معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

متوفر في الأثر البشري ، مثلما يدلّل عليه كلامه عليه‌السلام.

ويدلّل عليه بالدرجة الأولى قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ) (١) والذي يفهم منها أن العهد الأوّل للإنسان ، هو عهد الفطرة التي لا اختلاف بين البشر حولها ، ومع تقادم الأزمنة وتباعد الأيام ، اختلف الناس تدريجياً إلى أن بلغوا من الاختلاف مبلغاً احتاجوا معه إلى تدخل العون الإلهي فزوّد الله رسله بالكتاب الذي يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه ، لكن الاختلاف بعد قيامه ، أصبح يلبس لباس الاستمرار ، وصار الإنسان أو قسم من بني الإنسان إلى النسيان ، وإلى ما يحجب بينه وبين ميثاقه ، بينه وبين فطرة الله التي فُطر عليها. وقسم آخر استجاب لداعي الرحمة ، فمنّ الله عليه بالثبات على عهده بحسب ما تفيد متابعة الآية الشريفة ، وما يواصله الإمام عليّ عليه‌السلام من كشف حولها حين يقول الإمام علي عليه‌السلام : « لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم ، فجهلوا حقه ، واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله » (٢) ، وفي الجمع والتأمل ، بين قوله تعالى في الآية الآنفة وبين ما جاء به الإمام علي عليه‌السلام حول التفصيل في ذات الغرض ، ونلاحظ استمرار الإرث البشري الذاكراتي وتقلبه

__________________

١ ـ البقرة : ٢١٣.

٢ ـ انظر نهج البلاغة : الخطبة ١.

٤١

بين الشعوب ، إلى أن يصل عند علماء النفس والفلاسفة إلى القول بالارتباط الضروري الكوني ، وبأنّ الميول لها منابع فوق الطبيعة ، وأن الإنسان مجهز سلفاً بغرائز ودوافع مختزنة في ذاته منذ المرحلة الجنينية ، نصل إلى أن الجنس البشري يشترك بعناصر من الحنين تتشابه فيما بينها ، وهذا الحنين إلى شي ما يظهر بين الحين والآخر ويربط ما بين الأجيال.

ويمكن التقاط بعض مميزاته في الإبداع أكثر من المجالات الأُخرى ، كالفن والشعر مثلاً وأصناف أُخرى من الأدب ، وهنا نجد كلاماً لـ « اليوت » الشاعر والناقد الأميركي ، يقول : « لا شاعر ولا فنان يملك معناه الكامل لوحده ... أن الذي يجري عند إبداع عمل فني جديد ، هو شي ما يحدث بشكل متزامن لكلّ أعمال الفن التي سبقته » (١).

ويرى أن وتراً ما يربط وبشكل مستمر لا ينقطع بين جميع ما ينتج عن إبداع ، وهو لا يخضع هذا القول لعنصر الزمان ، بمعنى أنه لا يقصد تاريخاً معيناً ، بل يجري هذا القول على جميع النتاج الإبداعي البشري ، عند الكلّ وليس عند فئة من الناس ، وهذا مفاده أن التجربة الإنسانية جمعاء تشترك في صياغة الإبداع ، ويتشكل دائماً ذاك المعنى الذي لا يكتمل أبداً ، فالإضافة الإبداعية تعطي جديداً ، لكنها

__________________

١ ـ مقالات منتخبة ، ت ، س اليوت. ط لندن ص٢٨٩ ( النسخة الإنجليزية ).

٤٢

لا تختم الإبداع ، وهذا فيه الكثير من الصواب في رأينا ، فالتراث البشري يمثل شراكة إنسانية ، ويتنوع فيه العطاء ، لكنه في المحصلة هو المشكّل للذاكرة ، وهنا مكمن أهميته ، ليعود تدريجياً إلى بدايات الناس ، ثم يعود إلى العلاقة التي يشترك فيها العمق البشري النفسي بالإبداع ، فالكل يربط بين النفس والشعر مثلاً ، ليقولوا في النهاية : إنّ المساحة التي يتحرك فيها الشعر هي مساحة فوق المألوف (١) ، وهي ذاك المجال النفسي الذي لا يخضع في جوهره لقوانين الزمان والمكان ، إلاّ بالمقدار الذي تحكمه فيه آليات الجسد ، وهو بخلاف ذلك قد يحار المرء في المنشا أو المكان الذي يصدر عنه ، ولهذا الكلام مكان في آراء الشعراء والبلاغيين والنقاد العرب منذ القديم حتى العصر الراهن ، ونظن أنه إلى المستقبل يمتد أيضاً ، وربما دلّ مؤسس المذهب ( السوريالي ) في سورية على ذلك عند قوله : « ان العقل الباطن يحاول دائماً أن يوجد تلاؤماً بين جميع العناصر التي تعيش مجتمعة فيه ، وتنفرد إحدى هذه المحاولات بتمثيل حالة إنسانية عامة ، تنبثق من الفرد وكأنه كل ما مرَّ وكل ما سيأتي من أجيال » (٢).

__________________

١ ـ للتوسع في هذا المجال ، يرجى الرجوع إلى كتابنا ، جدلية النفس والشعر عند العرب ، ط دار يعقوب دمشق ٢٠٠٠ ، عدة أماكن ، وبالخصوص ينظر بحث تحت عنوان في النفس ( الروح ) والشعر.

٢ ـ مقدمة سوريال ، أورخان ميسر ، ضمن نظرية الشعر ، محمد كامل الخطيب ط١ ، وزارة الثقافة ١٩٩٧ ، مرحلة شعر ق٢ ص٧٠١.

٤٣

فإذا كان الإبداع يجسد هذه الحركة المترامية الأطراف بين أزمنة الناس ، وهي تملك هذه القدرة على تمثيل هذه الحالة ، فإن أكثر ما يقربها من الحقيقة انتماؤها إلى ما يمكن أن نطلق عليه البعد الفطري في الإنسان.

قوة الفطرة في معرفة الإمام

إنّ هذه القوّة الموجودة في الأعماق والتي يشترك فيها أفراد هذا الجنس ، هي قوة ذات بعد فطري ، ولعل هذا البعد هو الذي يعوِّل عليه عندما يشتد البحث عن الهدف الذي تبحث عنه أو تنزع نحوه الميول والحاجات الدفينة في أعماق الناس.

وانّنا سوف نثير هنا في نفسية القارئ الكريم رغبة أو شهوة معرفة ما تؤول إليه حقيقته ، أياً كان الدين الذي يعتنقه ، أو المذهب أو التيار ، لأن الواقع الذي تجري وراءه هذه الفكرة ، هو مجال الإنسانية وليس مجال الفئوية أو الفردية.

ونحن سوف نعتمد على هذه القوة في السؤال عن ( ما هو الإمام ).

وبداية نقول أن هذه القوة مزوّدة بالقدرة على المعرفة التي تجتاز ظواهر الأشياء والنفاذ إلى ماهيتها ، فيما لو تشكلت غير آبهة بالشوائب ، وبمعنى آخر : فيما لو أمكن إزاحة ما يعلق فيها من

٤٤

تراكمات تسدل عليها طبقات من الحجب ، بحيث يصعب معها تحديد الغاية الحقيقية التي تهفو إليها.

وهذا البعد في الجوهر يساوي العقل الذي يصل من خلال الخبرات إلى تلك المقدرة على الحكم ، والفصل بين ما هو نافع وما هو ضار في الحقيقة ، فبوسع العقل وحده في بعض الأحيان أن يتخطّى حدود التجربة ، فينفذ إلى جواهر الأشياء ويقف عليها كما هي موجودة في الحقيقة بصورة مستقلة عنا ، فإن مهمة العقل الوصول بالمعرفة إلى الوحدة المطلقة النهائية (١).

لكن أليس العقل هو ميزة الإنسان! أليس جميع الأسوياء يمتلكون هذه القوة! إذن فما هو الفارق بين الناس في بلوغ هذه المعرفة ، وفيما يختلف الكل ، كل من وجهته؟

وإذا كان عند « هيغل » يقف العقل على الوحدة الداخلية العميقة للجوانب المتضادة ، ويتيح بذلك إمكانية معرفة الموضوعات في عيانيتها وكليتها (٢). فما هي الموانع من بلوغ الهدف؟

لم تحن الإجابة عن هذا السؤال بعد ، لكن نود أن نشير إلى أنّ الخطاب الإلهي في كل الأحوال ، يتّجه نحو الجوهر الإنساني السليم ، أو الأكثر سلامة ، ذاك الذي يعي ويدرك ويمتلك خاصة سبر

________________________

١ ـ المعجم الفلسفي ، م. س. ص٩٢.

٢ ـ نفس المصدر : ٩٢.

٤٥

ومعرفة أغوار الأشياء ، ويمكن أن نجمله هنا بمصطلح ( النفس ) الذي يرسل إليها الخطاب القرآني ، ومجمل أنواع المخاطبات الإنسانية ، أي تلك القوة العاقلة التي تتمتع بالفهم والفكر والمشاعر ، وهذه القوة لا مجال لمعرفتها أو التعرف عليها عبر الأدوات التي تختبر بها القوانين والأنظمة ، كالكيمياء والطاقة والتشريح وما إلى ذلك ، لا لأنّها ليست حقيقة ملموسة ، بل على العكس يمكن أن تكون هي الحقيقة الأشد نصاعة بين جملة أشياء هذا الكون ، لقدرتها على التأمل والخلق وترتيب المقدمات التي توصل إلى نتائج.

يقول عالم الأحياء « أدلوف بورتمان » : « ما من كمية من البحث على النسق الفيزيائي أو الكيميائي ، يمكنها أن تقدم لنا صورة كاملة للعمليات النفسية والروحية والفكرية » (١).

ومن خلال ما تقدم تبين لنا ، أن هذا الجوهر الإنساني لا يخضع في حركته الفكرية لأية سلطة ، أو لا توجد هنالك من سلطة تمنعه من البحث الدائم ، الذي لا ينفك محاولاً الإحاطة بكل تفاصيل الوجود ، عاملاً على إخضاعها لمتطلباته ، أو باحثاً عن فك رموزها.

هذا ما يؤكده عمل الإنسان المبكر على إنشاء علائق تقوم ما بينه وبين الموجودات الشاخصة أمامه ، بل تحرك الإنسان أعمق من

__________________

١ ـ العلم من منظوره الجديد ، روبرت اغروس ، جورج ستانسيو ، ت : كمال خلايلي ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد ١٣٤ ، ص٤٢ ـ ٤٣.

٤٦

ذلك وذهب نحو الماهيات وجرّد الأشياء من الأطراف الزوائد التي تلحق بها ليصل إلى اللب ، أو ليبحث عن الخالد ، ولا يعبأ كثيراً بالآيل إلى الزوال.

والذي يدفع الإنسان نحو هذا المنهج ، هو شغف أزلي يسوقه نحو معرفة بدايته ونهايته ، ويُجري أعماله على خلق ظروف ومناخات تلائم المراحل التي يقطعها ما بين هذه البداية التي يحياها ، وتلك النهاية التي ينحصر ختام تجربته فوق التراب بها ، بجميع ما يشوبها من الغموض ، وما ينتظره فيها من المجهول.

وبمناسبة هذا المجهول ، فإننا نعطف هنا على أن التعلق والحنين والبحث عن المجهول بالنسبة للنوع الإنساني ، هو أمر له علاقة ذات حدّين :

الحدّ الأوّل : هو الذي يخضع للتساؤلات عن المنشأ والولادة والبداية.

الحدّ الثاني : هو الذي تجري عليه جميع اختبارات عمره في طريق بلوغه النهاية التي حتمت عليه ، وهو يعرفها لكنّه يغض الطرف عنها.

والوازع والهاتف الداخلي الذي يحفز الإنسان على المعرفة يرتبط بشكل وثيق بالحدّ الثاني ، حدّ معرفة مجهول النهاية ، وذلك لما يتعلق به في مسيرته الحياتية من آمال تجعله لا يرغب

٤٧

بانقضائها ، مع علمه يقيناً بهذا الانقضاء ، ولهذا اوصى أمير المؤمنين عليه‌السلام برفض هذه الدنيا ، قائلا : « وإن لم تحبوا تركها ، والمبلية لأجسامكم ، وإن كنتم تحبون تجديدها ، فإنّما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه ، وأمّوا عَلَماً فكأنهم قد بلغوه ، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها ، وما عسى أن يكون بقاء من له يومٌ لا يعدوه ، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها » (١).

نتيجة

الواقع أنّ ثمة اتصال يربط ما بين هذه الحياة الخارجية ، وبين حياة أخرى يُسعى لا محالة لبلوغها ، وهي حياة أزلية محكوم بها الإنسان ، ومحتاج للتعرف عليها واكتشافها ، لكنّه يعترف دائماً أنه بمفرده لا يتمكن ـ مع ما يمتلكه من شعور عميق ـ من الوصول إليها ، وكذلك يندفع به هذا الشعور نحوها ، غير أن هذا الشعور يتدخل في تحديد مدى صفائه وخلوصه من الشوائب.

لكن الفرد قد يتمكن من الوصول إلى المواءمة بين ما يتلقاه من العالم الخارجي ، وبين ما يتدفق من أعماقه ، وهو هنا عند هذه المرحلة من التمكن سوف يستطيع يقيناً أن يلتقط إشارات دقيقة

__________________

١ ـ انظر : نهج البلاغة : الخطبة ٩٨.

٤٨

التأثير ، تصل به إلى معرفة مرضية بالمعنى الحقيقي لوجوده والغاية من هذا الوجود ، وبذات المنطقة من المعرفة هذه سوف ينجذب باتجاه ملاذه الذي يدرك بالفطرة المصفاة أنه هو القادر على حمايته من أي سقوط ، مثلما يحميه من مغبة الغفلة عن هذا الذي بلغه من المعرفة ، وهذا الانجذاب مسربل بعناية إلهية ، وهي في هذه الهنيهة بالذات معنية بهدايته ، وإنما تكون هذه الهداية في النتيجة هي انكشافه على إمامه الذي يحمي كليته في هذه الحياة.

هذا ما يمكن أن نسميه الوصول الفطري إلى معرفة الإمام!

وهنالك منحىً آخر يمكن تناوله هنا ، ونحن نؤسس للتعرّف على الإمام في الماهية والمفهوم بمعناه الإنساني الكلي ، أي فوق الفئوي أو القومي والعرقي ، وسنجد بعدئذ بحول الله الموقع الذي يشغله علي بن أبي طالب عليه‌السلام من هذه الدنيا برمتها ، والمنحى الآخر هو :

تلقي معرفة الإمام

بعد أن تجوّلنا في أرجاء المعرفة النابعة من الفطرة المتجسمة بالعقل من الجوهر ، يمكن أن نقترح طريقة ثانية ، وهي جزء متوازن في الشخصية وموازي لذاك الجزء المتمثل بالطريق الذي يستسلم من خلاله المرء إلى جملة التراكمات التي تشكلت مع تقادم الزمن عن طريق الوعي الجماعي أو الفردي بخبرات متلاحقة متتابعة ، وقد

٤٩

تبلغ قيمة هذه التراكمات الاعتبارية أن تصبح جملة من النظم والقوانين والمفاهيم ، وربما العادات التي تصير في معظم الأحيان إلى المكان المقدس الذي يصعب على النفس تنقية أطرافها منها ، لصعوبة اختراقها بعد وصولها إلى هذه المرتبة من القداسة.

لهذا نجد أنّ القرآن الكريم لا يلمح بإشارات عابرة إلى مثل هذه الظاهرة ، وإنّما يتحدث عن معتقدات اختلقها الناس اختلاقاً ما أنزل الله بها من سلطان ، ثم راحت الأجيال تتوارثها كابراً عن كابر ، سواء كانت من ذلك الذي يتوافق مع أهوائهم أم تلك التي تخالفها.

وفي نظر الإسلام بملاحظة الموقف القرآني من هذا المشهد ، فإنه يشكل أكبر العوائق التي تقطع الطريق على الصفاء الذي يقود نحو منازل رفيعة يطلبها ، بل يرجوها الأنبياء للناس ، ومثالاً لنا على ذلك : قوله تعالى ( حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) (١) ، وهو على لسان أولئك الذين صنع لهم آباؤهم من خلال مواءماتهم مع متطلبات ورغائب تلزمهم في سير أو منحى معين ، صنعوا لهم قيماً وأنظمة بلغت مراتب اعتقدوا أنها هي الدين الذي لا ينبغي الحيد عنه ، أو الافتراق منه ، فلم يمكنهم هذا الإدراك من تجاوزها أو صياغة تحوير آخر لها يساعدهم على السير باتجاه مناطق أخرى من الفكر ، تخوّلهم الاستجابة لما هو أكثر موضوعية وعلمية منه.

__________________

١ ـ المائدة : ١٠٤.

٥٠

ويجدر بي هنا أن أورد هذا المقتبس الذي يشير بوضوح إلى أنّ هذه الآية ومجمل الخطاب القرآني إلى بشر لم يستمعوا يقيناً إلى داعي الرحمة الإلهية ، واستأثروا بتراث آبائهم وأجدادهم ، دون عناء الفحص عن علم والتدقيق عن معرفة ، يلفتون النظر إلى أنه ليس كل ما يكسبه المرء من تعاليم هي بالضرورة مقدسة ، بخاصة تلك التي تصبح مع التقادم نظاماً ، أو قانوناً ، أو قيمة من القيم الاجتماعية.

والمقتبس من خطبة لأحد زعماء الهنود الحمر في أمريكا الشمالية ، وهو يعبر بشدّة ووضوح عن فقدان العدد الأوفر من الهنود الحمر ، نتيجة لاعتقادهم بأشياء يصعب الثبات عليها ، عندما تقتضي الضرورة الحفاظ على الإنسان ، حتى وإن كانت تلك الأشياء مقدّسة لا يجب المساس بها ، نستمع هنا إلى كلمات زعيم « دواميش chief eattie » والتي قالها أمام ممثل الحكومة الأمريكية سنة ١٨٥٨.

« يخبرنا الزعيم الأبيض أن ( الزعيم الكبير ) (١) في واشنطن يهدينا تحيات الصداقة والمشاعر الطيبة ، وذلك لطف منه ، فنحن من جهتنا أدرى بأن حاجته إلى صداقتنا ليست ماسة ، شعبه وافر العدد ، وأشبه بالعشب الذي يكسو البراري ، أما شعبي فقليل عديده ، أشبه بشجيرات مبعثرة في برية تنتهبها العاصفة.

لن أسهب في الحديث عن اندثارنا قبل الآوان ، ولن اندب ،

__________________

١ ـ رئيس الولايات المتّحدة الأمريكية.

٥١

أخوتنا شاحبي الوجوه (١) بتعجيلهم في حدوثه ، فالملامة تطاولنا جميعاً ( أرجو من القارئ الكريم الانتباه هنا! ) ربكم ليس ربنا ، ربكم يؤثر قومه ويبغض قومي ، إنّه يلف الوجه الشاحب بذراعيه الصلبتين الحاميتين ، ويحنو عليه ويأخذه بيده كما يقود الوالد ولده الغر ، لكنه نبذ أبناءه الحمر ، إذا كانوا أبناءه حقاً ، كذلك يلوح ، أن ربنا ( الروح الأكبر ) قد نبذنا بدوره.

ربكم يشد في أزر قومه كل يوم ، ولن يطول الأمد حتى تحفل بهم الأرض ، قومنا ينحسرون مثل مدّ سريع النكوص ، بلا إياب ، ورب الرجل الأبيض غير قادر على محبّة قومنا ، ولابسط حمايته عليهم ، أنّهم أشبه بأيتام لن يعثروا على معين لهم أينما ولوا وجوههم ، فكيف لنا أن نتآخا والحال هذه؟

نحن جنسان مختلفان افترقت أُصولهما ، وتخالفت أقدارهما ... دينكم كتبته أصابع ربكم الحديدية على ألواح من حجر ، خشية أن يغلبكم النسيان ، هذه حكاية لا يفهمها الرجل الأحمر ، ولا يتذكرها ، ديننا هو أعراف أسلافنا ، أحلام شيوخنا التي حباهم بها ( الروح الأكبر ) في سويعات مباركة من الليل ، ورؤى زعمائنا المنقوشة جميعها على قلوب أبناء شعبنا ... لكن ما لي أحزن على قدر قومي؟ قبيلة تتبع قبيلة ، وأمة تقتفي أثر أمة ، مثل أمواج البحر ، إنّه نظام

__________________

١ ـ لقب الرجل الأبيض عند الهنود.

٥٢

الكون ولا فائدة ترجى من الحسرة » (١).

وفي كلام آخر لزعيم آخر هو « الصقر الأسود » زعيم قبائل « سوك وفوكس » نجد الآتي :

« تطاير الرصاص من حولنا مثل طيور في الفضاء ، وكان الأزيز يخترق آذاننا ... خرّ المحاربون صرعى من حولي ، وأدركت أن ساعة الشؤم آتية ... شخصنا بأبصارنا إلى ( الروح الأكبر ) وقصدنا أبانا الكبير فتزودنا بالشجاعة ... دعونا إلى مجلس كبير وأوقدنا ناراً عظيمة ، نهضت أرواح أسلافنا فتحدثت إلينا وطالبتنا بالثأر لمظالمنا أو الفناء » (٢).

وفي أماكن متفرقة من النصوص ، نلحظ أنّ المعتقدات التي لم يتمكن أصحابها من التخلص من بعض الأخطاء التي سادت فيها ، قد قادت أصحابها إلى الهلاك ، فطريقة القتال الهندية طريقة مقدسة ويصعب تبديلها ، بحيث كان بإمكانه في البداية من شراء الرصاص ، لكن بقي الرمح والخنجر أو السكين هو سلاحه ، بينما الأبيض بحسب تعبيراتهم ، يمنحه ربه الحق في اقتناء آلات حرب مهولة!

كذلك لا يحق له أن يحفر الأرض! لأنها أمه ، بحسب ما يرد في

__________________

١ ـ من نصوص لهنود أمريكا الشمالية ، ت : صبحي الحديدي ، الكرمل ع٤٥ ، ١٩٩٢ ، ص٨٣ ـ ٨٤.

٢ ـ م. ن. ص. ٨٥ ـ ٨٦.

٥٣

النصوص ، يقول « ووفوكا » : تريدونني أن أفلح الأرض ، هل أمتشق خنجري وأفرق صدر أمي!! فإذا مت فهل ستضمني إلى صدرها كي أستريح ، تريدونني أن أحفر بحثاً عن الحجارة ، هل أحفر تحت جلدها بحثاً عن عظامها؟! فإذا مت فهل أستطيع دخول جسدها كي أولد من جديد ، تريدونني أن أحصد العشب وأصنع القش وأبيعه لأصبح ثرياً مثل الرجل الأبيض ، فهل أجرؤ إلى قص شعر أمي ... الأموات سيبعثون من جديد ... ينبغي أن ننتظر هنا في بيوت آبائنا ، استعداداً للقائهم من صدر أمنا » (١).

قمنا بنقل بعض هذه الأفكار والمقبوسات بغية إيضاح أمر في غاية الأهمية ، وهو أنّ القصائد والنظم وبعض العادات الاجتماعية التي إن دخلت مقام التقديس ، فإنّ صعوبة محاكمتها لا تكمن في المساس بهذا المقدس وحسب ، لكن في أنّ معتنقيها قد يصلوا إلى حيّز الفناء دفاعاً عنها ، وهذا ما لا يريده القرآن في الواقع.

ومن هنا نجد أن القول إنّها ما هي ( إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ) (٢) ، يدعوا إلى الانتباه أن قدسيتها لم تأت من الله ، وإنما أتت من تراكم عادات ، فهي بذلك ضارة ، والنفع كل النفع بالالتفات إلى داعي الله.

__________________

١ ـ نصوص الهنود ، م. س. ص٨٩ ـ ٩٠.

٢ ـ النجم : ٢٣.

٥٤

في عدد من المواضع التي تقرأ من هذه النصوص ، يشعر القارئ بالأسى نتيجة الظلم الذي يقع على الهندي الأحمر ، ويشعر بمدى احتقار الذين يغزون بلاده له ، ولكن الأمر الأشد إيلاماً ، هو أنهم من الزعيم وحتى أصغر المحاربين ، يخسرون المعارك بأشكال متتالية ، ويفنون بأشكال متتالية ، كما عبر أحدهم مثل موج البحر ، لكنهم يلتصقون بعدم التخلي عن ذاك الذي شكل مقدساً ، ولا نقصد أي معنى هنا مخالف لروح الأديان ، إنما لا نعتقد أنّ الله سبحانه يتخلّى عن مخلوقاته ، مثلما قرأنا في ورقة زعيم « دواميش » ، وإنما الذي يجري هو التقيد بنظام الحرب وفق المنهج الذي رسمه الشيوخ القدماء ، وهو بلغ كذلك رتبة التقديس ، فاستغل الأبيض بقاء هذا الإيمان وراح يفني القبائل.

إذاً لقد شكلت هذه الظواهر عائقاً كبير في طريق الصفاء الذي يقود نحو منازل رفيعة ، يتخلصون مع الالتفات إليها مما هو ضار بالضرورة وينجون ـ أي جميع الناس ـ وليس فقط هذا القوم أو ذاك ـ من الذي أشار إليه القرآن الكريم في مقام توارث العقائد بدون هدىً حين قوله : ( قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ) (١) ، بل هي شاملة للعنصر الإنساني جميعاً.

وإذا دلّ تمسك المجتمع بما لا تحمد عواقبه ، فإنّما يدل على

__________________

١ ـ المائدة : ١٠٤.

٥٥

صلابة الجدار الذي شيّد فيما بين الثبات على نمط أخذ شكل التقديس ، وبات معه التغيير أمر في غاية التعقيد والصعوبة ، وما بين تطلع الذات وطموحها الذي تصعب الإحاطة النهائية به ، ويصعب حصره.

وهذا الجدار من الصلابة بحيث يستمر مع الأجيال تتوارثه وتقدسه ، وكلما أوغل في القدم كلما ازدادت قسوته وقوته ، وازدادت صعوبة اختراقه ، ويقول القرآن الكريم على لسان أنصار هذا الجدار : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) (١).

ونعتقد بصدد عدم الخروج عما يورثه الآباء للأبناء ، وبالخصوص في مسألة العقائد والقيم التي تعتنقها الفئات والمجتمعات أحياناً ، أنّها تبلغ مع التقادم من الرسوخ ما يجعل صاحبها غاضاً بصره عن أي مناقشة تؤثر في بنيتها ، خصوصاً إذا كان ثمة سؤال يحفر في أعماقها ، ويصل مع هذا الغض إلى الانغلاق أمام أية مكاشفة محتملة ، بل ويشكل حاجزاً دفاعياً غير قابل للتسامح أو الأخذ والرد ، لماذا ..؟ لأن هذا الكائن البشري ما عاد يصغي إلى ندائه الداخلي ، وبالتالي فقد أراح نفسه من مشقة البحث وعناء التطلع إلى ما يمكن أن ينشئ جسراً أكثر حيوية وواقعية ، بين واقعه وبين ما تصبوا إليه

__________________

١ ـ الزخرف : ٢٣.

٥٦

نفسه بفطرتها.

وقد انهمك في الأشياء التي توفر له مساحة العيش غير القلق بحسب ما يظن ، بيد أنّ الله سبحانه لا يتجاوز عن إنسان غير آبه بما سيؤول إليه حاله نتيجة عدم بلوغه هذا الاطمئنان عن طريق إعمال جميع ملكاته الواعية ، وعدم الاكتفاء بما ورثه عن آبائه أو غيرهم ، مهما كان حظ هذا الميراث من الصحة كبيراً ، لأن مصيره لا يرتهن بمن سلف ، إنما هو مضطر لأن يذهب في تأمله ، باحثاً عن حقيقة انغمست في أعماقه ، مستجيباً لندائها دائم التنبيه ، وانه بغير هذه الاستجابة وبسوى هذا الطريق سوف ينطبق عليه فيما نرى قوله تعالى : ( لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين ) (١).

هذا الجانب الذي ركب جراء جملة العناصر التي من أهمها : الرغبة في الإجابة على الأسئلة القلبية ، والتي غالباً ما تجد لها نصيراً في الحياة العامة التي يعيشها الناس ، وبالخصوص عندما يدرك الموت أحد الأشخاص ، فيقف الآخرون وقد أطبق عليهم العجز من تفسير هذا المشهد! ، ومنها الاستئثار والتمسك بالموروث كأحد أهم الإجابات على هذه الأسئلة ، بالطبع إن هذه المواصفات ، والموروثات تجد لها سدنة يحمونها من الزوال ويعملون على ترسيخها في عقول الأجيال.

__________________

١ ـ الأنبياء : ٥٤.

٥٧

وقد التفت إلى هذه الظاهرة العلماء ، وعلماء الاجتماع بالخصوص ، ويمكن أن ننظر إلى عالم اجتماع عربي بكّر في تشخيص مثل هذا الأمر.

يقول الرحّالة وعالم الاجتماع « ابن بطوطة » (١) : « إن المجتمع مسرح لطائفتين من الظواهر :

الطائفة الأولى : هي الظواهر الطبيعية ، والمجتمع بصدد هذه الظواهر لا يخلقها ولا ينشئها ، ولكن يجدها مستقلة بطبيعتها.

والطائفة الثانية : هي الظواهر الاجتماعية ، والمجتمع بصدد هذه الظواهر يخلقها خلقاً وينشئها انشاءاً ، وهي لا توجد منفصلة ، بل تكون متماسكة الأجزاء ، ووحدة حية تتفاعل عناصرها ، وتشتبك آثارها ، فينتج عن ذلك ما نسميه بالدوافع والتيارات الاجتماعية » (٢).

وإذا دار البحث حول الإنسان والمجتمع ، فذلك لقراءة البناء النفسي الذي يربط المرء بالعالم ، ويربطه بذاته أيضاً ، هذه الذات التي تشغل مساحة وجوده وهي التي تتمكن من معرفة الخيط الذي

__________________

١ ـ ابن بطوطة ، محمد بن إبراهيم الطنجي ( ١٣٠٢ ـ ١٣٧٧ ) من الذين بكّروا في دراسات المجتمع ، وله أسفار كثيرة ، دوّن بعد أسفار دامت ثلاثين عاماً كتاباً ضمنه خلاصتها أسماه ( تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ).

٢ ـ معجم علم الاجتماع ، دينكن ميتشل د : إحسان الحسن ط٢ ، دار الطليعة ـ بيروت ١٩٨٦ ص١١٦.

٥٨

يوصلها بغاياتها ، مثلما نعوّل عليها في فك رمز هذا البحث الداخلي السائر لا محالة بدافع الفطرة نحو شأن كوني تعرفه الفطرة وتهتدي إليه ، وهذا ما يشكل هدفاً حقيقياً لا دخل للأنظمة الاجتماعية بها إلاّ من قبيل فرض بعض القوانين والقيم التي تغلفها ، الأمر الذي يجعله خاضعاً في الغالب ـ ما لم يتخلص بكفاءته ـ لهذه المفاهيم التي تعيق قدرته على بلوغ صفاءه ، لكن هذا بدوره يحتاج من الفرد بذل مجهود مضاعف عندما يذهب نحو فطرته الأولى ، المقام الرفيع الذي يخوله الانكشاف إلى حقيقة الإمام.

إن هذا جانب مركّب في طبائع الناس ، يجعلنا نعتقد أنه من مكامن الحجاب الحقيقي الذي يحول دون بلوغ درجة من الشفافية يُلامس معها الكنه ، ويُتعرف عليه وهو هنا عند هذه المنطقة ينجذب نحو ملاذه ، ويلجأ إلى إمامه عياناً.

الخلاصة

نخلص من هذا البحث إلى النتائج التالية :

ـ إن النفس الإنسانية بما هي ذات متسعة الأبعاد عميقة المعنى ، يدور حولها محور هو الأهم في الرسالات السماوية ، وقد بنيت مختلف التأملات والأفكار على أسس تبحث في معرفتها ، ومن هذه المعرفة ينطلق الإنسان إلى معارف أخرى غيرها ، وإنّ عدم معرفتها

٥٩

يلزم منه بالضرورة الجهل في سواها ، يقول : « صدر الدين الشيرازي » : « إنّ النفس مجمع الموجودات ، فمن عرفها ، فقد عرف الموجودات كلها » (١).

فمنها إذن يتم الانطلاق إلى معرفة العالم الذي يقودها نحو العالم الروحاني الذي فيه تجد ضالتها ، وعلى أعتابه تنكشف لها حقائق ميولاتها الأزلية منها والآنية ، وهناك يعرف تعلقها.

وعند هذه النقطة سوف لن يحتاج المرء إلى كثير مشقة ، حتى يتعرف على ما هو ومن هو الإمام ، منبثقاً من هذه المعارف ، من داخلها ، حتى يتمكن بعد ذلك من المصداق الخارجي للإمام ، والذي يتجسد عياناً في أشخاص قد اصطفاهم الله تعالى ، لما في ذواتهم من ملكات اهلتهم لهذا الاصطفاء ، ويكون الإمام في هذه الحالة ، هو ملاذ النفس ومركز طمأنينتها ملتحماً مع كينونتها ، معبراً عن حاجة الفطرة السليمة إليه ، متجسداً ومتحققاً عياناً بمصداق إنساني موجود على الأرض.

فهو كامل ، لأن الإنسان الذي بلغت نفسه هذا الصفاء ، أحس بتعلقها بالجلال والجمال اللذين لا يخامرهما النقص.

ولمّا كانت الغاية الواقعية هي التعلق بالكامل ، أبت النفس أن

__________________

١ ـ انظر : كتاب أسرار الآيات : صدر الدين الشيرازي ، دار الصفوة بيروت ط١٩٩٣ ، ص١٣٦.

٦٠