معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

بهذا يكون الإمام ( المثال ) مجعولا في هذه المرتبة من قبل الله عزّ وعلا ، وهو بخلاف الآراء التي تنظر إلى الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه الزعيم أو القائد الذي يملك زمام السلطة السياسية ، أو إدارة حكم بلد معين ، أو حتى فقيهاً نال رتبة من العلم بجهد ونباهة.

نعم يمكن استخدام مصطلح ( إمام ) في هذا المقام للدلالة على قيادته ، من أم القوم أي رأسهم ، لا لفضيلة الهداية التي اختص فيها الله أولياءه الذين هم صفوته ، والذين فيهم الحفاظ على هداية الناس إلى دين الله من جهة ، وحملهم على الطريق الذي ينالون به سعادتهم الواقعية في الدنيا والآخرة ، لأنّ جدارة الشخص في ممارسة السلطة والتطبيق لا يعني مجال الشعور بإمكانية نصبه إماماً فكرياً ومرجعاً أعلى بعد القرآن والسنة النبوية (١).

الإمامة

بلغنا إلى تحديد مفهوم الإمامة بالمعنى الشمولي ، وفق المصطلح الذي أجريناه في مباحثنا.

وعلى أثر تفريقنا ، أو وضعنا لهذا المفهوم الشمولي بالنظر إلى الإمامة كحاجة تسعى إليها الفطرة الإنسانية ، نصل إلى النتيجة التالية (٢) :

__________________

١ ـ أنظر : بحث حول الولاية ، للسيد محمد باقر الصدر.

٢ ـ هنا اشارة إلى الأمر الثاني الذي ذكر في أوّل الفصل الثاني.

٨١

إنّ الإمام ضرورة في حياة الإنسان ، ولهذه الضرورة أهمية كتلك التي تعرف بحاجته إلى الطعام والشراب ، فبهذه ينمو جسده وبالإمامة يتلمس حقيقته ، وبهما معاً يستعين على السير في طريق كماله ، طريق استمتاعه بالحياتين ، هذه التي نعانيها على وجه الأرض ، وتلك التي نتهيبها بعد الموت.

وباعتبار الإمام ضرورة ـ وفق هذه النتيجة ـ نرى أنه لابد من بحث الرتب الاجتماعية التي حفلت بتسمية تشابهت عند الناس ، بين الزعامة والقيادة التي تكون في الرئاسة ، وبين تقدم الناس في رأي أو فطنه أو شأن من شؤون المعاش ، وبين الإمامة التي هي الملاذ النهائي لكل إنسان لا لفئة ولا لخاصة ولا لقوم.

ومن أجل أن نتمكن من حصر المفردات ضمن ما يترتب عليها من معان تقرّب الفكرة وتحيط بها ونخلص بعد ذلك إلى نتائجها ، نرى أن نعرّف أولاً بالماهية التي تتحرك في أرجائها هذه المفردات ( الزعامة ، والخلافة ، والولاية ) ، الأمر الذي يجعل من كل تسمية من هذه التسميات ، فرعاً من فروعها تارة ، وربما يتمكن أحد أن يقول : إنّها تنوب عنها تارة أخرى.

هذا صحيح عندما تكون العملية تفيد شؤون الحياة ، بما يحتوي عليه من معاش وسياسة ، واجتماع ، واقتصاد ، فيمكن أن نستخدم كلمة ( زعيم ) مثلاً عند التعريف بسياسي ، وأن نستخدم كلمة ( خليفة )

٨٢

عند الإشارة إلى شخص يلي شخص قد سبقه في شأن ، أياً كان هذا الشأن ، فللخلافة أسبقية فهي لا تطلق على من يبدأ الأمر ، بل على من يأتي بعد ذلك الذي بدأه ، ويمكن استخدام كلمة ( قائد ) عند التدليل على من يمسك بزمام الجماعة من الناس ، ويمكن استخدام كلمة ( رئيس ) لأكثر من دلالة ، لكن هي تعني المتقدم في حكمة أو علم أو ارشاد في الغالب.

وبالنسبة ( للولاية ) فإنّ لها مدلولات متعدّدة ، أهمها :

١ ـ دلالتها على تملك شأن ومباشرته ، وهو من باب السلطة على الشيء.

٢ ـ المعاضدة والنصرة ، وفيه قوله تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ) (١).

٣ ـ الوصاية ، وتجري مجرى الولاية التي تحصل على من لا يمتلك القدرة على التصرف بشؤونه ، كالطفل أو العاجز ، فتنتقل ولاية أمره إلى من هو ممن خواصه ، أو إلى سلطة تنظر في شؤون الناس.

وفي الولاية بشكلها العام ما يفهم على أنّها قدرة على حمل المسؤولية ، ولهذه القدرة درجات :

ـ منها درجة حمل مسؤولية احتضان بشر قصّر ، وإدارة أمورهم إلى أن يبلغوا درجة يمتلكون معها هذه المقدرة ، فتنتهي هذه الولاية

__________________

١ ـ البقرة : ٢٥٧.

٨٣

ـ الوصاية ـ عليهم.

ـ منها درجة حمل مسؤولية مال عام ، أو خاص ، والحفاظ عليه وتكثيره والاستفادة من حركته إلى أن يصل إلى الذين ولّوا عليه من وجدوه كفؤ.

ـ منها درجة حمل مسؤولية بلدان ، وإطلاق يد الوالي القيم فوق شؤونها.

إلى آخر درجات هذه الولاية.

ولهذه الدرجات من المقدرة اعتبار في الخطاب القرآني ، ويمكن تلمس النظرة القرآنية إلى الدرجة الأُولى منها ، وهي درجة منتهاها ، حيث يعيد الله سبحانه هذه الولاية بالمطلق إليه عزّوجلّ ، بقوله : ( مالكم من دون الله من ولي ولا نصير ) (١) ، فهو الملجأ الحقيقي ، وهو الناصر الحقيقي وتتكرر هذه الآية في أكثر من موقع في القرآن الكريم ، وهي تشدّد على أن يلتفت الإنسان إلى أنّ الله سبحانه ، هو صاحب المسؤولية على كل شي خلقه ، وإليه ولاية أمر كل شي ، حتى إذا أراد الله بقوم سوءاً ، فإنه لا مرد لهذا الأمر ، وليس لهم من ولي سواه يقول سبحانه : ( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ ) (٢) ، فتكون درجة الولاية العليا والأُولى على مطلق

__________________

١ ـ البقرة : ١٠٧ ، العنكبوت : ٢٢ ، الشورى : ٣١ ، الأحزاب : ١٧ ، وفي سور أُخرى.

٢ ـ الرعد : ١١.

٨٤

الموجودات له سبحانه.

وبعد أن تبيّن لنا أنّ الدرجة الأُولى هي لله سبحانه في الولاية ، وأنّه حاكمها بالمطلق ، نجده يمنحها عزّ وجلّ لبعض من الذين خلقهم ، فمن يليق بهم أن تقترن ولايتهم بولايته سبحانه؟ فبعد أن حصرت ولاية الخلائق بالله سبحانه ، حمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الرتبة كما حملها الذين آمنوا ، يقول تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) (١).

والجدير بالملاحظة هنا أنّ هذه الآية التي تصرّح بأن ولاية الناس لله ورسوله والمؤمنين ، هي الآية الوحيدة بهذا اللفظ في القرآن الكريم ، التي تشترك مع الله في هذه الرتبة من أختارهم لهذه الدرجة ، ونكون قد حصلنا على اعتبار الخطاب القرآني لهذه الدرجة ، وهو اعتبار يرسي دعائم البحث ، عن الذين تنبغي المعرفة بهم من الأولياء غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الرسول مخصوص بالاسم ، أمّا الذين آمنوا فينبغي معرفتهم بما يحملون من صفات تمكن من تخصيصهم بعد ذلك بالاسم.

الولاية والإمامة

إنّنا حينما أشرنا إلى أنّ الإمامة تجمع تحت ظلها كل من الخلافة

__________________

١ ـ المائدة : ٥٥.

٨٥

والزعامة والرئاسة والولاية ، فإنّ هذا الجمع فيما يختص بالشراكة التي منحها الله لأولياء الناس من الذين آمنوا ، ولا ينبغي أن يفهم منها أنّها تشتمل على الدرجة الأُولى للولاية ، والتي هي لله ، بل نحن بصدد الاشارة إلى الدرجة البشرية ، والتي تجمع بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبينه ، وهو يربط بشيء من الحساسية والدقة ، بين إبراهيم والمؤمنين والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتمسك بنهجهم ، ربطاً يحتاج إلى بصيرة كي تقف عنده.

فالولاية التي تجمع بين إبراهيم عليه‌السلام والذين اتبعوه هي ولاية ارتباطاً ، فالذين اتبعوه أشد ارتباطاً ووثاقة بإبراهيم عليه‌السلام من سواهم ، وإنّ هذا النبيّ الذي هو وليّ أنفس المؤمنين هو الذي تحتشد في شخصيته وثاقته بإبراهيم عليه‌السلام الإمام ، وولايته لأنفس الذين آمنوا ، فيشتمل على رتبة الإمامة والنبوة والولاية ، وهو المقام الذي تشغله قدسية ذات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمطلق ، منظوراً إليها على أنّها الامتداد الذي لا ينقطع في حين من الدهر ، لا في القديم ولا في الحاضر ولا في المستقبل ، لارتباطها بولاية الله سبحانه التي لا تنتهي.

وإذا صح هذا الارتباط ـ وهو كذلك ـ فإنّ ارتباط ولاية الذين آمنوا بها ستكون قد اقتربت من ظهورها عياناً ، كيف ذلك؟

نلاحظ في عدد غير قليل من آيات القرآن الكريم ، أنّه تعالى عندما يتحدّث عن الولاية فإنّه يشير إلى أنّها رابطة تنشأ بين أطراف ، أما ثنوية أو متعدّدة.

٨٦

ففي الآيات التي تتحدث عن مرجعية الولاية لله سبحانه ، يمكن أن نلاحظ الأمور الآتية :

يرتبط مفهوم الولاية في القرآن الكريم فيما بين الذين يتولون الله سبحانه ـ والذين يعرضون عنه ـ أيضاً بعدّة جوانب ، أهمها ذاك الجانب الذي يخاطب الفطرة خطاب تعيين ، أي خطاب عالم متحقق من أنّها تحفز البشر نحو الاستجابة لمطلبهم الأساسي ، وهو بلوغ رتبة كمالهم ، والذي لا يتحقق بدونه إمام يهدي إلى وصولهم نحو ربهم مطمئني القلوب.

لكنهم يغضون بصائرهم عنها ، وعند ذلك نلاحظ أنّه ينعتهم بالضالين ( ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ) (١) ، لأنّهم خالفوا ذاك البسيط النقي في سرائرهم وعاندوا ، فصاروا إلى ولاية الشيطان.

ونحن في مباحث الإمامة ، ما نزال نتوسع شيئاً فشيئاً ، باحثين عن نقاط كبرى وأساسية في نظرية الإمامة وفق المنهج الإسلامي القرآني.

إذن ، إنّ خطاب الفطرة هذا ، هو خطاب يحتوي على تصريح بأنّ الله وليّ الذين آمنوا بعضهم أولياء بعض ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بهم من أنفسهم ، وأنّ الذين يبلغون هذه الرتبة ( لا خوف عليهم ولاهم يحزنون ) (٢).

__________________

١ ـ الكهف : ١٧.

٢ ـ يونس : ٦٢.

٨٧

فالذين استجابوا لداعي الله ، وكانت فطرتهم قد اتخذت لها ملجأ نَحو ملاذها ـ أي إمامها ـ وبلغت درجة الإيمان ، فإنّ القرآن الكريم يحاكي هذه الفطرة ، يحاكي هذا الإنسان ذا اللب الفطن ، بخطاب النصرة ، أي ترتبط الولاية بالتأييد والنصرة والمعاضدة.

فإنّ الله هو الولي ، وهو النصير الذي لا يوجد سواه ناصر عند الملجأ ، وهو ولي الذين آمنوا بالنظر إلى كونهم يتمتعون بهذا الحق الممنوح لهم من قبله تعالى ، وفضلاً عن هذا ، فإنّ الله سبحانه منح رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية المؤمنين على أنفسهم ، بل جعله أولى بهم منها ، وهو قوله : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) (١) ، أي أحق منهم بولايتهم على أنفسهم.

فثمة إطلاق ولاية أمر المؤمنين بمعناه الشمولي ، أي بكل دقيق من دقائقه وبكل تفصيل من تفاصيله ، وجعله بيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث مكّنه من الولاية على نفوسهم ، وجعلها أفضل من ولايتهم هم أنفسهم عليها.

وفي جميع هذه الحالات ، نرى أنّ القرآن الكريم يشير إلى المؤمنين بشي من التخصيص ، أي إلى أولئك الذين يبلغ إيمانهم تلك الدرجة الرفيعة التي تؤهلهم لأن يجعلوا ولاية أنفسهم بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا ليس لعامة من آمن فيما يفهم ، إذ أن القضية ذات عمق

__________________

١ ـ الأحزاب : ٦.

٨٨

أكثر ، منها إشارة إلى السطح في درجة يسلم معها نفسه طوعاً له ، كما يسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن يقين نفسه لولاية ربّه.

ومن المعروف أنّ الولاية الإلهية هي ولاية خالق على مخلوق ، وهذه تحمل جانباً من جوانب السلطة المتاحة في الأصل للمالك الذي بيده الأمر ، وهو يخرجه منها ويعيده إليها ، أمّا فيما يختص بعناية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وولايته على أنفس المؤمنين ، فإنّها وإن كانت تحمل ذلك البعد الذي منحه إياه الربّ عزّ وعلا ، فإنّها تتمتع بالإحالة إلى فهمها على أنّها ولاية يطلبها المؤمن اختياراً ، حيث أن سلطة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أي ولايته ـ على الأنفس نابعة من كون المؤمن بلغ درجة أيقن معها أن هذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مخرجه ومدخله إلى ولاية ربّه ، لا عن طريق التوسط ، بل عن طريق الدرجات التي يتقرب ويرتفع من خلالها المؤمن ، ويفيدنا هنا أن ننظر في الآية المباركة التالية : ( إِن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ) (١).

ولا ينبغي أن يفوتنا ، إنّ هذه الآية قد جاء قبلها تحديد منهج الديانة الإبراهمية ، فقال تعالى : ( ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ) (٢).

__________________

١ ـ آل عمران : ٦٨.

٢ ـ آل عمران : ٦٧.

٨٩

إن إبراهيم عليه‌السلام صاحب رتبة إمامة الناس المجعولة من قبل الله تعالى ، وصاحب الخط الإسلامي غير ذي العوج ، وهو أحد أهم ما يمكن أن تقاس عليه معرفة المؤمنين الذين هم في الرتبة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مفهوم الولاية ، وكيف لنا أن نستدل على هذا؟

إنّ الطريق في الاستدلال بحاجة إلى التبصر في كتاب الله أوّلا ، فكتاب الله لا يأتي بالأُمور اعتباطاً ، بل هو ( يهدي للتي هي أقوم ) (١) ، وعند الحاجة الحقيقية إلى نصرته ، فهو يكفي من تولاه ، ولا يترك حاجته عند سواه.

هذا قانون ثابت بيّن من قوانين القرآن الكريم ، وهو دائم السيرورة ، أنظر كيف يوهن القرآن الكريم من أتخذ أولياء له غير الله في قوله تعالى : ( مثل الذين أتخذوا من دون الله أولياء ، كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) (٢).

الموازنة بين النور والظلمة

إذا كانت الفكرة قد استوت على جادتها ، واستقام لذي بصيرة مفادها ، فإنّ الإمامة عنت لدينا غاية الرجاء ، وبها تستقيم المعارف ،

__________________

١ ـ الإسراء : ٩.

٢ ـ العنكبوت : ٤١.

٩٠

وعليها يتوكأ السائر إلى غاية ينفطر لأجلها عمره ، وتسترق أيامه ، لا عن عبودية لسوى الله تعالى ، إنّما عن طلب الهادي إليه ، فهو سبحانه أشار إلى سبل معرفته بالاقتداء بمن يهدي ، على أنّ هذا الذي يهدي بالغاً مبلغ الكمال ، الذي تخشع له النفس الإنسانية رغبة في اسهامه في تلبية طلبتها ، يقول عزّوجلّ : ( أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتّبع أمن لا يهدي إلاّ أن يهدى ، فما لكم كيف تحكمون ) (١).

إنّ لهذه الكلمات الشريفة سعة لمن أراد التوسع ، فثمة من يهدي إلى الحق ، وهو مفطور عليه لا يحتاج معه إلى تبيان ، لأنّ الكلمات أرفقت بضرورة الإتباع لهذا الهادي الذي لا يحتاج إلى من يصوّب له طريقه الذي يسلكه في عملية الهداية ، قارن قوله تعالى في متابعة الآية الشريفة : ( أمن لا يهدي إلاّ أن يهدى ) ، فثمة راية للحق تعرفها السرائر ، لا يغفل عنها من ينظر إليها ، وهذه الراية خلّفها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في آل بيته عليهم‌السلام كيف؟

ننظر هنا في كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام لدى ترتيب هذا الأمر ، يقول : « ونشهد أنّ لا إله غيره ، وأنّ محمد عبده ورسوله ، أرسله بأمره صادعاً ، وبذكره ناطقاً ، فأدّى أميناً ، ومضى رشيداً ، وخلّف فينا راية الحق » هذه الراية ما فتئ أنبياء الله يورثونها سدنتها الحقيقيين ، فهي أمان جملة الكون ، لأنّ الله سبحانه تعهدها واجرى سنته في الحياة

__________________

١ ـ يونس : ٣٥.

٩١

على الحفاظ عليها ، وتوافينا متابعة كلمات الإمام عليّ عليه‌السلام بمزيد من الإيضاح هنا عند قوله : « ألا إن مثل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكم كمثل نجوم السماء ، إذا خوى نجم طلع نجم ، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع ، وأرآكم ما كنتم تأملون » (١) ان اللطيف صانع الملكوت يعرف ما نأمل ، ويعرف الرجاء الخفي في أعماقنا ، فلا يكل أمر تطلعاتنا لسوى ( المثال ).

وعلى أساس كهذا نختم دلائلنا النهائية في مفهوم الإمامة ومعناها ، ونشير هنا إلى أنّ الدين الإسلامي بما هو ختام للأديان السماوية السالفة جميعاً ، قد أشبع مناورات النفس ومصارعاتها ، ليقول كلمة تفصل بين الحق والباطل في شرحه لمسيرة البشر وتبيينه لطرائق علاج ما يطرأ من مضر على السلوك السليم.

جدل الزوال والبقاء

سوف يسأل سائل : وما هو السلوك السليم حتى يوازن ما بينه وبين المرض؟

وتجيبنا الأبحاث العلمية في مجالات السلوك الإنساني ، على هذا بالقول : إنّ تعلق الإنسان المفرط في أي من اللذائذ الغريزية يقود هذا المرء إلى هلاك من نوع ما.

__________________

١ ـ أنظر نهج البلاغة : الخطبة ٩٩.

٩٢

فإن كان لجهة الأُمور المعيشية ، فإنّه يبذل جهوداً من أجل تحسين معاشه بالقدر الذي ينبغي لجسده أن يحتمله ، وإذا ما زاد الجهد فإنّ التعب كفيل بالإتيان على قواه ، وتدريجياً سوف يخسر تلك المقدرة.

وإن كان في وسائل اللّذة الجسدية ، فإن للجسد طاقة قبالة أية لذة ، وعند استنفاذ هذه الطاقة ينبغي الإسترخاء من أجل الإستعاضة ، وفيما لو لم يحدث هذا فإن الجسد معرض للهلاك.

ولا نرغب في الإسهاب في هذا ، فهو بيّن وغير محتاج إلى توصيف ، لكن العلم والمعرفة غاية لا تهلك ، وإنّما تربى وتنمو ، وتزيد بالتبصرة ، وتعطي لكل شيء حقّه ، وهنا مكمن شغف الناس في كشف المجاهيل بكل أصنافها النافع منها والضار.

ونريد أن نوجز أخيراً فيما أسّسنا له عند تناولنا جوانب الإمامة ، بأنّ الإسلام دين واسع الأبعاد مليء بالمنفعة ملء الحياة ، لكننا سوف نطرح سؤالا هنا من صنف تلك الأسئلة الإشكالية ، وغايتنا من ورائه اشعال فتيل الفكرة التي تدخلنا إلى محراب الإمام عليّ عليه‌السلام كباب لمعرفة سرّ الإمامة في الناس ، والسؤال هو :

هل قال الإسلام كلمته التامة وانتهى ، أم أنّه يختزن بعد ما لم يأت أوان البوح به؟ قبل الإجابة أو التحرك في أجواء هذا التساؤل ، نأمل أن نلتفت إلى هذه الآية الشريفة يقول عزّمن قائل ( كتب الله لأغلبن

٩٣

أنا ورسلي ) (١) ، وقوله تعالى أيضاً : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (٢) والناظر في هذه الكلمات الشريفات ، يعرف أنّ الله سبحانه ليس مع خلقه في صراع حتى يشير إلى أنّه سيغلب هو ورسله ، وأنّ الأرض ليست ميراثاً لغير الصالح حتى يرثها فيما وراء ذلك الصالح ، وإنّما يفهم عند التأمّل الدقيق لهذه الكلمات ، أنّ الناس سوف تصل بالنتيجة إلى حتمية السير نحو تعليمات الله ، لأنّ كل مسيرة في خلافها كيفما كانت لن توصل السائر نحوها إلى جهة تحقيق سعادته بدون الاسترشاد بهدي ربّه ، وإنّ التجارب الإنسانية والأنظمة التي يستمدها من خلال تراكم خبراتهم وتوالي تجاربهم دائمة النقص ودائمة التغيير ، إلاّ أنّه سبحانه يرسي قواعد سلامية العيش في الحياتين ، عندما يصف أنّ الغاية من وراء الرسل التي يرسلها تكمن في إقامة الناس على جادة الصواب بالعدل.

يقول سبحانه وتعالى : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) (٣) ، يريد : لم نجعل الأمر على الناس غامضاً ملتبساً ، بل أزلنا الشبهات ، وبالرسل وافينا الناس بما

__________________

١ ـ المجادلة : ٢١.

٢ ـ الأنبياء : ١٠٥.

٣ ـ الحديد : ٢٥.

٩٤

يجعل سيرهم واضحاً ، وطرقاتهم سليمة ، ولكي يستمر هذا المنطق مع الأجيال ، أيدنا الرسل بالكتاب الذي يحكم به بين الناس ، وتوزن على أساسه مقامات السير الصحيح بهم من السير الخاطىء ، والغاية كما تفيدنا الآية الشريفة هي أن لا يظلم البشر بعضهم بعضاً ، ولا يظلموا أنفسهم كذلك.

إذاً كأنّك تصلّ معي أيّها الأخ الكريم إلى أنّ الله سبحانه قد بيّن لمخلوقاته أنظمة العدل بعد أن أرسل الرسل ، وأقامت هذه الرسل البيّنة ، وثبّتها الكتاب ، وجميع هذه المراحل الرسالية تهدف نحو رجاء الناس في أن يمحق الظلم الذي يشكّل العائق الأوّل والأشد أثراً على تقدّم ووعي المجتمعات ، وصلاحها وسلامة سيرها.

وبدلالة عدم إنقطاع طرائق العبادة تاريخياً وحضارياً بين بني الإنسان التي لفتنا إليها في أماكن متقدّمة ، نتعرّف على أن الدين لم يخترع من قبلهم وإنّما بادر الرسل إعطاءهم النصح وتعلم البقاء في كنف الله ، حتى يتيسّر لهم المسير نحو العدل ، ولا يظلم بعضهم بعضاً ، فكانت النبوّة شجرة تمتد فروعها أبداً وفي كل فينة وأوان تؤتي ثمرة من ثمارها ، ولهذه الثمرة التي تنعم بها الحياة امتداد واستمرار ، يقول عليّ عليه‌السلام في ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اختاره من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضياء ، وذؤابة العلياء ، وسُرّة البطحاء ، ومصابيح

٩٥

الظلمة ، وينابيع الحكمة » (١).

وهذه الشجرة أصيلة في وجودها ، ترعى الخلائق بثمارها ولهذه الثمار موازين ، هي مقامات الخروج من الظلمات والولوج في ملكوت النور ، ومنابع الحكمة التي تسري في وجود الحياة ، لكأنك هنا تلحظ معي ذاك الربط بين النور والظلمة ، هذا التضاد ، وبين الينبوع الذي يرمز إلى الماء الذي هو سرّ الحياة وعلى هذا القول نقف قليلا لنتبيّن الروابط التي أشار إليها عزّوجلّ في كتابه وبيّنها نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي عليه‌السلام في نهجه.

يذكر القرآن الكريم في العديد من المواطن ، أنّ الذي ينحرف عن سبيله يلج الظلمة ، وأنّ سبيله هو النور كلّه ، والذي لا شكّ فيه هو أنّ الله سبحانه خلق الخلائق محبّاً لها وهذا داعي متابعتها بالهداة أبداً ، ويقول تعالى في وصفه لأوليائه ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) (٢).

ولعلّنا نستدرك بشيء من التأمّل أن تولي الله غير متحقق بدون الإلتفات إلى الرسل الذين بعثوا بالبينات والنظر في كتاب الله الذي يحمل في جنباته النور ، وننظر هنا في قوله سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أُنزل معه ) (٣) والنور هنا هو

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١٠٧.

٢ ـ البقرة : ٢٥٧.

٣ ـ الأعراف : ١٥٧.

٩٦

الكتاب أو ما في الكتاب ، بحسب ما يستلهم من قوله تعالى : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) (١) أو قوله تعالى : ( كتاب أنزلناهُ إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) (٢).

وإذا استرسلنا في متابعة الذكر الحكيم واستخراج ما يفيض الله سبحانه ، نلحظ أن النور الذي يبعد عن القلب حجب الظلمات ، له وطن واحد يعرف به ، ويلجأ المخلوق نحوه ، وهو مستودع هذا النور ، وهو ( النبيّ ، الرسول ، الإمام ) في آن واحد معاً ، يذكر سبحانه هنا قوله : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بيّنات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) (٣) ففي الناس من يهدي دائماً إلى نور الله قائماً بكلماته ، غير عابئ بخلاف الحق ، فيه خصال الجمع لمواطن العدل ، كما رسّخ عزّوجلّ بإبراهيم عليه‌السلام ذلك المستودع العظيم للشأن الشامل للنبوة والإمامة حين أعلن نصاب هذه المرتبة بقوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربُّهُ بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إماماً ) (٤) ، ومعلوم أنّ الله سبحانه واتر الرسل في الناس ، يقول تعالى : ( سُنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) (٥) وقوله : ( ثم

__________________

١ ـ المائدة : ١٥.

٢ ـ إبراهيم : ١.

٣ ـ الحديد : ٩.

٤ ـ البقرة : ١٢٤.

٥ ـ الإسراء : ٧٧.

٩٧

أرسلنا رسلنا تترا ) (١).

إنّهم كما سلف شجرة النبوّة ، الهداة إلى الحق بنور ربّهم ، وقد جعلت فيهم وفي ذريتهم خاصة ، ولنقرأ معاً هذه الآية المباركة : ( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) (٢) التي تدلنا على المواطن الذي لا يتحوّل إلى سواه اللب عندما تكون النفس باحثة عن غشية النور ، فارة من دياجي الظلمات.

ويمكن أن نسلهم من كتاب الله ما يفيدنا أنّ مثل هذا المقام ليس من العسر بلوغه ، بل أنّه في غاية اليسر ، فالفارق الجوهري بين النور والظلمة كما بيّناه من المنظور القرآني ، هو قيام الناس بالقسط بحسب ما تقدّم ، ولكن هل هذا المطلب قليل حتى لا يستجيب له الناس ، هل يرغب بني البشر بتعقيدات وتنظيرات وفلسفات حتى تتكشف لهم وسائل التحقّق من سلامة العيش.

هنا تكمن أهمية ما تقدّم من مباحث الاستجابة للفطرة السليمة ، التي تصبو النفس لرفع الحجب لتعرف إمامها ، والذي نعوّل عليه أخيراً ، هو الفارق بين من أبصر ومن هو غاض بصره ، كيف؟

لنستمع إلى هذه اللفتة القرآنية في تحديد منازل الظلمات والنور ،

__________________

١ ـ المؤمنون : ٤٤.

٢ ـ الحديد : ٢٦.

٩٨

يقول سبحانه وتعالى : ( هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ) (١) ، ثمة ما يثير في المتأمل شهوة التعمّق في هذا الكلام ، حتى يبلغ بإذن الله مراده لعل الظلمات مساوية للعمى هنا ، مثلما النور مساو للإبصار وفي الموازنة بين الإبصار والعمى ، ينبغي أن ندخل عمق وروح هذا التعبير ، بعد أن نعرض الآية التالية : ( وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور ) (٢).

اتضحت لنا الآن سوية النور وسوية الظلمة ، إنّ النور يساوي الإبصار بحسب هذا الاستنتاج ، كذلك تساوي الظلمة العمى ، لكن الواقع أنّ العمى الذي ترجح الإشارة إليه هنا ، ليس عمى العيون التي تنقل المشاهد الخارجية إلى العصب البصري ليذهب بدوره إلى مركز الاستقبال الدماغي فيكون له معنى ينطبع في المخيلة ، وإنّما الوارد أن يكون هذا العمى هو عمى الذات ، أي تيهها واستغراقها في الجهل وعدم دراية المتجه مع وضوحه وبيانه ، وهذا يؤخذ من قوله تعالى : ( فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (٣) وإذا حملناها على هذا المحمل ، فإنّ القلب الذي يشار إليه في القرآن هو مركز التعقل ومكمن الإستجابة للنداءات ، وهو

__________________

١ ـ الرعد : ١٦.

٢ ـ فاطر : ١٩ ، ٢٠.

٣ ـ الحجّ : ٤٦.

٩٩

الذي يقابل الإبصار بالنور ، أو الذهاب في العمى.

وتشير الآيات الكثيرات اللواتي يخاطبن قلب الإنسان لا عناصره الخارجية ، إلى أنّ المقصود بالموقع الذي يخاطب على الإستواء بين الإبصار والعمى هو القلب يساوي الحقيقة العاقلة البشرية ، فننظر قوله سبحانه : ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (١).

وغني عن البيان أنّ القلب المشار إليه والذي يتولّى مهام التدبّر ، هو الذي يملك آلية تقليب أوجه الأمر واستشفاف ما ينفع مما يضر ، كذلك عند سماع هذه الكلمات : ( نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين ) (٢) فالرسالة عهد الله ، ونوره كتابه ، تنزل على القلب الذي يملك تحملها وحفظها ومبادرتها.

وكذلك لا يسع الباحث أن يقول أنّ القلب هو تلك العضلة التي تشبه المضخة التي تقذف الدم إلى العروق ، إنّما هو الجوهر الإنساني المخاطب ، وهو مكمن الفكرة الخالصة ، وروح العقل ، لذلك تشير الآيات الكريمات إلى أنّ القلب مكان التعقل والتّفقه والتفكّر ويقول تعالى : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) (٣) ، وهذا المكان هو موطن

__________________

١ ـ محمد : ٢٤.

٢ ـ الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤.

٣ ـ الأعراف : ١٧٩.

١٠٠