الامام محمّد الجواد عليه السلام .. سيرة وتاريخ

السيد عدنان الحسيني

الامام محمّد الجواد عليه السلام .. سيرة وتاريخ

المؤلف:

السيد عدنان الحسيني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-217-2
الصفحات: ١٤٩

مطاوي نفسه التي لم تُعرف نواياها الحقيقية ، فماتت معه بموته.

كما أراد صرف الناس عن التوجه إلىٰ أهل البيت عليهم‌السلام والتمسك بمنهجهم القويم.

بهذا الدهاء السياسي استطاع المأمون العباسي سحب البساط من تحت أرجل شيعة أهل البيت عليهم‌السلام عموماً ، والطالبيين بشكل أخص ، وفوّت عليهم فرصة أي ثورة أو انتفاضة ضد حكومته. وبذلك تمكن من أن يأمن هذا الجانب ـ وإن كان علىٰ حذر ووجل إلىٰ فترة غير قليلة ـ استطاع خلالها ترتيب البيت العباسي ، واستحكام أمر الخلافة. ولم يكن المأمون مستعجلاً هذه المرة مع الإمام الجواد عليه‌السلام الصبي الصغير ثم الشاب اليافع ، بشأن تصفية وجوده ، لما يشكّله عليه‌السلام من خطر علىٰ مستقبل الخلافة والوجود العباسي ككل.

ولقد انعكس ذلك الهدوء السياسي النسبي الذي أعقب تولي الإمام الرضا عليه‌السلام عهد المأمون له بالخلافة من بعده ، علىٰ امتداد فترة إمامة أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، إلّا ما كان من ثورة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام في اليمن سنة ( ٢٠٧ ه‍ ).

كان هذا مجمل الوضع السياسي بُعيد استشهاد الإمام الرضا عليه‌السلام ، وتسنّم الإمام الجواد عليه‌السلام منصب الإمامة ، واظهاره لها وهو حدث صغير ، الأمر الذي جعل الأنظار تتجه نحوه ، وتصطكّ عنده رُكَبُ العلماء ، وتُثنىٰ أمامه هيبةً وإذعاناً لعلمه.

ثم ما كان من أحداث ( قم ) سنة ( ٢١٠ ه‍ ). وفي سنة ( ٢١٤ ه‍ ) كانت حركة جعفر بن داود القمي في مصر. وسنأتي علىٰ تفصيل هذه الثورات

٤١

والحركات في خاتمة هذا الفصل إن شاء الله.

وفي مطلع سنة ( ٢١٥ ه‍ ) كان خروج المأمون لغزو الروم ، ماراً بتكريت سالكاً طريق الموصل ـ نصيبين علىٰ ما يبدو. وقد طال أمد حروبه نسبياً مع الروم فاستمرت حتىٰ وفاته في عام ( ٢١٨ ه‍ ) (١) تخللتها فترات هدنة عاد فيها إلىٰ الشام.

ولعلّ آخر حدث في حياة الإمام الجواد عليه‌السلام كان خروج محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الطالقان من بلاد خراسان عام ( ٢١٩ ه‍ ) يدعو للرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

القول بخلق القرآن :

في ربيع الأول من عام ( ٢١٢ ه‍ ) أظهر المأمون لأول مرة القول بخلق القرآن الكريم ، وتفضيل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأنّه أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثم بعد فترة أصدر ( مرسوماً ) ملوكياً وعممه علىٰ كافة ولايات الامبراطورية الإسلامية يدعو فيه القضاة والمحدِّثين للقول بخلق القرآن ، وإلّا رُدّت شهاداتهم ، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه ، وكان يومها في الرقة.

أما السبب الذي قاد إلىٰ أطروحة خلق القرآن هو أن بعض المثقفين والعلماء الذين لم يكونوا ميالين إلىٰ السلطة السياسية ، ولم يستطيعوا خوض نضال سياسي واجتماعي مكشوف مع السلطة خوفاً علىٰ استمرارية وجودهم في الحياة ، لِمَا تميّز به الدور الأموي من طابع قمعي استبدادي.

________________

١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

٤٢

فقد انتحلوا مذهب الاعتزال الذي أخذ بدوره يطوّر الفلسفة الإسلامية عن طريق علم الكلام الذي يغلب عليه الطابع السجالي العقلي الحر ، واعتماده الجدل المنطقي ، والقياس في مناقشة القضايا الكلامية. ثم كان من مقولاتهم : المنزلة بين المنزلتين ، وحرية الاختيار ( التفويض ) ، وأخيراً خلق القرآن.

وبوصول نوبة الخلافة إلىٰ المأمون ودعمه مذهب الاعتزال ، حدا به الموقف ( السياسي ـ العقيدي ) إلىٰ اتّباع وسائل إدارية قسرية لفرض وإشاعة هذا المذهب ، حتىٰ بلغ الأمر أن أصدر مرسومه السلطاني ـ فيما بعد ـ بعدم تقليد منصب القضاء لغير معتنقي مذهب الاعتزال والقائلين بخلق القرآن.

هذه الأطروحة الفكرية العقائدية التي كان يُراد منها تصفية بعض المناوئين للسلطة العباسية ، أضحت سياسة رسمية للدولة أيام حكم المأمون والمعتصم والواثق ، يُعاقَب من لم يقل بها ويتّخذها مبدأً له. وفعلاً فقد شكّل هذا المقطع الزمني ( محنة ) بالنسبة لغير ( فقهاء السلطان ). فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة تحول الفكر والمعتقد إلىٰ مؤسسة من مؤسسات السلطة التي أخذت تلوّح بعصا الايديولوجية ؛ لسحق المعارضة السياسية ، وضرب المعارضة الفكرية في آن واحد.

والتأريخ لم يحدثنا عن موقف للإمام الجواد عليه‌السلام من هذه القضية التي كانت مثار جدل ونقاش سنين عديدة.

الإمام والسلطة :

قبل الحديث عن علاقة الإمام أبي جعفر الثاني عليه‌السلام بالسلطة العباسية ،

٤٣

والمأمون العباسي رأس السلطة بالخصوص ، ثم ما تمخض عن تلك العلاقة من إرهاصات ، لابدّ من إلقاء الضوء علىٰ بعض المقدمات التي استرعت انتباه السلطة الحاكمة ، وجعلتها تولي قضية الإمام الجواد عليه‌السلام أهمية خاصة ، سيّما وأن إمامته عليه‌السلام وهو بهذه السن غير المعهودة من قبل ، قد طار صيتها في الآفاق ، وأخذت تجتذب إليها القلوب ، وتستهوي جماهير الاُمّة الإسلامية ، وراح حديث خلافة أبي جعفر لأبيه الرضا عليهما‌السلام في منصب الإمامة ، ونبوغه العلمي وهو في هذا السن المبكر يسري شيئاً فشيئاً إلىٰ مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، بعد أن أصبح حديث عامة الناس وشغلهم في مكة والمدينة.

ومرة اُخرىٰ اختلفت كلمة الشيعة بعد استشهاد الإمام الرضا عليه‌السلام ، ووقعوا في حيرة من أمر الإمامة ؛ لاستصغار بعضهم سنّ أبي جعفر عليه‌السلام ، رغم أن الرضا عليه‌السلام طالما أكّد لشيعته وأصحابه حال حياته بصريح العبارة ، وأبو جعفر لم يتجاوز الثلاث سنوات ، بأنّه إمامهم ومولاهم من بعده ، وقد مرّت الإشارة إلىٰ تلك الأحاديث في النص علىٰ إمامته عليه‌السلام من الفصل الأول. ولكن.. وبعد استشهاد الإمام الرضا عليه‌السلام تحيرت الشيعة واضطرب أمرهم في كلِّ الأمصار ، ففي بغداد مثلاً ( اجتمع الريان بن الصلت ، وصفوان ابن يحيىٰ ، ومحمد بن حكيم ، وعبدالرحمن بن الحجاج ، ويونس بن عبدالرحمن وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبدالرحمن بن الحجاج في ( بركة زلزل ) يبكون ويتوجعون من المصيبة.

فقال لهم يونس بن عبدالرحمن : دعو البكاء ، من لهذا الأمر ، وإلى من نقصد بالمسائل إلىٰ أن يكبر هذا الصبي ؟ يعني أبا جعفر عليه‌السلام ، وكان له ست

٤٤

سنين وشهور (١). ثم قال : أنا ومَن مثلي !

فقام إليه الريّان بن الصلت فوضع يده في حلقه ، ولم يزل يلطمه ويقول له : أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشكّ والشرك ، : إن كان أمره من الله جلّ وعلا ، فلو أنّه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه ، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس ، هذا مما ينبغي أن يفكّر فيه. فأقبلت العصابة عليه ( يونس بن عبدالرحمن ) تعذله وتوبّخه.

وكان وقت الموسم ، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً ، فخرجوا إلىٰ الحج ، وقصدوا المدينة ؛ ليشاهدوا أبا جعفر عليه‌السلام فلمّا وافوا ، أتوا دار الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ؛ لأنّها كانت فارغة ، ودخلوها وجلسوا علىٰ بساط كبير ، وخرج إليهم عبدالله بن موسىٰ ، فجلس في صدر المجلس ، وقام منادٍ وقال : هذا ابن رسول الله ، فمن أراد السؤال فليسأله.

فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته أنتِ طالق عدد نجوم السماء ؟ قال : طلقت ثلاث دون الجوزاء. ثم قام إليه رجل آخر فقال : ما تقول في رجل أتىٰ بهيمة ؟ قال : تقطع يده ، ويجلد مئة جلدة ، ويُنفىٰ.

فورد علىٰ الشيعة ما حيّرهم وغمّهم ، واضطربت الفقهاء وقاموا وهمّوا بالانصراف ، وقالوا في أنفسهم : لو كان أبو جعفر عليه‌السلام يكمل لجواب المسائل لما كان من عبدالله ما كان ، ومن الجواب بغير الواجب ، فهم في ذلك إذ فُتح باب من صدر المجلس ، ودخل ( موفق ) وقال : هذا أبو جعفر ، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ، فدخل عليه‌السلام وعليه قميصان ،

________________

١) بناءً علىٰ هذه الرواية نستظهر أن شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام كانت سنة ( ٢٠٢ ه‍ ).

٤٥

وعمامة بذؤابتين إحداهما من قدّام والاُخرىٰ من خلف ، ونعل بقبالين (١) ، فجلس وأمسك الناس كلّهم ، ثم قام صاحب المسألة الاُولىٰ ، فقال : يابن رسول الله ، ما تقول فيمن قال لامرأته أنتِ طالق عدد نجوم السماء ؟

فقال له : « يا هذا اقرأ كتاب الله ، قال الله تبارك وتعالىٰ : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (٢) في الثالثة ». قال : فإن عمّك أفتاني بكيت وكيت. فقال : « يا عم اتّق الله ولا تفتِ وفي الاُمّة من هو أعلم منك ».

فقام إليه صاحب المسألة الثانية ، فقال له : يا بن رسول الله ، ما تقول في رجل أتىٰ بهيمة ؟ فقال : « يُعزّر ، ويُحمىٰ ظهر البهيمة ، وتُخرج من البلد حتىٰ لا يبقىٰ علىٰ الرجل عارها ». فقال : إنّ عمّك أفتاني بكيت وكيت. فالتفت وقال بأعلىٰ صوته : « لا إله إلّا الله ، يا عبدالله ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يدي الله فيقول لك ، لم أفتيت عبادي بما لا تعلم وفي الاُمّة من هو أعلم منك ؟ ».

فقال عبدالله بن موسىٰ : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّما سُئل الرضا عن نبّاش نبش قبر امرأة ففجر بها ، وأخذ ثيابها ، فأمر بقطعه للسرقة ، وجلده للزنا ، ونفيه للمثلة ». ففرح القوم ، ودعوا له وأثنوا عليه ) (٣).

________________

١) القِبال : سير من الجلد طويل يربط علىٰ الرجل لشدّ النعال.

٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٢٩.

٣) النص أخذناه عن عيون المعجزات : ١٢٢ ـ ١٢٣. وعنه بحار الأنوار ٥٠ : ٩٩ / ١٢. والزيادات فيه

٤٦

نعم ، فرح القوم لِمَا عرفوا من أن الإمامة حقاً متعيّنة في هذا الفتىٰ المستوعب للفقه.. الحاضر الجواب.. العارف بإجابة أبيه ، وقد تركه أبوه طفلاً صغيراً في الخامسة من عمره..

وجاء في العديد من المصادر أن القوم سألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة (١) ، ووجدنا أن البعض أخذ يلتمس وجوهاً لتبرير عدم معقولية مثل هذا العدد الهائل من المسائل في مجلس واحد (٢). وهو أمر غير معقول طبعاً ، اللهمّ إلّا أن يستمر انعقاد المجلس لعدة أيام أو يُخفّض العدد إلىٰ الثلاثين. والمرجّح ـ وإلىٰ هذا الرأي ذهب آخرون ـ أن ( الألف ) زيادة من النسّاخ ، فإنّ الفيض الكاشاني ؛ نقل الخبر في المحجة البيضاء وليس فيه كلمة ( ألف ) (٣).

من ثمّ ـ وبعد استتباب الأوضاع الأمنية داخلياً ـ بدأ يتناهىٰ إلىٰ سمع الدولة في بغداد ، احتفاء الناس بالإمام وانبهارهم بعلومه علىٰ صغر سنه. ونظراً لأنّ اللعبة السياسية لم تنته بعد. فبغياب نجم الإمام الرضا عليه‌السلام ، برز نجم آخر لمع في دنيا الإسلام ، أخذ يستقطب إليه الاُمّة شيئاً فشيئاً بجاذبية يندر وجودها في أكابر الشخصيات العلمية أو السياسية.

إذن فمشكلة الإمامة ـ بالنسبة للسلطة العباسية ـ واستقطاب جماهير

________________

أوردناها عن رواية الطبري في دلائل الإمامة : ٣٨٨ ـ ٣٩٠. وراجع : اختصاص الشيخ المفيد : ١٠٢ طبع قم. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

١) اُصول الكافي ١ : ٤٩٦ / ٧.

٢) راجع : بحار الأنوار ٥٠ : ٩٣.

٣) راجع : المحجة البيضاء ٤ : ٣٠٦؛ لكنه في كتاب الوافي ٣ : ٨٣٠ / ١٤٤٠ أورد الخبر نفسه عن اُصول الكافي وفيه ثلاثون ألف مسألة ولم يعلّق عليه.

٤٧

الاُمّة لم تزل قائمة إلىٰ الآن ، وفصول المسلسل ( الدرامي ) الذي لم ينته بانتهاء الإمام الرضا عليه‌السلام.. يجب أن يُعالج هذه المرة بأُسلوب أهدأ.. وطريقة طبيعية تُسقط الإمام والإمامة من أعين الناس ، دون استخدام العنف أو التصفية الجسدية..

فلقد سعىٰ المأمون الداهية المتآمر ، وهو أعظم خلفاء بني العباس خطراً... وأكثرهم علماً.. وأبعدهم نظراً.. وأشدهم مكراً.. وأخفاهم مكيدة.. سعىٰ هو وحاشيته إلىٰ الالتفاف علىٰ الإمام أبي جعفر عليه‌السلام بالمكر والتحايل ؛ لقتله وهو ما يزال حيّاً ، وذلك بإسقاطه في أعين الناس ، وكذا فعل المعتصم. ففي إحدىٰ المرات وصل بهم خبث السريرة إلىٰ أنهم أرادوا إيثاق الإمام وسقيه خمراً إلىٰ حدِّ الإسكار ، ثم إخراجه إلىٰ الناس علىٰ تلك الحالة مضمّخاً بخلوق الملوك. لكنّ كيدهم لم يتم بإذن الله تعالىٰ ، إذ منعهم المأمون من ذلك قبل تنفيذ خطتهم ، حيث خاف عواقب هذا الفعل الشنيع ، قائلاً لهم : لا تؤذوا أبا جعفر.. (١).

كما احتال المأمون علىٰ أبي جعفر عليه‌السلام بكل حيلة فلم يمكنه فيه شيء ، فلمّا اعتل وأراد أن يزفّ إليه ابنته ، قال محمد بن الريّان : ( دفع إلىٰ مئة (٢) وصيفة من أجمل ما يكون ، إلىٰ كل واحدة منهنّ جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر عليه‌السلام إذا قعد في موضع الأختان. فلم يلتفت إليهنّ ، وكان رجل يقال له « مخارق » صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية ، فدعاه المأمون. فقال : يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد

________________

١) راجع : اختيار معرفة الرجال : ٥٦٠ / ١٠٥٨ ترجمة محمد بن أحمد بن حماد المحمودي.

٢) في الكافي : مئتي. وما أثبتناه عن ابن شهرآشوب والعلّامة المجلسي.

٤٨

بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام ، فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغني ، فلما فعل ساعة وإذا أبوجعفر لايلتفت إليه لا يميناً ولا شمالاً ، ثم رفع رأسه وقال : « اتقِ الله ياذا العثنون ! » ، قال : فسقط المضراب من يده والعود فلم ينتفع بيديه إلىٰ أن مات ، قال : فسأله المأمون عن حاله ، قال : لمّا صاح بي أبو جعفر ، فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً ) (١).

وعلىٰ كلِّ حال ، فقد أرسل المأمون إلىٰ محمد بن عبدالملك الزيات يوصيه بحمل أبي جعفر من المدينة إلىٰ بغداد علىٰ أحسن محمل ، وأن لا يُعجّل بهم السير ، ويريحهم في المنازل. فيكلف ابن الزيات الحسن بن علي بن يقطين ؛ لمنزلته ومنزلة أبيه من الأئمة عليهم‌السلام والخلفاء والأمراء معاً. بأن يرافق أبا جعفر وأهله وعياله في سفرهم.

ويظعن الرحل مودعاً المدينة المنورة ، متجهاً صوب بغداد. وينسىٰ الخليفة أو يتناسىٰ قدوم الوفد المدني ، فلقد ألهته ليالي الاُنس.. وأيام الصيد ، السؤال عن القادمين من المدينة أو أنّه فعلاً تناسىٰ أمرهم ، وهي عادة الملوك في استصغار من سواهم ، وأراد أن يلتقي بأبي جعفر بشكل غير علني ، إمّا حياءً من البيت الهاشمي لما أحلّه بأبيهم الرضا عليه‌السلام قبل عهد قريب ، وإمّا أنفة واستعلاءً منه ـ وهو أميرالمؤمنين المسيطر علىٰ الآفاق شرقاً وغرباً ـ أن يلتقي بحدث صغير لم يبلغ الحلم. فلم يكن المأمون قد وقف بعد علىٰ علم الإمام الجواد عليه‌السلام ونبوغه المذهل. أو إنّه لم يكن هذا ولا ذاك ، إنّما أراد أن يستريح القادمون لبضعة أيام من وعثاء السفر ، ثم يستدعي إليه التقي عليه‌السلام ليتعرّف أخباره.

________________

١) اُصول الكافي ١ : ٤٩٤ / ٤. وعنه مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٩٦.

٤٩

وذكرت الأخبار أن المأمون خرج يوماً في نزهة للصيد ، فاجتاز بطرق البلد. ولعلّه كان قاصداً لاختيار هذا الطريق ، فقد علم قبل ذلك أين نزل الوافدون.. وعلم أيضاً من هم ؟!

وهكذا كان.. فقد تم ( اللقاء الأول ) في الطريق علىٰ ما ينقله المؤرخون ، ويمكن أن يكون الإمام الجواد عليه‌السلام هو الذي سعىٰ لأن يلتقيه المأمون في هذا المكان. فلسان الرواية يقول : اجتاز ـ المأمون ـ بطرف البلد ، وثمّ صبيان يلعبون ، ومحمد الجواد عليه‌السلام واقف عندهم.. فالإمام عليه‌السلام ليس من شأنه الوقوف علىٰ قارعة الطريق أو التفرج علىٰ ملاعب الصبيان لقضاء الوقت ، ولا عُرف عن الأئمة أنهم كانوا يلعبون ويلهون في الطرقات مع أقرانهم في أيام طفولتهم ، فهم أجلّ وأسمىٰ من أن يصرفوا أوقاتهم في اللعب أو اللهو ؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام متعين عليه هداية الاُمّة وبنائها فكرياً واجتماعياً ، وقيادتها نحو إرساء قواعد الشريعة بما يحقق حكومة الله في الأرض.

فالإمام عليه‌السلام لا يلهو ولا يلعب (١) قط منذ طفولته ، فقد روي عن علي بن حسان الواسطي أنّه كان ممن خرج مع الجماعة (٢) ، وهم ثمانون عالماً

________________

١) وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها ، ما رواه الكليني بسنده عن الإمام الباقر عليه‌السلام في معرض بيانه علائم الإمام المعصوم فقال : « طهارة الولادة ، وحسن المنشأ ، ولا يلهو ولا يلعب ».

وروىٰ صفوان الجمّال عن الإمام الصادق عليه‌السلام في صفات الإمام ، فقال عليه‌السلام : « صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ».

وما تعرّض له أمير المؤمنين علي عليه‌السلام من خصائص وعلامات الإمام المعصوم ، فقال : « والإمام المستحق للإمامة له علامات فمنها : أن يعلم أنّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها ، لا يزلّ في الفتيا ، ولا يخطئ في الجواب ، ولا يسهو ، ولا ينسىٰ ، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا ». راجع : مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣١٧. وبحار الأنوار ٢٥ : ١٦٤.

٢) إثبات الوصية : ١٨٨. ودلائل الإمامة : ٤٠٢ / ٣٦٠.

٥٠

اجتمعوا في موسم عام ( ٢٠٣ ه‍ ) من مختلف الأقطار ، والتقوا في المدينة المنورة لمعرفة من هو المتعين للإمامة بعد شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام.

قال علي بن حسان : حملت معي إليه عليه‌السلام من الآلة التي للصبيان ، بعضها من فضة ، وقلت : أُتحف مولاي أبا جعفر بها. فلما تفرّق الناس عنه بعد جواب الجميع قام فمضىٰ إلىٰ صريّا واتّبعته ، فلقيت موفقاً ، فقلت : استأذن لي علىٰ أبي جعفر ، فدخلتُ فسلّمت ، فردّ عليَّ السلام وفي وجهه كراهة ، ولم يأمرني بالجلوس ، فدنوت منه وفرّغت ما كان في كمي بين يديه ، فنظر إليَّ نظر مغضب ، ثم رمىٰ يميناً وشمالاً ، ثم قال : « ما لهذا خلقني الله ، ما أنا واللعب ؟! » فاستعفيته ، فعفا عني ، فأخذتها وخرجت (١).

إذن ، يبدو أن الإمام أبا جعفر عليه‌السلام استغل فرصة خروج المأمون ومروره بالقرب من منازلهم ، فوقف بإزاء صبيان يلعبون في الطريق ؛ ليتم هنالك اللقاء.. وخبر هذا اللقاء ينقله لنا ابن شهر آشوب ، وابن الصباغ المالكي ، والمحدّث الشيخ عباس القمي ، وغيرهم. ونحن ننقل نصّ رواية ابن شهرآشوب حيث قال : اجتاز المأمون بابن الرضا عليه‌السلام وهو بين صبيان يلعبون ، فهربوا سواه ، فقال : عليّ به ، فقال له : مالك ما هربت في جملة الصبيان ؟ قال عليه‌السلام : « مالي ذنب فأفرّ ، ولا الطريق ضيّق فأوسعه عليك ، تمرّ من حيث شئت ، فقال : من تكون ؟

قال : أنا محمد بن علي بن موسىٰ بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.

فقال : ما تعرف من العلوم ؟ قال : سلني عن أخبار السموات ». فودّعه

________________

١) المصدر السابق نفسه.

٥١

ومضىٰ ، وعلىٰ يده باز أشهب يطلب به الصيد. فلما بعد عنه نهض عن يده الباز فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً ، والباز يثب عن يده ، فأرسله وطار يطلب الأفق حتىٰ غاب عن ناظره ساعة ثم عاد إليه وقد صاد حية ، فوضع الحية في بيت الطعم ، وقال لأصحابه : قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم علىٰ يدي ، ثم عاد وابن الرضا في جملة الصبيان.

فقال : ما عندك من أخبار السموات ؟

فقال : « نعم يا أمير المؤمنين ، حدثني أبي ، عن آبائه ، عن النبي ، عن جبرئيل ، عن ربِّ العالمين ، أنّه قال : بين السماء والهواء بحر عجاج يتلاطم به الأمواج ، فيه حيّات خضر البطون ، رقط الظهور ، ويصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن بها العلماء ».

فقال : صدقت ، وصدق آباؤك ، وصدق جدّك ، وصدق ربك. فأركبه ثم زوّجه أُمّ الفضل (١).

بعد ذلك اللقاء والحوار الحاسمين أدرك المأمون عظمة هذا الصبي ، وبُعد شأوه.. فاصطحبه معه إلىٰ قصوره حيث الرفاه ونعومة العيش وطراوة الحياة باستبرقها وجواريها وقيانها.. لكن الخليفة علم أن الصبي لا تستهويه فخامة الخدمة ، وأبّهة الملوك كثيراً ، ولم يسترع انتباهه الجمال الفاتن لحظة.. فقرر ـ وفي مناورة سياسية حاذقة ـ اصطياد ثلاثة في رمية واحدة ، ورميته هي أن يزوجه من ابنته الجميلة الصغيرة ( زينب ) المكناة بأم الفضل ،

________________

١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩. أما رواية ابن الصباغ في الفصول المهمة : ٢٥٢ ، والشيخ المحدِّث القمي في منتهى الآمال ٢ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨ عن مستدرك العوالم ٢٣ : ٥٢٢. وبحار الأنوار ٥٠ : ٥٦ فهي تختلف عن هذه في بعض أحداثها ، فراجع.

٥٢

ولا فضل لها. خاصة وهي مسمّاة له منذ سنوات خمس. أمّا صيده الذي توخّى إصابته ، فقد حسب :

أولاً : أنه سيصرف الإمام الصبي اليافع إلىٰ ملاذ الحياة ، وتنتشي نفسه بقرب النساء ، وسوف يشغفن قلبه شيئاً فشيئاً فيصبو إليهنّ.

وثانياً : أراد أن يجعل من ابنته وخدمها رقيباً دائمياً علىٰ كلِّ حركة للإمام ، وعلىٰ من يتصل به من الشيعة ، ثم إنه أسكنه بالقرب منه كي يحدّ من اتصال الناس به ؛ لأنّ القصور الملكية لا يتيسر لكلِّ أحد أن يدخلها ، ولا دخولها بالأمر اليسير.

والهدف الأخير الذي حاول إصابته هو أن يجعل من نفسه قريباً من البيت العلوي ، فهو عمّ ولدهم الإمام الجواد عليه‌السلام اليوم ، والأب الأكبر ( جدٌّ ) لصبيهم غداً الذي هو ابن رسول الله ، وهذا مكسب سياسي واجتماعي مهم جداً. وفيما لو أصابت رمياته الثلاث هذه فسوف يكمّ أفواه الطالبيين ، ويقطع أي قيام أو تحرك لهم ، وهو العالم المتيقن بأنهم أحق بالخلافة من أي إنسان علىٰ هذه الأرض.

وبناءً علىٰ تحقيق هذه الأغراض وغيرها مما كان يدور في رأس المأمون ، خطىٰ خطوته الاُولىٰ وقرر من جانب واحد أن يتم الزواج والاقتران مهما يكن من أمر ، ورغم كل المعترضين ، ولا موافق لهذا الزواج سواه.

ثم يأتي دور المعتصم الذي لم يكن أرأف بالإمام خاصة ، والعلويين عامّة من أخيه المأمون ، فقد احتال هو الآخر علىٰ الإمام الجواد عليه‌السلام للوقيعة به ، وإيجاد مبرّر لسجنه ثم قتله ، بأن اتهمه بجمع السلاح ، وأنّه يريد الثورة

٥٣

عليه ، وأشهد بذلك عليه شاهدين حلفا زوراً وكذباً أنّهما رأيا السلاح يُجمع. لكنّ الإمام عليه‌السلام تخلّص من هذا الموقف بأن أراهم معجزة أرهبهم بها ، فخاف المعتصم سوء العاقبة فتركه لسبيله دون أن يتعرّض له مضمراً عليه حقداً دفيناً (١).

أحداث الزواج ومراسيم عقد القران :

عند مطالعة تاريخ الإمام الجواد عليه‌السلام تشعر أن أحداثه مقتضبة يشوبها الغموض في العديد من جنباته ومنعطفاته الحساسة ، كما يراودك إحساس بأن هناك أموراً وأحداثاً قد خفيت من صفحة التاريخ ، أو أنّها أخفيت تعمداً وحسداً وحقداً طوراً ، وخوفاً من سياط السلطان وبطشه طوراً آخر.

أحدها هو حدث زواج الإمام ، وهو المنعطف المهم والخطير بالنسبة للبيتين العلوي والعباسي ، لم يؤرَّخ بدقة وتفصيل بحيث يقف القارئ ـ من خلال مطالعته ـ علىٰ حقائق هذه المرحلة المهمة من حياة الإمام المباركة أو علىٰ الأقل أن يلمّ ببعض تلك الحقائق التي بقيت خفية حبيسة الكتمان ؛ لأنّ الحياة القصيرة للإمام أبي جعفر عليه‌السلام لم تكن طبيعية أبداً في مختلف مقاطعها الزمنية.

وعلىٰ أي حال ، فمن خلال استقراء مراجع ومصادر ترجمة الإمام الجواد عليه‌السلام الخاصة والعامّة نستظهر أن الزواج تمّ علىٰ ثلاث مراحل ( التسمية ، عقد القران ، الزواج ) ، وكل واحدة تمت في فترة زمنية متباعدة نسبياً عن الاُخرىٰ.

________________

١) راجع : بحار الأنوار ٥٠ : ٤٥ / ١٨.

٥٤

ففي عام ( ٢٠١ ه‍ ) وفي مراسم تنصيب الإمام الرضا عليه‌السلام لولاية العهد ـ في رمضان ـ وتكريماً للإمام ظاهرياً ، فقد عقد له المأمون علىٰ ابنته ، وقيل : اخته أم حبيبة في نفس تلك الليلة ، وسمّىٰ ابنته الصغيرة الاُخرىٰ لأبي جعفر أيضاً زيادة في التكريم والاجلال ؛ لكنّه كان يضمر وراء هذا الزواج دوافع سياسية واجتماعية عديدة.

أما عقد القران الفخم والمجلّل والذي تحدّث عنه أغلب الرواة والمؤرخين علىٰ أنّه حدث الزواج ، فقد كان في عام ( ٢٠٥ ه‍ ) بعد قدوم الإمام من المدينة إلىٰ بغداد للمرة الاُولىٰ ، وكان يومها ابن تسع سنين ونصف السنة أو نحوها ، واستمر الحفل ليومين. صرف خلاله المأمون علىٰ ابنته ملايين الدراهم وزعها بدراً وإقطاعات وجواهراً وثياباً علىٰ قواده ووزرائه وحاشيته ومدعوّيه (١).

أما عن حدث الزواج الذي لم يكن اختيارياً ، بل يظهر من القرائن أنّ الإمام الجواد عليه‌السلام كان مجبراً علىٰ القدوم إلىٰ بغداد ثانية مع زوجه أم الفضل ؛ للدخول بها بأمر من أبيها ، رغم استعدادات المأمون الهائلة للخروج إلىٰ حرب الروم.

وفعلاً فقد كانت طلائع جيشه قد خرجت أمامه تغذ الخطىٰ نحو بلاد الروم ، ويتبعها المأمون صاعداً مع دجلة بكتائبه الخاصة حتىٰ إذا عسكر بتكريت ، قدم عليه الإمام الجواد عليه‌السلام في صفر من عام ( ٢١٥ ه‍ ) والتقاه بها ،

________________

١) الإرشاد ٢ : ٢٨١. وتحف العقول : ٤٥١. ومناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب ٤ : ٣٨١. وإعلام الورى : ٣٥١. والاختصاص : ٩٨. وروضة الواعظين : ٢٣٨. والإتحاف بحب الأشراف / الشبراوي : ١٧١. والصواعق المحرقة : ٢٠٤. والفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥٣.

٥٥

فأمر المأمون أبا جعفر عليه‌السلام أن يدخل بأم الفضل من فوره بعد أن هُيّئت له دار أحمد بن يوسف ـ من أعوان المأمون ـ التي علىٰ شاطئ دجلة ، فأقام بها مدة لا تقلّ عن تسعة أشهر ، فلما كان أيام الحج ، خرج بأهله وعياله حتىٰ أتىٰ مكة ، ثم منزله بالمدينة ، فأقام بها (١).

كما أن قرائن أخرىٰ تشير إلىٰ أن هناك مشكلة زوجية كانت قائمة بين الإمام وزوجه أم الفضل ، كان المأمون ـ علىٰ ما يبدو ـ قد وعد ابنته الشابة المراهقة علىٰ حلّها ؛ لكثرة ما كانت تكتب من رسائل إلىٰ أبيها شارحة فيها حظها العاثر (٢) ، وتفضيل الجواري والسراري عليها ، بل وكانت تدعو علىٰ أبيها علىٰ هذا الزواج غير الموفّق (٣) ؛ لأنّها حسب الظاهر لم تكن تصلح لأن تكون حليلة للإمام عليه‌السلام وأُمّاً لأولاده ، وهي كذلك بالفعل.

فقد لمس البيت المأموني الوضع الكئيب لابنتهم ، وأصبح الأمر يقلقهم كثيراً ، بل إنّ المأمون ما زوّج ابنته من أبي جعفر عليه‌السلام إلّا ليستولدها منه ، ويكون جدّاً لأحد أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يقوّي مركزه السياسي في الحكم ، كما صرّح هو بذلك حين أفصح عن أحد الدواعي التي دفعته إلىٰ هذا التزويج ، وهو السياسي المحنّك الذي ينظر إلىٰ مدىً أبعد مما ينظره غيره ، فقال : ( إنّي أحببت أن أكون جدّاً لامرئ ولَدَه رسول الله ، وعليّ بن أبي طالب ) (٤) ؛ ولهذا السبب وحده كان هذا الاستدعاء المفاجئ والعاجل ،

________________

١) تاريخ الطبري ٨ : ٦٢٣.

٢) راجع : الارشاد ٢ : ٢٨٨. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٢. والفصول المهمة : ٢٧٠. وبحار الأنوار ٥٠ : ٧٩ / ٥.

٣) مشارق أنوار اليقين / الحافظ البرسي : ٩٨.

٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٥٤ ، الطبعة السادسة ـ دار صادر ـ بيروت ١٤١٥ ه‍.

٥٦

والمثول بين يدي المأمون ثم ( الأمر ) بالدخول بالفتاة. ولا ريب أن الإمام كان عارفاً بالنوايا ؛ لذا فقد كان يُفشل خططهم بطرقه الخاصة وهم لا يشعرون.

وهنا نشير إلىٰ ما أورده محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي في ( دلائل الإمامة ) بقوله : ( ومكث أبو جعفر مستخفياً بالإمامة ، فلما صار له ست عشرة سنة ، وجه المأمون من حمله إليه ، وأنزله بالقرب من داره ، وعزم علىٰ تزويجه ابنته.. ) (١).

ويبدو أن في عبارة الطبري بعض الارتباك والتصحيف ، حيث نقل المسعودي رواية قدوم وفد علماء بغداد إلىٰ المدينة وسؤالهم الجواد عليه‌السلام وكان مع الوفد علي بن حسان الواسطي المعروف بالأعمش (٢) الذي حمل معه تحفاً وبعض اللعب الفضية مما كان يلهو به صبية بغداد في ذلك الوقت ، ظنّاً منه أن أبا جعفر عليه‌السلام سوف يُسرُّ بها ؛ لكنّ الإمام عليه‌السلام نهره بغضب ، وبدا علىٰ وجهه عدم الارتياح ، لمّا وضعها أمامه ، وردّ عليه بما قدّمناه في الحديث آنفاً.

ثم في نهاية الخبر ذكر المسعودي عبارة علي بن حسّان بقوله : وخرجت ومعي تلك الآلات. وبقي أبو جعفر عليه‌السلام مستخفياً بالإمامة إلىٰ أن صارت سنّه عشر سنين. إلىٰ هنا ينتهي خبر الواسطي في إثبات الوصية ، ثم أتبعه المسعودي برواية إخبار الجواد عليه‌السلام جاريتهم بمضي والده في

________________

١) دلائل الإمامة : ٣٩١ / ٣٤٥ ، مؤسسة البعثة ، الطبعة المحققة ١٤١٢ ه‍.

٢) في رجال النجاشي : ١٩٧ : المنمِّس ، طبعة مكتبة الداوري ـ قم ١٣٩٧ ه‍ ، وفي بعض المصادر الاُخرىٰ : العمِش.

٥٧

خراسان.. ثم أتبع الرواية مباشرة بقوله : ثم وجّه المأمون فحمله وأنزله بالقرب من داره وأجمع علىٰ أن يزوجه ابنته...

فإنّك ترى هنا أن عبارة المسعودي : إلىٰ أن صارت سنّه عشر سنين. أصبحت عند الطبري في الدلائل : صار له ست عشرة سنة. هذا ما أردنا الاشارة إليه ، فلاحظ.

وعقد القران الذي تميّز بحدث المناظرة المهم والخطير ، ولعلّه يُعد من أهم أحداث حياة الإمام الجواد عليه‌السلام ؛ لكثرة من كان قد حضر في ذلك المجلس من عامة الناس وخاصتهم ، فقد تناقله المحدثون والمؤرخون بما رافقه من حوادث اُخرىٰ بشيء من التفصيل.

فالحدث أورده علي بن الحسين المسعودي (١) ، والشيخ المفيد (٢) كلّ بسنده عن الريان بن شبيب ، قال : لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام بلغ ذلك العباسيين فغلُظ عليهم واستكبروه ، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلىٰ ما انتهى مع الرضا عليه‌السلام ، فخاضوا في ذلك.

واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه ، فقالوا له : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم علىٰ هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن يخرج به عنّا أمر قد ملّكناه الله ، ويُنزع منا عزٌّ قد ألبَسَناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم ، آل أبي طالب ، قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت ، حتىٰ كفانا الله المهم من ذلك ، فالله الله أن

________________

١) إثبات الوصية : ١٨٩ ، طبعة النجف الأشرف.

٢) الإرشاد ٢ : ٢٨١ ـ ٢٨٨.

٥٨

تردَّنا إلىٰ غمٍّ قد انحسر عنا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلىٰ من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون : أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السببُ فيه ، ولو أنصفتُم القوم لكان أولىٰ بكم ، وأمّا ما كان يفعلُه من كان قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم ، أعوذ بالله من ذلك ، ووالله ما ندمتُ علىٰ ما كان منّي من استخلاف الرضا ، ولقد سألتُه أن يقوم بالأمر وانزعُهُ عن نفسي فأبىٰ ، وكان أمرُ الله قدراً مقدُوراً ، وأمّا أبو جعفر محمد بن عليّ فقد اخترتُه لتبريزه علىٰ كافّة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنِّه ، والأعجوبة فيه بذلك ، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفتُه منه فيعلموا أن الرأي مارأيتُ فيه.

فقالوا : إنّ هذا الصبيَّ وإن راقكَ منه هديه ، فإنّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدَّب ويتفَقَّه في الدين ، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم : ويحكم إنّني أعرفُ بهذا الفتىٰ منكم ، وإن هذا من أهل بيت علمُهم من الله وموادِّه وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال ، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيَّنُ لكم به ما وصفتُ من حاله.

قالوا له : قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفُسنا بامتحانه ، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة ، فإن أصاب في الجواب عنه ، لم يكن لنا اعتراض في أمره ، وظهر للخاصة والعامّة سديد رأي أمير المؤمنين ، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطبَ في معناه.

فقال لهم المأمون : شأنكم وذاك متىٰ أردتُم. فخرجوا من عنده وأجمع رأيهُم علىٰ مسألة يحيىٰ بن أكثم ، وهو يومئذٍ قاضي القضاة علىٰ أن يسأله

٥٩

مسألةً لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموالٍ نفيسةٍ علىٰ ذلك ، وعادوا إلىٰ المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع ، فأجابهُم إلىٰ ذلك.

واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيىٰ بن أكثم ، وأمر المأمون أن يفرشَ لأبي جعفر عليه‌السلام دَستٌ (١) ، وتُجعَل له فيه مِسوَرَتان (٢) ، ففُعِلَ ذلك ، وخرج أبو جعفر عليه‌السلام وهو يومئذٍ ابنُ تسع سنين وأشهر ، فجلسَ بين المسورَتَين ، وجلس يحيىٰ بن أكثم بين يديه ، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالسٌ في دستٍ مُتَّصلٍ بدستِ أبي جعفر عليه‌السلام.

فقال يحيىٰ بن أكثم للمأمون : يأذنُ لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر ؟ فقال له المأمونُ : استأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيىٰ بن أكثم فقال : أتأذن لي ـ جعلت فداك ـ في مسألةٍ ؟ فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « سَلْ إن شئت » قال يحيىٰ : ما تقولُ ـ جُعِلتُ فداك ـ في مُحرمٍ قتَلَ صيداً ؟

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « قَتَلَه في حِلٍّ أو حَرَم ؟ عالماً كان المُحرم أم جاهلاً ؟ قَتَلَه عَمداً أو خطأً ؟ حُرّاً كان المُحرِم أم عبداً ؟ صغيراً كان أم كبيراً ؟ مُبتدئاً بالقتل أم مُعيداً ؟ من ذواتِ الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ من صغار الصيد كان أم كبارها ؟ مُصِرّاً علىٰ ما فعل أو نادماً ؟ في الليل كان قتلهُ للصيد أم نهاراً ؟ مُحرماً كان بالعُمرةِ إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً ؟ ».

فتحيّر يحيىٰ بن أكثم وبانَ في وجهه العجزُ والانقطاعُ ولجلج حتىٰ عرفَ جماعةُ أهلِ المجلس أمرَه ، فقال المأمون : الحمدُ لله علىٰ هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم نظر إلىٰ أهل بيته وقال لهم : أعرفتم الآن ما كُنتُم

________________

١) جانب من البيت ، وهي فارسية معرّبة.

٢) المسورة : متكأ من أدَم.

٦٠