الامام محمّد الجواد عليه السلام .. سيرة وتاريخ

السيد عدنان الحسيني

الامام محمّد الجواد عليه السلام .. سيرة وتاريخ

المؤلف:

السيد عدنان الحسيني


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-217-2
الصفحات: ١٤٩

مشتقة من رسول الله نبعتُهُ

طابت مغارسُهُ والخيمُ والشِّيمُ

وأما ما انفرد به ابن الصباغ من أن صفته أبيض معتدل ، ووافقه بعض من كتب في سيرة الإمام الجواد عليه‌السلام ، ورجّح قوله ، استثقالاً منه أن يقول بسمرة الإمام ، فهو خلاف المشهور من صفته عليه‌السلام (١).

ألقابه الشريفة :

تميّز إمامنا الجواد عليه‌السلام بألقاب عديدة من أخصّها به قديماً لقب ( التقي ) (٢) ثمّ بعد ذلك ( الجواد ) (٣) قال ابن شهر آشوب :

فديت إمامي أبا جعفر

جواداً يلقّب بالتاسعِ

وبين هذين اللقبين عدّدوا له ألقاباً اُخرىٰ منها : المنتجب والمرتضىٰ والزكي والقانع والرضي والمتوكل وغيرها (٤).

أولاده :

ذكر الشيخ المفيد رحمه‌الله أن الجواد عليه‌السلام ( خلّف بعده من الولد عليّاً ابنه الإمام من بعده ، وموسىٰ ، وفاطمة ، وأُمامة ابنتيه ، ولم يخلّف ذكراً غير من

________________

١) حياة الإمام محمد الجواد عليه‌السلام / باقر شريف القرشي : ٢٤.

٢) عيون المعجزات : ١٢١. ودلائل الإمامة : ٣٩٦. واعلام الورىٰ ٢ : ٩١. وتاج المواليد / الطبرسي : ٥٢. والدعوات / الراوندي : ٨٩ / ٢٢٤ و ١٠٦ / ٢٣٤. ومناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣٧٩ و ٤١٠ ـ ٤١١.

٣) دلائل الإمامة : ٣٩٦. ومناقب ابن شهر آشوب ٤ : ٣٧٩ و ٤١٠ ـ ٤١١. وكشف الغمة ٣ : ١٣٧. والنجوم الزاهرة ٢ : ٣٢١ حوادث سنة ٢١٩.

٤) راجع : الإرشاد ٢ : ٢٩٥. ودلائل الإمامة : ٣٩٦. وإعلام الورىٰ ٢ : ٩١.

٢١

سمّيناه ) (١).

ونقل ابن شهرآشوب عن الشيخ الصدوق إنهنَّ : حكيمة وخديجة وأم كلثوم (٢). وزاد عليهن السيد ضامن بن شدقم في ( تحفة الأزهار ) : فاطمة.

وفي ( الشجرة الطيبة ) للمدرس الرضوي المشهدي أن بنات الإمام الجواد عليه‌السلام : زينب ، وأم محمد ، وميمونة ، وخديجة ، وحكيمة ، وأم كلثوم. وقال آخر : ولد الجواد عليه‌السلام عليّاً ، وموسىٰ ، والحسن ، وحكيمة ، وبريهة ، وأُمامة ، وفاطمة (٣).

إذن ، المشهور أنّ للإمام الجواد عليه‌السلام ابنة يقال لها ( حكيمة ) كانت جليلة القدر ، رفيعة المقام ، عالية الشأن. أوكل إليها أخوها الإمام الهادي عليه‌السلام جاريته ( نرجس ) كي تعلمها معالم الدين ، وأحكام الشريعة ، وتؤدّبها بالآداب الإلهية.

وزوّج الإمام الهادي عليه‌السلام نرجس من ولده الإمام العسكري عليه‌السلام فانجبت له الإمام المهدي عليه‌السلام وقامت حكيمة بمهمّة القابلة لاُمّه ليلة ولادته (٤) ، وصرّحت بمشاهدة الإمام المهدي عليه‌السلام بعد مولده (٥).

وكان لحكيمة دور مهم بعد استشهاد الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، حيث كانت تقوم بدور السفارة بين الشيعة وبين الإمام محمد المهدي عليه‌السلام

________________

١) الإرشاد ٢ : ٢٩٥. وإعلام الورى ٢ : ١٠٦.

٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٨٠.

٣) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : هامش ص ١٩٩.

٤) كمال الدين ٢ : ٤٢٤ / ١ ط٢. والغيبة / الشيخ الطوسي : ٢٣٤ / ٢٠٤.

٥) اُصول الكافي ١ : ٣٣٠ / ٣. وكمال الدين ٢ : ٤٣٣ / ١٤.

٢٢

في غيبته الصغرى ، فكانت تقوم باستلام الكتب والمسائل وتوصلها إلىٰ الإمام عليه‌السلام ثم تستلم منه توقيعاته الشريفة وتوصلها إلىٰ الناس (١).

أضف إلىٰ ذلك أنّها تروي حرز الإمام الجواد عليه‌السلام ، وقد توفيت هذه السيدة الجليلة في مدينة سامراء ، ودفنت عند رجلي الإمامين العسكريين عليهما‌السلام ، وقبرها مشهور معروف.

وغريب من مثل الشيخ المفيد أن يفوته التعرض لذكر اسمها ضمن تعداده لأبناء الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، مع أنّه ـ عليه الرحمة ـ ذكرها في « الإرشاد » في ثاني خبر له في باب ذكر من رأىٰ الإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، فقال : أخبرني أبو القاسم ، عن محمد بن يعقوب ـ وهو الكليني ـ ، عن محمد بن يحيىٰ ، عن الحسين بن رزق الله ، قال : حدثني موسىٰ بن محمد ابن القاسم ابن حمزة بن موسىٰ بن جعفر ، قال : حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي ـ وهي عمة الحسن عليه‌السلام ـ أنّها رأت القائم عليه‌السلام ليلة مولده وبعد ذلك (٢).

وأما ولده موسىٰ المعروف بالمبرقع ، وإليه ينتهي نسب السادة الرضويين ، فقد عاش في المدينة ، وبعد شهادة أبيه انتقل إلىٰ الكوفة فسكنها مدة ، ثم هاجر إلىٰ قم فوردها سنة ( ٢٥٦ ه‍ ) قاصداً استيطانها ، فكان أول سيد رضوي تطأ أقدامه هذه المدينة ، وكان من أهل الحديث والدراية. توفي في ربيع الآخر سنة ( ٢٩٦ ه‍ ) ودفن في بيته.

النصّ علىٰ إمامته :

من نافلة القول معرفة أن منصب الإمامة نص إلهي ، أبلغه تعالىٰ نبيه

________________

١) بحار الأنوار ١٠٢ : ٧٩ ، وعنه رجال بحر العلوم ٢ : ٣١٧.

٢) الإرشاد ٢ : ٣٥١.

٢٣

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم نصّ علىٰ خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منصب إمامة المسلمين ؛ ثم كانت للرسول الأعظم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواقف وكلمات ـ في روايات وردتنا ـ صرّح في بعضها بأسماء الأئمة خلفائه واحداً واحداً حتىٰ اثني عشر إماماً ، كما أن الأئمة عليهم‌السلام ـ باعتبار عصمتهم ـ نصوا علىٰ من يليهم بهذا المنصب ، ولم يكن الأمر باختيارهم.

أخرج إبراهيم بن محمد الحمّوئي الشافعي في فرائده بسنده ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس رفعه : « إنّ خلفائي وأوصيائي وحجج الله علىٰ الخلق بعدي لإثنا عشر ، أوّلهم أخي وآخرهم ولدي ». قيل : يا رسول الله ومن أخوك ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ ». قيل : فمن ولدك ؟ قال : « المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.. » الحديث (١).

وفيه : عن الأصبغ بن نباتة ، عن ابن عباس رفعه : « أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون » (٢).

وإمامنا الجواد عليه‌السلام وردت النصوص بإمامته عن جدّه النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن آبائه عليهم‌السلام وإليك جملة من هذه النصوص :

نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري يقول :

قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي

________________

١) فرائد السمطين ٢ : ٣١٢ / ٥٦٢. وراجع : ينابيع المودة / القندوزي الحنفي ٣ : ٣٨٣ الباب ٩٤ الطبعة الاُولىٰ ١٤١٦ ه‍ ، تحقيق علي جمال أشرف الحسيني ، نشر دار الاُسوة ـ طهران.

٢) فرائد السمطين ٢ : ٣١٣ / ٥٦٣ ، ٥٦٤. وراجع : ينابيع المودة ٣ : ٣٨٤.

٢٤

أوّلهم عليّ ، ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ، ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسىٰ بن جعفر ، ثم علي بن موسىٰ ، ثم محمد بن علي ، ثم علي ابن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم القائم اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي... » (١).

ونقل صاحب الفرائد خبراً آخر يرويه ابن عباس عن يهودي يدعىٰ نعثلاً حاجج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفات الله ، ثم في أوصيائه وطلب من النبي تسميتهم ، فسماهم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثنا عشر وصيّاً (٢).

ونقل أخطب خوارزم الموفق بن أحمد في كتابه « مقتل الحسين » عن ابن شاذان قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الحافظ حدثني علي بن علي بن سنان الموصلي عن أحمد بن محمد بن صالح عن سلمان بن محمد عن زياد بن مسلم عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن سلامة عن أبي سلمىٰ راعي أبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « ليلة أُسري بي إلىٰ السماء قال لي الجليل جلّ وعلا : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ) ، قلت : والمؤمنون ، قال : صدقت يا محمد من خلفت في أمتك ، قلت : خيرها ، قال : علي بن أبي طالب ، قلت : نعم يا رب ، قال : يا محمد إنّي اطّلعت إلىٰ الأرض اطّلاعة فاخترتك منها فشققت لك اسماً من اسمائي فلا اذكر في موضع إلّا ذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطّلعت الثانية ، فاخترت عليّاً ، وشققت له اسماً من اسمائي ، فأنا الأعلىٰ وهو علي ؛ يا محمد اني

________________

١) راجع : ينابيع المودة ٣ : ٣٩٨ الباب ٩٤. وكشف الغمة / الإربلي ٣ : ٣١٤.

٢) فرائد السمطين ٢ : ١٣٢ / ٤٣١ ، وعنه أورده القندوزي في ينابيع المودة ٣ : ٢٨١ الباب ٧٦.

٢٥

خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نور من نوري وعرضت ولايتكم علىٰ أهل السموات وأهل الأرض فمن قبلها كان عندي من المؤمنين ومن جحدها كان عندي من الكافرين ، يا محمد لو ان عبداً من عبيدي عبدني حتىٰ ينقطع أو يصير كالشن البالي ثم اتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتىٰ يقرّ بولايتكم ، يا محمد أتحب أن تراهم ، قلت : نعم يارب ، فقال : لي التفت عن يمين العرش فالتفت فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسىٰ بن جعفر وعلي بن موسىٰ ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي في ضحضاح من نور قياماً يصلّون وهو في وسطهم ـ يعني المهدي ـ كأنّه كوكب دري. قال : يا محمد هؤلاء الحجج وهو الثائر من عترتك ، وعزتي وجلالي انه الحجة الواجبة لاوليائي والمنتقم من أعدائي » (١).

روىٰ الشيخ المفيد رحمه‌الله بالإسناد عن زكريا بن يحيىٰ بن النعمان ، قال : سمعت علي بن جعفر بن محمد يحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين ، فقال في حديثه : لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه‌السلام لما بغىٰ عليه إخوته وعمومته.. وذكر حديثاً طويلاً حتىٰ انتهىٰ إلىٰ قوله : فقمت وقبضت علىٰ يد أبي جعفر محمد بن علي الرضا عليه‌السلام ، وقلت له : أشهد أنك إمام عند الله. فبكىٰ الرضا عليه‌السلام ثم قال : « يا عم ، ألم تسمع أبي وهو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأبي ابن خيرة الإماء النوبية الطيبة ، يكون من ولده الطريد الشريد ، الموتور بأبيه وجده ، صاحب الغيبة... » (٢).

________________

١) مقتل الحسين / الخوارزمي : ٩٥ ـ ٩٦. وعنه رواه الجويني الشافعي في فرائد السمطين ٢ : ٣١٩ / ٥٧١.

٢) الإرشاد ٢ : ٢٧٥. وراجع : اصول الكافي ١ : ٣٢٣ / ١٤. وإعلام الورىٰ ٢ : ٩٢. وبحار الأنوار ٥٠ :

٢٦

وروىٰ الشيخ الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) بسنده عن محمد بن علي بن عبدالصمد الكوفي ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن محمد بن علي ابن موسىٰ ، عن أبيه علي بن موسىٰ ، عن أبيه موسىٰ بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : « دخلت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أُبيّ بن كعب ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مرحباً أبا عبدالله ، يازين السموات والأرض.. ثم ذكر حواراً طويلاً مفصّلاً بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أُبي ابن كعب ذكر له النبي أسماء الأئمة ودعاء كل واحد منهم حتىٰ وصل إلىٰ إمامنا أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ، فقال في صفته : وإنّ الله عزَّ وجلّ ركّب في صلبه ـ أي في صلب الإمام الرضا عليه‌السلام ـ نطفة مباركة طيبة رضية مرضية ، وسمّاها محمد بن علي ، فهو شفيع شيعته ، ووارث علم جدّه. له علامة بيّنة ، وحجة ظاهرة ، إذا ولد يقول : لا إله إلّا الله ، محمد رسول الله.. » الخبر (١).

نصّ الإمام الكاظم عليه‌السلام :

جاء في كتاب الغيبة لشيخ الطائفة الطوسي رحمه‌الله خبر رُفع إلىٰ محمد بن سنان ، قال : دخلت علىٰ أبي الحسن موسىٰ عليه‌السلام من قبل أن يقدم العراق بسنة ، وعلي ابنه جالس بين يديه ، فنظر إليّ وقال : « يا محمد ستكون في هذه السنة حركة فلا تجزع لذلك.. إلىٰ أن قال عليه‌السلام : من ظلم ابني هذا حقّه وجحد إمامته من بعدي كان كمن ظلم علي بن أبي طالب عليه‌السلام إمامته وجحده حقّه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : قلت : والله لئن مدّ الله لي في العمر لاُسلّمنّ له حقّه ،

________________

٢١ / ٧.

١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٦٢ / ٢٩.

٢٧

ولأقرنّ بإمامته. قال : صدقت يا محمد يمدُّ الله في عمرك وتسلّم له حقّه ، وتقرّ له بإمامته وإمامة من يكون بعده ، قال : قلت : ومن ذاك ؟ قال : ابنه محمد ». قال : قلت : له الرضا والتسليم (١).

وهذا نصٌّ صريح بإمامته من جدّه الإمام الكاظم عليه‌السلام. وهناك نصّ آخر في رواية طويلة ننقل منها موضع الحاجة ، يرويها يزيد بن سليط الزيدي في لقائه مع الإمام موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام في طريق مكة ، وهم يريدون العمرة ـ إلىٰ أن قال : ـ. ثم قال أبو إبراهيم عليه‌السلام : « إنّي أؤخذ في هذه السنة ، والأمر إلىٰ ابني عليّ سمي عليّ وعليّ ، فأما عليّ الأول فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأما عليّ الآخر فعليّ بن الحسين ، أُعطي فهم الأول وحكمته ، وبصره وودّه ودينه ، ومحنة الآخر وصبره علىٰ ما يكره ، وليس له أن يتكلم إلّا بعد موت هارون بأربع سنين ، ثم قال : يا يزيد فإذا مررت بهذا الموضع ، ولقيته وستلقاه ، فبشّره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك ، وسيعلمك أنّك لقيتني فأخبره عند ذلك أنّ الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من بيت مارية القبطية جارية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن قدرت أن تبلغها منّي السلام فافعل ذلك ».

ثم يرحل الإمام الكاظم عليه‌السلام ، ويلتقي يزيد بالإمام الرضا في نفس ذلك الموضع ويخبره ، ويقصّ عليه الخبر. فيجيبه الإمام عليه‌السلام : « أما الجارية فلم تجيء بعد ، فإذا دخلت أبلغتها منك السلام ». قال يزيد : فانطلقنا إلىٰ مكة ، واشتراها في تلك السنة ، فلم تلبث إلّا قليلاً حتىٰ حملت ، فولدت ذلك الغلام (٢).

________________

١) راجع : أُصول الكافي ١ : ٣١٩ / ١٦. والغيبة / الشيخ الطوسي : ٣٢ / ٨. وبحار الأنوار ٥٠ : ١٩ / ٤.

٢) اُصول الكافي ١ : ٣١٣ ـ ٣١٩ / ١٤. وإعلام الورىٰ ٢ : ٥٠ وعنه بحار الأنوار ٥٠ : ٢٥ ـ ٢٨ / ١٧.

٢٨

نصّ الإمام الرضا عليه‌السلام :

نصوص كثيرة رويت عن الإمام الرضا عليه‌السلام بشأن إمامة أبي جعفر الجواد عليه‌السلام والنصّ عليه جمع شتاتها العلّامة المجلسي واستوفاها في الجزء الخمسين من بحاره (١) فكانت ستة وعشرين نصّاً ، اخترنا منها النصوص التالية :

روىٰ الكليني بسنده عن معمر بن خلّاد قوله : ذكرنا عند أبي الحسن عليه‌السلام شيئاً بعد ما ولد له أبو جعفر عليه‌السلام ، فقال : « ما حاجتكم إلىٰ ذلك ، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته في مكاني » (٢).

وعنه بسنده ، عن الخيراني ، عن أبيه قال : كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام بخراسان ، فقال له قائل : يا سيدي إن كان كون فإلىٰ من ؟ قال : « إلىٰ أبي جعفر ابني ». فكأن القائل استصغر سنّ أبي جعفر عليه‌السلام ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّ الله تبارك وتعالىٰ بعث عيسىٰ بن مريم رسولاً نبيّاً ، صاحب شريعة مبتداة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر عليه‌السلام » (٣).

ونقل ابن الصباغ المالكي في فصوله المهمة عن الشيخ المفيد قدس‌سره بإسناده عن صفوان بن يحيىٰ قال : قلت للرضا عليه‌السلام : قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول : « يهب الله لي غلاماً ». فقد وهبه الله لك ، وقرَّ عيوننا به ، فلا أرانا الله يومك ، فإن كان كون فإلىٰ مَن ؟ فأشار بيده إلىٰ أبي

________________

١) بحار الأنوار ٥٠ : ١٨ ـ ٣٦.

٢) اُصول الكافي ١ : ٣٢١ / ٦. ونحوه في ١ : ٣٢٠ / ٢. والإرشاد ٢ : ٢٧٦. وإعلام الورىٰ ٢ : ٩٣. والفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٦١.

٣) اُصول الكافي ١ : ٣٢٢ / ١٣.

٢٩

جعفر وهو قائم بين يديه ، فقلت له : جُعلت فداك ، وهذا ابن ثلاث سنين ؟ قال : « وما يضرُّ من ذلك ! قد قام عيسىٰ بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين » (١).

كما نقل القندوزي الحنفي في ينابيعه ، عن فرائد السمطين للمحدث الجويني الخراساني الشافعي باسناده ، عن دعبل الخزاعي ، عن علي الرضا ابن موسىٰ الكاظم عليهما‌السلام قال : « يا دعبل الإمام من بعدي محمد ابني ، وبعد محمد ابنه علي ، وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره » (٢).

شهادات اُخرىٰ :

وممن شهد بإمامة الجواد عليه‌السلام وأذعن لها عم أبيه : علي بن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام المعروف بالعُريضي ، فقد روىٰ الكليني رحمه‌الله بسنده ، عن محمد ابن الحسن بن عمار قال : كنت عند علي بن جعفر الصادق جالساً بالمدينة ، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه ـ يعني أبا الحسن موسىٰ الكاظم عليه‌السلام ـ إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه‌السلام في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوثب علي بن جعفر ؛ بلا حذاء ولا رداء فقبّل يده وعظّمه ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « يا عم إجلس رحمك الله » ، فقال : يا سيدي ! كيف أجلس وأنت قائم ؟

________________

١) الفصول المهمة : ٢٦١. وراجع : الإرشاد ٢ : ٢٧٦. وإثبات الوصية / المسعودي : ١٨٥. واُصول الكافي ١ : ٣٢١ / ١٠ باختلاف يسير جداً. وذكر نحوه الخزاز في كفاية الأثر : ٢٧٩.

٢) ينابيع المودة ٣ : ٣٤٨ الباب ٨٦. وفرائد السمطين ٢ : ٣٣٧ / ٥٩١. نقله عن عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٩٦ / ٣٥ من الباب ٦٦.

٣٠

فلمّا رجع علي بن جعفر إلىٰ مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عم أبيه ، وأنت تفعل به هذا الفعل ؟! فقال : ( اسكتوا ، إذا كان الله عزَّ وجلّ ـ وقبض علىٰ لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة ، وأهّل هذا الفتىٰ ووضعه حيث وضعه ، أُنكر فضله ؟! نعوذ بالله مما تقولون ، بل أنا له عبد ) (١).

وروىٰ الكشي بسنده عن علي بن جعفر خبراً له مع واقفي حاججه في أمر الإمامة ، فأجابه علي بن جعفر جواباً قاطعاً بأن أبا جعفر الجواد عليه‌السلام هو الإمام الناطق بعد أبيه علي بن موسىٰ الرضا (٢).

كما روىٰ الكشي في رجاله باسناده عن أبي عبدالله الحسين بن موسىٰ ابن جعفر ، قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام بالمدينة وعنده علي بن جعفر ، وأعرابي من أهل المدينة جالس ، فقال لي الأعرابي : من هذا الفتىٰ ؟ وأشار بيده إلىٰ أبي جعفر عليه‌السلام. قلت : هذا وصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال : يا سبحان الله ! رسول الله قد مات منذ مئتي سنة وكذا وكذا سنة ، وهذا حدث ، كيف يكون ؟!

قلت : هذا وصي علي بن موسىٰ ، وعلي وصيّ موسىٰ بن جعفر ، وموسىٰ وصيّ جعفر بن محمد ، وجعفر وصيّ محمد بن علي.. الخبر (٣).

وهذا الخبر من جملة الأحاديث والمرويات المستفيضة في مظانها ، الدالة علىٰ أنّه كان معروفاً آنذاك أن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام هم أوصياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنص عليهم واحداً بعد واحد.

________________

١) اُصول الكافي ١ : ٣٢٢ / ١٢.

٢) رجال الكشي : ٤٢٩ / ٨٠٣.

٣) رجال الكشي : ٤٢٩ / ٨٠٤.

٣١

العمر ومنصب الإمامة :

ليس غريباً إذا قلنا : إنّه لا مدخلية للعمر في تسنّم منصب الإمامة ، ولو أن ظاهرة الإمام الجواد عليه‌السلام كانت الاُولىٰ من نوعها في الإسلام علىٰ ما هو معهود ومعروف ! إلّا أنها لم تكن الاُولىٰ في العالم علىٰ مستوىٰ حركة الأنبياء والرسل وأوصيائهم السابقين ، فذاك عيسىٰ بن مريم آتاه الله الحكمة والنبوة وكان في المهد صبياً ، وقبله كان يحيىٰ ، فقد آتاه الله الحكم والكتاب وهو صبي ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (١).

( فإنّ الظاهرة التي وجدت مع هذا الإمام وهي ظاهرة تولّي شخص للإمامة وهو بعد في سن الطفولة ، علىٰ أساس أن التاريخ يتّفق ويُجمع علىٰ أنّ الإمام الجواد توفي أبوه وعمره لا يزيد عن سبع سنين. ومعنىٰ هذا أنّه تولّىٰ زعامة الطائفة الشيعية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً وهو لا يزيد عن سبع سنين ، هذه الظاهرة التي ظهرت لأول مرة في حياة الأئمة في الإمام الجواد عليه‌السلام ) (٢).

وقد قدّمنا في الفصل الأول الروايات التي تنصّ علىٰ أنّ الإمام الرضا عليه‌السلام وهو الإمام المعصوم قد شهد بأن مولوده الصغير ـ وكان يشير إليه ـ سيكون الإمام من بعده بالرغم من صغر سنِّه (٣) ، وبذلك فقد حلَّ الإمام الرضا عليه‌السلام إشكالية المسألة في حياته وأرجع أصحابه وشيعته وجميع

________________

١) سورة مريم : ١٩ / ١٢.

٢) من محاضرة للسيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس‌سره في ٢٩ ذي القعدة الحرام سنة ١٣٨٨ ه‍ لم تنشر توجد ضمن مستندات ووثائق موسوعة الشهيد الصدر.

٣) راجع النصوص المتقدمة آنفاً عن اُصول الكافي ١ : ٣٢١ / ١٠ و ٣٢٢ / ١٣ و ٣٨٣ / ٢. وإثبات الوصية : ١٨٥.

٣٢

المسلمين إلىٰ ابنه الجواد عليه‌السلام.

ثم إنّ الإمام الجواد عليه‌السلام نفسه قد أدرك الشك والحيرة من بعض أصحاب أبيه في هذا الأمر ؛ لأنّهم لم يألفوا ذلك من قبل فأراد في بعض المواقف تبيان هذه الظاهرة ، وإلفات نظر المتردّدين إلىٰ الحقيقة التي غابت عن أذهانهم ، فقد روىٰ الكليني بالإسناد عن علي بن اسباط ، قال : خرج عليه‌السلام عليَّ فنظرت إلىٰ رأسه ورجليه ؛ لأصف قامته لأصحابنا بمصر ، فبينا أنا كذلك حتىٰ قعد ، فقال : « يا عليّ ، إن الله احتجّ في الإمام بمثل ما احتجّ في النبوّة ، فقال : ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (١) ، قال : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) (٢) ، ( وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) (٣) فقد يجوز أن يؤتىٰ الحكمة صبيّاً (٤) ، ويجوز أن يُعطاها وهو ابن أربعين سنة » (٥).

وعندما يُسأل عن هذا الموضوع وهو ابن سبع سنين أو نحوها ، يجيب سائله إجابة قاطعة ليس فيها ترديد ولا تورية.. جواب واثق مطمئن من إمامته علىٰ الناس ، وهو ما رواه الكليني بالإسناد عن محمد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : سألته ـ يعني أبا جعفر عليه‌السلام ـ عن شيء من أمر الإمام ، فقلت : يكون الإمام ابن أقل من سبع سنين ؟ فقال : « نعم ، وأقلّ من خمس سنين ».

فقال سهل : فحدثني علي بن مهزيار بهذا في سنة إحدىٰ وعشرين

________________

١) سورة مريم : ١٩ / ١٢.

٢) سورة يوسف : ١٢ / ٢٢. وسورة القصص : ٢٨ / ١٤.

٣) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٥.

٤) في الرواية الاُخرىٰ : الحكمة وهو صبي.

٥) اُصول الكافي ١ : ٤٩٤ / ٣ ، ومثله أيضاً ١ : ٣٨٤ / ٧ باب حالات الأئمة في السن.

٣٣

ومائتين (١).

كما أنّه عليه‌السلام يردّ علىٰ المنكرين عليه صغر سنه بشواهد قرآنية لها مصاديق من سيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ما نقرأه في رواية الكليني الاُخرىٰ عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : قال علي بن حسان لأبي جعفر عليه‌السلام : يا سيدي ، إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك ، فقال : « وما ينكرون من ذلك ، قول الله عزَّ وجلَّ ؟ لقد قال الله عزَّ وجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٢) فوالله ما تبعه إلّا علي عليه‌السلام وله تسع سنين وأنا ابن تسع سنين » (٣).

من خلال التأمل في الروايات التي مرَّ ذكرها يتبيّن لنا تركيز الأئمة عليهم‌السلام علىٰ دور الإمامة في حياة الاُمّة ، ومقارنتها بالنبوّة. وطبيعي أن تُقرن الإمامة بالنبوة لما بينهما من سنخية واحدة ، فالإمام عليه‌السلام إنّما يلفت نظر الناس إلىٰ أن العمر لا مدخلية له في منصبي النبوّة والإمامة ؛ لأنّهما منصبان يتعينان من قبل الله سبحانه وتعالىٰ ، والله تعالىٰ لا يختار لرسالاته إلّا المعصوم المتحصل لجميع الكمالات ، وعليه فهو تبارك وتعالىٰ لايتعامل مع سن المبعوث بقدر ما يتعامل مع ظروف المرحلة التي تمر بها الرسالة والاُمّة ، ومدىٰ الحاجة إلىٰ الشخص المختار لتدارك حالة المجتمع في مقطع زمني معين تكون الحاجة إليه هناك ماسة وضرورية.

نعم ، فالإمام يريد أن يقول للناس : عليكم أن تنظروا للإمام.. أن تتعاملوا

________________

١) اُصول الكافي ١ : ٣٨٤ / ٥.

٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٨.

٣) اُصول الكافي ١ : ٣٨٤ / ٨.

٣٤

مع منصب الإمامة ، كما تنظرون إلىٰ مقام النبوّة وتتعاملوا معها. فالإمامة امتداد طبيعي للنبوّة ، لذلك تكتسب نفس قداستها ؛ لأنّهما ـ كما قلنا ـ من مختصات السماء ، وما ترسله السماء يجب أن يكون له قدسية خاصة ، وأنها ـ أي الإمامة ـ « .. أجلّ قدراً ، وأعظم شأناً ، وأعلىٰ مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالونها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم.. » (١).

ولما كان هذا حال الإمامة والإمام ، يجريان مجرىٰ النبوة والأنبياء ، فإنّه يجوز علىٰ الإمام أن يتولىٰ الإمامة وهو ابن سنتين ـ مثلاً ـ أو أقل من ذلك أو أكثر ، كما جاز ذلك في النبوّة وهو ما عرفناه من قبل في مثال يحيىٰ بن زكريا ، وعيسىٰ بن مريم عليهما‌السلام.

والشهيد آية الله العظمىٰ السيد محمد باقر الصدر قدس‌سره في محاضرته التي أشرنا إليها قبل قليل يلفت النظر إلىٰ أنّه لو تم دراسة ظاهرة إمامة الجواد عليه‌السلام بقانون حساب الاحتمالات لتبيّن : ( أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقانية هذا الخط الذي كان يمثله الإمام الجواد عليه‌السلام ). وهو طريق عقلي آخر يضاف إلىٰ طرق إثبات الإمامة وحصرها بأهل البيت عليهم‌السلام ، ثم يفترض السيد الشهيد قدس‌سره عدة افتراضات يمكن أن تُثار حول إمامة الإمام الجواد عليه‌السلام ويجيب عنها منطقياً وتاريخياً ، لكنه قدس‌سره يجيب قبل طرح الافتراضات فيقول : ( إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويتولّىٰ زعامة هذه الطائفة في كلِّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية ).

________________

١) اُصول الكافي ١ : ١٩٩ / ١.

٣٥

٣٦



الفصل الثاني

الحالة السياسية في عصر الإمام عليه‌السلام

تميّزت الفترة الزمنية التي عاشها الإمام الجواد عليه‌السلام بعد استشهاد والده الإمام الرضا عليه‌السلام ؛ بهدوء سياسي نسبي ، بعد أن تمّ تصفية الحساب في وقت سابق بين الأخوين العباسيين الأمين والمأمون بمقتل الأول ( ٢٥ محرم ١٩٨ ه‍ ) ، وتفرّد الثاني بالسلطة السياسية ، وقد خلا له الجو من المنافس السياسي سوىٰ الإمام الرضا عليه‌السلام ، الذي كان يتصدّر الزعامة الروحية والاجتماعية للمجتمع الإسلامي ، وسوىٰ بعض الثورات والانتفاضات العلوية هنا وهناك ، والتي سرعان ما قُضي عليها بحنكة سياسية ، ودهاء ماكر ، وقوة عسكرية حاسمة ، ثم دُبّر أمر تصفية الإمام الرضا عليه‌السلام في آخر صفر (١) سنة ٣٠٢ ه‍ ، بمكيدة ودهاء تامّين ، الأمر الذي جنّب المأمون أيّ مشكلة سياسية ذات بال تواجه استقرار الحكومة.

أما اضطرابات بغداد وانفصالها عن سلطة المأمون ، ومبايعة عمّه إبراهيم

________________

١) تاريخ الطبري ٧ : ١٥٠. والشذرات الذهبية / ابن طولون : ٩٨ وفيه : آخر صفر سنة اثنتين ومئتين. وفي التنبيه والإشراف / المسعودي : ٣٠٣ : في أول صفر ؛ لكنه في إثبات الوصية : ١٨٢ ، قال : مضىٰ ـ صلّىٰ الله عليه ـ في سنة اثنين ومئتين من الهجرة في آخر ذي الحجة. وروي أنّه مضىٰ في صفر ، والخبر الأول أصح.

٣٧

ابن المهدي العباسي في ( ٥ محرم سنة ٢٠٢ ه‍ ) بالخلافة ، ثم مناوشاتهم وحروبهم مع ولاة دولة المأمون ، فسرعان ما أُخمدت وعادت بغداد إلىٰ أحضان دولة الخلافة المأمونية ، بدخول المأمون مدينة السلام علىٰ رأس جيش خراساني لجب في ١٨ صفر سنة ٢٠٤ ه‍ (١).

وبعد استتباب الأوضاع السياسية في بغداد ، واستقرار شؤون الدولة في العاصمة الجديدة ( بغداد ) ، من بناء القصور الملكية والدواوين ( الوزارات ) ، والمراكز الأمنية وغيرها ، تتناهى إلىٰ سمع المأمون أخبار أبي جعفر ابن الرضا عليه‌السلام واحتفاء الناس به ، وظهور كراماته ومعجزاته..

فيتأمل المأمون ـ وهو السياسي المحنّك والخبير ـ في الأمر ملياً ، ويرسل خلف الإمام ابن الرضا عليه‌السلام يستدعيه من المدينة إلىٰ بغداد في تلك السنة. وفي تقديرنا أن التحرك السياسي للإمام الجواد عليه‌السلام يبتدئ من السنة التالية ( ٢٠٥ ه‍ ) التي وصل فيها إلىٰ بغداد بعد أن أدّىٰ نسك الحج ، وعاد إلىٰ المدينة ليجمع أهل بيته وعمومته من الهاشميين وخدمه ؛ لمرافقته إلىٰ عاصمة الدولة لإجابة ( المأمون ) طلبه ، وكان له عليه‌السلام أول لقاء مع المأمون العباسي في التاريخ المذكور ، ومن ذلك الوقت يبدأ المسلسل التاريخي الحافل السياسي ، والاجتماعي ، والعلمي لحياة جواد الأئمة عليهم‌السلام.

بعد هذه التقدمة الموجزة ندخل إلىٰ رحاب الحياة السياسية للإمام الجواد عليه‌السلام ، باستشفاف بعض ملامح موقف السلطة العباسية تجاه الإمام عليه‌السلام من جهة ، وتجاه الشيعة عموماً من جهة اُخرى.

________________

١) راجع : التنبيه والإشراف / المسعودي : ٣٠٢ ـ ٣٠٤.

٣٨

الموقف السياسي بعد شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام :

كانت الفترة بين ( رمضان ٢٠١ ـ صفر ٢٠٣ ه‍ ) (١) التي تقلّد فيها الإمام الرضا عليه‌السلام ولاية العهد سنيّ هدوء نسبي إلّا ما كان من اضطراب الأمور في بغداد حنقاً علىٰ المأمون ؛ لمقتل محمد الأمين أولاً ؛ ولتوليته العهد من بعده للرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ظناً منهم أن الخلافة ستخرج من بني العباس إلىٰ آل أبي طالب ، لكن تبيّن بعد ذلك أن المأمون كان يفكر غير ماكانوا يستعجلون تفكيره.

وأما السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد الإمام الرضا عليه‌السلام فكانت هي الاُخرىٰ مشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً ؛ للسياسة التي اتخذها المأمون في تقريب الإمام الجواد عليه‌السلام وإنزاله تلك المنزلة منه ، وهذا الترقب والحذر راجع إلىٰ عدة أمور لعلّ من أهمها ما نوجزه بالنقاط التالية :

١ ـ شغف المأمون بأبي جعفر عليه‌السلام بعد أن استدعاه من المدينة المنورة إلىٰ بغداد ؛ لما رأىٰ من غزارة علمه وهو لم يبلغ الحلم بعد ، ولم يحضر عند أحد للتلمّذ والدراسة ، ثم إنّ صغر السن وامتلاك علوم جمة والجلوس للمناظرة والحجاج مع كبار الفقهاء هي ظاهرة فريدة وغريبة في دنيا الإسلام

________________

١) هناك نصّ نقله النجاشي في رجاله : ٢٧٧ رقم ٧٢٧. وشيخ الطائفة الطوسي في أماليه : ٣٥٩ / ٧٤٩ يشير إلىٰ أنّ الإمام الرضا عليه‌السلام كان في خراسان سنة ( ١٩٨ ه‍ ) ، حيث يروي أبو الحسن علي أخو دعبل الخزاعي أنّه ودعبل رحلا إلىٰ الإمام علي بن موسىٰ الرضا عليه‌السلام والتقياه في تلك السنة ، وحدّثهما إملاءً في رجب من ذلك العام ، وأقاما عنده إلىٰ آخر سنة ( ٢٠٠ ه‍ ). ثم خرجا من عنده متوجهين صوب قم حيث أشار الإمام عليه‌السلام إليهما أن يصيرا إليها وهما في طريق عودتهما إلىٰ واسط ، بعد أن خلع عليهما وزودهما وأعطاهما من الدراهم الرضوية ما يعينهما.

٣٩

يومذاك ، تجلب الانتباه وتأخذ بالعقول وتستهويها ؛ لهذا فقد أبقاه عنده فترة طويلة.

٢ ـ المأمون ، ولأجل رفع أصابع الاتّهام عنه باغتيال الإمام الرضا عليه‌السلام ، أراد أن يثبت ظاهرياً للعوام والخواص حبه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من خلال بقائه علىٰ ولاء وحب البيت العلوي؛ لذلك أظهر اهتماماً زائداً ، وتكريماً متميزاً للإمام الجواد عليه‌السلام ، بل وأقرّ له ما كان يعطي أباه الرضا عليه‌السلام من عطاء وزيادة ، فبلغ عطاؤه ألف ألف درهمٍ سنوياً (١).

٣ ـ تزويجه إياه من ابنته ( زينب ) المكناة بأم الفضل ، واسكانه قصور السلطنة.

٤ ـ توليته بعد وروده بغداد عام ( ٢٠٤ ه‍ ) عبيدالله بن الحسن بن عبيدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام مكة والمدينة. وبقي علىٰ ولايتهما حتىٰ أواخر عام ( ٢٠٦ ه‍ ).

٥ ـ أمره ولاة الأقاليم والخطباء بإظهار فضائل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام علىٰ المنابر في جميع المناسبات.

٦ ـ تبنّيه مذهب الاعتزال وإظهار القول بخلق القرآن في ربيع الأول سنة ( ٢١٢ ه‍ ) ، وكان الدافع من وراء ذلك ـ علىٰ ما يظهر لنا ـ سياسياً ، لأجل تصفية بعض الخصوم وإبعاد البعض الآخر ، وإجبار بعض الفقهاء ، خارج المدار السلطاني ، الدخول في فلك البلاط ؛ لتمرير بعض المآرب السياسية في مرحلة لاحقة. ثم لعلّه أراد من إظهار هذا الحق باطلاً كان يختبئ في

________________

١) مرآة الجنان / اليافعي ٢ : ٨٠.

٤٠