معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

تميل نحو تعلق بالنواقص ، وباعتبار إنّ معرفتها من ضرورات المعارف الحقّة التي تقود إلى المعرفة الكلية ، كان على المرء حتى يبلغ مكمن اللوذ بالإمام أن يكشف عنها حجبها ، ويعينها على الخلاص من العوالق والتوجه نحو النواقص ، فهي حينئذ سوف تنجذب تلقائياً إلى إمامها الذي لا يدخلها في باطل ، ولا يخرجها من حق.

ومن أجل تعيين هذه النتيجة نقول :

إن الإمام بهذا اللحاظ ، سوف يكون الملجأ الإنساني ، ويكون ملاذ البشرية جمعاء ، لا ينحصر في فئة ولا في قوم من الناس ، ولا يقتصر وجوده على مكان ، ولا ينبغي أن تخلو الأرض منه ليوم واحد لا في القديم ولا في الحاضر ولا في المستقبل ، وبالتالي فهو مركز الهداية إلى الله سبحانه ، وبمثل هذا التعيين تظهر لنا دلالة قوله تعالى : ( من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ) (١).

بعد هذه النتائج التي بلغنا إليها ، نلتفت إلى أنّ الإمام الذي اتضحت بالنسبة لنا ماهيته هو بالضرورة مصطفى من قبل الله تعالى ، مجعولاً في الناس أبداً ، وهو غير القادة والحكام ، وإن كانت من ضمن ملكاته هذه الوظائف العادية ، وليس هو بالحاكم العسكري ،

__________________

١ ـ الكهف : ١٧.

٦١

ولا رئيس الدولة ، وليس صاحب شأن دنيوي من هذا النوع أو ذاك ، لكن جميع هذه الشؤون من ضمن ما يمتلكه ، لتمتّعه بالكمال في كل شأن ، ولعدم عجزه أو نكوصه عن القيام بكامل الأدوار البشرية ، ونذكر هنا أن السيد المسيح عليه‌السلام حين قال : « مملكتي ليست من هذا العالم » (١) كان يقصد أنه مكلف بالإمامة من الله عزّوجلّ.

ونشير هنا إلى أنّ معرفته عياناً تنطلق من معرفة النفس التي تفيد معرفة الحقائق المتعينة في الأحوال ، لذلك جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله معرفة الله مرتبطة بمعرفة النفس ، فإذا كانت معرفة الله أشد وأكثر أنواع المعارف احتياجاً للصفاء وعدم الاختلاط والتداخل بينها وبين هذه المعرفة ، أي عدم قطع طرقاتها بما يشوب مسيرتها ، فإنّ معرفة الإمام من نفس الجانب ومن ذات المتجه الذي يسار به نحو معرفة الله.

يقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « من عرف نفسه ، فقد عرف ربه » (٢) ، وسأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا رسول الله : كيف الطريق إلى الحق ، فقال : « معرفة النفس » (٣) وفي كلام لعليّ عليه‌السلام : « معرفة النفس أنفع

__________________

١ ـ أنظر انجيل متّى : ١٠ / ٧ ، من التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس.

٢ ـ عوالي اللآلي للأحسائي : ٤ / ١٠٢ ، بحار الأنوار للمجلسي : ٢ / ٣٢.

٣ ـ أنظر عوالي اللآلي لابن أبي جمهور : ١ / ٢٤٦ ، مستدرك الوسائل للنوري : ١١ / ١٣٨ ( ١٢٦٤٣ ).

٦٢

المعارف » (١) ، وللباقر عليه‌السلام : « لا معرفة كمعرفتك بنفسك » (٢).

ونجمل جميع هذه الأقوال تحت قوله عليه‌السلام : « ومن عرف نفسه ، فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم » (٣) ، ولن نحتاج إلى توضيح بعد هذا ، فإن الغاية من وراء كل معرفة ومن وراء كل علم ، هي شعور المرء بأنّه كامل من جميع جوانب الكمال ولا نزيد على ذلك ، ولابد أنّ الكمال غاية لا مزيد وراءها ، وإنّ بلوغه بالمعرفة لا يتحقق سوى بالإمام ، وإذا عطفنا كلامنا هنا على خطبة الإمام عليّ عليه‌السلام التي يأتي منها : « أول الدين معرفته ـ أي الله ـ » (٤) سوف نجد تلازماً ضرورياً ، بين : « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وبين « أول الدين معرفة الله ».

إنّ هذا التلازم يلتقي بالدقة عند منطقة الفطرة ، لأنّها المكان الذي يجتمع فيه العلم الأوّل الذي تنزع نحوه الحاجات والميول ، فالمراد أنّ المعرفة كامنة في جوهر النفس ، وأنّ جميع الأعمال الجارية من أجل أصلاحها وهدايتها ، هي سائرة نحو هذا المتجه ، وإنّ الذي ينبغي أن تبذل من أجله كلّ جهود المعرفة ، هو أين تجد ملاذها ، وتطمئن الاطمئنان كله ، وإذا بلغت بنا النتائج هذا المكان ، وقيل أين هو؟ أو في أي جهة أو طريق ينبغي أن تتجه بنا الآليات المعرفية

__________________

١ ـ أنظر غرر الحكم للآمدي : ٩٨٦٥.

٢ ـ أنظر تحف العقول لابن شعبة : ٢٨٦ ، بحار الأنوار للمجلسي : ٧٥ / ١٦٥.

٣ ـ غرر الحكم للآمدي : ٨٩٤٩.

٤ ـ انظر : نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

٦٣

حتى نوجهها نحو الأمام؟ وما هو المصداق على جميع هذه الأُطروحة؟ فإن هذا سيحيلنا إلى تناول الإجابة عنه في البحوث القادمة.

٦٤

الفصل الثاني : بين الإمامة والقيادة

بعد أن اتضح لنا أنّ الإمام هدف تسعى نحوه الذات ، ينبغي لنا أن نفرق بين الأمرين التاليين ، لأنّ عدم الالتفات إلى الفوارق بينهما يعيق حركة الفكرة ، أو يحرفها عن مسارها الذي تسعى نحوه.

الأمر الأوّل :

أن لا ينفصل مفهوم الإمامة عن شمولية الإمام وأن لا يتجزأ هذا المفهوم ، وسنوضح ذلك فيما بعد.

الأمر الثاني :

التيقن من أنّ الإمام حاجة تسعى الذات البشرية نحوها بالفطرة ، لتلمس هديها بجميع أبعاده ، وليس يصح فيها العكس فيما نرى.

وبعد أن يتم هذا التفريق ، وتتم معرفة هذين الأمرين ، يمكننا أن نستوضح أبعاد كل منهما بحسب مقتضيات هذا المبحث.

أمّا عن الأمر الأوّل الذي يتناول ربط مفهوم الإمامة بمعناه الشمولي

فإنّ أقرب معادل نجده له هو ( المثال ) في المصطلح الفلسفي ، والمثال يساوي الكمال والغاية الأسمى التي تحدّد نزوع وسلوك

٦٥

ونشاط الفرد والجماعة (١) ، إنّ هذا المثال يتموضع داخل كل رغبات الإنسانية مهما جفت وخفت بريق صفائها ، وهو يلهم الناس ويعبئهم ويرسم غاية كمالهم الفردي والاجتماعي ، وهو بهذا اللحاظ المخلوق الكامل المتميز عن سائر مخلوقات الله تعالى ، وتميّزه هنا ناتج عن اصطفاء إلهي تراعى فيه حاجة البشرية إليه ، وهي كما سلف حاجة أصيلة وغير قابلة للتبدل أو التغير مع تواتر الأجيال ، وهي في عمق الوجدان ، وهي عين الأمر المبحوث عن مصداق في الخارج له ، ولا يقبل أو يصح أن تخلو منه الحياة ، لأنه لا يوجد إنسان لا يريد تحديد الاتجاه أو الموضوع الذي ينبغي له أن يتعلق به.

وسائل معرفة الإمام

الهداية

أبدأ من معرفة الإمام ـ الذي استحوذ على هذا المعنى ـ وهو أمر بحاجة إلى دأب خاص ، وإلى إخلاص منقطع وراء هذا الدأب ، ولهما أن يدومان باستمرار ، أي أن يبقى القلب ملتفت دائم البحث ، حثيث الخطا حتى يتحقق له ذلك ، وفي حال الوصول إلى هذا الدأب ، ومع التيقظ الحقيقي والانكشاف على الرجاء ، والشعور ببلوغ لحظة

__________________

١ ـ معجم المصطلح الفلسفي ، توفيق سلوم : ٤٢٧.

٦٦

الالتقاء بالجاذب المحبب لديها ، يبلغ المرء مبلغاً يتمكن معه من الهداية.

والهداية بهذا المعنى

هي تفويت فرصة صرف جهد النفس بغير ما طائل ، وعدم السير وراء أمور تبدو لها وكأنها غاية السعادة ، وكمال الطمأنينة ، وعند بلوغها تنكشف عن مخادعتها وعدم صدقها وسرابيتها ، فتصاب بخسران جميع الجهد والزمن الذي صرفته من أجلها ، وهذه الخيبة لها ذكر في مواطن عدة من كتاب الله تعالى ، منها قوله سبحانه : ( هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ) (١) ، في تصريح واضح يلفت انتباه الناس ، إلى أن فرص العمر الممنوحة قد لا تكون كبيرة.

لذلك لا تنبغي المغامرة بها في عدم البحث عن الغاية المرجوة منها ، أو الاستجابة والامتثال لدافع التعلق بالمثال ـ أي الإمام ـ وهذا الدافع رافق البشر منذ بدايات وعي الإنسان ، وهو الحافز الأشد توثباً في ملاك الدخول إلى عالم الهداية ، الذي يصدقه قوله تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ) (٢) ، فالهداية بجميع أشكالها منوطة ببذل

__________________

١ ـ الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤.

٢ ـ الأعراف : ١٧٨.

٦٧

الجهد للاستحواذ عليها ، وعدم بذله موجب للضلالة ، وفيه قوله تعالى : ( ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) (١) فالربط القرآني بين الهداية وبين الخسران ربط يدفع إلى التأمل!

فمن المعروف أن الله سبحانه عادل ، وليس من العدل أن يمنح الهداية بأمر منه لهذا الإنسان ويحجبها عن ذاك ، وبالتالي فإنّ البحث والدأب وراء سمو الغاية ، والجد من ورائه هو مسلك موصل لا محالة إلى الهداية ، التي ترتبط بسبب موضوعي أوجده الله سبحانه وجعله في الإمام ، ونجد إشارات القرآن الكريم إلى ذلك في غير مكان.

نأخذ مثلاً قوله تعالى : ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) (٢) ، فمن بعض خلقه خلق سبحانه الهداة ، وهذا البعض متزامن مع خلق سائر إلى منتهاه ، وهم بينون واضحون غير خافين خفاءً يمنع الباحث من الوصول إليهم ، وفوق ذلك فهم يباشرون الناس دعوتهم إلى الحق ، وما هو هذا الحق الذي تهدي إليه هذه الأمة؟ ومن هي هذه الأمة؟

دعونا أولاً ننظر في جنبات الحق ، فالحق هو ضدّ الباطل وكل ما هو باطل غير قادر على الاقتراب من مقام الحق ، ومن الباطل

__________________

١ ـ الأعراف : ١٧٨.

٢ ـ الأعراف : ١٨١.

٦٨

مخالفة الفطرة السليمة التي تحفز في الإنسان تلك المقدرة على السير نحو الكمال.

يقول « صدر الدين الشيرازي » : « جعل الله لكل شي كمالاً ينساق إليه بالطبع »

وبالنسبة لبني البشر ، فإنّ الحق غاية تنشد لذاتها أوّلا ، ولإكتمال بلوغ الغرض ببلوغها ، وأمّا الذي يسوق إليها فهو الإمام ، وإنّ الطبع هو فطرة وبديهي أنّ الغاية إزاحة الأذى وجلب المنفعة « فما من أحد إلا وهو نازع نحو سعادة يطلبها بجهده » (٢) ، لكن ليس كل طالب للسعادة بمدركها ، مع أنّها من حق الجميع ، وهي هدف الجميع ، لكن التقصير عنها أو بلوغها أمر مرهون بالأمة التي خلقها الله هادية بالحق ، أي مرهون بمعرفتها الحق.

الأمـة الهـداة

لقد استخدم القرآن الكريم لفظ الأمة في مواطن عديدة ، واللافت للتأمل أنّه أطلقها على تجمعات بشرية وغير بشرية ، فقال في غير البشرية : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ) (٣) وهي هنا في معنى الجماعات التي تجمعها خصال

__________________

١ ـ أسرار الآيات : م. ص. ١٧٥.

٢ ـ المصدر نفسه : ١٥٧.

٣ ـ الأنعام : ٣٨.

٦٩

مشتركة في الجنس والنوع ، لكن عند استخدامه لها في معرض حديثه عن الجنس البشري ، فإنه يطلقها شاسعة ، حتى يكاد الباحث أن يلتمس منها عدّة مفاهيم ، وتخوله هذه المفاهيم أن يجري مقاربات ترشده إلى أحكام دائرة الفكرة حول كل استخدام على حدة.

هذا يعني عدم إمكانية استعمال كلمة ( أمة ) ضمن مفهوم واحد موحد تبنى عليه نظرية أحادية الطرح ، إنّما يتعدّى ذلك ليتسع أمام الباحث المجال ، في تقريب يوازن بين الأمة الهداة ، والأمة التي يعني بها الخطاب القرآني ، الجماعة من الناس وإذا استعرضنا عدد من الآيات الواردة في القرآن الكريم ، والتي تستعمل كلمة أمة لوجدنا فيها ما يدعم هذا الرأي.

ونقسّم هنا هذا الأمر إلى ثلاث أقسام :

أ ـ عند استعراض الآيات الكريمة التي تستخدم كلمة أمة ، في معرض إطلاقها على ( فئة ) من الناس ، نجد قوله تعالى : ( ليسوا سواء ، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله ) (١) ، أو قوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ) (٢) وهنا مثلاً قوله تعالى : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) (٣).

__________________

١ ـ آل عمران : ١١٣.

٢ ـ آل عمران : ١٠٤.

٣ ـ البقرة : ١٢٨.

٧٠

هذا ليس للحصر ، لكن الملاحظ من استخدام كلمة ( أمة ) هنا أنها أتت للتدليل على ( فئة ) ، ولهذه الفئة خواص بالإمكان التعرف عليها ، فهي تقترب تقريباً بمجموعها من مفهوم ( الفئة المؤمنة ) ففي الآية الأُولى : ( أمة قائمة يتلون آيات الله ) في التفريق بين الانتباه الذي قام عليه الإيمان ، وبين الغفلة التي يحياها من لم يبلغه ، أي الإيمان منهم ليسوا سواء و ( قائمة ) هنا بمعنى مستمرة ، أي لا تنقطع.

وفي الشاهد الثاني ، نجد الخطاب يتجه نحو قيام فئة ، أو الطلب لقيام فئة بالدعوة إلى الخير ، أي بإيقاظ الغافل وتوجيه جنانه نحو ( المثال ) ، كواجب من واجبات الهداة ، إن لم يكن جلّ واجبهم الذي ينبعث صادراً عن ذواتهم من غير انكفاء ، ( أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ).

وفي الشاهد الثالث : نلاحظ طلب إبقاء النعمة على من بلغت به مبلغاً بات يخاف على نفسه أن يمتحن بها ، بل وهو راغب في استمرارها في ذريته ، حيث يتضح ذلك الشعور الإنساني العميق ، شعور التعلق بالله تعالى والاستسلام له ، واستمرار هذا اليقين في الذرية التي تليه.

في هذه الشواهد الثلاثة التي استخدم القرآن الكريم فيها مصطلح الأمة نقف على شراكة فيما بينها ، وهي شراكة تفيد أنّ استخدامها للتعريف بفئة مؤمنة ، إضافة إلى شواهد أخرى لا يتسع المجال

٧١

لحشدها هنا.

ب ـ عندما يطلق القرآن هذا المصطلح على الجماعات بصفة عامة ، فإننا نلاحظ أنّه يطلقه على أكثر من مفهوم ، وفي الغالب يستعمله للتدليل على أنّ الأكثرية ليست ليّنة الرأي ، بمعنى أنّ أُممّاً تخلو وتزول وهي ليست على الهداية ، بحيث يمكننا أن نستنبط من خلال جملة من الآيات الكريمات فهماً يدلّ على أن الهداة دائماً قلة ، بل يمكن استدراج هذا لفهم وتضييقه لجعله منحصراً في نماذج معدودة وصولا به إلى أفراد بعينهم!

فعند استخدام مصطلح أمة استخداماً واسعاً ، فإنّ ذلك يقود إلى فهم الكثرة التي لا تخلو من غوغاء ، أي التي لا تسترشد لشعورها بالقوة جراء هذه الكثرة ، نرى ذلك مثالاً في قوله تعالى : ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء ) (١) ، أو ما جاء في قوله تعالى : ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ) (٢) ، وما ورد أيضاً في سورة الأحقاف في قوله تعالى : ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم ) (٣) ، والشواهد أيضاً في هذا الجانب أوسع

__________________

١ ـ الأنعام : ٤٢.

٢ ـ النحل : ٦٣.

٣ ـ الاحقاف : ١٨.

٧٢

من الإتيان بها جميعاً.

والذي نرغب في قوله هنا ، هو أن استخدام مصطلح ( أمّة ) في القرآن الكريم ، يتراوح ما بين ( الفئة ) و ( الجماعة ) و ( الأفواج ) ويمكن تأطير كل تسمية من هذه الاسماء بعدّة آيات تدلّ عليها ، وقد أجرينا نموذجاً على ذلك.

ج ـ وهنالك احتمال آخر أفصحت عنه آيات كريمات أيضاً ، وهو إطلاق هذا المصطلح على أفراد بعينهم ، مثل قوله تعالى : ( إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ) (١) وقد استخدمها المفسرون هنا ـ أي أمّة ـ بمعنى القدوة والمعلم ، وهي صفة من صفات إبراهيم ، وليست هي الجامعة لصفاته ، بل أنّ جامع صفاته هي في كونه ( المثال ) والمثال أمّة ، من الجذر اللغوي أمُّ الشي أصله ، ومن الآية الكريمة التي ركزت على إبراهيم عليه‌السلام كمثال في قوله تعالى : : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً ) (٢).

إن استخدام مصطلح ( أمّة ) فيما يخص إبراهيم هنا في الآية الأولى ، يقبل أن يستند على مصطلح ( إمام ) الذي أوردناه في الآية الثانية ، وهما يشتركان في جذر لغوي يفيد الأصل في الشي أو في الأمر ، وفي كلتا الآيتين ما يشير إلى بلوغه رتبة عالية هي مقام

__________________

١ ـ النحل : ١٢٠.

٢ ـ البقرة : ١٢٤.

٧٣

الرفعة الذي منحه الله تعالى إياه ، وهو ما أطلقنا عليه إجرائياً ( المثال ) أو الملاذ.

وتلخّص الآية الكريمة حقيقة إبراهيم عليه‌السلام ، إذ جعل من قبل ربه مركزاً لهداية الناس وهذا المركز هيهات أن يزول ، إذ زواله يستوجب زوال إمامة الناس ، والواضح من كثافة الجملة التي أطلقها القرآن الكريم أنها سرمدية ، بمعنى أنها ليست لفئة دون أخرى فهو للناس وليس لأمّة خلت.

لكن إبراهيم الإنسان البشري مات ، فإلى أين تؤول هذه الإمامة ، وهذه المركزية؟

إنّ هذا السؤال الكبير سوف يقودنا إلى متابعة مفهوم الأمة الهداة ، وفق المنهج الذي سلكناه في التعرف على الأدلة من خلال نصوص القرآن الكريم والعودة إلى كلمة الأمة ، واستنطاقها ، في محاولة لرسم معالم نظرية يشترك في وضع فرضياتها ـ إضافة إلى الكتاب الكريم ـ الأحاديث والمرويات والمصطلحات التي تستخدم في هذا الجانب من البحث.

المثال عبر الزمان ـ الإمام ـ

نود أوّلاً أن نشير إلى أن علماء النفس وعلماء الاجتماع متفقون على أن الإنسان يمتلك في أعماقه ما يمكن أن يطلق عليه ( غريزة

٧٤

التدين ) ، أضف إلى أنّ علم الآثار المهتم بالحضارات الإنسانية الموغلة في القدم والعائدة إلى بدايات نشوء الإنسان ، أفصح ـ بالاستناد إلى ما تركت هذه الحضارات من دلائل آثارية ـ عن عدم خلو ذهنه من إيمان أو معتقد روحي يرمز إليه بشكل من أشكال الرموز (١).

ولم تخل حقبة زمنية ترك فيها الإنسان أثراً يدلّ على قيامه على أرض وثباته عليها من إشارات إلى تعلقه بمثال ، تميل نحوه فطرته ، وتصبو إليه أفكاره ، وهو حتى الآن كذلك ، ويمكن أن نأخذ قطعة آثارية تجمع ما بين الألف الرابع قبل الميلاد ـ أي قبل نحو من ستة آلاف عام ـ وبين الألف الثاني منه ، تجمع بين المرحلة السومرية في معتقداتها والمرحلة البابلية والآشورية ، وهي قطعة من ( ملحمة جلجامش ) الشهيرة ، كي نصور فيها كيف أنّ الإنسان ينظر نحو ( المثال ) ، وهو في غاية الرجاء والإعجاب وهو يعبر من خلال

__________________

١ ـ انظر للتوسّع بصدد هذه مسألة استقرار الإيمان في عقائد الإنسان من خلال دراسات حضارية متنوعة منها على سبيل المثال : د. جواد علي ، المفصل من تاريخ العرب قبل الإسلام ، بيروت دار العلم ١٩٦٩ ، ميديكو اللآلي من النصوص الكنعانية ، بيروت ١٩٨٠ ، ول ديورانت ، قصة الحضارة ، الجامعة العربية ١٩٤٩ ، الأب جرجس داوود ، أديان العرب قبل الإسلام ، فيليب حتَّى مطول تاريخ العرب ، الكشاف ١٩٥٢ ، حتي فيليب ، خمس آلاف سنة من تاريخ الشرق الأدنى ، عفيف بهنسي ، وثائق إيبلا ، دمشق ١٩٨٤ ، اولوف ارمان ، ديانة مصر القديمة ، ط البابي الحلبي ، وهناك قائمة كبيرة من كتب الأديان والحضارات القديمة.

٧٥

كتاباته عن تطّلعه إلى كماله ، فإن لم يتمكن هو بنفسه من ذلك فإنه سوف يسوق هذه الرغبة نحو رمز يلاحظ فيه صفة أو عدة صفات ، هي في الواقع تعبيرات عن نواقص يحلم أن يستكملها ، لكن ربما لم يعثر على هاد واقعي له ، فهو يراه في أنموذج آخر ما لم يعثر عليه حقيقةً ، وإن كان هذا من علامات الضلال لكننا سنورد هذه القطعة هنا ، كتأكيد على أن ( المثال ) ضرورة ، بل حتمية إنسانية لا يمكن إنكارها.

تقول هذه القطعة في معرض وصفها للبطل النموذج ، كمعرِّف عن التطلع الإنساني في بحثه عن ( مثال ) ، وفي كيفية فهمه منذ أقدم الأزمنة لمن يجد فيه ملاذه :

هو الذي رأى كل شيء

فغنّي بذكره يا بلادي

وهو الذي عرف جميع الأشياء

وأفاد من عبرها وهو الحكيم العارف بكل شي لقد أبصر الأسرار ، وكشف عن الخفايا المكتومة ، وجاء بأنباء ما قبل الطوفان (١).

__________________

١ ـ د. فاضل عبدالواحد علي ، من الواح سومر إلى التوراة ، ط دار الشؤون الثقافية ، بغداد ١٩٨٩ ، ص١٣٠.

٧٦

هذا المقطع من الملحمة البابلية ، يرجع بطلها جلجامش إلى ٢٦٥٠ ق. م. وهي تحمل بين أوراقها أفكاراً سومرية وأخرى أكثر قدماً ، تعبر بمجموعها عن تعلق الإنسان بمن هو كامل ، بالذي يتصف بصفات لا تملكها إلاّ آلهة بحسب مفاهيمهم ، منها المعرفة الشمولية ( رأى كل شيء ) ، أي عدم غياب شيء مهما صغر أو كبر عن ملكاته ، عن بصيرته ، وهو الذي ( عرف جميع الأشياء ) لأنه حكيم عارف مبصر لا تخفى عليه حتى الأسرار وما يكتم عن الناس ، وهذا يذكّرنا بخطبة للإمام علي عليه‌السلام وهو يعظ الغافلين ويصوّر لهم حالهم في غفلتهم ، ويشير إلى أنّه يعلم ويعرف خفاياهم ، وأكثر من ذلك يقول عليه‌السلام : « والله لو شئت أن اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت » (٢).

ونحن هنا لا نجري موازنة بين النص البابلي وبين خطبة الإمام عليّ عليه‌السلام ، وإنّما نريد أن نشير إلى أنّ ( المثال ) بالنسبة للبشر العاديين هو المخاطب ـ بفتح الطاء ـ ، وإنّما الإمام ( المثال ) مع تحققه وعيانيته فإنّه هو المخاطب ـ بكسر الطاء ـ وهذا التشابه بين النصين ، واحد يُكتب عن الرمز الذي يرجو فيه الإنسان العادي كماله ، والآخر ينطق به الإنسان الكامل ذاته.

ـ فعند ( جلجامش ) يقول الراوي عن رمزه : « هو الحكيم العارف

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١٧٥.

٧٧

بكل شيء » ، « لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة ».

ـ وعند الإمام علي عليه‌السلام : « والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ».

هذا التشابه ، ليس تشابهاً صدفياً ، بل أنّ هناك علاقة ناجزة في حقيقة الأمر ، بين تعبير أطلقته نفس تعبر عن احتياجاتها ، وترسم الصورة التي تعتبرها مكمن الغاية بالنسبة لإمامها.

ـ ويجب أن لا ننسى أنّها صدرت على شكل عمل أدبي راق ، والذين يهتمون بالأدب يعرفون كم هو عميق الغور ، ذاك الشعور الذي ينطلق من الوجدان كي يعبّر عما يختلج داخل النفس.

كما يجب أن نتذكر أنها سبقت عليّ عليه‌السلام بأكثر من ثلاثين قرناً من الزمن ، ولو أردنا أن نحضر شواهد أخرى فإنّ الكتابات المصرية القديمة وحدها تحتاج إلى أضعاف أضعاف ما نحن بصدده ، لكن كانت الغاية فقط إيراد أنموذج مواز للفكرة التي نبحث عن دلالاتها ، وهي أصالة البحث عن الإمام في عمق الوجدان الإنساني ، وقد عبّرت هذه المقطوعة عن توجه المحتاج ، ورسمت ملامح كمالاته التي يعتز بها ، ويدأب من أجل الوصل إليها.

ـ وإنّه إن لم يصل ، فيكتفي بتقديس شخصية تعبّر له عنها ، والواقع أنّ الإنسان بفطرته يبحث عن الله.

وهذا الأمر لا يفوتنا الالتفات إليه ( يبحث عنه بفطرته

٧٨

وباحساساته ).

يقول مرتضى مطهري : « إنّ من أرفع غرائز الإنسان واحساساته حسّه الديني ، وفطرته في البحث عن الله » (١).

وهذا هو المجال الحيوي الذي تتحرك من خلاله قوى الروح نحو جاذبية فوق أي احتمال ، لكن الواضح أن الإنسان في رتبة لا تؤهله لبلوغ هذا المقام ، وإن قال عدد من الأفاضل بحصوله عن طريق الشهود الذي ينطلق من شهود النفس.

يقول الطباطبائي : « فالكمال الحقيقي للإنسان وصوله إلى كماله الحقيقي ذاتاً وعوارض ، أي وصوله إلى كماله الأخير ذاتاً ووصفاً وفعلا أي فناؤه ذاتاً ووصفاً وفعلاً في الحق سبحانه ، هو التوحيد الذاتي والأسمي والفعلي ، وهو تمكنه من شهود أنه لا ذات ولا وصف ولا فعل إلا لله سبحانه ، على الوجه اللائق بقدس حضرته جلت عظمته ، من غير حلول واتحاد تعالى عن ذلك » (٢).

ـ والواقع أنّ ذلك لا يكون ، بل أنّ الله سبحانه يجعل الطريق إلى معرفته طريق قلب وعقل ، فيرسل الرسل ويقيم الحجة ، من أجل بلوغ الإنسان جادة الطريق الذي لا يعرفه حق معرفته غالباً بدون هاد ، والطريق هو كما سبق تفويت فرصة التحول بالحقيقة الإنسانية

__________________

١ ـ مرتضى المطهري ، معرفة القرآن ج١ ، ت ، جعفر الحلي ، ط طهران ، ١٤٠٢ ، ص٨٢.

٢ ـ رسالة الولاة ، م. س. ص٥٩.

٧٩

إلى أمر آخر سواها ، كي لا يصاب الإنسان بتعدد العبادات ، أو بتعدد المعبودين ، فينحرف عن التوحيد الذي هو زبدة الرسالات السماوية.

ـ وحين يتبين لنا عدم التعلق بما هو غير ذلك ، وكي لا يتوهم المرء أنه يتبع رسولا بعدت المسافة الزمنية بينه وبينه ، فينحرف عن سواء المعرفة ، جعل الله سبحانه أئمة يهدون إليه.

ـ وإذا كنا قد اتخذنا من إبراهيم عليه‌السلام نموذجاً لهذه الإمامة ، فلأن الآية المباركة حملت العهد على الإمامة وجعلتها شاملة للنبوة والخلافة (١) فيما يتطابق على المثال ، الذي يرغب الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ في إدراك هديه.

ـ وعندي أنّ الإمام الذي يرفعه الله ويجعله قيماً ومركزاً يشع نوره على البشرية لا يختلف عن كتاب الله في شيء ، لاشتراكهما في حقيقة واحدة ، هي حقيقة الهداية ، لقوله تعالى : ( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ) (٢) والواسطة التي تجمع ما بين الكتاب والإمام ، هي جعل الله لهما ميزة النطق بالحق ، كقول الإمام عليّ عليه‌السلام في القرآن الكريم : « هذا كتاب الله الصامت ، وأنا كتاب الله الناطق » (٣).

__________________

١ ـ أنظر : روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني ، الآلوسي : ١ / ٣٧٥ ، وما بعدها.

٢ ـ الأحقاف : ١٢.

٣ ـ أنظر : وسائل الشيعة للحر العاملي : ٢٧ / ٣٤ ( ٣٣١٤٧ ).

٨٠