معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

الفصل الأول : الإمامة ماهيتها ومعناها

يجد الباحث في معرض التساؤل عن ماهية الإمامة في التراث الإسلامي إجابات متعدّدة ومتنوّعة :

ـ منها من حملها على أنّها أمر يختص بالزعامة والقيادة أو الرئاسة.

ـ ومنها من تناولها على أنها فكرة وأدخلها حيّز التصورات التي تبحث لها عن تصديق.

ـ ومنها من سار بها نحو التأملات الفلسفية التي تحتمل في تحققها الخطأ مثلما تحتمل الصحة.

ـ ومنها من رآها شأناً إلهياً كالنبوّة ، ليس للناس من قرار فيه.

ـ وهناك من نأى بها عن فنّ المعقولات وسار بها نحو الفقهيات ، يريد بذلك إدخالها منطقة الاستنباط ، وإخراجها عن دائرة الأُصول التي يبحر العقل وراء إدراك كنهها ، ويرتفع بها عن مقام المعاملات ، ليصير إلى فلسفة المعرفة.

٢١

لكن أصحاب هذا الرأي الأخير لم يدركوا أن الطريق الذي تبحث فيه مسألة الإمامة ذات منحى عقلي تأملي ، أكثر من كونه استنباطاً لحكم ، أو إقراراً بحلال وتحريم لحرام.

ويرد على سبيل المثال هنا لا الحصر كلام الغزالي في معرض شرحه لموقفه من موضوع الإمامة حيث يقول : « اعلم أن النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيات ، ثم إنّها مثار للتعصبات والمعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها وإن أصاب ، فكيف إذا أخطأ! ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات بها ، أردنا أن نسلك المنهج المعتاد ... » (١).

لا يخفى أن المعتقدات شيء والفقهيات شيء آخر ، وللغزالي باع في الأُمور الكلامية التي تصب في فلسفة العقائد ، وربما داخل هاتين الإشارتين نجد مساحة للتحرك ، مفادها أن إقصاء الإمامة عن أُصول العقيدة وإدخالها في باب الفقه ليس في غاية الإحكام ، بل هو مجال لاستمرار البحث فيها ، ولا تلتزم مفردة » اعلم « التي يستخدمها المعلمون المسلمون قديماً كختام أو تمام للفكرة ، وإنّ على المهتم أن لا يعتبر ما جاء هنا هو ذروة الصواب ، بل كما أسلفنا

__________________

١ ـ الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي : ٢٣٤ ، وعنه السبحاني في الملل والنحل ١ : ٢٩٥ ، والواقع أن الكلام حول هذا الأمر كثير في التراث. ويمكن الرجوع إلى آراء المتكلمين المسلمين للتوسع في مفهومهم للإمامة فهناك عدد كبير منهم لم يخرج عن رأي الغزالي كثيراً.

٢٢

يجب أن تتحرك المسائل ضمن مضمار الأخذ والرد ، ولا تقفل الأبواب أو تقطع الطرق على الراغب في الاستزادة.

ولا ندري إنْ كانت تنفع مفردات مثل « المعرض عن الخوض فيها أسلم من الخائض فيها » ، أو « إنها مثار للتعصبات « ، أو « مثار للفتن والشحناء » (١) يُقصد منها الكفّ عن البحث في الإمامة وإقامتها ، أم يقصد فيها إثارة ذهن الباحث نحو جلاء مثل هذه الحقيقة! وأرى ترجيح الثانية ، والسير على هذا الترجيح.

ويتضح لي أنّ الإمامة مفهوم جميع ما تقدّم ، وعلى هذا المفهوم تترتب النتائج التي تكون أكثر شمولية ، وأشد تعبيراً من المناصب الإدارية أو السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية ، لكن لبلوغ هذا المفهوم يحتاج الراغب لمزيد من العناء ، ولا نقصد بالعناء هنا المشقة من أجل الوصول إليه ، لأنّ الإمامة والإمام أمر لا ينبغي معه الغموض ، مثلما لا يجب أن ينشب حوله خلاف من نوع ذاك الذي يقسّم الناس إلى فرق وأحزاب ، إنّما الواجب أو الضروري ـ بمعنى الحتمي ـ أن يكون الإمام هو الجامع والرابط بين الناس ، الجاذب لهم والموطد لأواصر التقارب والتلاحم فيما بينهم ، هذا هو الأمر الطبيعي والسليم ، الذي يرسل الله تعالى الأنبياء عادة ويزودهم بالأوصياء من أجله.

__________________

١ ـ انظر غاية المرام في علم الكلام للآمدي : ٣٦٣.

٢٣

أمّا مخالفته ، فإنّها تدخل في باب مخالفة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، الأمر الذي يلزم عنه بالضرورة شعور الإنسان بالضنك وقسوة العيش ، لأنّ الإعراض عن الفطرة الإلهية والإعراض عن سبيل الله هو الذي يورث المشقّة ، وهو الذي يجعل الإنسان يتخبط على غير هدى.

وليس المقصود بضنك العيش هنا : الاحتياج والفقر ، أو الشعور بالظلم وما شابه ذلك ، إنّما المقصود هو اغتراب النفس وابتعادها عن راحتها وطمأنينتها بالدرجة الأولى! فكم من موسر ، وكم من جبار ، وكم وكم من أولئك الذين يتصور الناس أنهم بلغوا رتبة السعادة في الحياة الدنيا ، تجدهم في حقيقة أمرهم يعانون من آلام القلق والاضطراب ، وعدم الاستقرار والسكينة.

ويجد المتابع للمنهج القرآني أنّ ذروة الدعوة لديه منصّبة على إخراج هذا الكائن البشري من مثل هكذا ضنك ، والدفع به نحو مدارج السعادة ، لكن هذا لا يتحقق بحسب الطرح الديني على أساس حلّ المشكلات الحياتية اليومية كما يتصور البعض ، وإن كانت الراحة شي حاسم في هذه الحلول ، وإنّما يتحقق على أساس فكّ رموز الوجود والتعرّف على معناه ، الأمر الذي يوطّد لمعرفة الغاية من ورائه ، وعند هذه المعرفة بالذات تستوي اللذائذ الدنيوية مع الآلام ، لتشكّلان بالنسبة للعارف بهذه الحقيقة بُعداً مادياً ليس هو

٢٤

المقصود من وجوده ، فيتألق في السير نحو بعده الحقيقي ، الذي هو جوهر ذاته.

وهنا عند هذه النقطة تكمن أهمية معرفة الإمام ، بحسب ما جاء عن الإمام الرضا عليه‌السلام في معرض وصفه للإمام ، انّه » معدن القدس والطهارة « معدن القدس والطهارة » (١).

ولا نخال أمراً أكثر عسراً وأكثر إيغالا في التشويش من ذاك الذي يجرف المرء نحو الشكل وينأى عن المضمون ، لذلك وجدنا هذا الجدل وهذا الصراع ـ إن صحت العبارة ـ حاصل بين من يعتبر أنّ الإمامة أمر دنيوي يمكن أن يقوم به ويتكفّل بتنفيذ مهماته شخص يتمتّع بصفات معينة أو قدرات أهّلته أن يتربّع على كرسيها ، حتى يدير شؤون الناس ويمارس زعامته وإمكاناته في رئاستهم ، وبين من يعتبرها شأناً إلهياً صرفاً يجعله في من يختار من عباده ، ولا يكون بعد ذلك من هدى واقعي بمخالفة هذا القانون.

والحديث الآن حول مفهوم الإمامة ، ثم نتحدث بعد ذلك عن ماهية الإمامة.

ما هو المفهوم

يرمز المفهوم عند المناطقة إلى ما ينتزعه الإنسان من الخارج من

__________________

١ ـ انظر : الكافي للكليني ١ : ٢٠٢ ، كتاب الحجّة.

٢٥

حقائق الأشياء مشكّلا بذلك صورة ذهنية لها (١) ؛ وهو الشكل المنطقي الذي تبنى من خلاله باقي أشكال الفكر ( الحكم ـ القياس ) ويتيح التعمق في معرفة الواقع أبعد ممّا يسمح له الإحساس والإدراك والتصوّر وهو في النتيجة » خروج عمّا يعطى لنا مباشرة من التجربة الحسية » (٢).

ونحن عند اختيارنا لهذا التعريف ، رمينا إلى ما يقود الفكرة نحو عمقها ، للخروج بها عن معطيات الظاهر ، بالطبع بعد أن أخذت شكلها وتسميتها بالنسبة للتجربة الحسية التي ندركها كما أدركها من سلف ، لأنّ الشيء لا يُعد موجوداً بالنسبة لشعورنا إلاّ عندما يلد فكرة تصبح برهاناً على وجوده في عقلنا ، وعندما يتيح ذلك يصبح حضوره وجوداً حقيقياً ، وحينئذ تنكشف شخصيته ويوضع بالتالي اسم يطلق عليه ، تلك هي عملية الإدراك (٣).

فالاسم هو أول تعريف للشيء الذي يدخل نطاق شعورنا ، وهو تصديق على وجوده ، وهو بهذا الوضع أوّل درجة من درجات المعرفة وأوّل خطوة نخطوها نحو العلم ، وإذا كان الاسم بهذا المعنى هو الدرجة الأولية في المعرفة ، فإنّ المفهوم هو الدرجة الأوسع

__________________

١ ـ محيط المحيط ، مكتبة لبنان ، ص٧٠٤.

٢ ـ المعجم الفلسفي المختصر : توفيق سلوم ، ط موسكو ص٤٧٠.

٣ ـ انظر كتاب الأُصول الفكرية للثقافة الإسلامية ، محمود الخالدي ، دار الفكر ، عمان ط١ ، ١ : ٣٠ ، وما بعدها.

٢٦

والأشمل ، وهو الذي يمنح لهذا الاسم معناه.

لذلك عند إطلاق تسمية ( الإمام ) على الرجل الذي يتزعّم أو يقود نجدها لا تصلح لأن تبلغ مفهوماً! بمعنى أن الأمر هنا هو انطباق المصطلح على من يقوم بتنفيذ أمر ما ، وهذا لا يقود نحو تجريد الاسم وبلوغه المعنى الذي يتيح التعمق وبلوغ الحقيقة التي هي شي غير القيام بالفعل ، وسوف نجد مثالا على هذا في قول ابن حزم مثلا « إن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١).

وينبغي علينا أن نفرق تماماً بين القائم بالعمل على أنّ هذا العمل أمر موكل إليه من قبل الناس ، لبراعته فيه وتمكنه وفق مؤهلات تملّكها ، أو سلطان خوله القيام عليه ، وبين الإمام بالمفهوم العميق الذي أورده الإمام الرضا عليه‌السلام عند وصفه للإمام ، فهو لا يزجي إليه مهمة تكون ضمن إمكانات العاديين من الناس ، وإنْ اشتمل بالعرض عليها ، وإنّما هو يتعمق إلى جوهر الإمامة ، فيقول عليه‌السلام : « الإمام عالمٌ لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة ، والعلم والعبادة ... نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة ، عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله عزّ وجلّ ،

__________________

١ ـ الفصل بين الملل والنحل لابن حزم ٤ : ٨٧.

٢٧

ناصح لعباد الله ... » (١).

إذن بعد النظر إلى وجهة ابن حزم ، التي يمكن أن تعبّر عن معظم من تحدث حول الإمامة ووظائفها من الخارج ، والتأمّل في توصيف الإمام الرضا عليه‌السلام وما يتفرّع عنه من آفاق تقود نحو الكشف عن حقيقة الإمامة ومعناها وجوهرها ، نجد لزاماً قبل الاستغراق في متابعة هذين المنحيين في التناول ، أن ننظر في الجذر اللغوي لكلمة ( إمام ) ، الأمر الذي يساعدنا على تخطّي الكثير من صعوبات البحث.

الإمام في اللغة

جاء في الصحاح : « هو الذي يقتدى به » (٢) ، وكما هو واضح هنا فهي تفيد التعميم ، ولا تختص بتفصيل يقود إلى معنى دقيق وحقيقي ، فالذي يقتدى به يمكن أن يكون شخصاً يتمتع بالفطنة والذكاء ، ويمكن أن لا يكون كذلك ، ويمكن أن يكون آلة ، ويمكن أن يكون مَعلماً من معالم المنفعة ، بالطبع نحن نعلم أنّ المقصود هنا إجمالي ، لكن حديثنا يجب أن يعطف على الفور على رغبتنا في إظهار المفهوم ، لذا تقتضي الدقة أن يحاط بجميع أطراف التعريف ، حتى يصار إلى انتزاع المفهوم الذي يتيح التعمق كما سبق.

__________________

١ ـ انظر : الكافي للكليني ١ : ٢٠٢ ، كتاب الحجّة.

٢ ـ الصحاح للجوهري : ٥ ، مادة إمام.

٢٨

وجاء في لسان العرب : « أم القوم وأم بهم : تقدّمهم ، وهي الإمامة ، والإمام : كل من أئتم به » ، ويفصّل ابن منظور هنا فيقول : « يكون الإمام رئيساً كقولك إمام المسلمين ، ويكون الإمام الطريق الواضح ، ويكون الدليل ، ويُئِمُ : يُقصد » (١).

وأورد من محيط المحيط في إظهار معنى الإمام من الناحية اللغوية قوله : « فالإمام هو قيم الأمر ، والمصلح له » (٢).

وقال الراغب : « والإمام المؤتم به إنساناً كأن يقتدى بقوله أو فعله ، أو كتاباً أو غير ذلك ، محقاً كان أو مجملا ، وجمعه أئمة » (٣).

هذه الطائفة من التعاريف اللغوية تشير بأشكالها هنا إلى عدّة معان ، وإن بدت جميعها تبحث عن إجمال المعرّف وتحديده ، لكن لكل واحد منها فيما يبدو شكلا مستقلا إلى حدّ ما عن الآخر ، وإنّما في عمومها تشير إلى من يحمل صفة التقدّم والإمساك بزمام الأُمور بما فيها الزعامة ، أي رئاسة القوم والمرجعية العقائدية ، أي المرتكز الفكري والدليل الذي يحدّد الاتجاه.

وكذلك تفيد الإشارة إلى صاحب المقام أو المنزلة الذي يقصد لجلال معين ، وتظهر أيضاً أحد معانيها القيام بالأمر الاجتماعي ،

__________________

١ ـ لسان العرب لابن منظور مادة : أم.

٢ ـ محيط المحيط ، بطرس البستاني ، دار لبنان ، ط ١٩٧٧ ، ص١٦١.

٣ ـ المفردات لألفاظ القرآن الكريم للراغب الاصفهاني : ٢٤.

٢٩

والمحافظة على أُمور تم التوافق عليها عند ذكر كلمة ( قيّم ) أو ( مصلح ).

فقد أخذت هذه التعريفات بمحاولة الإحاطة بالهدف ، لكنها كما يلاحظ تخفق في إصابة كبد الحقيقة! وهذا الأمر ليس مستنكراً لدينا ، فالمعنى المقصود أوسع بكثير من العبارة ، لذلك يمكننا أن نعتبرها تمهيداً معقولا لإجراء اختبار موضوعي على مصطلح الإمام وفق المتّجه النفسي الذي نجريه هنا ، والذي نمهد له بالتالي.

الإمام في عمق النفس البشرية

إنّ ما تقدّم من البحث في التعريف والمفهوم ، يساعدنا على القول ، أنّ الإمام المرجو الإفصاح عنه خفي على الظهور ، بقدر ما هو واضح وجليّ في عمق النفس الإنسانية.

وسنحاول هنا أن نعمل على نقل هذا الوضوح من العمق إلى السطح بالمقدار الذي يمكننا من إزالة الحجب ، حتى تصبح الإشارة فيما بعد إلى حقيقة الإمام إشارة لا يشوبها غموض. وقد أمعنا النظر في الوارد هنا من تعريفات ، ولاحظنا أنّها تعطي تقريباً لغوياً للمفردة ، وفي عدّة أمكنة نلاحظ سيراً أشد عمقاً نحو إلحاح المفردة على إظهار معنى أكثر عمقاً ، وهذه حاجة ضرورية ، إذ أن التفسير اللغوي يعتني عادة بالإبلاغ عن الأمر أكثر بكثير من البحث في

٣٠

جوهره ومعناه الحقيقي. وإن الذي يساعد على ذلك فيما يبدو ، نسق آخر من أنساق التفتيش خلف هذه الحقيقة وسنجده هناك في عوالم النفس.

فثمة في عمق الإنسان ذلك التطلع نحو هدف تنشده نفسه ، وعندما نتحدث عن الإنسان فإننا لا نحصره بعرق أو قومية أو دين إنما عني منه مطلق الإنسان ، شريطة أن لا يكون فاقداً لقواه العاقلة الواعية. والهدف الذي تنشده النفس في عمقها يكاد يكون على درجة عالية من الغموض ، ولعلّ هذا الغموض من شأنه أن يجرفها نحو عدّة اتجاهات ، مع ملاحظة الاختلاف في طبائع البشر ، وشدّة أو ضعف الأحاسيس إنّما في الغالب وفي نهاية المطاف تحمل تلبية الحاجة المستقرة في أعماقها ، لأن الدأب والبحث سوف يصلا إلى تلبية لا بد منها ، تشعر معها النفس بشي من الاطمئنان ، بخلاف ذلك الاضطراب والقلق.

يقول أريك فروم : « لا يوجد إنسان ليس محتاجاً إلى دين ما ، ولا يريد تحديداً للاتجاه والموضوع الذي ينبغي له التعلق به » (١) يريد بهذا القول : إن الغرض الدفين في العمق الإنساني هو هدف يسير بالإنسان باتجاه تعلق من نوع ما باتجاه نداء يسحبه من

__________________

١ ـ البحث النفسي والدين ، أريك فروم : ضمن الإنسان والإيمان ، مرتضى المطهري ، منظمة الإعلام الإسلامي ط٢ ، ص٤٣.

٣١

أعماقه ، دون أن تكون لديه المقدرة على تجاهله ، وإن هو تجاهله لوقت أو لحال من الأحوال فإنه ينقذف ـ في لحظة معينة من داخله ـ شعور يجعله يضطرب متساءلاً عن فحواه ، فمتى قاده هذا الشعور إلى عقيدة أو دين أو إيمان من نوع ما فإنه سوف يسعى لأن يعبّر عنه بأيّ طريقة تتناغم معه ، وتشعره بانتهاء قلقه ، أو انتهاء شي منه.

فالنظر إلى الحقيقة الإنسانية من هذا الجانب العميق ، هو نظرة إلى الفطرة ، ولعلّ الفطرة وحدها هي التي تتكفل بتفسير هذا النزوع نحو الاتجاه الذي يلزم فكر الإنسان بالتجوّل في أنحائه.

الفطرة

لعلّ المقصود بالفطرة هنا : هي تلك الأهلية المتوفرة داخل النفس والتي تشير إلى أكثر حالاتها صفاءً ، قبل دخول وتراكم المعارف عليها ، وهي بهذا اللحاظ تعبر بصورة مثلى عن الاحتياجات التي تجذب نحو تعلّق الإنسان.

ومن المستحكم يقيناً أنّ التدين أمر غريزي ، أو فطري.

والتدين بأحد المعاني ، هو اعتقاد من نوع ما ، يستلزم فكراً مجرّداً من جهة ، ويستلزم أيضاً تعلّقاً عاطفياً من جهة أخرى.

وهو من هاتين الجهتين يحقق انسجاماً وتناغماً مع الإنسان ، بما يشتمل عليه ذهنه من أُمور تعمل وتسير نحو التجريد والبحث عن

٣٢

حقائق الأشياء وانتزاع المفاهيم الخاصة بها ، وإقامة البراهين والأدلة العقلية على نظريات تلزمه في حياته ، وبين ما تحتاجه النفس من اتساع وخروج خارج الأطر والحدود المادية ، بما يساعدها على سدّ بعض الثغرات التي تعتريها ، وتسبب لها الاضطراب والقلق.

ولعلّنا حين نتدرج في بحثنا هذا على النحو الذي يعطي ثماراً بعد الإحاطة بالغاية ، فإن هذه الثمار سوف لن ينالها من لم يتغلب على العوالق التي تهمين على النفس ، والتي تنشأ عادة من تراكم المعلومات التي يكتسبها الإنسان عن طريق التقليد وسائر الأسباب الاتفاقية ، والتي تترك لها آثاراً فيه ، ينفعل معها بما يلائمها (١).

ونحن إذ نتطلع إلى الإمامة ، فإنّنا ننظر في مفهومها وفي ماهيتها باعتبار الحاجة إلى معناها الذي تقوم عليه الدلائل ، عندما يصار إلى المفارقات التي تنسجم واقعيتها معها ، ورأت فيها أدواراً يؤديها هذا الكائن البشري أو ذاك ، لما يتجلّى به من ميزة ، أو فضيلة ، أو مكرمة ، أو ما شابه ذلك.

لذا فالمعرفة الإنسانية من جانب البعد التركيبي النفسي ، ومن ميدان السبر والتحليل الذي ينطلق منهما مفتاح الدخول إلى أغوار النفس البشرية ، وجدنا في هذا المكان مجالاً لقراءة الدافع أولاً نحو

__________________

١ ـ انظر : علي والفلسفة الإلهية ، السيد محمد حسين الطباطبائي : ٣٩ ، وما يليها.

٣٣

التدين ، ثم الغاية التي تتلو آياتها مفردات السير نحو مدرج الكمال.

وهنا نستعير هذا المقتبس من صاحب تفسير الميزان ، حيث يقول : « إنّ على الإنسان أن يتجرّد عن جميع معلوماته التي اكتسبها عن طريق التقليد » (١) يريد جلاء الفطرة وإظهار حقيقة النفس بدون شوائب ، وهو إذا بلغ ذلك عن دراية وعلم ، فإنّه يتحرّك سائراً نحو مراتب المعرفة الجوهرية الحقة ، والتي تقوده يقيناً إلى غاية سوف نصل إليها مع متابعة بحثنا حول التدين.

وإذا كان في علماء النفس من قال : « إن الدين غريزة في الإنسان » ، فإنّ هذا القول لم يفارق الحقيقة ، لا لأنّه صدر عن عارفين بواقعها ، وإنّما لأنّ الجاذب للنظر أنّ الأطوار التي مرّت بها البشرية منذ القدم ، وما تركته حضارات الأُمم السابقة ، يقطع الطريق على أُولئك الذين يقولون باختراع الدين الناتج عن حاجة الإنسان الظاهرية إلى قوّة يرهبها.

ومن المتيقن أنّ مثل هذه الحاجة ليست ظاهرية ، بل هي ـ إنما وجدت ـ للتعبير عن التعلق الكامل ، وليس عن التعلّق الناقص ، وهنا ينبغي لنا أن نعترف بأنّ هذا الدافع نحو التعلق بأيّ شيء هو ناتج عن حاجة ، لأنه لو لم تكن هنالك حاجة لانتفى وجود التعلق ، والأمر بهذا اللحاظ غير منقطع إلى حاجة دون سواها ، بل هو مسار تتابعي.

________________________

١ ـ المصدر نفسه مع بعض التصرّف.

٣٤

فإن ذهبت الرغبة نحو طعام مثلاً فإن مجرد الحصول عليه وتناوله يكفي لقضاء هذه الحاجة ، وبالتالي لا تكون هدفاً سامياً يتوجه إليه الإنسان بالكلّية ، وهكذا سائر الحاجات مما يمكن تلبيتها ، أو تحصيلها أو القبض عليها ، من قبيل المال والسلطان واللذائذ جميعها ، فإن إمكان الحصول عليها لا يجعلها هدفاً نبيلاً يستحق أن يسقط الشهداء من أجله مثلاً مع الاحتفاظ بما يبذله الإنسان من جهد ومشقة ، ومن أجل تحصيل هذه الحاجات ، وإنما الذي يستحق أن نحث السير إليه هو ذاك الذي يجعل الإنسان في لحظة من اللحظات باحثاً عن غاية غير دنيوية ، أي مندفعاً نحو إشراق تتحرك إليه جوارحه بلهفة ، وراغباً في صرف تعلقاته القلبية عن الغير ، متوسلاً صرفها نحوه (١).

ولا يمكن بلوغ مثل هذا الشعور إلاّ عبر التجرّد ، لأن شعوراً ينبع من حاجة تلح دائماً ولا تشبعها اللذائذ المادية ، هو ميل في الواقع نحو مطلق لا تقيده قيود ، ولا يكتفى منه ، ولا يستغنى عنه ، وهو بعدئذ ليس اختراعاً يصوب نحوه سهم الخطأ أو الصواب ، إنما هو الذي يضع ـ بعد التجرد ـ اللبنة الأُولى في مقام المعرفة ، وهو المقام الذي يشير إليه الإمام علي عليه‌السلام عند قوله في معرفة الله تعالى : « أوّل

__________________

١ ـ انظر : سر الصلاة أو صلاة العارفين ، الإمام الخميني ، تعريب أحمد الفهري مؤسسة الإعلام الإسلامي ، المقدمة.

٣٥

الدّين معرفته » (١).

وعلينا أن نقف عند هذه الجملة هنا لأهميتها ، فهي تشير بوضوح إلى أنّ المعرفة بذاتها على درجات ، ولسنا هنا بهذا الصدد ، وإنّما نلفت إلى أمر آخر ، وهو أنّ الإمام علي عليه‌السلام ، عندما قال : « أوّل الدين » ، لم يقصد به فقط الدين الإسلامي الحنيف ، وإن كان هذا الأمر مقصوداً بلا شك ، لكننا نستفيد هنا من إطلاقه لكلمة الدين أنّه يشير إلى ذاك الجانب من ذات الإنسان الذي يبعث له تلك الحاجة ، ويسوقه نحو التعلق.

وهذا ما قلناه عن ( غريزة التدين عند الإنسان ) ، وهذه المرتبة الابتدائية التي يحققها المرء بعد التجرّد الأوّلي ، ثم تليها المراتب التي يشير إليها عليه‌السلام تتابعياً : « وكمال معرفته التصديق به » (٢) ، وهي المسيرة التي يقطعها الباحث متدرجاً في إزاحة العوائق والحجب.

وإذا أردنا أن نلاحظ عن كثب الكيفية التي يتناول فيها هذه المراتب ، سنجده يوصل مراحل التطور البشري بعضها بالبعض الآخر ، وقبل أن نقف على هذه الحقائق التي سوف نفرد لها مكاناً من هذا الكتاب ، نود أن ننجز ما نمهّد به نظرياً لذلك.

والذي يبتدئ من هنا ، هو بلوغ منطق الميل الذي يحفز قلب

________________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣٦

الإنسان نحو هذه المعارف ، ونحن أشرنا إلى أنّ الإنسان هنا غير مرتهن بعرق أو قومية أو دين ، إنّما نقصد العنصر البشري الذي يستحكم فيه أمران : أحدهما غريزي ، تسير معه آلته الجسدية إلى منتهياتها ، والثاني عقلي ، ينطلق نحو المعارف والتأملات التي يحدث منها جملة منافعه وسواها في مسيرته الحياتية.

ولمّا كان التدين بالمعنى العام ، اعتقاداً يستلزم الفكر المجرد مثلما يستلزم التعلق العاطفي الذي يؤدي دوراً من أدوار إشباع الغرائز ، كان بذلك متناغماً مع الإنسان ، بما تشتمل عليه الضرورات من أُمور نظرية ، وأُخرى تطبيقية عملية ، فمن أين تأتي لنا هذه الحاجة إلى التعلق بعد ذلك؟ وكيف تنبعث التعبيرات عنها بهذا الشكل أو ذاك؟ لا بد من التعرف على جذورها أوّلا.

منشأ وجذر الميول

في المساحات التي يشغلها البشر فوق الأرض ، وفي الأماكن القابلة للحياة منذ القدم ، ثمة ما ينضح بالعلاقة الناجزة بيننا وبين مجهول محبّب ، لا ينفر منه القلب ، ولا تخاله المشاعر.

ويرى « وليم جيمس » أنه : « مهما كانت دوافعنا وميولنا نابعة من هذا العالم ، فإنّ أغلب ميولنا وآمالنا تنبع من عالم ما وراء

٣٧

الطبيعة » (١) ، أي من مكان آخر غير مرئي لكنه قائم على اتصال ما بهذا العالم ، وهذا الاتصال وإن بدا وكأنه مجهولا لا يخامر الحواس الخارجية ، لكن العلم يعوّل عليه كثيراً عند الذهاب نحو التحقق من نوازع الإنسان ، لكن إذا صح قول « جيمس » كان الذي يترتب عليها بلا شك هو البحث عن الوسيلة التي يستقبل عبرها الإنسان هذه الميول من عوالم أُخرى ، ليس فقط الميول وإنما الآمال أيضاً.

ويرى « كانت » في تبرير هذا الأمر عند إحالته إلى إدراك الوجود ووعيه ، أنّ ثمة ارتباط ضروري غير طارئ ، محايث للوجود زماناً ومكاناً ، يقول : « إنني بادراك وجودي ، وارتباطي بعوالم تعلوها عوالم ، وبانساق أنساق إلى زمان لا حدود له من ذاتي المنظورة ، أرى أنني لست على ارتباط عارض محض ، بل على ارتباط كوني ضروري » (٢).

ولا شك أيضاً أنّ هذا الإدراك موصل إلى حقيقة ، ولهذه الحقيقة عمق في النفس « الذات البشرية » بين الفينة والأخرى تتصدع الحجب دونها ، فتظهر غير عابئة بالطريق ، ويلهج بها اللسان ، أو يعبر عنها القلم ، ولهذا الارتباط الكوني امتداد كما لهذا الامتداد رموز

__________________

١ ـ الدين والنفس ، ضمن الإنسان والإيمان ، مرتضى المطهري ، منظمة الإعلام الإسلامي ، ط٢ ، ص٤٣.

٢ ـ نقد العقل العملي ، عمانؤيل كانت ، أحمد شيباني ، دار اليقظة العربية ـ بيروت ٩٦٦ ، ص٦٢.

٣٨

وإشارات ، تعوز الإنسان كي يلتقطها من ناحية الكيفية والحالة ، بحيث يصبح بمستطاعه التعرف على الطرائق التي يتلقى عبرها ذاك الشعور بالميل والدافع من منبعه الأصلي.

ودعونا قبل أن تنحرف الفكرة عن محجتها ، أن نؤكد أنّ الميل الذي تعنى به هذه الأسطر ، هو ذاك البعد من الفطرة ، والتي تشير إليها كلمات الإمام عليّ عليه‌السلام عند مواصلة إفصاحه عن طبيعة الكون والخلق ، ولعلّنا نجد في كلماته هنا المنهل الأكثر عذوبة في دراسة الأحوال النفسية التي تتراكم فوقها الحاجات فتحيد بالمرء عن بلوغ قصاراه ، ونقرأ هنا هذا الشاهد.

يقول عليه‌السلام : « واصطفى سبحانه من ولده ـ أي آدم ـ أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ( لمّا بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم ) (١) » (٢) ، ونضع بين قوسين كلمات تفيد الإنسان الذي يتحدث ( كانت ) عن ارتباطه الكوني الضروري ، وهو إنسان تلهج ذاته نحو عوالم تداخل معها ، ولا يجد له من محيص عن الإقرار بها.

لكن الواقع أن تسمية هذا الأمر هي محل العناية ، فبأي طرائق المعرفة يصل إدراك وجوده ، لعله بطريق الاستماع إلى الإيقاع

________________________

١ ـ اخذ عليهم الميثاق أن يبلغوا ما اوحي اليهم ، ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له وأخذ عليهم أن لا يشرعوا للناس إلاّ ما يوحي إليهم وهو المقصود. بميثاق الفطرة.

٢ ـ انظر : نهج البلاغة : الخطبة ١.

٣٩

الكوني الذي يهدد داخله ولا يفصح له عن لغة يصور بها الحالة التي هو عليها ، لكن الكلام الآتي للإمام عليّ عليه‌السلام يمكننا من التقاط خيط هذه المعرفة.

يقول عليه‌السلام : « فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ( ليستأدوهم ميثاق فطرته ) ، ويذكروهم منسيّ نعمته » (١) ، إن ما بين القوسين هنا يشير إلى أن الأنموذج البشري جميعاً وهو الذي يمتلك خاصيات مشتركة تؤهله لأن يبلغ مراتب المعرفة ، ويزيح عن ذاته براقع النسيان ، ومن المعروف في علم النفس أنّ ثمّة مصطلح يستخدم للتدليل على أنّ الناس يتوارثون الذكريات ، إضافة إلى عناصر الميراث الأُخرى فيما يطلق عليه اسم ( الذاكرة السلالية ) ، وعند الرجوع إلى مراحل نمو البشر الحضارية ، فإن الآثار تشير إلى أن التدين من الأُمور الثابتة في حياة الأمم ، ولا نقصد هنا التدين أي الالتزام بنسق ديني واحد ، لا حياد عنه وإنما المعروف أن للشعوب عقائد وعبادات وطرائق في التعبير عن ميولها الدينية لم تفارقها منذ أوائل ظهور الحياة.

وقد سبق وأشرنا إلى مقولة الإمام عليّ عليه‌السلام في أولية الدين ، وهو يشير إلى كل أولية دينية ، أي معرفة الله ، وقلنا : أن هذا الكلام ينسحب على أي دين أو عقيدة ، ترتكز في فكرتها على « الله » ، وهذا

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٤٠