معراج الهداية

الدكتور سعيد يعقوب

معراج الهداية

المؤلف:

الدكتور سعيد يعقوب


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-430-2
الصفحات: ٢٠٢

الإيمان بعد ذلك ، وموطن عدمه أيضاً ، في قوله تعالى ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) (١) ، وقوله تعالى : ( لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ) (٢).

من جميع ما تقدّم وسواه من واسع فيض كلامه سبحانه ، نستنتج أنّ القلب هو الموطن الذي استهدف رسل الله ايناعه وعملوا على انباض جنباته بالنور ، وهو مركز استقطاب هذا النور ، وهو الذي تتعيّن الفطرة في عمقه ، فإن حجب عمي ، ولا يستوي حين ذاك صاحبه مع من لا يرى إلى أين ولا كيف يسير ، وعلى هذا القلب أن لا يتباطأ منذ الآن ، ثم التعرف على هداته من أجل التقاط خيط النور ، والإفلات من ضلالات الظلمة.

وإنّ الله سبحانه بما خصّ به مخلوقاته من حبّ ، بأن أفاض عليهم نعمة الوجود ، لعالمٌ بسرائرهم ، كما هو عالم بما يصرفهم عن حقيقة بحثهم ودأبهم نحو مثالهم وكمالهم ، فواتر فيهم أنبيائه منذ أقدم عهودهم ، وأيدهم برجالات ينصرونهم ، وتمايزت القلوب في المؤيدين ، وتفاوتت منازلها كلٌّ بمقدار ، إلاّ أنّه سبحانه لم يخل الأرض من هاد أبداً ، وهذا الشأن يلاحظ في قوله تعالى : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) (٣) ، فهو يدلّ على أن الهداة لا ينقطعون من

__________________

١ ـ الحجرات : ١٤.

٢ ـ المائدة : ٤١.

٣ ـ الرعد : ٧.

١٠١

جهة ، وأنهم من جهة ثانية يؤدون أدوارهم.

وإلى هنا نصل إلى أنّ ( راية الحق ) تخلّف في الهداة ، وأنّ الإمام لهو الملاذ ( المثال ) ، فلعمري لا تكون هداية الناس إلاّ إحدى خصائصه ، وليست جميعها.

الطريق إلى الإمام علي عليه‌السلام

علينا أن لا نستغرب من هذا العنوان ، لأنّه وضع بعد ذلك التمهيد الذي اعتمد منهج التحليل والاستنتاج ، من أجل وضع لبنة جديدة في بنيان مفهوم الإمامة عسى ينظر إليها بعين التأنّي ، وتؤخذ مع من يتوسع بها إلى ما هو أكثر إفادة ونفع.

ونحن في هذا الفصل بحول الله سوف نحاول الإجابة على مجمل ما يرد على تلك المقدمة في الإمامة من أسئلة أو إشكالات ، كما سنحاول بالنتيجة أن نعطي تصوراً موضوعياً في الإجابة على السؤال الإشكالي الذي طرح قبل قليل حول كلمة ( الإسلام ).

نبدأ أولاً بالنظر إلى انطباق مفهوم الإمامة الذي أجريناه في بحوثنا على الإمام علي عليه‌السلام ، ويفيدنا في هذا المجال أن تقسم هذه البداية إلى عدّة أقسام :

١٠٢

القسم الأول : في تسلم راية الإمامة

نود أن نذكر بأنّنا وصلنا في الفرق بين الإمامة وأنواع الزعامة التي تنضوي تحت ظلها ، ولا تطاولها بحال ، ونرغب أن يستمر القارئ معنا في التمسك بالطريقة القرآنية التي تجعل من القلب وطناً للتعقّل.

لقد سمح لنا التحرك في أرجاء المفهوم أن نغادر المعنى الظاهري لكي نتعمق في معرفة الإمام في عيانيتها ، وتراءى لنا أنّ الفرق بين النور والظلمة يساوي الفرق بين الإبصار والعمى ، ونلاحظ أوّلا أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في كلماته يتناوب كلمة ( ضياء ) كلّما ورد ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو ذكر القرآن الكريم ، أو ذكر أهل البيت النبوي عليهم‌السلام ، كذلك نرى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما يشير في كلامه إلى أهل بيته عليهم‌السلام ، فإنّه يصفهم بأداة النجاة من الغرق ، والتي تشبه إلى حدّ بعيد مفهوم الخلاص من الهلاك ، والذي يمكن أن يحمل على أن النور هو الخلاص ، والظلمة هي الهلاك ، فكيف يستدل على هذا النور؟

بالدرجة الأولى ينبغي أن تنقطع نهاية هذا الأمر إلى الله سبحانه

١٠٣

فهو الذي يحيله إليه ، يقول سبحانه : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) (١) ، لكن هذا الإخراج كما لاحظنا مشروط وفق القانون الإلهي بالإيمان ، والإيمان كما بيناه في بحث الفطرة لا يأتي من غير دين ، وإذا كنا قد بلغنا في متابعتنا لمسيرة النفس الإنسانية وما تحمله من قابليات ، وتبيّن لدينا أنّ الإنسان بطبعه منصّت إلى نداء داخلي يتعلق به من قبيل الاعتقاد ، وسقنا على ذلك شواهده العلمية ، نصل بعد ذلك إلى حتمية أوردها الإمام علي عليه‌السلام في كلماته ، المفتاح الذي يفتح قفل هذا الأمر ، وهو كلامه الآتي يقول : « أول الدين معرفته ـ أي الله ـ » (٢).

واللافت يقيناً أن هذا القول لا ينحصر بالإسلام ، وإن كان لا يرى فوق أو غير الإسلام ديناً ، إنّما هذا يلفت إلى الأديان كلّها باعتباره يصرّح بالأوليات التي تبنى عليها فيما بعد النتائج ، وهو يسلسل هذه النتائج معتمداً هذه النقطة الأولية على أنّها مفتاح البداية ( أوّل الدين معرفة الله ) ، والذي يقودنا إلى هذا ، هو أن الله سبحانه خلق الخلائق وهداها إلى نوره ، فمنذ البدء ثمّة هذه الأولية ، منذ تكوين الناس وإعمارهم للحياة ، وهو الذي فطرت عليه الإنسانية ، وهنا نملك أن نقول : إنّ المعرفة بالضرورة توصل إلى الإيمان.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٥٧.

٢ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ١.

١٠٤

وهذا الإيمان الذي تشكّل من جرائها ترتبت عليه درجات الكمال التي يشير إليها عليه‌السلام في متابعة كلامه ، بقوله : « وكمال معرفته التصديق به ».

ويقول « الطباطبائي » في معرض شرحه لهذه الجملة : « والتصديق هذا هو الذي يوجب خضوع الإنسان له في عبوديته ، وبهذا التصديق يرسخ الاعتقاد ويثبت ، لذلك كان هذا التصديق كمال المعرفة » (١).

عند هذا المقام سوف تنطبق الآية الكريمة على أنّ الله سبحانه يتولّى إخراج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور ، ولكن هذا لا يكون قبل الخضوع للعبودية بحسب قول الطباطبائي.

وإذا حملت هذه العبودية على أولية المعرفة ومتابعتها إلى كمالها ، نجد أن الله سبحانه في هديه أجرى قانوناً أورده في كلامه عزّ وجلّ ، هو إرسال الرسل وتزويدهم بالكتاب وهم ملاك الطريق إليه ، يقول سبحانه وتعالى : ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) (٢) ، فيمارس الرسول هذا الدور بما أوتي من خصيصة تشتمل على الولاية ، فالله عزّ وجلّ كما أثبتنا قبلا هو صاحب الولاية المطلقة على جميع خلائقه بلا اشكال ، وهو الذي

__________________

١ ـ علي والفلسفة الإلهية : ٤٤.

٢ ـ إبراهيم : ٥.

١٠٥

يتولى المؤمن ويخرجه من الظلمات إلى النور ، وهو الذي يمنح هذه الرتبة للهداة الأُول ، يمارسون بدورهم الممنوح من قبله عملية إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

لكن هل انحصرت هذه العملية بالرسل والأنبياء؟ وهل هذه الوظيفة الكونية بما لها من ضرورة وأهمية دائمة أبداً ما دام هنالك بشر على وجه الأرض تنقطع برحيلهم عليهم الصلاة والسلام؟

من الناحية العقلية لا يظهر أنّ ذلك يكون ، وعلّته واضحة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسيرة الحياة الإنسانية ، والذي عليه الحال أنّ المجتمع الذي يعتنق اعتقاداً دينياً حصل عليه من قبل نبيّ أو رسول ثم تغيّب هذا النبيّ أو الرسول ، لسبب ابتعاد أو وفاة أو أي سبب آخر وإن كان قد أنجز رسالته ، فإنّ هذا المجتمع يأخذ تدريجياً بتغيير هذا الاعتقاد ، وفي مثل هذا الحال تذهب العقائد نحو تبدلات تطرأ عليها ، وقد تكون هذه التبدلات منذ البدء طفيفة وتأخذ مع الزمن بالتطاول أو التفرع ، وقد تكون كبرى كتلك التي حصلت مع نبيّ الله موسى عليه‌السلام ، حين غادر أتباعه إلى ميقات ربّه واختفى عنهم وخلَّف فيهم أخيه هارون عليه‌السلام ، وأنّه لما رجع إليهم وجدهم قد انحرفوا انحرافاً كبيراً عن التوحيد ودخلوا في الوثنية من جديد.

هذا الانحراف الكبير يورده القرآن الكريم في معرض الكشف عن طرائق البشر في التعامل مع هداتهم ، على الرغم من أنّ هذا

١٠٦

الهادي يصرف كل جهده في دعوته ويعرض حياته للخطر الدائم والأكيد ، لأنّه لا يلين ولا تعرض عليه عوارض قبول التخلي عن رسالته ، لذلك كانت الهداة صفوة خلق الله كما يرد في عدد من آيات الكتاب الكريم ، وإذا كان موسى عليه‌السلام من هذه الصفوة ( قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) (١) ، وقد برز إلى فرعون وأنجز رسالته وأوفى إلى الذين اتبعوه.

إذا كان موسى ما يزال بين ظهرانيهم ، وغادر مستجيباً لداعي ربّه ، وخلّف فيهم نبيّاً هو هارون ، وأنّ الفاصل الزماني هو عدّة من أيام ، نلاحظ كيف انقلبت العقيدة التي تركها فيهم هذا الوقت ، يقول الله سبحانه هنا : ( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً ) ، وأين كان خليفته هنا في هذه المرحلة البالغة التعقيد؟ أين كان هارون؟

ويقول الله تعالى في متابعة القصة ، إنّ موسى عندما عاد إلى قومه وجدهم قد آلوا إلى العجل فقال : ( بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) (٣).

__________________

١ ـ الأعراف : ١٤٤.

٢ ـ الأعراف : ١٤٨.

٣ ـ الأعراف : ١٥٠.

١٠٧

وفي الواقع انّ الخليفة الذي تركه الرسول موسى عليه‌السلام لم يكن ضعيفاً ولا ليناً ، حتى يقبل بالنزول عن عقيدته ، بل أنّه ـ بحسب القصة القرآنية ـ كان رجاءَ توسل موسى لله تعالى أن يحقق له ليشدد به أزره ، ويؤيده بنصرته ، لكن الحق أنّ طبائع الناس في العقائد والأديان عرضة للاهتزاز إذا لم تكن الهداة على رأس حياتهم دوماً ، ومع أنّهم يكونوا كذلك ، فإنّ التعبير والتحريف في العقائد نصوصاً أو وصايا أو أفعال يجري ، فكيف عند غياب المركز؟!

لكن على الرغم من ذلك ، نجد نسقاً من المؤمنين بالأديان لا يغادر الصواب ، وأنّه إن حصل ذلك وغادرت فئة أو فرد أو جماعة ، فإنّ قلوبهم قابلة لإزاحة العمى والعودة إلى جادة النور ، وهؤلاء يحظون بعناية كبيرة في الذكر الحكيم ، ونلاحظ قوله تعالى في هؤلاء الذين يؤمنون بالأنبياء ويعتنقون دين الله تعالى ، ثم يبتعدون عن جادتهم أنه جل وعلا يصفهم : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غياً ) (١).

وهنا يستعرض تعالى شريحة تغادر رسالة أنبيائها بعد أن آمنت ، وتضيع عباداتها ، لكن ثمة تلك الفئة التي اهتزت مواقفها القابلة للرجوع يذكرها هنا قوله سبحانه : ( إلاَّ من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً ) (٢).

__________________

١ ـ مريم : ٥٩.

٢ ـ مريم : ٦٠.

١٠٨

يتضح لنا من خلال هذا أنّ الناس يوقنون ، ثم يتبدلون ، ثم يرجعون ، ومنهم من يفجر فلا يملك طريقاً إلى نور ربّه فيضل ضلالا ، بحيث يصبح قلبه في دياجي الظلمات ، وترسخ هذه الظلمات في وجودة ، فينطبق عليه القول أنّه ضلَّ بما لا يمكن بعد ذلك شيء من الرجوع ، ويصدق عليه قوله سبحانه : ( فلن تجد له وليّاً مرشدا ) (١) ، لأنّه أقفل على قلبه ، وغادر فطرته إلى الأبد ، فلا ملاذ له ولا إمام له فهو في عتمة لا نور فيها.

وفي الناس من تلج الظلمة قلبه ، ويستغرق فيها ردحاً ، ثم تتجه خطا نفسه نحو تطلعات النور ، فتقترب منه تدريجياً إلى أن تلوذ به ، وتتحسس آنئذ بواعث الرحمة والهدى ، وتنكشف على إمامها ، وتتوب من ذاك الذي أقلقها لحين من الدهر.

في حمل راية الحق

ونتبيّن أيضاً أن راية الحق هي راية النور ، التي يخرج بها الله الناس من الظلمات تحملها الأنبياء ، فتنشر ضياءها إلى الناس ، وعند مغادرة النبي يحملها من يقوم مقامه.

وأي مقام هذا؟ ، بدون شك هذه ليست وظيفة إدارية ، ولا هي زعامة سياسية أو عسكرية! أظن أنّ القارئ الكريم ، قد انكشفت له

__________________

١ ـ الكهف : ١٧.

١٠٩

الآن بعمق ماهية الفارق بين الإمامة التي ينظر إليها الناس على أنها شكل من أشكال التقدم في شؤون العمل الحياتي ، أياً كان هذا العمل ، وبين الإمامة التي هي مقام حمل راية الحق ، راية النور ، المقام الذي يخرج به الله تعالى الناس من الظلمات ، وهذا منصب لا يُعطى لأحد إلاّ بالمشيئة والقرار الإلهي.

كيف ذلك؟ نستمع إلى هذا الكلام المبارك من قوله تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) (١) ، إنّ مفهوم الاصطفاء الإلهي هنا لا ينازع ، بمعنى لا مدخلية للمخلوقين في إقراره أو عدمه ، فالمنطق الذي يحكم حمل راية الحق هو منطق الحكمة الإلهية ، وإذا كان الله مولى الذين آمنوا ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) (٢) قد أنجز مشيئته في وضع الهداة إليه وحمله راية نوره ، فالحق في الإقرار بهذا أو نفيه ليس من صلاحيات البشر.

ولقد ثبت على أرض الواقع أنّ هؤلاء الذين اصطفاهم سبحانه هم الذين أنجزوا مشروع الدين في الناس على مدار الأزمنة ، وإذا أراد المرء أن يتابع حركة مسيرتهم ، فإنه لن يقف على خلاف الحق ، ولن يجد فيهم الزيغ عنه قيد أنملة ، لا لأنّها وظيفة يمارسونها ،

__________________

١ ـ آل عمران : ٣٣.

٢ ـ البقرة : ٢٥٧ ، المائدة : ١٦.

١١٠

فالوظائف التي تمارس فيها الأعمال عادة لا بد من الوقوع فيها بالأخطاء ، كيفما كان شكل هذه الأخطاء ، صغيرة أم كبيرة ، خفيفة في ميزان النظر أم ثقيلة ، وإنّما هي كينونة ، هي حقيقة ، و ( النبي الإمام ) الذي جعله الله مصداقاً لرحمته في الأرض هو ( المثال ) وهو مركز النزوع الإنساني إلى الكمال ، وهو إذاً المصطفى من قبل ربّ الناس ، ليعبر عن نور الله الذي يتحرك في الأرض مجسداً ، بعد أن وضعه الله في القلب البشري فطرة ، ودارت عليه الأزمنة ، فغشيته حالات الصدأ ، ولا يركن إلاّ للحقيقة التي تعمل توجيهات هذا الإمام على إظهارها فيه.

هذا المجسد لهذا النور هو قائم في الناس ، لا يتغيب ، وهذا القيام له تحققات متعدّدة ، سوف نتحدث عنها في مكان لاحق من هذا الكتاب.

نلفت هنا إلى أنّ ( الإمام ) الذي يجسّد هذه الحقيقة ، هو بالضرورة بعد أن فهمنا الاصطفاء غير قابل للخطأ ، ومن هنا تنبع أهمية فهم مسألة ( العصمة ) وعند هذه النقطة لا ينبغي الاختلاف في تفاصيل صغيرة أو كبيرة حول ماهية العصمة ، فالمصطفى من الله تعالى ، المعبِّر عن نوره الحامل له كهاد لمخلوقاته ، لا مجال لتناوله تناول البشر الذين يحسنون ولا يحسنون ، أو يخطئون ويصيبون ، فما البشرية عند ( الإمام ) سوى مظهر ألبسه الله إياه في ثياب الجسد ، وهذا ليس

١١١

قولاً تعسفياً ، إنّما هو واقع حالهم عليهم‌السلام.

من هنا كانت لهجة النبيّ كلّ نبيّ لا تحمل بين مفرداتها سوى إيقاظ قلب الإنسان من أجل سلامة مصيره ، ولو كان لهم مثلما للناس العاديين ، لكانت لهجتهم تشبه من يرغب بإنشاء ملك في الدنيا ، أو تتنازعه غرائز البشر في الشهوات كافة.

فالراية هي التي دليل النور ، يقول فيها الامام عليّ عليه‌السلام : « وخلَّف فينا راية الحق ، من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها زهق ، ومن لزمها لحق » (١) ، هي هذه ولا شيء سواها ، ( راية النبوة ) راية هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، فمن أراد أن يطفئ نور الله عمل على إخفاض هذه الراية ، ومن أراد أن يستنير بنور الله لزمها ، لم يتخلف عنها ولم يتقدمها.

وفي هذا المقام يطيب ذكر حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كنت مولاه فعلي مولاه » (٢) ، والذي يوجب إيراده هنا ، هو وصولنا إلى قرب نهاية القسم الأوّل من الطريق إلى الامام عليّ ، الذي نوجزه بالتالي :

لقد أجرينا عملية دمج بين ( النبوة والرسالة والإمامة ) وفق تصور مبني على أنّهم حقيقة واحدة ، يفترقون في التسميات ويلتقون في الغايات ، ويكون الافتراق مبني على إحدى ضرورات المرحلة التي

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ٩٩.

٢ ـ أنظر مسند أحمد : ١ / ١١٨ (٩٥٠) (٩٦١) ( ١٣١٠ ).

١١٢

تكون البشرية بحاجة إليها فالنبيّ الهادي والرسول والإمام يقومون جميعاً بإظهار حقيقة النور والعمل على إزاحة الظلمة ، وهم إمّا أن يكونوا موجودين معاً ، أو أن يتبادلوا الأوقات ، أو يأتي واحد وراء الآخر أو قبله.

وأما حول مصدر هذا الدمج ، فإنه بالإضافة إلى ما أوضحه القرآن الكريم حول نبوّة ورسالة وإمامة إبراهيم عليه‌السلام فإنه أشار إلى تقلب هذه الحقيقة في الذرية التي بعضها من بعض (١) ، وإنّه لمّا لم يكن الله سبحانه ليفرق بين أحد من رسله ، فإنّ كل رسول بمثابة نبيّ وإمام وهذا يجري على الإمام والنبيّ مثلما يجري على الرسول ، وعلّة هذا القول بنصوص القرآن الكريم ( لا نفرق بين أحد من رسله ) (٢) أو قوله ( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم ) (٣) ، فإذا كان كل رسول هو نبيّ وإمام كإبراهيم ، وهو مقام الصفوة ، فإن توريث راية الحق هو شأن من شؤون الله سبحانه ، لأنّ الاصطفاء أمر إلهي لا دخل لأحد فيه ، كذلك خيار استمرار الرسالات لا لأحد قدرة على التدخّل فيه ، نعم قد يتم التدخل ليس في الإمام ، إنّما في طرائق نقل المعارف ، أقصد

__________________

١ ـ ترد تفصيلات هذه الحقيقة في القرآن الكريم في عدد من المواضع ، راجع مثلا سورة الحديد الآية ٢٦.

٢ ـ البقرة : ٢٨٥.

٣ ـ النساء : ١٥٢.

١١٣

في الوسائل التي يمارسها الناس في نقل العقائد ، أما موضوعه الإمام ، فهي وفق ما تبين مشمولة بحمل راية الحق ، وهي راية الرسل تدفعها إلى أهلها.

والذي يتحقق من وراء ذلك أمور عدّة ، منها أنّ الله سبحانه يعلم طبائع بني الإنسان ، فإذا غادرهم الهداة ، تخبطوا ، بين من يلج الظلمة فلا يرجع عنها وبين من يبحث له عمن يثبت قلبه على هداه ، وبين من لا تغره الأشياء التي تعصف لا بهؤلاء ولا بأولئك ، لكن هذا النوع الثالث نادر ندرة شديدة ، بحيث تلتقطه أنفاراً منهم مع كل رسول ونبي وإمام ، وتكاد تعدّهم دائماً على الأصابع ، أما أولئك الذين بين بين فعددهم وفير ، وهم بحاجة مستمرة إلى من ينظر في شأن قلبهم ويبقي له سراج النور ، وإذا ما نظرنا إلى الذين يلجون في الظلمات أيضاً وجدناهم غير قليل عديدهم.

وبين هذه المراتب الثلاث تخلق عمليات الجدل المستمرة وتدافع الأفكار واختلاق ما يثير استمرار البحث والدأب ، ويصعب أو يندر أن تتوقف الحاجة إلى إثارة أمر من أمور الدين أو الدنيا ، ولا تنقسم حوله الآراء والأفكار حتى يبلغ مراحل تأخذ بناصية المعارك وتدور بين الناس الحروب جراء الاختلافات ، وتهرق الدماء ، وهذا معروف في جميع مراحل البشرية.

من هذا المنطلق وسواه ، تصبح مسألة إبقاء الرمز المثال ( الإمام ) في واقع الناس أمر ضروري ، فغيابه يفرغ المساحة للفتنة ، وإن كان

١١٤

وجوده لا يلغي مثل هذا الأمر ، إنّما في الحدّ الأدنى هو يخفف من شدّة تدميرها وأثرها ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن نصاب القسط الذي تسعى الرسالات من أجل إبقائه وإقامته ، يلزمه دوام ممثل للحق ، رافع لرايته ، وكثير من الناس من يمثلون حمل هذه الراية ، ويخدعون ويمارسون أدواراً تمثيلية على الناس ، لمصالح أو أغراض تؤتي منافع أو تشبع حاجة أو تخلّد مأثرة ، إنّما الإمام الذي هو شأن إلهي فهذا أمر ينبغي الإضاءة حول معرفته ، وقد تولى القرآن الكريم ذلك مثلما تعهدها النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصلها إلى البشرية.

بهذا نعرف جوهر المقصود من الآية الشريفة ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) (١) والآية المباركة ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (٢) ، فبقاء الرسائل السماوية من أجل تحقق هدفها في الناس أمر حتمي ، ومن أجل إظهار هذا الهدف واقامته في الأرض ، فإنّ الرسل والأنبياء والأئمة لا ينقطعون عن الناس ولا يفارقون حياتهم ، كيفما كانوا وأينما كانوا ، ولا يعني عدم التزام الناس بأوامر الرسل والهداة ، أنّهم لا يقومون فيهم ولا تسري قوة الكلمة الإلهية بين البشر ، بل على العكس ، لأن نصرة الحق بأية طريقة كانت هي تلبية لغاية العدالة ، وهي تعبير عن سريان هذا النور.

__________________

١ ـ المجادلة : ٢١.

٢ ـ الأنبياء : ١٠٥.

١١٥

وهنا نقف هنيئة عند جملة ( وخلّف فينا راية الحق ) التي ترد في حديثه عليه‌السلام وروداً تام الدقة في التعبير عن استمرار الهداة ، الذين يشغلون المساحة التي يهدف إليها خط الرسل ، وعند التيقن من هذا الأمر أخي القارئ الكريم ، سوف تنفرج أمامك سبل معرفة الفرق الجوهري ما بين ( الإمام المثال ) ، وما بين الزعماء والقادة الذين يملكون ويزولون ، ويحكمون ويمضون ، وليس لآثارهم في عقائد وقلوب الناس ما يمكن أن يدخلهم دائرة الصفوة ، التي تؤدي بدورها إلى مفهوم العصمة ، والعصمة شأن لا يكتسب اكتساب المعرفة والدراية ، إنما خصيصة تدخل في دائرة معرفة الله سبحانه لأولئك الذين اختارهم رسلاً وأئمة ، وما هؤلاء سوى بشر رفعهم عن حجب الظلمات وأيدهم بنوره وكلماته.

عند هذه النقطة تنفرط كلمات الإمام عليّ عليه‌السلام عن سبحة النور ، فيفتح أفقاً من آفاق الفيض الرسالي على الذين رقّت نفوسهم ، وشفت عن جوهر فطرتها ، ويخاطب قائلاً :

( فطوبى لذي قلب سليم ، أطاع من يهديه ، وتجنب من يرديه ، وأصاب سبيل السلامة ببصر من بصَّرهُ ، وطاعة هاد أمره ، وبادر الهدى قبل أن تغلق أبوابه ، وتقطع أسبابه ، واستفتح التوبة ، وأماط الحوبة ، فقد أقيم على الطريق ، وهدي نهج السبيل ) (١).

__________________

١ ـ أنظر : نهج البلاغة : الخطبة ٢١٤.

١١٦

القسم الثاني : الطريق إلى علي هو القرآن والنبي

والذي يجعل أمر الهداة منقطعاً إلى الله سبحانه ، إضافة إلى ما أوردناه جميعاً ، هو بالمقام الأول ما حدّث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر به ـ والذي لا تنبغي المواربة فيه أو المحاكمة ـ هو أن كلامه صفو التنزيل ، أي : أن كل تقرير أو أمر أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس أن يأخذوه عنه هو فرض مثلما باقي العبادات ، وعلّة هذا قول الله سبحانه : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (١) ، فلا جدال في أنّ مصدر أوامر وتعليمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هي من عند الله ، والقرآن الكريم مليء بتوكيد هذا ولا حاجة بنا لأن نسرد الكلمات الإلهية التي ترفع شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتجعل من كلماته وحياً يوحى ، حتى نحتاج إلى تثبيت أن كلامه هو محض نور ، وأن مخالفته هي ليست فقط معصية ، وإنما إبطال للأعمال أيضاً إن كان هذا المخالف ينظر إلى نفسه على أنه ممن يتقربون إلى الله بعمل أو عبادة ، وعلة هذا قول الله

__________________

١ ـ الحشر : ٧.

١١٧

سبحانه ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) (١).

وفي الربط الناجز بين طاعة الله سبحانه ، وبين طاعة رسوله عليه وعلى آله أطيب الصلوات ، يمكن للمتأمل أن يلتقي مع علي عليه‌السلام ابتداءً قبل أن ينطلق إلى التفصيلات ، وعند هذا الالتقاء سوف يجري النظر إلى متابعة الحاجة إليه ، بعد أن يغادر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى دار مقرّه ، وفيه عليه‌السلام سوف يعرف متابعة طريق الله تعالى ممّا وراءه ، أولئك الهداة الذين سوف يجسّدون نور الله من بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام ، لأنّ الطريق إلى الله بعد ذلك سوف لن يكون في مأمن بالنسبة للسالك عندما يولي وجهه قبلة سواها ، أي سوى التي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها أنّها سفينة النجاة من ركبها نجى ومن تركها غرق (٢).

وقد فرغنا من أن النور والظلمة هما عنوانا البصيرة والعماء ، ووقفنا على أن الإنسان غير الداخل في نور الله مارق عن راية حقه ، وأن لهذه الراية حملة ، وأنّ هؤلاء الحملة هم أفرع شجرة النبوة ، ومصابيح هذا النور ، أئمة الناس وملاذهم ومنجاهم من أي سوء ، وإذا بُنيت مقاييس دخول الجنة وقبول الطاعة عند الله سبحانه على طاعته وطاعة رسوله ، فإن كل مخالفة إيلاج في الظلمة ، مفاد قوله

__________________

١ ـ محمد : ٣٣.

٢ ـ أنظر : مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٦١ ( ٤٧٧٨ ) ، المعجم الأوسط للطبراني : ٤ / ١٠ ( ٥٥٣٦ ) ، وغيرها.

١١٨

سبحانه : ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا ) (١).

فإذا لجأنا إلى أوامر الله في طاعة نبيه الهادي الأعظم للبشرية جمعاء ، ثم نظرنا إلى وصايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أئمة الهدى من ورائه ، نكون قد وضعنا نصب أعيننا هنا السؤال التالي : ما معنى ( ما آتاكم الرسول فخذوه ) (٢)؟

وقبل الإجابة نقول : إنّ شرط الطاعة العمل ، أي لا يكفي أن يقر المرء بقلبه بأنه موافق لما يقوله هاديه ، نبيّه وإمامه ، وإنّما ينبغي تأدية العمل بهذه المعرفة ، فالعلم بالشيء بغير القيام به يبقى في حيز القصور ولا يكون له مجال تصديق ما لم يبادر إلى العمل به.

وعدم طاعة الله ورسوله نتيجتها بحسب القوانين القرآنية ، هي ما ينحصر في كلامه عزّ وجلّ في هذه الآية : ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ) ، ويوازيها القبول والطاعة والعمل بحسب هذا القانون القرآني إثر قوله جلّ جلاله : ( ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) (٣).

فالله سبحانه الذي اختار أنبياءه ورسله ، اختار أئمة الناس إليه معهم ، وكلف كل نبيّ ورسول أبلغ عن رسالته أن يشير إلى الذين

__________________

١ ـ الأحزاب : ٣٦.

٢ ـ الحشر : ٧.

٣ ـ الأحزاب : ٧١.

١١٩

يمثلون امتداد هذه الرسالة ، وليس من سبيل إلى ذلك بغير أن يتولى سبحانه هذا الأمر.

والمعروف أن الناس تسعى لتولّي أمورها بيد الذي تراه يقدّم لهم النفع الآني والمستقبلي ويرغبون بالمناصب والشهرة التي زينتها الدنيا لهم ببهارجها ومفاتنها ، وقد عسر على الإنسان الانصياع للسوي ، ما لم تقم عليه الحجة التي تجعله أن يتقبّل هذا الانصياع.

ولا نقصد بالانصياع هنا ، هو التسليم دونما رغبة أو إرادة ، لكن المعروف أن شؤون العقائد ، هي شؤون في غاية التعقيد ، وأن استبدال عقيدة بغيرها بالنسبة للبشر ـ خاصة فيما يميل باتجاه الدين ـ مسألة تسفك من أجلها الدماء قبل أن تقف على أقدامها ، لذلك كان الله اللطيف بعباده سبحانه ، قد ترك الناس على فطرة تسوقهم إلى الهداية ، رغم صراعهم الذي لا يهدأ معها ، إلاّ أنّ العديد من آياته عزّ وجلّ تشير إلى أنّ الرسل والدعاة المجتبين ـ لهم وظيفة التذكير والتبشير وإنذار الناس بعدهم ، أي بعد أن يستيقظ فيهم ملمح الاستجابة للنداء الداخلي الفطري الذي يكشف لهم حجب الظلمات ، ويريهم مثالهم ورجاءهم ، لا ينبغي لهم أن يغفلوا بعد ذلك عنه ، فهم إن غفلوا بعد ذلك ، فالوعيد والإنذار موجود بوفرة في القرآن الكريم.

وعن التذكير الذي تلهج به آيات الله سبحانه ، يطيب لنا ذكر نفحة

١٢٠