معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

ههنا يستقيم لباحث عن إمامه في أعماقه تمام القرار ، ويرفد قلبه بسكينة الاستقرار فالذي يعلم أن سيفه يفصل بين النار والجنة ، هو الذي أجاب من سأله : هل رأيت ربك؟ فأجابه : « أفأعبد ما لا أرى » (١). وإذا تابع المتأمل الكيفية التي رأى الإمام فيه ربّه ، فإنه سيقف على النور الذي لا تنطفىء له شعلة ، والحق الذي لا يأتيه الباطل.

الطريق إلى عليّ عليه‌السلام هو الطريق إلى الله عزّوجلّ

إذا كان فناء عليّ عليه‌السلام بحبّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغ منه كل هذا المبلغ ، وراح يذرف عليه‌السلام نفسه صغيراً ويحامي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يافعاً ، ويقاسمه شؤون الدين ، ويذب عن حياضه في كل قائمة وقاعدة ، ويسوح في كل مصر لنصرته ، فكيف بربّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وربّ جميع الوجود.

من استرشد الطريق إلى عليّ عليه‌السلام ، ودخل مدينة علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من بابها ، صار إلى فناء الرحمة المحمدية ، حتى يبلغ مرتبة من كشف عنه الحجاب ، لكن هذا لا يكون إلاّ ببصيرة راضها حبّ الله.

ربما كانت هذه الكلمات هنا أقرب إلى التذلل منها إلى روح البحث ، ولو أن البحث في مقدس هو في هذا المقام ، لا يجد له مناصاً

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٩.

١٨١

من بلوغ عتبة التواضع التي هي شرفة كسب المعرفة.

كتب على مرّ التاريخ المئات من العلماء والفلاسفة حول بداية الوجود وأصله ، وذهبت الأمم في هذا مذاهب شتى ، منها من قارب الحقيقة ، ومنها من زاغ بصره ، ومنها من وقف في المنطقة الوسطى.

وثمة من لم يرّ مبرراً للتحرك نحو أشياء لا تدرك ، لكن العمق النفسي الإنساني هو في تعريفات الكتاب هنا يساوي « الفطرة » ، فالفطرة التي يتحرك فيها شعور البحث عن القوة التي تدير شؤون الحياة ، ما زالت مستمرة بالدفع الذي هو من خاصيات الحركة ، فهي ليست ساكنة في طبيعتها ، ولم تستكن إلى اليوم.

وفي تناول هذه الظاهرة ، يمكننا النظر إلى مجمل ما قاله الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة وسواه من الكتب التي نقلت ارشاداته للناس ، والتي تدخل في معظم نواحيها في عوالم فلسفة المعرفة ، فيضع على الأساس للبحث ضمن منطقة القدرة البشرية ، ويحزم حقائب الذين يتناولون أو يحاولون تناول ذات الله بالدرس والتأمل ، ويشرع لهم طريق الارتحال.

وقد لا نجد بداً هنا من ايراد بعض اضاءاته حول الكيفية التي ينبغي معها للمهتم أن يتعرّف على ربّه ، وهذه المدرسة بالذات هي مدرسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شقّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بامداده الناس بمثل هذه المعارف الطريق الذي رسمت فيما بعده المدارس

١٨٢

الكلامية مناهجها ، وإن لم تكن في المجمل قد بلغت رغبته في تناقل العلم بين الناس ، لكنها أثرت في تراث الإنسانية مخزوناً عظيماً من الكتب والبحوث العقائدية والفلسفية.

وفي عروج موجز على الكيفية التي رسم من خلالها للناس طريق التعرّف على الله تعالى ، نجده يوزّع على القلوب مراتب تندرج معها نحو معرفته ، يمكن أن نلاحظ أن يفتح باباً للدخول في هذا العالم من جهة الخضوع لله تعالى والاستكانة إلى قراره ، ومن جهة أخرى يوسع على المدارك كيفية معرفته ، ويحذر في مواطن عديدة من مغبة الخوض في غمرات الجهل ، باعمال العقل في سبيل ادراك كنهه ، يقول : « فتبارك الله الذي لا تبلغه بعد الهمم ، ولا يناله حدس الفطن ، الأوّل الذي لا غاية له فينتهي ، ولا آخر له فينقضي » (١).

وفي سبيل اعطاء منتهى الغاية من وراء البحث في معرفة ذات الله تعالى يوقف الإمام القدرة على هذا ، ويرجعها إلى أن الذي أمر الله تعالى الناس به هو الذي يكفيهم مؤونة التفكّر والعمل ، يقول لنا : « فانظر أيّها السائل : فما دلك القرآن عليه من صفته فائتمّ به ، واستضيئ بنور هدايته ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ، ولا في سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأئمة الهدى أثره ، فَكِلْ علمه إلى الله سبحانه ، فإنّ ذلك منتهى حق الله عليك » (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٩٣.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٩٠.

١٨٣

لكن ماذا يفعل من لا يرد على القول ، ولا يهديه الهادي إلى سواء سبيله ، وقد تقحم غمرات الوهم ، أفراد أن يعلم ما هو الله ، يجيب عليه‌السلام هنا على هؤلاء في قوله :

« واعلم أن الراسخين في العلم ، هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، والإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً ، فاقتصر على ذلك ، ولا تُقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين » (٢).

وهو في جميع تناوله لمثل هذه المسألة ، لا يعدو تنبيه الناس عدم الدخول في ضلالات الأوهام ، ومن أراد أن يضع يده على هذه الحقيقة فليراجع نهجه ، وليتزوّد من جماع كلماته.

وفي ادارته دفة صراع النفس مع رغبة المعرفة ، يوشك الإمام عليّ عليه‌السلام تصنيف الأنفس مثلما فعل هنا ، عندما قال من هم الراسخون ، ويطلب إلى الناس أن يتفكّروا قبل ذلك بعظيم خلقه ، من أدق المخلوقات حتى أبراج السماوات.

ولهذا النهج غاية ، هي التماس قانون الله ورسوله ، وايضاحه في الناس ، وهو عند قوله عليه‌السلام « أمرنا صعب مستصعب » يكفي الإنسان بعد

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

١٨٤

ذلك تعب السير وراء ما لا يدرك ، فالذين لا يعرفون محمد وآل بيته على حقيقتهم كيف لهم أن يتجاوزونهم إلى بارئهم ، ضعف إذن جهدهم ، وكلّت هممهم دون بلوغ ذلك.

وعلى الإجمال يلاحظ في خط الإمام عليه‌السلام أنه يشدّد على تناول طرقات الله عبر الطاعات ، ولا يقترف المرء من جريرة أعظم من تنازله عن فرائضه ، والتزامه مناهج نبيه.

وكما أن الإمام علي عليه‌السلام غايته الله سبحانه ، فإن إجابته عن الرؤيا كانت كالتالي : « لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان » (١).

فالغاية من جميع الأمر إذن هو القلب ، ومثلما ابتدأت الدائرة الرسالية برمّتها منذ آدم إلى يوم المهدي ( عج ) بالعمل على تطهير القلب ، كذلك تختتم به ، والذي بلغ النور قلبه انكشفت حقيقة الإمام علي عليه‌السلام عنده ، وتقرّب إلى الله تعالى باقترابه منه ، وابتعد عن الله تعالى بابتعاده عنه.

وقد يعلم من انكشفت له حقيقة إمامه أنه قال : « لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة ، ولا تفرّقهم عني وحشة » (٢) ، فهو البالغ مبلغ اليقين من ربه ، والسلامة من أداء أمانته ، ويذهب مطمئناً إلى باريه.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٩.

٢ ـ نهج البلاغة : كتاب ٣٦.

١٨٥

ونختم هذا بوصيته عليه‌السلام التي منها : « واعلم ـ يا بني ـ أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك في منزل قُلعة ، ودار بلغة ، وطريق إلى الآخرة ... وإياك أن تغتر بماترى من أخلاد أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبأك الله عنها ... فإنّما أهلها كلاب عاوية ، وسباع ضارية ، يهرّ بعضها بعضاً ، يأكل عزيزها ذليلها ... سلكت بهم الدنيا طريق العمى ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى » (١).

* * *

بهذا نختم هذا الفصل ، مع سعة الطلب والرغبة في الزيادة ، إنما أردنا أن نشير إلى تحقق الإمامة في عليّ عليه‌السلام ، وفق المنهج الذي اتبعناه وأجرينا عليه بحوثنا.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : كتاب ٣١.

١٨٦

[ هل أنجز الاسلام كلماته ]

الحق أنّ الذي نحن بحاجته هنا ، هو الجواب عن سؤال كان قد طرح قبلا ، وهو حول القول : في هل أنجز الإسلام كلماته؟

ونفرد هنا هذا المبحث الأخير للاجابة على هذا السؤال ، منتبهين إلى مفهوم الإمامة وما يجري عليه من متابعة في بقية أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

الكلمة المنجزة

في الإجابة على هذا التساؤل ، نعتقد أن الإسلام بما هو دين إلهي يمتلك القدرة على مرافقة مسيرة البشرية إلى غاياتها القصوى ، ومن المسائل الرئيسية في الفكر الديني الإسلامي أنه لابد من انجاز مشروعه الإنساني على كامل جغرافيا العالم ، وهذا ليس من طموح البشر ، بل هو الوعد الإلهي الذي أخذه على نفسه.

فلما كان النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وضع بمعونة الله سبحانه ووحيه ، الأسس والأنظمة التي تضبط هذه المسيرة ، وترتفع بالإنسان نحو

١٨٧

غايته وحقيقته ، وتسعى به نحو ارضاء الله سبحانه ، مثلما تعمل على توثيق عرى الإنسانية ، بهدف رفع الظلم وإقامة العدالة ، وشرع بإنشاء دولته وإعلاء كلمة الله ، فإنه قد أنجز القسم الأعظم من تطبيق شرائع الله تعالى على الأرض ، كما رسم البرامج ووضع الحيثيات التي تؤاتي استمرار هذه القاعدة ، كما تؤاتي عدم الخرق بها.

ومن المعروف أن البشر مع ابتعاد الفاصل الزمني بينهم وبين الرسل والأنبياء ، يقومون عن قصد أو غير قصد بتبديل أو تحرير أو تغيير سنتهم وتعليماتهم ، وهذا حاصل في الديانات التي سبقت الإسلام.

وبما أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الرسول الخاتم الذي لن يبعث الله من بعده أحد ، فقد اقتضت الضرورة الحياتية أن يقوم في الأرض من يحفظ هذا الدين من مثل هذه التغييرات ، ولا يقوم هذا الأمر مثلما تبين بشكل عفوي ، إنما في الوضع الطبيعي يجب أن يكون الأشخاص الذين يقيمونه بمثابة « صنو لرسول الله » ، وهذه ليست نظرية تحتمل الخطأ والصواب ، بل هذا هو أصل الإسلام ، ولدى النظر في السنة النبوية الشريفة ، ينكشف لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وضع في ضمن ما وضع من أنظمة وقوانين قاعدة هذا الاستمرار ، وقام بتأدية رسالته تامة ، وترك للأئمة الذين أخبر الناس بظهورهم وقيامهم بالأمر من بعده ، وسماهم وعددهم ، وعلينا أن لا نستسلم

١٨٨

لدعاوي عدم الصحة ، أو الخروقات التي تمت وراء هذه السنة في التاريخ.

ويكفينا هنا ايراد نموذج من أحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخصوص كاظهار لهذه الحقيقة ، ولا نهدف هنا إلى مناقشتها ، لأنّ هذا ليس من أهداف الكتاب ، يقول عليه‌السلام : « لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش » (١).

ونحن نعتقد بتمام صواب هذا الأمر ، لا لأنّها وردت في حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسب ، إنّما لعلّة انتهاء الرسالات السماوية من جهة ، وضبط استمرار الإسلام من جهة ثانية.

ولما تبيّن لنا ماهية الإمامة ، لم يعد هنالك من حاجة إلى متابعة تفصيلاتها ، لكن الذي يقال هنا هو أن الأئمة الذين يسترسلون في القيام بهذا الأمر بين الناس بعددهم الذي أقرّه نبيّ الله ، من أجل بلوغ الإسلام هذه الذروة التي رسمها الله سبحانه له ، لا من أجل ارضاء هذه الفئة من الناس أو تلك ، وأن هذا الإمام هو الذي يمثّل ( المثال ) ، الذي اتّضحت لنا ماهيته بالشكل الذي أمكن أن نفهمه ، وهو بهذا اللحاظ الذي يقيم أمر الله نهائياً ، أي أن الإسلام ينجز مشروعه كاملا

__________________

١ ـ صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش : ٣ / ١١٥٥ ، مسند أحمد : ٥ / ٩٠ ، ٩٨ ، وعند البخاري قريب منه ، باب الاستخلاف ، ولهذه الرواية أشكال عدة ، لكن الهدف هنا هو استمرار قيام من يمثل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس غيره.

١٨٩

بتمام ظهور الإمام الثاني عشر ، بحسب قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبحسب قوله سبحانه ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) (١).

نصل إلى ختام هذا الأمر هنا بأن الكلمة النهائية في الإسلام ، تطبيقاً وانجازاً لرسالة نبيّه مرهون به.

منفعة على سبيل الخاتمة

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم برز الإمام عليه‌السلام في غزوة الخندق : « برز الإسلام كلّه إلى الشرك كله » (٢).

فقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام يمثّل إسلاماً يتحرك بين الناس ، وحين رفع القوم المصاحف في صفين قال الإمام عليه‌السلام : « أنا كتاب الله الناطق » (٣) ، والإمام ولد في الكعبة ، وأبونا إبراهيم بعد أن بنى الكعبة دعا ربه أن تكون الإمامة في ذريته ، الأمور مقدرة من الله تعالى وليست مصادفة.

وقد أمر الله تعالى أن يتجهوا إلى الكعبة ويصلوا ، وحين يقول المصلّي الله أكبر ويتوجه إلى الكعبة يتذكر أن إمامه ولد فيها ، وأنّ الصلاة بلا إمام لا تساوي شيئاً ، « ومن مات ولم يعرف إمام زمانه

__________________

١ ـ المجادلة : ٢١.

٢ ـ أنظر اقبال الأعمال لابن طاووس : ٢ / ٢٦٧.

٣ ـ أنظر وسائل الشيعة : ٢٧ / ٣٤ ( ٣٣١٤٧ ).

١٩٠

مات ميتة جاهلية ».

كما أنّ الإمام عليّ عليه‌السلام حين تلقى ضربة ابن ملجم قال : « فزت وربّ الكعبة » (١) أي أنه استعمل هذا التعبير ( ورب الكعبة ) دون غيره! ..

وحين آخى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بين المهاجرين والأنصار ... كان من المتوقع أن يؤاخي أحد كبار الأنصار أو زعيمهم الذي كان سيتوج ملكاً قبيل وصوله عليه‌السلام ، أو في أحد الاحتمالات أن يؤاخي أكبر الأنصار سناً لكنه آخى الإمام عليّ عليه‌السلام تاركاً كل هذه التوقعات ، ورغم أن ذلك فيه إحراج شخصي له أمام المنافقين والمشركين ومن لم يدخل الإيمان في قلوبهم تماماً لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى ) (٢).

كل هذه الأمور وغيرها كثير خصوصيات لا يشترك فيها مع عليّ عليه‌السلام إنسان آخر ، كائناً ما كان ، فلندرس نظرة هذه الشخصية الفريدة الخالدة إلى بعض أمور الحياة ، ولنأخذ موضوع العلم والتعلم وموضوع الحكم وهما موضوعان متداخلان.

إن المعلم الحق ، المعلم بالمطلق هو الله جلّ وعلا الذي ( علم آدم الأسماء كلّها ) (٣) ، والله تعالى خلق الإنسان وعلمه البيان ، كما أنه

__________________

١ ـ أنظر مناقب آل أبي طالب : ١ / ٣٨٥.

٢ ـ النجم : ٣ ، ٤.

٣ ـ البقرة : ٣١.

١٩١

علم بالقلم الذي كان ولا يزال الوسيلة الأولى في التعلم والتدوين ، كما أنّه عزّوجلّ قد أقسم بالقلم وما يسطرون ، أي بكل وسائل الكتابة سواء بالقلم أو بغيره ، كالحاسوب حالياً وربما وسائل أخرى في المستقبل ، وكل خلق الله تعالى قد تعلم منه كما ويتعلم الخلق بعضهم من بعض ، فالنبيّ موسى عليه‌السلام ، تعلم من العبد الصالح الذي آتاه الله من لدنه علماً ، ثم أصبح الأنبياء معلمين لغيرهم ، وعلى الناس أن يتعلموا منهم ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (١).

وكذلك على الناس أن يتبعوا من يهديهم إلى الحق ويتعلموا منهم ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (٢) ، وقد مرّ معنا تفصيل ذلك ، وقد أولى الإمام عليّ عليه‌السلام مسألة العلم والتعلم أهمية كبيرة فسخر لها قسماً من علمه وأحاديثه.

يقول الإمام عليّ عليه‌السلام : « أشرف الأشياء العلم ، والله تعالى عالم يحبّ كل عالم » (٣) ، ويقول أيضاً : « ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، لكن الخير أن يكثر علمك » (٤) ، ويقول : « العالم حي وإن كان ميتاً ، والجاهل

__________________

١ ـ الحشر : ٧.

٢ ـ يونس : ٣٥.

٣ ـ أنظر : شرح نهج البلاغة ، الحكم المنسوبة إليه : ٢٠ / ٢٨٨ ( ٢٩٨ ).

٤ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٨٩.

١٩٢

ميت وإن كان حيّاً » (١) ، ويقول : « كل وعاء يضيق بما يجعل فيه إلاّ وعاء العلم ، فإنّه يتسع » (٢).

ثم انظر أخي القارئ الكريم في هذا القول الشهير الذي قاله عليّ عليه‌السلام وذهب مثلا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها : « قيمة كلّ امرئ ما يحسنه » (٣) ، أليس فيه أقصى تشجيع للتعلم؟ كما أنه وقبل كل الناس شجع على أن نختار من العلم أحسنه وأنفعه ، حين قال : « العلم أكثر من أن يحاط به ( يحصى ) فخذوا من كل شيء أحسنه » (٤) كما أن الإمام عليه‌السلام كان أول من أشار إلى جدلية العلم والتعلّم بقوله : « ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا » (٥) ، وبقوله : « إن الجاهل المتعلم شبيه بالعالم » (٦).

ولا غرو في ذلك فالعلم والتعلم يحتاجان إلى متلق يحمل شخصية مقابلة للأخذ ومن ثم للعطاء ... الماء هو نفسه الذي ينزل من السماء ، لكن المتلقي أي الأرض تختلف بين مكان وآخر ، كما أن الماء الزلال نفسه يتحول في بطون الأفاعي إلى سم زعاف ، وكذلك

__________________

١ ـ غرر الحكم : ١٤٨١ ( ١١٢٤ ، ١١٢٥ ).

٢ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ١٩٥.

٣ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٧٦.

٤ ـ غرر الحكم : ١٨١٩.

٥ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٤٦٨.

٦ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٣١١.

١٩٣

شخصية كل من المتعلم والعالم تختلف من فرد إلى آخر ، لذلك فإن الإمام عليّ عليه‌السلام يركز أساساً على تربية الإنسان ويسعى أن يرشده سواء السبيل.

فإذا صعد عليّ عليه‌السلام المنبر تمنى أن يسمع منه الناس جميعاً ، وأن يأخذوا منه ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، أو بتعبيره عليه‌السلام : أتمنى أن يعشوا إلى ضوئي ، فهو كالشمس تعطي دفئها ونورها للجميع دون تمييز ، ومع ذلك فإن الإمام يركز في الوقت نفسه على عدد من الناس ليطور وعيهم ويزكي ايمانهم ليجعل منهم نموذجاً متميزاً وقدرة حسنة.

ويركز الإمام أيضاً على الفروق الفردية لشخصيات الناس ، فيقول : « إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها » (١) ، ثم يتناول في قضية العلم والتعلم موضوع المسؤولية فيقول في نصب نفسه للناس إماماً : « من نصب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلم نفسه ومؤدّبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم » (٢).

وهذا تأكيد على ضرورة التعلم والفهم والاستيعاب وضرورة تعميق فهم أية مسألة من المسائل ، وإن مسألة الدراية تعني أن الناس

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ١٣٩.

٢ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٦٨.

١٩٤

 بحاجة إلى معلمين يوضّحون لهم المسائل وإلى مرشدين يهدونهم سواء السبيل ، والمرشد كما مرّ يلزم أن يكون مستقيماً يهدي غيره ولا يحتاج لمن يهديه ، ولا يحتاج إلاّ إلى الله الذي يستمد منه النور والهدى ، وحيث أن الرجوع إلى معلم في كل علم أمر مسلم عند كل عاقل ، وسينتهي الحال إلى معلم يستلهم من الله تعالى ويعطي الآخرين ، وهنا نصل إلى النبيّ أو إلى الإمام.

موضوع الحكم

إنّ قضية الرئاسة والحكومة دليلها العقلي قوي وتدعمها التجربة البشرية ، إذ ثبت بالاستقراء أنّ المجتمعات انتهت دائماً إلى رئيس ، ونحن نقول : إن الجدير بالرئاسة والإمامة والقيادة هو النبيّ أو الإمام ، لأنّه أكمل الأفراد ، لأنّه اختيار الله تعالى ، وقد اهتم الإمام عليّ عليه‌السلام بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً وقد اقتبسنا من كلامه في هذا المجال ما يلي :

« شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به » (١) و « عدل السلطان خير من خصب الزمان » (٢) و « البغي آخر مدة الملوك » (٣) و « يد الله فوق

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٦٤.

٢ ـ مطالب السؤول : ٥٦ ، نظم درر السمطين : ١٦٠.

٣ ـ شرح نهج البلاغة : الحكم المنسوبة إليه : ٢٠ / ٣٣٤.

١٩٥

رأس الحاكم ترفرف بالرحمة فإذا حاف [ أي ظلم ] وكّله الله إلى نفسه » (١) و « إذا كان الراعي ذئباً فالشاة من يحفظها » (٢).

هذه الأقوال وغيرها يركز عليه‌السلام فيها على ضرورة أن يكون الإمام عادلا وأن لا يكون ظالماً.

أمّا عن بطانة الحاكم ، وأنّ عليه أن يختار هيئة استشارية صالحة وبطانة ناصحة قد قال الإمام عليّ عليه‌السلام قولا لا أبلغ ولا أروع منه : « من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء ، فإنه لو غص بغيره لأساغ الماء غصته » (٣).

أمّا عن خطورة منصب الحاكم ، وأنّه مما لا يحسد عليه لعظم المسؤولية ، فقد قال الإمام علي عليه‌السلام : « صاحب السلطان كراكب الأسد : يُغبط بموقعه ، وهو أعلم بموضعه » (٤).

والحكومة كلمة مشتقة من الحكمة ، الحكمة معناها العقل المليء بالعلم والعمل ، فالإنسان الذي يتمتع بعقل سليم راجح وعلم وافر ولا يعمل بهما فلا يقال له حكيم ، فالحاكم عليه أن يكون عالماً وأن يعمل بما علمه الله تعالى ، وأن الأقوال التي ذكرناها عن الإمام عليّ عليه‌السلام في شروط الحاكم الصالح ، تعني من جملة ما تعنيه أنه لا

__________________

١ ـ الكافي للكليني : ٧ / ٤١٠.

٢ ـ شرح نهج البلاغة ، الحكم المنسوبة إليه : ٢٠ / ٣٠٠ ( ٤١٨ ).

٣ ـ المصدر نفسه : ٢٠ / ٣٠٨ ( ٥٢٦ ).

٤ ـ نهج البلاغة : قصار الحكم ٢٥٤.

١٩٦

يصلح لها إلاّ إمام عادل ، وذلك حتى يدوم الحكم وتتعزز هيبته ويقيم العدل بين الناس.

يقول الإمام عليّ عليه‌السلام : « إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس » (١) ويقول أيضاً : « أما بعد ، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم ، ولكم عليَّ من الحق مثل الذي لي عليكم ، فالحق أوسع الأشياء في التواصف ، وأضيقها في التناصف ... وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية ، وحق الرعية على الوالي ... فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلاّ بإستقامة الرعية.

فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه ، وأدى الوالي إليها حقها ، عزّ الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على أذلالها السنن ، فصلح بذلك الزمان ، وطمع في بقاء الدولة ، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبت الرعية واليها ، أو أجحف الوالي برعيته ، اختلفت هناك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ... فعمل بالهوى ، وعطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حق عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلّ الأبرار ، وتعزّ الأشرار » (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : خطبة ٢٠٩.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢١٦.

١٩٧

نعود الآن إلى موضوع العلم واختيار الإمام عليّ عليه‌السلام لفئة من الناس وتركيزه عليها ليجعل منها قدوة صالحة ، لأن يكون منها الولاة والعمال الذين يختارهم الإمام ليسلمهم مهام قيادية.

يقول عليه‌السلام : « إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية » (١) ، يعني أنّ الله أودع في الإنسان كل أساليب التربية ، وكل ما في الأمر أنه يحتاج إلى المطر وإلى اختيار نوع المزروعات ، فالطفل تربة خصبة صالحة للزراعة ، وما عليك إلاّ أن تتعهده بالعناية وتختار له المعلومات الحسنة الصالحة ، ويقول في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام : »ابتدأتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك (٢) ، يعني وأنت شاب طري العود ، قادراً على تفهّم الأمور والفصل فيها قبل أن تستفحل إلى شر ، فالشر كالشجرة الصغيرة ، تستطيع قلعها بسهولة وهي صغيرة طرية الأغصان وقبل أن تمد جذورها عميقاً.

نحن في مدرسة الإمام عليّ عليه‌السلام يجب أن نتفاعل مع فكره ، ونغرف من نبعه ، ونروي ظمأنا من معينه ، ولم أتوسع في هذا الكتاب بذكر فضائل الإمام عليّ عليه‌السلام فهي أكثر من أن تحصى ، ولكني ركّزت على قضية الإمامة وآمل أن أكون قد وفيت الموضوع حقه أو بعض حقه ، وهل يمكن فهم قضية الإمامة دون العودة إلى أبي الأئمة؟

__________________

١ ـ نهج البلاغة : كتاب ٣١.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٩٨

المصادر

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ أسرار الآيات ، الشيرازي ، صدر الدين ، دار الصفوة ، بيروت ١٩٩٣.

٣ ـ الأصول من الكافي ، الكليني ، محمد بن يعقوب ، دار الأضواء ، بيروت ١٩٨٥.

٤ ـ الأصول الفكرية للثقافة الإسلامية ، الخالدي ، محمود ، دار الفكر ، عمان.

٥ ـ الاقتصاد في الاعتقاد ، الغزالي.

٦ ـ البحث النفسي والدين ، المطهري ، مرتضى ، منظمة الإعلام الإسلامي.

٧ ـ بحث حول الولاية ، الصدر ، محمد باقر ، دار التعارف ، بيروت ١٩٧٩.

٨ ـ تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي ، مؤسسة أهل البيت ، بيروت ١٩٨١.

١٩٩

٩ ـ روح المعاني في تفسير القرآن ، الآلوسي ، محمود شكري ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ١٩٨٥.

١٠ ـ ربيع الأبرار ، الزمخشري.

١١ ـ السيرة النبوية ، ابن برهان الحلبي ، ج١.

١٢ ـ سنن الترمذي.

١٣ ـ سوريال ، ميسر اورخان ، ضمن نظرية الشعر ، الخطيب محمد كامل ، وزارة الثقافة ، دمشق ١٩٩٧.

١٤ ـ سر الصلاة أو صلاة العارفين ، الخميني ، روح الله ، ت : أحمد الفهري ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

١٥ ـ صحيح البخاري.

١٦ ـ صحيح مسلم.

١٧ ـ طبقات الحنابلة ، ابن أبي يعلى.

١٨ ـ العلم من منظوره الجديد ، اغروس ، روبرت ، ستانسيو ، جورج. ت : كمال خلايلي ، سلسلة عالم المعرفة عدد ١٣٤.

١٩ ـ علي والفلسفة الإلهية ، الطباطبائي ، محمد حسين ، الدار الإسلامية ١٩٩٢.

٢٠ ـ الفصل في الملل والنحل ، ابن حزم ، مكتبة المثنى ، بغداد.

٢١ ـ قصة الحضارة ، ديورانت ، ويل ، الجامعة العربية ١٩٤٩.

٢٢ ـ كتاب الحياة ، الحكيمي ، محمد رضا ومحمد علي ، مكتب

٢٠٠