معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

وهنا مكمن الفرق ، بين الإمامة وأصناف الزعامات التي تحدّثت عنها في أماكن مختلفة في أنحاء هذا الكتاب.

والذي يجاهر بإمامته للناس وفق هذا المفهوم ، ليس أحد غير محمول عليه تخليصهم من فتن الدنيا ، بل على كاهله حمل هذا ، لأنّه هو المعبّر عياناً عن حقيقته.

ونعتقد أن الإمام في سياق تناوله للتعريف بنفسه ، لا يقول هذا إلاّ إذا كان للحديث موجب ، وهذا الموجب هو لكل من يأتي من بعد هؤلاء القوم الذين لا يجهلونه ، وإنما تقودهم عنه أمور الدنيا التي تحول بين المرء وربّه.

فلا يظن أحد أن الإمام عليّ عليه‌السلام يتحدّث في تينك الأزمنة ، كي يقف الناس على مكانته ، وإنّما يتحدّث كي تسير في الناس حقيقته ، التي يريد أهل الضلال اطفاء نور الله تعالى بأفواههم ، إذ عملوا على اخفائها ، لكن الله سبحانه يأبى إلاّ أن يتم نوره ، فينطق أثر ذلك عليه‌السلام ، دافعاً الشبهات مقيماً للحق ، يقول :

« فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ومن يموت منهم موتاً ، ولو قد فقدتموني ونزلت

١٤١

بكم كرائه الأُمور ، وحوازب الخطوب » (١).

إن الذي يدعو الإنسان إلى التفكّر في كلام الإمام ، ليس البحث عن أحقيته بالخلافة مثلما يظن ، أو عند انزاله الزعيم في الناس ، لكن الأمر مختلف ، فالذي أنجزه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من تركيز وترسيخ لمجمل رسالات الله تعالى ، واجتماع الأديان كلها دائرة الدين الإسلامي ، وإقامة البيّنة التي ختم الله تعالى فيها جميع الأديان ، لهي التي تلفت نظر الإنسان إلى الذي يبوح به الإمام عليّ عليه‌السلام.

فهو العارف بكل شيء « علمني رسول الله ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب » (٢) وهو الذي عرف خفايا الكرامات التي استودعها الله أهلها ، فهو من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « كالصّنو من الصّنو ، والذراع من العضد » (٣).

وهو العارف الذي لا يخفي معرفته عن مأموميه بخاصة في شؤون حياتهم ، وإذا رغب الإنسان منا في الإطلاع على الكيفية التي يتعامل فيها الإمام علي عليه‌السلام مع الحياة الدنيا ، فإنه سوف يقف على كون من المعارف لا تطال أطرافه همة ، ولا تصله عزيمة.

لننظر هنا على سبيل المثال طريقته عليه‌السلام في التعامل مع الدنيا ، وفي

__________________

١ ـ المصدر نفسه : خطبة ٩٢.

٢ ـ أنظر : دلائل الإمامة لابن جرير الطبري : ٢٣٥ ، البحار للمجلسي : ٣٠ / ٦٧٢.

٣ ـ نهج البلاغة : كتاب ٤٥.

١٤٢

تعليم الناس الكيفية التي تنبغي فيها التعامل معها.

عليّ عليه‌السلام والكشف عن الحياة الدنيا

ما نزال نجري تأملاتنا في ما أعطاناه أمير المؤمنين من مفاتيح الدخول إلى عوالم هديه والتعرّف عليه.

فإذا سأل سائل عن الإكثار من متابعة كلماته.

فإنّ الإجابة تكون : إنّه بها وبكلام نبيّنا ووحي ربنا نعرف الطريق إلى نور الله ، ونعرف الطريق إلى مصداق الإمامة التي هي المنجاة ، والملاذ ، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية فإنّ الذي يقودنا إلى هذا الأمر ، هي ألوان التقريب والتأخير في تناول أوضاع العيش ، من لدن معلم رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شأنه عند قوله : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » (١) ، وعلى موازين الصراط تشهد الحقيقة انسيالها ، ويتأهّب لها المرء في الحياة الدنيا ، وهي بحسب المعلم الإمام « دار أولها عناء ، وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته ، ومن تعد عنها واتته ، ومن أبصر بها بصّرته ، ومن أبصر إليها أعمته » (٢).

__________________

١ ـ أنظر أمالي الصدوق : ٤٢٥ (٥٦٠) ، تاريخ ابن عساكر : ٤٢ / ٣٧٩.

٢ ـ نهج البلاغة : خطبة ٨١.

١٤٣

يحسن أن يبحث القارىء في أطراف الكتب عن سيرة علي عليه‌السلام ، فهو بحاجة إلى اجراء مطابقات ، حول هل كان كلامه مطابقاً لحقيقته ، أم أنّه كان يعظ ولا يتّعظ ، فِعْلَ من قال شيئاً وأتى بخلافه ، لأنّ الكثير من الناس يقولون ما لا يفعلون ، والكثير من الناس يتخذون الدين مطية ، والمعرفة وسيلة ، يرغبون أن تحقق لهم الأمجاد ، وتقودهم إلى زعامة العباد ، والحق أن الانتباه إلى سيرته قد أخذ به الكثير من الكتاب ، من مظانة في كتب التاريخ والأحداث والرجال والتراجم الخ ...

إنما الذي نحن بصدده هو الوصول إلى هديه بهديه ، لا بما قيل عنه وفيه ، بذلك تتحقق غاية من ورائها رغبة في أن يكشف الله لنا عن بصائر ، إدْلهمَّ عليها الخطب ، ونالت منها عاديات الأيام ، فكان أن عبث ببعض تلقينها للناس ، إلى أن صارت المقارنة بين الإمام الهادي ، والزعيم الجائر أحياناً ، لا تفترق إلاّ في ما يقال : إن هذا ألين من ذاك ، أو هذا أشد وطأة من ذاك ، مع سعة الفارق بينهما ، واختلاف الغاية من وجودهما.

وفي متابعة هذا التبيان حول الدنيا ـ والدنيا هنا هي ذاك المكان الذي يشغل قلب الإنسان ، ويخفي خلف لذائذه أسوأ النهايات ـ يقول :

« فإن الدنيا رنقٌ مشربها ، ردغٌ مشرعها (١) ، يونق منظرها ، ويوبق

__________________

١ ـ رنق مشربها وردغ مشرعها : أي ماءها كدر كثير الطين.

١٤٤

مخبرها ، غرور حائل ، وضوء آفل ، وظل زائل ، وسناد مائل ، حتى إذا أنس نافرها ، واطمأن ناكرها ، قمصت بأرجلها ، وقنصت بأحبالها ، واقصدت باسهمها ، وأعلقت المرء أوهاق المنية ، قائدةً له إلى ضنك المضجع ، ووحشة المرجع » (١).

ينتقي الإمام للناس كلمات تعبّر لهم على المقدار الذي أوتوه ، عن الحال في واقعها وأوهامها ، عن الحياة نقصد ، وفيما تصير إليه ، فمن أمسك بحبال الدنيا خديعته وجرى استرقاقه ، وهو من موقع دوره كهاد ، ينطق بواجب تخليص الإنسان من مغبّة الاندحار إلى بئس المصير ، وهذا لا يكون إلاّ لمن يخاف على المخلوقات من نهايات ليست محل سعاداتها.

الدور الذي تلعبه مواعظ وتعليمات الإمام ، ليس له أي منحىً دنيوي في الواقع ، فهو يروض أنفس البشر ، من أجل بلوغها دار المستقر ، وهذه غاية الرسل والأنبياء وهو الدور الذي أتى به القرآن الكريم.

فإن الله سبحانه في كتابه يرسخ فكرة استبعاد الاستئناس لهذه الحياة الدنيا ، ويوجه أنظار الإنسان وقلبه إلى حياة يخلد فيها ، هي سعادته إن كان من السعداء وشقاؤه إن كان من الأشقياء.

وهنا أيضاً نقف على حقيقة أخرى من حقائق معرفة الإمام ، وهي

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٢.

١٤٥

أنه لا يصدر عنه بالنسبة للناس عموماً ، إلاّ ما ينفرهم من الركون إلى ما يخدع أمانيهم ، ويقودهم بهديه إلى حقيقة ما تصبوا إليه نفوسهم ، وإن كانت هذه النفوس غير ملتفتة دائماً ، وغير متذكرة دائماً الأمر الذي هو بُلغتها ومنتهاها.

وباعتبار أن دار الدنيا فيها الزينة ـ والزينة هي الأشياء التي تضاف من أجل أن يختفي اللّباب ، وتظهر بدائله ـ أي أنها ليست عين الحقيقة ، وكلما ازداد المرء قرباً منها ازدادت ايغالا في الابتعاد عن حقيقتها ، فنال الانخداع بظاهرها.

والذي يقود إلى هذا ، هو إلحاح الأنبياء والرسل والأئمة ، كما والكتب السماوية على تطهير النفس من خداعها ، والالتفات إلى صفاء السرائر ، حتى يتمكن الهدى من طرق باب الفؤاد.

وهنا نجد كلام الإمام يهز في عمق الوجدان عن مكمن الفطرة ، وإيقاظاً للعقل كي يدرك كيف أن التزود لحياة هي البقاء ، هو جوهر انبثاق الإنسان إلى هذه الأرض وهذه الحياة ، يقول :

« تجهزوا ـ رحمكم الله ـ فقد نودي فيكم بالرحيل ، وأقلوا العرجة على الدنيا ، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد ، فإن أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مخوفة مهولة ، لابدّ من الورود عليها ، والوقوف عندها فقطعوا علائق الدنيا ، واستظهروا بزاد التقوى » (١).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٤.

١٤٦

وكذلك كلامه مخاطباً الناس ، ونريد أن لا يفوت القارىء أن الحياة التي قضاها الإمام علي عليه‌السلام ، كانت كلّها في سبيل إزاحة الناس عن الباطل ودفعاً لهم نحو الحق ، امضاءً لدين الله ، وإذعاناً لنهج رسوله الكريم ، وأداءً لوظيفة أنتخبه الله سبحانه لها ، ولا راد لإرادة الله تعالى ، ولا مبدّل لكلماته ، وهذا يظهر بجلاء في كل مكان ينبئه فيه إلى أنه تفوّه عليه‌السلام بكلمة ، أو قام بفعل ، أو نهى أوامر أو عاتب ، أو حارب في شيء ، أو ما شابه ذلك.

وفي ديمومة إعلانه في الناس عن وجوب عدم انهماكهم في حياة فانية ، واقبالهم على حياة لا تزول ، يقول :

« إنما الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممركم لمقركم » (١).

إن الدخول في عوالم الحياة الدنيا ، دخولا يغلق البصر ، ويمحي التعلق بحياة هي المستقر كثيراً ما يراود كلماته عليه‌السلام بل ولا تكاد تخلو من اشارة إلى حق ، أو حرف عن باطل ، وأن يتعامل معها تعامل الخصم ، يعمل على طردها من قلوب المؤمنين ، في كل سانحة فرصة ويجاوز في ذلك إلى أبعد ، بل هو يعمل على اقصائها نهائياً ، يقول :

« أخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم » (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٣.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٤٧

لماذا يجب أن تخرج القلوب من الدنيا يا أمير المؤمنين؟ يقول : لأنّها مكمن الاختبار الذي ابتليتم به ، وإنما أنتم مخلوقون لغيرها.

ننظر هنا قوله : « ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم ».

ما الذي بقي كي يقدم الإمام مفاتيح الرحمة ، ويسحب الناس إلى مدارك النور ، لعل الذي بقي هو أن ننظر إليه كيف يشير إلى خاصته وأهله في عدم امساكهم بحبائل الدنيا ، ونلاحظ ، أنه يخاطب الحسن عليه‌السلام ابنه مع أنه إمام ، وهو كعلي عليه‌السلام ، يستمد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نور المعرفة ، ويسير على هدى كلماته ، ليس تعلماً بعد نقص ، وإنما مجانبة لعظيم الحكمة والفضل ، فالزمن لم يكن ليفصل كثيراً بينه وبين جدّه ، إنما أبيه عليه‌السلام يعظه ليُسمع كل ذي لبّ سليم أو مريض ، فلا يقال ترك أهله والتفت إلى الآخرين ، مع أنه القائل في نفسه وفيهم : « بنا اهتديتم في الظلماء ، وتسنمتم ذروة العلياء ، وبنا انفجرتم (١) عن السّرار » (٢).

فإذا كان خطابه يتّجه نحو ولده ، فإنه بما أوتي من ولايته على الناس ، وهي سمه خصّه بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مواقف عديدة ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه » (٣).

__________________

١ ـ انفجرتم : دخلتم في الفجر ، أي كنت قبل في ظلام : وصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٤.

٣ ـ أدرجنا مصدر هذا الحديث في مكان آخر.

١٤٨

والقول بعد هذا هو شيء من الضرب في الظلمة ، لأن الإمام الذي يريق عمره لا من أجل نفسه ، إنما قد ذرفها في الله تعالى ، يقوم في الناس عالماً أنّهم سيخوضون في صراع معه وعليه ، فقد يشتبه على ذي اللب أحياناً الحق ، فكيف بمن قد أغفلت الظلمة لبه ، بهذا نجده عندما يحاكي الإمام الحسن عليه‌السلام ، ينظر إلى كل امرئ في هذه الأرض على أنه الحسن ، ليست بدعة هذه ، بل هي عين الحق ، تظهر عند قوله :

« يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها ، وزوالها وانتقالها ، وأنبأتك عن الآخرة وما أعد لأهلها فيها ، وضربت لك فيهما الأمثال ، لتعتبر بها » (١).

ننظر إلى كلماته هنا ، فلا نجد أنه يفرّق في خطابه بين ولده وبين كافة أبناء الناس ، فهو في كل مكان أنبأ الناس عن الدنيا وحالها ، لم يخصص أحداً ، وواضح هنا أنه لا يغاير دوره وطبيعته ، فإذا كان قد أنبأه عن الآخرة ، فإنه لم يخفها عن بقية البشر ، وفي كل سانحة آثر فيها الكلام على الصمت ، وسوف تجد ضياءه يشع بنور وحي الله تعالى ، مع أهله ومع سواهم.

وما تزال الدنيا ترتسم في أعين الناس حسنة جميلة ، وهو يزيح عن أعينهم غشاوات خداعها ، ترى ما الغاية التي آثر من ورائها أن

__________________

١ ـ نهج البلاغة : كتاب ٣١.

١٤٩

يشهر ذي فقاره عليها إن كان طالب ملك ، فإنه حائز عليه ، وإن كان طالب لشأن آخر من شؤونها ، فهو في قبضته ، فلماذا يحقرها ويصغرها في عيون الناس ، رجالا ونساءً ، عرب وغير عرب ، مسلمين وسواهم ، لذلك الوقت ولكل وقت.

تدلنا كلماته نحو الإجابة عن هذا التساؤل عند قوله :

« إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى ، لا يبصر مما ورائها شيئاً » (١).

وهذا هو عين الأمر الذي توقفنا عنده عندما أجرينا الموازنة بين الأعمى والبصير ، ويتبيّن لنا هذا أنه يشاق الدنيا ، لأنها في الواقع ضده ، أي إذا كانت الهداية التي فرضها الله تعالى في الناس قد تمثّلت بالكتاب والنبيّ والرسول والإمام ، فإنّ هؤلاء جميعاً هم امتدادها ، فهي العمى وهم البصيرة ، وهي الظلمات وهم النور ، ولا تستوي الظلمات ولا النور ، ومن هنا نفهم ذاك السبب الرئيسي الذي جعل من عليّ عليه‌السلام ذاك النور الذي يصارع الظلمة ، ، « فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص » (٢).

وقد ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس الثقلين ، كتاب الله وأهل بيته ، وقرنهم بأنّهم لن يفترقا إلى يوم القيامة ، كما أجمع على أن الهداية من الضلال تكمن في التمسك بهم ، عند قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اني تركت فيكم ما

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٥٠

أن تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (١).

فتوأمة الكتاب وأهل البيت ، ومساواة عليّ عليه‌السلام بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وفق المنطق الذي آثره رسول الله في الافصاح عن امامته (٢) وتزكية الله سبحانه لهم في آية التطهير ، جميعها من أدوات ذي اللب في تفهّم أن الأمر ليس في الزعامة السياسية أو غيرها ، إنما هي راية حق يتوارثها الهداة منذ آدم إلى قيام الساعة.

وفي ختام نظرة الإمام إلى الدنيا ، يطالعنا قوله عليه‌السلام في سياقة الناس عنها ودفعها عنهم ، حيث يقول :

« فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال ، ولا يغلبنكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم الأمد » (٣).

الحق أن الذي يؤثر حرب الدنيا بهذا المقدار من التبصّر ، ويود لو

__________________

١ ـ لهذا الحديث مصادر متعددة ، منها سنن الترمذي : ٦ / ١٢٥ ( ٣٧٨٨ ) ، مسند أحمد : ٣ / ١٧ ـ ٢٦ ـ ٥٩ ، مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٢٣ ( ٤٦٣٤ ) ، وهنالك مظان متعددة يمكن الرجوع إليها بخصوصه.

٢ ـ في غير الغدير هناك رسائل أفصحت عن حمل علي لراية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منها : « قراءة البراءة على الناس ، ومنها استخلافه في المدينة ، ومنها اعطاءه راية خيبر الخ ، ينظر على سبيل المثال تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : ١٥ ـ ٥٦.

٣ ـ نهج البلاغة : خطبة ٥٢.

١٥١

أن الناس تنفتح قلوبهم على مغادرة مخادعها ، بكل هذا الاصرار ، وجميع هذا الالحاح ، يجعل من المتتبع له ، امرءً غائصاً في مياه الرحمة ، تلك رحمة الله التي مدَّ الناس بها ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين ) (١).

وتتجسد هذه الرحمة أكثر ما تتجسد في خوفه على مخلوقات الله ، خوف الذي كشفت له الحجب ، وعرف كنه سرائرها ، وميله الميل الأبوي بالغ الحنان والعطف والخوف عليهم ، نلتمس طرفاً منه هنا ، يقول :

« فوالله لو حننتم حنين الوُلّهِ العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيئة أحصتها كتبه ، وحفظتها رسله ، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه » (٢).

هذا حديث خائف على أمته ، قابض على رسالات ربه ، مدرك لحقائق الأمور ، وإلى أين تذهب بالناس دنياهم ، لقد همّ عليه‌السلام أن ينتزع الدنيا من قلوبهم انتزاع عدوه من مكمنه ، ليس له في ذلك صالح سوى أن لا يرى في عباد الله بعد أن أيدهم الله بنور نبيّه الخير ، وأن

__________________

١ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٥٢

يستقيم أمر دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي أفنى من أجل ارضاء ربّه به عمره منذ بدء خلقه حتى لقيّ وجهه شهيداً مخضباً بدمائه.

ودلالات خوفه على أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الناس لا تخفى على أحد ، منصف كان أم غير ذلك ، إنما لا يطلب الإمام أجراً جراء أدائه مهام هداية البشرية ، ومعلوم أنه يريد للناس الحياة التي بها ينعمون بآخرة لا يغشون فيها ما وعد الله الظالمين ، بل طريقاً مهدتها الرسل ، وأعدها خاتمهم وأمسك بها وصية عليهم جميعاً أفضل الصلوات من الله تعالى.

يواصل تحفيز أناس للرهبة من مقام ربهم ، لما في هذه الرهبة من رفاه لهم ، فيقول عليه‌السلام :

« أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياش ، واسبغ عليكم المعاش ، فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلّماً ، وإلى دفع الموت سبيلا ، لكان ذلك سليمان بن داود عليه‌السلام ، الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلما استوفى طعمته ، واستكمل مدّته ، رمته قِسيُّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية » (١).

إذاً لا طائل من التمسّك بحبال الدنيا ، فإن العبرة بالذين انصرفوا لا تخفى ، أو يجب أن لا تخفى ، حتى لا يستغرق الإنسان بالخديعة التي تمدد أطرافها نحوه الدنيا ، وكي لا يفوت الناس واعز الهداية ،

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٢.

١٥٣

فإنه يواصل عنايته بهم ، مفوضاً من الله تعالى في اعلامهم ما يفوتهم ، وحاملا متابعة رسالات ربه ، يعظ مثلما وعظ المرسلون الأولون ، ويؤدي ما أدت الأوصياء من بعدهم ، يعلم من هو وما هو ، ويعلّمهم أن يقفوا في هذا الأمر موقف العارف له ، في كل مرة نستمع إلى خطابه الذي يؤكد أنه ليس من العاديين في الناس ، أو من عامة الخطباء أو الساسة ، إنما تولّى منصب الهداية لا عن ملك انتزعه ، ولا عن دولة أقامها فتسلّط بالسيف على رقاب الناس ، إنما بالهداية الإلهية المحمدية.

نلحظ كلماته هنا في تبليغ واجبه ، والإعلان عن حقيقته ، يقول :

« إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بهم أممهم ، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم » (١).

وفي هذا القول ما يجعل القلب يجول ببصره أنحاء مفرداته ، فيستمع إلى روح الشفقة التي يحملها ، وثقل المهمة التي يقوم بها.

لكن الناس كعادتهم مع كل نبيّ أو هاد ، يسومونه غاية التعب ، ولا يشفقون على كينونته ، رغم عدم احتياجه لهذا ، لكن ( هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ) (٢).

يتابع قائلا عليه‌السلام : « وأدبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، وحدوتكم

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ الرحمن : ٦٠.

١٥٤

بالزواجر فلم تستوسقوا » (١).

والسبل التي اجترحها الإمام في إعادة بناء النفس الإنسانية ، هي على تنوّعها وكثرتها فيما يظهر من كلامه ، لم تكن لتردع الناس عن التعلّق بالدنيا واتيان حياض الآخرة ، والذي يشفع في ذلك كلامه هنا وفي مواطن عديدة ، أنه بادرهم القول والفعل والنصيحة والمنحة والعطية ، مثلما بادرهم التهديد والتأديب والوعظ ، لكنّ أكثرهم لم يستقيموا ، ولم يتخذوا الدنيا مثلما صوّرها لهم ، حيث قال : « أيها الناس ، إنّ الدنيا تغرّ المؤمّل لها والمخلّد إليها ، ولا تنفس بمن نافس فيها (٢) ، وتغلب من غلب عليها » (٣).

بجميع ما حوت كلمات عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من عظيم الموعظة ، ومسلك التربية ، وقوة الفؤاد ، وشدّة الخوف على العباد ، نعرف أن به يعرف وبرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعرف بسواهما ، اللهم إلاّ في امتداده في آل بيت النبوة ، وهو بحسب ما يرد في كلامه قد اتخذ للناس » الأمثال الصائبة ، والمواعظ الشافية ، لكن لو صادفت قلوباً زاكية ، واسماعاً واعية ، وآراء عازمة ، والباباً حازمة « ، وهو الذي

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ أي لا تضن الدنيا بمن يباري غيره في اقتنائها وعدها من نفائسه ولا تحرص عليه بل تهلكه.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٧٨.

١٥٥

على يقين من ربه كما قال (١).

ويصل الإمام علي عليه‌السلام مع الناس في شأن الدنيا ، أبعد ما وصل إليه الهداة ، من تحذير من ساقهم بعصاها فاطاعوها.

يقول : « قد تزيّنت بغرورها ، وغرّت بزينتها ، دارها هانت على ربّها ، فخلط حلالها بحرامها ، وخيرها بشرها ، وحياتها بموتها ، وحلوها بمرّها ، لم يصفها الله لأوليائه ، ولم يضن بها على أعدائه ، خيرها زهيد ، وشرها عتيد ، وجمعها ينفذ ، وملكها يسلب ، وعامرها يخرب ، فما خير دار تنقض نقض البناء ، وعمر يفنى فيها فناء الزاد ، ومدة تنقطع انقطاع السير » (٢).

في موازاة حبّه للناس ورجائه خلاصهم من فتنة الحياة الدنيا ، ودخولهم حظيرة الحق ، وامتناعهم وصرفهم عن مسارب السوء ، تقف هيبة الإمامة ناصعة النور لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فينفرط من عقد لؤلؤها كلم يمشي مع الناس منذ بداءة خلقهم ، حتى منتهيات آجالهم ، وما يزال يعرض في الدنيا كضد لها ، لا يمكن الاستفادة من مروره بها إلاّ كمن يرتشف قطراً من الماء في طريق طويل السفر ، قليل الزاد ، يحضر قلوب الناس في قوله :

« قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال ، وحضرتكم كواذب الآمال ،

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١٠ ، وغيرها.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١١٢.

١٥٦

فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة ، والعاجلة اذهب بكم من الآجلة » (١).

ترى لماذا كل هذا الشغف بتخليص الناس من الدنيا ، لأنّه عالم بمصائر الناس ، متيقّن من ربّ عبده عن بصيرة ، واحيا حياته على سبيل مرضاته ، وأحبّ أن يلتذ الناس بنعمة القرب منه ، وأبغض أن يسومهم باريهم سوء العذاب بما كسبت أيديهم ، فأشفق وأرفق ، وعلم وهدى ، وقد حذّرهم الدنيا بقوله : « احذركم الدنيا ، فإنها منزل قُلعة ، وليست بدار نُجعة » (٢).

ثم يواصل حضّه لهم على ذكر منتهاهم ما تيسّر له ذلك ، يقول :

« أولستم ترون أهل الدنيا يمسون ويصبحون على أحوال شتى : فميت يُبكى ، وآخر يعزّى ، وصريع مبتلى ، وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود ، وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ألا فاذكروا هادم اللذات ، ومنغّص الشهوات ، وقاطع الأمنيات ، عند المساورة للأعمال القبيحة ، واستعينوا بالله على قضاء واجب حقّه » (٣).

ويندر أن تنفلت من بين أيدي المتابع لعطاء الإمام عليّ عليه‌السلام في الناس ، قولا أو فعلا أو حقاً يراه أهل له ، ذلك لأنه كما تقدم لا يرجو

__________________

١ ـ المصدر نفسه.

٢ ـ المصدر نفسه.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٩٨.

١٥٧

لهم إلاّ حسن النهاية ، وجمال المئاب ، إنه يذرف جميع هذا العمر منذ البداية حتى الختام ، وهو سائر في الأرض يرغب في ارشاد عباد الله إلى الله تعالى.

ولما كانت الدنيا هي المعبّر الأوسع عن الشهوات والخداع وقصر الآمال والاستغراق فيما لا تنفع معه الخاتمة نافعة ، رأيناه يعرف بنفسه عن نفسه في تنصيب إمامته ، في القضاء على مؤامرات الدنيا في قلوب الناس ، ولعمرك متى ما انصرفت الدنيا بهذا المعنى عن القلب ، يكون الإنسان قد بلغ غاية فطرته ، وتعلق بحبل نور امامه ، ووصل حبال هذا النور ، بمواطن حب المعشوق والأكمل والأعظم الذي تزحف نحوه البصيرة ، وترغب إليه الذات.

هكذا كانت الدنيا هي الرمز الذي أعلن عليه الإمام الحرب ، وأن كل حرب قام بها ، إنما ينبغي أن تنصرف هذا المنصرف ، وأن كل وصية أوصى بها ، وكل بادرة خير للبشرية بادرها ، فإنما تنطلق من ازاحة حجب الظلام الذي يمنع نور الله تعالى من اختراق قلب المؤمن ، وكان بذلك لمن يبصر عيناً ، ولن يسمع أذناً ، ولمن يعشق فؤاداً ، وصارت بعد ذلك دلائله عليه ، ذاته في هذا المقام ، ولا يحتاج بعدئذ لمن يوصف له الرتب ، ويحاول ازاحة التسميات والصاقها به ، الإمام الملاذ ، هو المثال بهذا المعنى ، الذي يعلم كل شيء ، ويذهب في الناس جميعاً مذاهب الخير التي تعم عليهم ، وإن كان ذلك يحتاج

١٥٨

إلى قرابين كبيرة وعظيمة ، وإن كانت نفسه هي قربانه إلى باريه.

هكذا يصل السالك إلى طريق علي عليه‌السلام بعلي عليه‌السلام في جهة الدنيا ، وثمة طرق تناولها كي يقيم فيها الحجة على الناس ، ويخلص قلبه لله تعالى ، يلقاه مطمئناً إن أدى ما بعث من أجله منها ما قاله الله ورسوله ، وتنظر في طريق معرفتنا امامنا كيف أنطق ربه لسانه في البوح بمكنونات رحمته التي اختزنها قلبه ، مثلما ننظر مبادرته في القول بنبي الله الأكرم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الطريق إلى علي عليه‌السلام من قوله برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

كانت محطتنا في ايضاحه عليه‌السلام حقيقة الدنيا على قصرها ترغب في اطلاع الفؤاد على من وكيف وما هو الإمام ، في مقابل مخلوقات الله تعالى ، والذي يصرف أدنى جهده في الاطلاع على تعليماته في شؤون الدنيا ، سوف يجد أنه بذل من أجل ايضاحات خفاياها ، معظم جهده ، في مقابل بقية هديه ، لأنها تعتبر المسرح الذي تجري عليه أحداث الإنسان وما لها من حبائل تربط بها على قلبه ، فكان منادياً فذاً في الانتباه إلى مساوئها ، والنظر فيما يمكن أن يؤخذ من محاسنها.

ونحن إذ نرصد عملنا في هذا الفصل من أجل معرفة الطريق إليه ، نوقظ الغافل من غفلته ونرجو أن يدخل معنا مضمار إمامته من بوابة

١٥٩

معرفته برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفق ما انتهجه لنا علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولا شك أن ما في الناس من يجهل أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله ، لكن الحقيقة المحمدية أمر آخر هو غير مظاهر آياتها ، ولسنا هنا بصدد فلسفة الحقيقة هذه ، إنما نسير على خطىً نرى أنها من الطريق التي تؤدي بنا خارج نفق الظلمات ، وتوصلنا نحو ساحات نور الإمامة والنبوّة في عليّ ومحمد ( عليهما أفضل صلوات الله وسلامه ).

وغير خاف على الناس مدى تعلّق عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام برسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن الذي قد يكون أكثر اضاءة وأعلى أنواراً ، هو تحرّي هذا التعلق في بعض أقواله عليه‌السلام ، ويندر أن تجد في كلام الناس ما هو أدلّ على لصوقه به ، من جهة نبوّته تارة ، ومن جهة حقيقته الإنسانية تارة أخرى.

كما قد يتجلى بذلك العمق المرجو من الدنو ، ففي ما تقدّم من نظرية الإمامة تلمسنا أوجه الرغائب الحقة وفق ما فطر الله الناس عليه ، وكان من منافع ذلك والله أعلم أن يلفت الانتباه نحو أمور أكثر كلية وشمولية ، بل لعلها أكثر قرباً من حقيقة الإمامة ، وإذا كان لابدّ لهذا التصوّر من مصداق خارجي ، كان لابدّ لنا من تحرّي هذا البعد المنطقي.

وتوصلت بنا السبل إلى أن البشرية تقطع بوجود أنموذج هو غاية رجائها الإنساني ، وهذا الأنموذج دلت عليه كتابات الناس منذ

١٦٠