّه كان على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر يحسب طلقة واحدة (٢).

____________

١ ـ فقه السنّة للسيّد سابق ١ : ٣٨٩ ، وفي الجوهرة النيرة في الفقه الحنفي ١ : ١٦٤ نقلا عن الفصول المهمّة للسيّد شرف الدين : ٨٨.

٢ ـ جاء في صحيح مسلم ٤ : ١٨٣ ، كتاب الطلاق باب الطلاق الثلاث ، عن ابن عباس قال : « كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة.

فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم ».

وقد خالفت أيضاً في المتعتين متعة النساء ومتعة الحج وصلاة التراويح.

صلاة التراويح : وهي نافلة شهر رمضان جماعة ، ولا يرتاب أحد في أنّها لم تكن أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا في خلافة أبي بكر ، وإنّما سنّها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب سنة ١٤ هـ كما نصّ على ذلك البخاري ٢ : ٢٥٢ ، في كتاب صلاة التراويح من صحيحه ، قال : إن رسول الله قال : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه.

قال : فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ».

١١٧

____________

وأخرج البخاري ٢ : ٢٥٢ ، كتاب صلاة التراويح أيضاً عن عبدالرحمن بن عبدالقادري ، قال : خرجت مع عمر ليلة رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرّقون ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب.

قال : ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم.

قال عمر : نعم البدعة هذه »!

قال القسطلاني في إرشاد الساري ٤ : ٦٥٦ : « سمّاها بدعة; لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّ لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصديق ، ولا أوّل الليل ، ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد »!

ـ إسقاط ( حيّ على خير العمل ) من الأذان : قال الشوكاني : « وقد صح لنا أنّ ( حي على خير العمل ) كانت على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤذّن بها ، ولم تطرح إلاّ في زمن عمر » ، نيل الأوطار ٢ : ١٩.

وقد جعلت كلمة : ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان ، جاء في الموطأ لمالك : أنّ المؤذّن جاء عمر بن الخطّاب يؤذنه لصلاة الصبح ، فوجده نائماً فقال المؤذن : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح » موطأ مالك ١ : ٧٢.

وأمّا ما يدّعى من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بلالا أن يقول : ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان فليس إلاّ تغطية لما فعله عمر بن الخطّاب من البدعة; لأنّ الذي روى عن بلال ذلك هو عبدالرحمن بن أبي ليلى ، وهذا غير صحيح ، لأنّ ولادة عبدالرحمن كانت سنة ١٧ هـ ، وتوفي سنة ٨٤ هـ ، ووفاة بلال سنة ٢٠ هـ فكيف يصحّ أن يروي عن بلال وعمره ثلاث سنوات؟ تهذيب الأسماء

١١٨

____________

واللغات للنووي ١ : ٢٨٣.

وادّعى أيضاً أن بلالا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجده راقداً ، فقال : ( الصلاة خير من النوم ) فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أحسن هذا ، أجعله في أذانك ، وهذه الدعوة ليست إلاّ تغطية للباطل ، لأنّ الراوي هو عبدالرحمن بن زيد بن أسلم المتوفّى سنة ٢٨٢ هـ عن أبيه زيد بن أسلم ، وعبدالرحمن ضعيف الحديث لا يعتمد عليه كما نصّ على ذلك أحمد وابن المديني والنسائي وغيرهم. هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى ، فإنّ زيداً لم يسمع من بلال; لأنّ ولادة زيد كانت سنة ٦٦ هـ ووفاته سنة ١٣٦ هـ.

فكيف يسمع من بلال وهو لم يولد إلاّ بعد وفاة بلال بستّ وأربعين سنة؟ سيرة أعلام النبلاء للذهبي ١٢ : ٥٩ ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ١٣٣.

فهذه الكلمة كانت في أيام عمر وهي من بدع عمر بن الخطّاب ، وبدون شكّ أن الأذان من فصوله : ( حيّ على خير العمل ... ) قد كان بأمر من الله ووحي أنزله على نبيّه.

فقد أسقطها عمر بن الخطاب ، وتبعه في إسقاطها عامّة من تأخّر من المسلمين ، مع علمهم بأنّ عمر ليس نبيّاً ، كي يكون إسقاطه لها بوحي من الله ، نعم أتباع أهل البيت جعلوا ( حيّ على خير العمل ) شعاراً لهم ، فهم في الحقيقة أتباع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث لم يرضَ أئمتهم تغيير حكم من أحكام الشريعة الغراء.

ـ متعة الحج والنساء : وقد نهى عمر بن الخطاب عنها بعد أن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بها عن الله عزّ وجلّ ، وهي ممّا نصّ الذكر الحكيم.

قال تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ

١١٩

____________

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّام فِي الْحَجِّ ... ) البقرة : ١٩٦.

أمّا صفة التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فهي أن ينشئ المتمتّع بها إحرامه في أشهر الحجّ ـ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجّة ـ من الميقات فيأتي مكّة ويطوف بالبيت ، ثمّ يسعى بين الصفا والمروة ، ثمّ يقصّر ويحلّ من إحرامه فيقيم بعد ذلك حلالا ، حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحجّ من مكّة ، والأفضل من المسجد ، ويخرج إلى عرفات ، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ، ثمّ يأتي بأعمال الحجّ على ما هو مبيّن في الفقه ، وسمّي هذا القسم من الحجّ بحجّ التمتّع ، لما فيه من المتعة ، أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدّة المتخلّلة بين الإحرامين ، هذا ما كرهه عمر ، وقد أنكر عليه في هذا أهل البيت كافة ، ولم يقرّه عليه كثير من أعلام الصحابة ، وأخبارهم في ذلك متواترة ، وحسبك منها ما أخرجه مسلم في كتاب الحجّ باب جواز التمتّع من الحجّ عن شقيق ، قال : « كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان عليّ يأمر بها.

قال عليّ : « يا عثمان إنّا تمتّعنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » صحيح مسلم ٤ : ٤٦ ، كتاب الحجّ ، باب جواز التمتّع.

وحرّم عمر متعة النساء وقد شرّعها الله ورسوله وعمل بها المسلمون على عهده حتى لحق بالرفيق الأعلى ، ثمّ تمتّع الصحابة على عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر ، ثمّ قام عمر على المنبر وقال : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما ، وأُعاقب عليهما. متعة النساء ومتعة الحجّ » التمهيد لابن عبد البرّ ١٠ : ١١٣ ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٣٦٦.

وحسبك من الكتاب في إباحة متعة النساء قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) النساء : ٢٤.

١٢٠