معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

هنا ، تكون في مقام الاعتراف بفضله سبحانه على الأمم ، وبالشكر له لما تفضل بإرسال رحمته التي وسعت كل شي ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (١) فالرحمة الإلهية المتجسدة بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أفاضت على الناس ما يزيل عنهم ظلمات النسيان ، أو بحسب تعبير علي عليه‌السلام : « أنَّ محمّداً رسول الله المجتبى من خلائقه ، والمعتام لشرح حقائقه ، والمختص بعقائل كراماته ، والمصطفى لكرائم رسالاته ، والموضحة به أشراط الهدى ، والمجلو به غربيب العمى » (٢).

فإذا تبيّن لنا أن الله سبحانه يختار الهداة من أنبياء ورسل وأئمة ، وعرفنا أنه بعد أن تقوم البيّنة على الناس في ( النبيّ الرسول الإمام ) ، بعون الله ومساعدته للناس والرسل معاً ، نقف بعد ذلك على أن الحقيقة النبوية المحمدية قد استمدت عظمتها من عظمة خالقها ، فأبانت للناس طرق الوصول إلى غاياتها ، وعرّفتهم كيف يكون الطريق إلى النجاة من مهاوي الردى ، وبعد ذلك ينتصب الحق الإلهي الذي أظهر للناس بفضل وعون الله سبحانه ، فيكون العباد الذين سوف ترث الأرض والغلبة لما يقوله سبحانه.

ولدينا هنا وقفة وهي أنّ هذه المعرفة التي تنبغي للهادي على

__________________

١ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٢ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١٧٨ ، المعتام : المختار لبيان حقائق التوحيد والتنزيه ، غربيب الشيء : أشدْ سواداً ، غربيب العمى : أشد الضلال والظلمة.

١٢١

الناس ، تواجه دائماً صعاباً لا تلين مع الدهر ، لأنها ضد الوساوس الشيطانية ، فلكلّ حق مشهد ، ولكلّ باطل وتد ، وعلى مدار الأزمنة ما تزال مصارعات الحق والباطل بدون هوادة ، من هنا كان لا بد من تذكرة باستمرار ، وقد قال سبحانه لرسله أن يذكروا ، فماذا يجب أن نتذكر نحن بني البشر! أنتذكر ميثاق الله الذي أخذه علينا ( ألست بربكم ) (١)؟ أم نتذكر أن الله سبحانه لمّا خلق آدم علّمه الأسماء كلّها ، وأن أبناءه نسوها ، فعليهم أن يتذكروا كيما يكفوا الظلم ، ويقوم الناس بالقسط؟ أم نتذكر أن الله سبحانه أرانا الحق بتوالي الرسالات ، وختمها بنبي الرحمة وأيده بأوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

لعلّ القول القرآني في التذكير يشتمل على جميع هذه الأمور التي ينساها المرء ، فهو بحاجة ماسة إلى هاد ، لأنه سبحانه لن يرضى عن أحد في شي سَخط به على سواه ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « واعلموا أنه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم ، وإنّما تسيرون في إثر بيّن ، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم ، قد كفاكم مؤونة دنياكم ، وحثكم على الشكر ، وافترض في ألسنتكم الذكر ، وأوصاكم بالتقوى ، وجعلها منتهى رضاه ، وحاجته من خلقه ، فاتقوا الله الذي أنتم بعينه ، ونواصيكم

__________________

١ ـ الأعراف : ١٧٢.

١٢٢

بيده ، وتقلبكم في قبضته ، إن أسررتم علمه ، وإن أعلنتم كتبه ... واعلموا أنه ( من يتق الله يجعل له مخرجاً ) (١) من الفتن ، ونوراً من الظلم » (٢).

على هذا تكون السنة الإلهية في الناس ، أنّه لا يرضى على أحد في شيء سخطه به على سواه ويقابلها عكسها ، فعندما تترى الأنبياء ، ويكون الهداة والأئمة في الناس بصورة مستمرة ، فإن الرسول الكريم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بما هو المشرّع باسم الله تعالى ، وبما هو الإمام الأكبر للبشرية ، شاءت أم أبت ، وبما أنّه المعبّر الأسمى عن التطلّع الإنساني نحو الخلاص من أية نقيصة واستثمار كل كمال ، فإنه لم يتوان عن إعلان كلمة الله تعالى في تذكير الناس بإمامهم الواقعي من بعده ـ ونقول الواقعي هنا في مقابل ما يمكن أن يتوهمه الناس من الزعماء الذين تمكنهم الظروف من اعتلاء منابر السلطة ، ويعملون على إطفاء نور الله ، بقصد أو بغير قصد ، ويتصورون أنهم هم أئمتهم فينحرفون عن سبل فطرتهم ونور قلوبهم ، وسبل ربّهم ، لذلك كان من الضروري بداهة أن يسمّي النبي محمد الأئمة في الناس ، ويمهّد لهم الطرق للتعرّف عليهم ـ فأتت أحاديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بما ينطق من وحي لتعبّر عن المتّجه ، وتفوت الفرص على خطوط التيه ، ومنها قوله الأكثر

__________________

١ ـ الطلاق : ٢.

٢ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١٨٣.

١٢٣

تعبيراً عمّا نحن بصدده : « ألا من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه » (١).

وفي عطف هذا النص النبوي على نصوص القرآن الكريم التي منها ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) (٢) ، نقف على الاستنتاج التالي :

إنّ الله سبحانه هو صاحب السلطة المطلقة على عباده في جميع شؤونهم وفي مختلف ظروفهم ، وليس لأحد عليه من فضل أو سلطان ، وهو تعالى القاهر فوق عباده وهو ناصرهم ومخلصهم ومالك مصائرهم ، بلا إشكال ، وهو سبحانه يؤتي الملك لمن يشاء ، وينزعه ممن يشاء ، وقد تفضل ببعث الرسل من أجل إقامة الحق وإزهاق الباطل الذي أخذت الناس سبلها إليه ، وقد انفرد بتولي مالكيته للكل بدون استثناء ، وهو بهذا اللحاظ أفاض على نبيّه برتبة الولاية على الناس عند قوله هذا ، لا لأن ذلك يضر بمصالحهم وسلوكهم ، بل ليعبّر يقيناً عن الغاية من إيجادهم ، وعليهم أن ترتقي معارفهم حتى تدرك هذا اليقين.

وليس هذا من قبيل القهر وفرض السلطان بقوة جبروته سبحانه ، وإنما عن طريق إقامة الحجة ، وثباتها في قلوب الخلائق ، لذلك نجد أن حب الناس لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإيثارهم له على أنفسهم وذويهم

__________________

١ ـ أنظر مسند أحمد : ١ / ١١٨ ( ٩٥٠ ) ( ٩٦١ ) ( ١٣١٠ ).

٢ ـ الأحزاب : ٦.

١٢٤

وهجرتهم معه وإيمانهم الذي فجَّر في الأرض مرابع الحكمة والدين ، لم يكن بالدرجة الأولى منبعه الخوف منه ، حاشاه ، بل كانت محبّته هي السائق إلى توجه المؤمنين اليه وتصاعد لهجة الحبّ له ، وانتشار دينه وذيوعه في الأرض ، وما يرى من محاولات لإطفاء نوره منذ بواكير دعوته ، إلاّ وهي رجس من أعمال الشياطين ، ما تزال تقوم وتقعد جيلاً بعد آخر ، لكنّها لا تقدر على طمس دافعية الحبّ ، التي نعبّر عنها بسلامة الفطرة ، والتي هي في مقام النور ، وكل ما سواها لا يعبر إلاّ عن الظلمات.

إنّ جميع هذه القرائن تؤكّد أمراً هاماً هو من أساسيات أبحاثنا هنا ، مفادهُ أن الله سبحانه قد بثّ بين أنوار آيات كتابه ما يجعل المطلع يفهم أن الإمامة خصيصة يجعلها الله لنماذج يصطفيها من خلائقه ليس لأحد عليها من سلطان ، ومن أجل توضيحها يجريها على السنة المبشرين ، فمثلما يخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلقاء الله تعالى وحلاله وحرامه ورضاه وغضبه ، يخبرنا أيضاً كيف نتلمس الهدي من بعده.

ولعمري أنه لكبيرة أن يفهم أو ينتشر بين البشر شي مخالف لهذا ، لأسباب عدّة أهمها ، أنه رسول الله وخاتم النبيين لم يفرط في شيء من حقوق الله تعالى وحقوق الناس ، كي يغمط هذا الحق ويبهمه علينا ، وهو الذي أُرسل رحمة للعالمين ، فكيف بأصحابه ، وأمته؟!

١٢٥

ودعونا ننجز نهاية القسم الثاني ، في دلالة القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإمامة المطلقة لآل البيت ، وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

بعد أن نقرأ قوله تعالى : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) (١) الذي يحسم لهم مسألة الخيار في الأمور التي هي من شأنه سبحانه ، ومنها الخلق واصطفاء الأنبياء والرسل ، كذلك في الأمور التي هي من مقتضيات حكمته التي لا يعلمها سواه ومن اختار من رسله ، التي تشير إليها ، الآية الكريمة : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (٢).

وبعد كل ما مرّ وبعد أن وصلت الأُمور إلى هذه النقطة نقول : إذا كان رب العزة قد حسم الأُمور التي يقضيها في مصلحة الناس لجهته وحصرها به وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هل تجد ثمة مبرر لتبديل هذا القول أو تأويله ، أو تحريره بخلاف ما يشير به هو إلى نفسه؟ وبعد ذلك كيف يمكن أن نحصل على اليقين ، إن لم نتمكن من فهم هذا التصريح الإلهي فهماً كاملا ، مع أنّه لا يخفى على البسيط الذي نال قسطاً من المعرفة ، فضلا عن العالم أو ذي اللب ، بأن الله سبحانه قرن في قضاءآت رسوله قرينة قضاءاته في أمور المؤمنين والمؤمنات.

وبذلك نحصل على نتيجة أخيرة مفادها أنّ الله تعالى قضى لهذه

__________________

١ ـ القصص : ٦٨.

٢ ـ الأحزاب : ٣٦.

١٢٦

الأمة أن يكون علياً عليه‌السلام إمامها الذي هو في مقام نبيّها في الناس بعده ، وهذه فيها خصلتان :

أولهما :

يجب أن لا نعتقد لبرهة بأنّ الإمام عليّ عليه‌السلام كان في عصر المبعث المحمدي الشريف قد خلق صدفة ، حتى يفهم وكأنه غلام من عامة الناس ، صادف أنه ابن عمّ النبيّ وهو في سن مبكرة من العمر ، فاختاره لنفسه لهذه الميزة ، وأخذ على كاهله شأن تربيته وتأهيله حتى بلغ هذه الرتبة ، لما في هذا الفهم من سذاجة! ومكمن هذه السذاجة في أنه لو لم يكن هنالك هذا الغلام لكان سواه من فتيان قريش ، وهذا غير وارد في زعمنا ، لأنّ المقام الذي يشغله الرسول والنبيّ والإمام لا يكون صدفة ، أي لا يكون انتخاب لا على التعيين ، بل أن هنالك صفوة ، هنالك حكمة إلهية من وراء هذه الصفوة.

ودليلها : إنّه جعلها في ذرية بعضها من بعض ، وأكدها مراراً في القرآن الكريم ، مثلما أكدتها سنة النبي الكريم ، ولو لم يكن الأمر هكذا ، لما لزم هذا التأكيد ولا كان هنالك مبرر لاختيار الله تعالى أشخاصاً بعينهم وإجراء ابتلائه فيهم ، ثم إتمام نعمته عليهم وإعطاءهم شرف ( المثال ) الذي تلهج وراءه النفس الإنسانية كما تقدم. إنّما كان الإمام عليّ عليه‌السلام من ضمن هذه الصفوة ، وهو وليد الكعبة المشرفة ، وجميع الشروط التي رافقت حياته تفيد أنه لو لم

١٢٧

يكن هو ، لما كان لأحد سواه هذه المنزلة.

ونحن هنا لسنا بصدد اقالة المدائح بمقدار ما نحن نُعمل الحكمة والتحقق في طبيعة مسألة الإمامة ، مع أنّه بحسب ما أورده ابن حنبل ( ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحيحة مثل ما لعلي ) (١) ، أو قوله : ( إن ابن أبي طالب لا يقاس به أحد ) (٢) ، والحق أنه لا يقاس به أحد ، لأنه من الآل اختارهم الله ورسوله ليقوموا في الناس ، وما كان لأحد أن يختارهم ، أو يخالف هذا القرار الإلهي.

وثانيهما :

في التفريق بين الإمام الذي هو هادي الناس ومخرجهم من الظلمات إلى النور بكلمات ربّه ، وبين شتّى أصناف الرئاسة والزعامة التي سبقت إليها الإشارة ، يجب أن نطمئن بأنّ أوامر الإمام الهادي ونواهيه هي امتداد لأوامر الله ورسوله ونواهيه ، وهذا الاطمئنان لا يتأت بمجرد استعراض شجاعته أو قرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو وقوفه إلى جوار نصرته ، وإن كانت جميعها تضيف اليقين إلى اليقين إذ أن الجبان ، وغير الناصر لا يكونان فيمن هو إمام الناس الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور.

وإنّما هو إمام بما يسوق الناس إلى منتهاهم الذي يتوفر لهم في

__________________

١ ـ مناقب أحمد بن حنبل ، ابن الجوزي ص١٦٢ وما بعدها ، طبقات الحنابلة ، ابن أبي يعلى : ١ / ٣١٩ ، كذا الينابيع : ٢ / ٦٨ ـ ٢ / ٢٩٧.

٢ ـ المصدر نفسه : ص١٦.

١٢٨

سبيل النعيم بحسب الرسالات السماوية ، وبهذا يجب أن تستحوذ جميع الشرائط شخصيته حتى يكون حجة الله تعالى على الناس ، وعلى المتفكر في إمامة عليّ عليه‌السلام أن يقرأ الآن هذا الكلام له عليه‌السلام :

يقول : « أيها الناس! إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم ، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم » (١).

هكذا تشتمل الإمامة على النبوة والرسالة ، وهكذا يدفع الله الباطل بالحق ، حين يقول : ( ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٢) ، فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤتي الناس الحكمة ، ويهديهم إلى جادة الصواب ، ويرسم لهم سبل استمرارهم في طريق النور والهداية ، بإعلان ولاية أمر الناس من بعده لعليّ عليه‌السلام ، فإن المؤمنين والمؤمنات هنا عند هذا القضاء النبوي المبارك ، الذي هو غير منفصل عن القضاء الإلهي ، ليس لهم الخيرة من امرهم ، وبالتالي يمكن أن يقال بأن التزام إمامته عليه‌السلام هو خضوع لقضاء الله ورسوله ، وأن عدم الالتزام بهذا الأمر هو خروج من هذه الدائرة ، وهذه النتيجة تؤيدها تصرفات ومواقف الإمام عليّ عليه‌السلام بين الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فأهل البيت ورأسهم علي عليه‌السلام ، نجرؤ هنا على القول بأنّ

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : خطبة ١٨٢.

٢ ـ الحشر : ٧.

١٢٩

جميعهم متساوون من جهة الإمامة ، فالاثنى عشر إماماً الذين يتحدث لنا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم ولاة المؤمنين ، ومن لم يتولهم لا ينقصهم في شيء من الشرف ، ولا ينقص من قضاء الله ورسوله فيهم من شيء ، ومن منا يستطيع أن يتخيل مجرد جولة من الخيال أنّ الله ورسوله لا يريدون بنا الخير ، يكون قد أخطأ قلبه ، وخرجت عن المحجة قدمه ، وعليه أن يستفيق من عتمة الظلمة ، ويستهدي بنور الحق ورايته ، لأن الذي ينطبق من الإمامة على علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، إنّما ينطبق بذات المقدرة على الأئمة الذين انحدروا من ولده بعده ، لعلّة إخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلا عن ذلك الناطق بلسان الحق المورّث لرايته ، ولعلَّه انطباق المصداق عليهم من خلال استقرار سيرتهم ، والتعرّف على علمهم وما أفاضوا على المؤمنين من فضائل ربّ الناس سبحانه وبركاته ، وقد ترك في الناس أثرهم وعلى المحتاج إلى رحمة ربّه ونوره أن يقتفي هذا الأثر ، وأن يستنهض همة قلبه كي يدرك معنى ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ) (١).

وثمة قبل الخروج من هذا المبحث السؤال التالي :

__________________

١ ـ أنظر وسائل الشيعة للحرّ العاملي : ١٦ / ٢٤٦ ( ٢١٤٧٥ ) ، وورد كما في صحيح مسلم ومسند أحمد ومعجم الطبراني : ( من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية ) و ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ).

١٣٠

إذا كان الله سبحانه يأمرنا أن لا نخالف ما يأتي به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلينا ، ما يلقّنا إياه وما يأمرنا به ، وما ينهانا عنه ، فكيف لنا أن نتعرف على جميع ما أمرنا به ، وأنه كما يعلم الناس ، قد نشب خلاف في تناول حديثه وروايته بين المسلمين ، ابتداء من عصر وفاته عليه وعلى آله السلام؟!

ونحن محكومون بالالتزام بطاعة الله وطاعته ، والذي لا نشك فيه أن الله سبحانه يخبرنا بهذه الآية ، أنّه حفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الناس ، لذلك هو يجريها على لسان الكتاب ، بمعنى أن الله لا يأمرنا بشيء ولا يكون لهذا الشيء من تحقق ، فينبغي أن نفهم أنّ جميع ما أتى به الرسول إلينا متوفر بين الناس إلى قيام الساعة ، وهذا المتوفر لا يحظى به بدون تدبّر وتفكّر ، وهذه ليست بدعة ، فإذا كان القرآن الكريم الذي هو دستور المسلم ، لا يمكن إدراك كنه آياته بدون تدبّر وتفكر ، فكيف ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله لا ينطق إلاّ بوحي؟!

إذن المسألة ليست في مكان القرابة! إنّ هذه الآية الشريفة تلفت أنظارنا إلى أن ما أتاناه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي نؤمر من قبل الله تعالى بالأخذ به ، هو متوفر ، لكنه يحتاج إلى تدبّر كحاجة الناس إلى تدبّر القرآن ، وأنّه لم يختف كلية عن الناس ، وإنّما هو في مقام النور الذي يجب أن يُخرج الإنسانُ بسعيه نحوه قلبه من ظلمات الضلال ويدخله في شرائح النور ، هنالك سوف يلقى إمامه ، الذي يسلمه

١٣١

تفاصيل الأخذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينهاه عن منتهياته.

ويطيب لي أن أختم هذا القسم بحديث يروى عن هاد من هداة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ( لا يكون العبد مؤمناً حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم ، وإمام زمانه ، ويردّ إليه ويسلّم عليه ، ويسلّم له ، ثم قال : كيف يَعرفُ الآخر وهو يجهل الأوّل؟ ... ) (١).

__________________

١ ـ أنظر : الكافي للكليني : ١ / ١٨٠.

١٣٢

القسم الثالث : الطريق إلى علي بعلي

في القسمين الذين أُنجزا بحثنا عن معرفته عليه‌السلام من خلال الاستنتاج والاستدلال ، ومن خلال كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصلنا إلى أنّ الله سبحانه قد أجرى في الناس سنته ، وليس لأحد أن ينازع الله سنته ، وقضاء رسوله قضاءهما ، فما لمؤمن أو مؤمنة أن يختار.

وبذلك تبيّن لنا أن الرعاية الإلهية قد حفت أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بإعلان إمامة عليّ عليه‌السلام في الناس ، استمراراً لهدى الله تعالى وإبقاءً لنوره ، وأن من عمل على إطفاء هذا النور خبا وذهب في مترديات الظلمة ، ومن شرح الله صدره لهداه ، أخذ بناصية فؤاده ، وساقه من حيث يستقر الإيمان في قلبه ، ويرد على حبيبه المصطفى يوم لا ينفع مال ولا بنون وقلبه مشتعل رغبة وحبّاً وأمان ، فهو على حوض المختار ، يسقى مياه أهل الجنة ، ويتراقص في نفسه النور فيجلب الخير لها ، فقد انكشفت أساريره عن هدي محمد باعتناق الإسلام ، وذاب قلبه

١٣٣

ولعاً بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فآثر ولاية عليّ على خلائق الله في الأرض ، فكانت راحة علي عليه‌السلام في ذاك المقام هي التي تفصل ما بينه وبين نار جهنم التي أعدّها الله للظالمي أنفسهم.

ونحن هنا سوف نقصد الطريق نحوه عليه‌السلام ، من خلال كلماته التي أرسلها منذ ذاك العهد في الناس ، وما تزال تسري في دياجي الظلمات تكشفها ، وتضيء جنبات الكون ، لكن الذي لم يمكّنه الله تعالى من إدراكها لم ينل حظه من العيش معه بعد ، ونسأله جلّ جلاله ، أن يقيّض لجميع أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وللبشرية أن تنفتح عيونها على هديه ، وتستلهم خلاصها منه ، فإنّه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يُدخلها في باطل ، ولا يُخرجها من حق » ، بل أنّه فاتح آفاق الأنفس على كوامنها ، ورافع نور الله فوق كلّ ظلمة بمنّ منه سبحانه ، لا بسواه.

والذي يدعو إلى التأني والتأمل في استعراض كلامه ، ليس البلاغة التي يتمتع بها كما يتصور البعض ، فما كان ليدركه النقص عليه‌السلام ، وحتى يبحث عن الكمال ، فالبلاغة ليست فضيلة أو إضافة إلى إمامته ، بل إنها من مقتضياتها ، بذلك نحن وإن راعنا جمال أسلوبه ، وأخذ بلباب أفئدتنا حسن تناوله للمفردات ، لكن هذه ليس بذاتها الهدف من الاستدلال عليه بكلماته ، وإنّما الهدف فوق ذلك ، إنه استلهام نوره من أجل إزاحة ظلمات عَلَتْ الأفئدة ، وكذلك استدراك

١٣٤

طريق تراكمت فوقه غبار التزييف والتحريض ، وانتضاء حق يشعل مصباحه إلتفاته.

بهذا نحن نقف قليلا مع ما يذكره عن أهل البيت الذين يدور معهم في فلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وينسج معهم على منواله ، فيأخذ منهم ويعطيهم ، ويتبادل معهم سرائر الكون ، ويكشف للناس خبايا مستقرهم ومستودعهم ، وطرائق عيشهم وسعادة أوقاتهم ، مثلما يزجرهم ويردعهم عندما ينظر فيراهم على غير الجادة ، لعمري كدفع الوالد ولده على اتيان حياض اللذة غير النافعة ، وعدله إلى طرقات الفوز والخلود.

كفاية الإمام

من المعروف في جميع الأوضاع أن صاحب الحاجة يذهب نحو من لديه هذه الحاجة فيطلبها ، وإن كانت هذه القاعدة في شؤون الدين أقل تحققاً ، فالمعروف أن الرسل لا حاجة لهم في الناس ، بل للناس حاجة إليهم ، يهبطون إليهم ليبلغوهم رسالات ربهم ، وكذلك الإمام ، فإنه ينطلق في الناس معبراً عن حاجاتهم ، رغم أنهم هم الذين في الواقع يحتاجون إليه.

وفي الكثير من الأحيان يتعرض ( المثال ) إلى هجمة من قبل أعداء النفس ، بأي شكل من الاشكال ، بقصد البغي في الناس ،

١٣٥

وإزاحة الحق وإحلال الباطل ، هذه خصلة موجودة بين بني البشر غير مستنكرة ، فالله سبحانه خلق الإنسان منذ آدم وفيه خاصية الجدل ، والتعبير عن الذي يريده بما لا يريد أحياناً ، فقد يدعو بالخير دعاؤه بالشر ، لكن هذا ليس لأنه يرغب ويريد الشر ، إنّما لجهل فيه ، أو لعدم إعمال العقل بالشكل الأليق ، أو مثلما يقولون قد يترك الأولى ، أحياناً عن قصد ، وأحياناً عن غيره.

فقد يجتمع الناس على إمامهم ، ثم ينقلبون ، وتأخذهم نوازع الشياطين ولا يدرون بعد ذلك مصيرهم ، فيخطؤون ويسيئون لأنفسهم ، ومنهم من يتوب عن ذلك ، ومنهم من تأخذه الحمية ، حمية الجاهلية ، فيسقط في امتحان الخلاص ، ويدخل شرك الضلال.

ويوجد في كلام الإمام مثل هذا التعبير عندما يذكر الناس الذين اجمعوا على قتاله عليه‌السلام مثلما أجمعوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

، لكن ثوب الإمامة الذي حباه الباري عزّ وجلّ به ينطق لسانه بقوله : « لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة ، ولا تفرّقهم عني وحشة » (١).

وقد آثر الناس مخالفة طبائع الحق ، ليس عن قصد في الغالب ، وإنّما عن عدم خضوع ، إمّا لكبر في النفوس ، وإمّا عن مراودة الشهوات ، ولو لم يكن ذلك لوجدنا الحق يجري فيهم مجرى التنفس

__________________

١ ـ أنظر بهذا الصدد : الخطبة (١٧٢) من ترتيب خطب نهج البلاغة.

٢ ـ أنظر : نهج البلاغة : كتاب ٣٦.

١٣٦

منذ خلق الله الناس ، وما من حاجة إذن لترادف المرسلين ، ولا من حاجة لقيام الأئمة فيهم ، لكن لما كانت الجبلة البشرية تأخذها منازعات وميولات ، كان من الطبيعي أن تستغرق في ظلماتها ، ما لم يردفها ربّ الناس بمن يذكّرها ، ويحنو عليها بالإمام ، وهو الرؤوف الرحيم بكل شيء أبدع خلقه وناوله حظه في العيش ، على أن يلج مدارك كماله ، أو ينحاز إلى مجارات مراتب الضلال فيأوي مع من آوى إلى المصير البائس ، والعيش الضنك ، إلاّ أن يشرق نور الله في حناياه ، وما من أمة أو قوم ، إلاّ ويقوم فيها من يلتفت إليه لو استيقظ القلب ، وما أن تحدث يقظته حتى يؤتى الحكمة ، والفضل العظيم ، فيعرف إمامه ، روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله عندما سئل عن الحكمة التي أوتيها لقمان ، فقال : « لقد أوتي معرفة إمام زمانه » (١).

اللهم اجعل القلب لا يفتقد نورك ، وامنن عليه بلطف منك ، أدخله مداخل النور عن بصيرة وأبعد عنه ظلمات العمى ، وتغمده بوافر مَنِّك ، واجعل له في معرفة إمامه من لدنك سبيلا ، لأنّ هذا لا ينال إذا انقطع حبل رحمتك ، وغابت عن العناية به آيات فضلك ، ومن يبتغ غير ذلك السبيل ، فإنه لن يجد له ولياً مرشداً.

إنّ معرفة الطريق إلى عليّ عليه‌السلام ، يلزمها المزيد من الانفتاح على أبواب الحكمة ، ليس لغيابه أو لصعوبة معرفته ، حاشاه فهو الذي لا

__________________

١ ـ أنظر : تفسير القمي : ٢ / ١٣٨.

١٣٧

يفارق القرآن ، ولا يشتبه في أنه ميزان الفصل بين النفاق والإيمان ، لقوله عليه‌السلام : « أنا قسيم النار » (١) ، ولقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : « يا عليّ لا يحبك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق » (٢) ، وإنما لكثرة ما يعمل على اخفاء الحق ، واشهار الباطل.

وكما قلنا ، ذاك شيء في طبائع الناس ، ولولا ذلك لما احتجنا لتكرار الرسل وتواترتهم ، وقيام الهداة واستمرارهم ، وهنا نقول :

إن الطريق الذي يفتح منه لنا باباً على الحق ، ينقسم بحسب هذا المبحث إلى عدّة أقسام.

ونبدأ القسم الأوّل بالكيفية التي ينظر فيها الإمام عليّ عليه‌السلام إلى نفسه ، وكيف ينقل لنا وسائل التعرف عليه ، والتماس هداه.

وسنلج في كلماته التي حملتها إلينا الأسفار عبر التاريخ ، ومنها سوف نلحظ مشهد الحق ونعاينه ، ونطرق باب النور ، فينفرج ما بين قلوبنا وبينه ما يجعل قلوبنا تطمئن بذكر الله تعالى ، وتخشع رغبة في حنوه.

ننظر هنا إلى كلماته يخاطب فيها الناس ، وهو قائم مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلمهم ويعظهم ويميل إليهم بارتياد ثوب النجاة من الفتن ،

__________________

١ ـ أنظر : ينابع المودة للقندوزي : ١ / ٩٠ ، النهاية لابن الأثير : مادة ( قسم ) ، بصائر الدرجات للصفار : ١٩١.

٢ ـ أنظر : ربيع الأبرار للزمخشري : ١ / ٤٨٨ ، كشف الخفاء للعجلوني : ٢ / ٣٥٠ ( ٣١٨٠ ) نقلا عن مسلم والترمذي والنسائي ، وغيرهم.

١٣٨

ولا يترك مطرحاً إلاّ وشغله بإلفاتهم إلى نور الله تعالى يقول : « والله ما أسمعكم الرسول شيئاً إلاّ وها أنا ذا اليوم مسمعكموه ... ولا شقت لهم الأبصار ، ولا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الأوان ، وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان » (١).

لن يحتاج المتأمل في هذه الكلمات إلى مزيد تدبّر ، كي تنكشف عليه حقيقة ما يؤديه ، فعلي عليه‌السلام الذي ما أقسم بالله إلاّ صادقاً ، يقول للناس : إنّ المسافة التي تفصلكم عن آبائكم الذين كانوا عندما بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يغرقون في متاهات الضلال ، ليست بمسافة بعيدة ، « ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد » (٢) ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام فيهم ، فأزاح عنهم ظلمة الضلال ، وأضاء قلوبهم بنور ربّه وكلماته ، وانني الآن أقوم فيكم ذات المقام ، وأودي رسالته ، اسمعكم ما أسمع النبيّ آباءكم ، وأكشف عن بصائركم.

والذي يجرؤ على قول كهذا ، لا يسعه أن يكون مدّعياً ، وهو على رأس أمم من صحابة نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! كذلك لا يسع المدّعي أن ينفرد بإتيان الناس مذكّراً ما كان عليه آباؤهم من جاهلية ، ومنفراً إلى الله ورسوله بمثل ما نقرأ عن عليّ عليه‌السلام.

لكن الإمام هنا ، يؤكّد الإشارة إلى أنّه حامل راية الحق ، التي

__________________

١ ـ نهج البلاغة : خطبة ٨٨.

٢ ـ المصدر نفسه.

١٣٩

تتوارثها الأنبياء والرسل وعند غيابهم تكون في يد الأئمة الهداة ، والإمام عليّ عليه‌السلام يبيّن دائماً بأنّ آل محمد في زمن الإسلام هم حملة هذه الراية ، فيقول :

« لا يقاس بآل محمد عليهم‌السلام من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة » (١).

دعونا ننظر هنا في الكيفية التي يعرّف فيها الإمام عليّ عليه‌السلام بآل محمد ، وبالطبع هو قطبهم ، إنه يشير إلى إمامتهم للناس ، ليس تلميحاً ، بل مثلما قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تصريحاً « لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه » ، الله سبحانه يتفضّل على الناس بأنه أنعم عليهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويجري فضله في آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان الذي يتحدّث هو الإمام كاشفاً عن القلوب أغطيتها ، يرسل كلامه في الناس ، منذ تحدث إلى يوم يبعثون وقد حفظ الله كلامه هنا للناس ، على الرغم من أنّ الأزمنة تدور على الدول ، ولما لم تكن للإمام دولة ، بل كانت روح الهداية ، فقد انزاحت الدول وبقي نور الله يسري في فلوات الأزمنة.

__________________

١ ـ المصدر نفسه : خطبة ٢.

١٤٠