الحقوق الإجتماعية في الإسلام

الحقوق الإجتماعية في الإسلام

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-033-1
الصفحات: ١٢٧

واملاء العقول بافكار الإسلام الحضارية، التي تبين للإنسان مكانته في الكون ، وتصون حياته ، وتكفل حريته وكرامته ، وتراعي حقوقه منذ نعومة أظفاره ، وعلى الخصوص حقه في الوجود ، وعلى الأخص حق البنات في الحياة.

٢ ـ حق الولد في الاسم الحَسن :

للبعض أسماء جميلة ، تحمل معاني سامية ، وتولّد مشاعر جميلة ، فتجذبك للشخص المسمى بها كما يجذب شذا الأزهار النحل. وللبعض الآخر أسماء سمجة ، مفرغة من أي مضمون ، وتحسّ عند سماعها بالضيق والاشمئزاز. وما أعظم التأثير النفسي والاجتماعي للإسم ، الذي نطلقه على اطفالنا ، فكم من الأولاد قد أرّق اسمه البشع ليله ، وقضَّ مضجعه ، نتيجة الاستهزاء والازدراء الذي يلاقيه من مجتمعه ، فيتملكه إحساس بالمرارة والتعاسة من اسمه الذي أصبح قدراً مفروضاً عليه كالوشم على الجلد تصعب إزالته ، وهناك بالطبع نفوس قوية ، لم تسمح لسحابة الاسم السوداء أن تنغص حياتها ، فعملت على تغيير اسمها السيء واستأصلته .. كما يستأصل الجرّاح الماهر خلية السرطان.

ولم يهمل الإسلام كدين يقود عملية تغيير حضارية كبرى ، شأن الاسم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم بتغيير الاسماء القبيحة أو الاسماء التي تتنافى مع عقيدة التوحيد ، واعتبر من حق الولد على والده ، ان يختار له الاسم المقبول ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ أوّل ما ينحل أحدكم ولده الاسم الحسن ، فليحسن أحدكم اسم ولده » (١). وقد بيّن في حديث آخر الأبعاد

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٤ : ١٣٠.

٨١

الأخروية المترتبة على الاسم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « استحسنوا أسماءكم فإنكم تُدعون بها يوم القيامة : قُم يا فلان ابن فلان إلى نورك ، وقم يا فلان ابن فلان لا نور لك » (١).

جدير ذكره ان أحسن الأسماء أسماء الانبياء والمرسلين والأئمة عليهم‌السلام والصالحين ، يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موصياً : « سمّوا أولادكم أسماء الأنبياء » (٢) ، ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « أصدق الأسماء ما سُمّي بالعبوديّة ، وخيرها أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم » (٣) ،. والملفت للنظر ان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدر ما كان حريصاً على تغيير الأسماء القبيحة في الرّجال والبلدان ، كان سخياً بالمقابل في منح الأسماء الحسنة لأهل بيته عليهم‌السلام وأصحابه والمحيطين به. تروي كُتب السيرة : ان بشرى ولادة الحسن عليه‌السلام عندما زفت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطلّ على الحياة سبطه الأول من حبيبته ووحيدته فاطمة الزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين ، سارع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دار فاطمة ، فَدُفع إليه هذا المولود المبارك ، فأخذه بيديه ، وأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى ، ثم قال لعلي عليه‌السلام : « أي شيء سميت ابني ؟ قال : ما كنت لاسبقك بذلك » ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولا أنا سابق ربي به. فهبط جبريل : فقال : يا محمد ، إنّ ربك يُقرئك السلام ، ويقول لك : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيَّ بعدك ، فسمِّ ابنك هذا باسم ولد هارون ، فقال : وما كان اسم ابن هارون يا جبريل ؟ قال : شُبَّر ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٢٢ / ١٠ باب الاسماء والكنى.

(٢) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٢.

(٣) بحار الأنوار ١٠٤ : ١٢٩.

٨٢

إنّ لساني عربي ، فقال : سمِّه الحسن. فسمّاه حسناً وكنّاه أبا محمد » (١).

ولما وُلِد الحسين عليه‌السلام : ( جيء به إلى جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستبشر به ، وأذّن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، فلما كان اليوم السابع ، سمّاه حسيناً ، وعق عنه بكبش ، وأمر أُمّه أن تحلق رأسه ، وتتصدق بوزن شعره فضة كما فعلت بأخيه الحسن ، فامتثلت .. ) (٢).

إنّ التعاليم النبوية التي تؤكد على حق الولد في الاسم الحَسِن ، لم تنطلق من فراغ ، أو تثار من أجل الترف ، بل تنطلق من منظار حضاري ، ينظر للعواقب المترتبة على غمط هذا الحق أو التهاون فيه ، فالتعاليم النبوية تتفق مع معطيات العلم الحديثة بدليل : ( ان علم النفس قد اكتشف ـ أخيراً ـ علاقة وثيقة بين الإنسان واسمه ولقبه. ويضرب علماء النفس لنا ـ مثلاً ـ رجلاً اسمه ( صعب ) فإن دوام انصباب هذه التسمية في سمعه ووعيه ، يطبع عقله الباطن بطابعه ، ويَسِمُ أخلاقه وسلوكه بالصعوبة.. وذلك لا ريب هو سر تغيير الرَّسول أسماء بعض الناس ، الذين كانت أسماؤهم من هذا القبيل ، فقد أبدل باسم ( حرب ) اسماً آخر هو ( سمح ) فهناك ـ إذن ـ وحي مستمر توحيه أسمائنا ويلوّن إلى حدٍ كبير طباعنا ) (٣).

لقد وضع الأئمة عليهم‌السلام نصب أعينهم هذا الحق وضرورة مراعاته ، وثمة شواهد عديدة على ذلك منها ، قول الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام : « أوّل ما

__________________

(١) الإمام الحسن بن علي ، محمد حسن آل ياسين : ١٦ ، ط. الاولى.

(٢) في رحاب أئمة أهل البيت ٢ : ٤٧.

(٣) مواطنون .. لا رعايا ، خالد محمد خالد : ٢٢.

٨٣

يبرّ الرّجل ولده أن يسمّيه باسم حسن ، فليحسن أحدكم اسم ولده » (١).

كما بين الإمام الصادق عليه‌السلام المنافع التي يجنيها من ينحل أولاده اسماً يحاكي به أسماء الأئمة عليهم‌السلام ، فعندما قيل لابي عبدالله عليه‌السلام : جعلت فداك إنّا نسمّي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك ؟ فقال : « إي والله وهل الدّين إلاّ الحبّ ؟ قال الله : ( إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) » (٢).

فالاسم ـ تبعاً لما تقدم ـ ليس مجرد لفظ يُكتب بالمداد على شهادة الميلاد ، بل هو حق طبيعي للمولود ، يعيّن هويته ، وتتفتح نفسه الغضة على مضمونه البديع .. كما تتفتح براعم الزّهور في الربيع.

٣ ـ حق التأديب والتعليم :

لا شك أن السنوات الأولى من عمر الطفل ، هي أهم مراحل حياته ، ومن هذا المنطلق يؤكد علماء التربية على ضرورة الاهتمام الزائد بالطفل ، وأهمية تأديبه بالآداب الحسنة.

قال سيد الموحدين ، الإمام علي عليه‌السلام مبيّناً أهمية الأدب وأرجحيته على غيره .. : « خير ما ورّث الآباءُ الأبناء الأدبَ » (٣).

وقال عليه‌السلام : « إنّ الناس إلى صالح الأدب ، أحوج منهم إلى الفضّة

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٢١ / ٣ باب الاسماء والكنى.

(٢) بحار الانوار ١٠٤ : ١٣٠. والآية من سورة آل عمران ٣ : ٣١.

(٣) غرر الحكم.

٨٤

والذّهب » (١).

وسلّط حفيده الإمام الصادق عليه‌السلام أضواءً معرفية أقوى ، فكشف عن العلة الكامنة وراء تفضيل الأدب على المال بقوله : « إنَّ خير ما ورّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال ، فإنّ المال يذهب والأدب يبقى .. » (٢).

وينبغي الإشارة إلى أن موضوع ( أدب الأطفال ) قد احتل مساحةً واسعة من أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، فنجد تأكيداً على المبادرة إلى تأديب الأحداث قبل أن تقسو قلوبهم ويصلب عودهم ؛ لأن الطفل كورقة بيضاء تقبل كل الخطوط والرُسوم التي تنتقش عليها ، يقول الإمام علي لولده الحسن عليهما‌السلام : « إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما أُلقي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل لبّك » (٣).

وكان ذلك ديدن الأئمة عليهم‌السلام ، فمع ما كانوا عليه من العصمة يولون لأدب أولادهم عناية خاصة ، وكان أبوهم علي عليه‌السلام أديب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يتبعه اتّباع الفصيل لأمه ، فأورث أدبه الراقي لأولاده من بعده ، وكلاهما يضيء من مشكاةٍ واحدة هي مشكاة الوحي ، يقول صادق أهل البيت عليهم‌السلام : « أدّبني أبي بثلاث .. قال لي : يابنيَّ من يصحب صاحب السّوء لا يسلم ، ومن لا يقيّد ألفاظه يندم ، ومن يدخل مداخل السّوء يتّهم » (٤).

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) روضة الكافي ٨ : ٢٠٧ / ١٣٣ ، والمراد بالأدب هنا : العلم ، صرح بهذا مسعدة بن صدقة راوي الحديث.

(٣) بحار الانوار ٧٧ : ٢٠١.

(٤) بحار الانوار ٧٨ : ٢٦١.

٨٥
أدب الطفل في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام :

يمكن إبراز الخطوط الأساسية لمدرسة أهل البيت في بيان تأديب الطفل وتعليمه في النقاط التالية :

أ ـ لا تقتصر تربية الأولاد على الأبوين فحسب بل هي مسؤولية اجتماعية تقع أيضاً على عاتق جميع أفراد المجتمع. وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « أيّما ناشئ نشأ في قوم ثمّ لم يؤدّب على معصية ، فإنّ الله عزّ وجلّ أوّل ما يعاقبهم فيه أن ينقص من أرزاقهم » (١).

فالإمام عليه‌السلام يحدّد المسؤولية الجماعية عن الظواهر الاجتماعية السلبية ، ويكشف عن الترابط القائم بين التربية والتعليم ، وبين الوضع الاقتصادي ، فكل انحراف في التربية سوف يؤثر سلباً على الاقتصاد ، فللمعصية آثار تدميرية على المجتمع ، لذلك نجد القرآن الكريم ، ينقل دعوة النبي هود عليه‌السلام لقومه بالتوبة من المعصية والاستغفار كشرط أساسي لنزول المطر الذي حُبس عنهم ثلاث سنين : ( ويا قوم استغفروا ربّكم ثمَّ تُوبوا إليه يُرسل السماء عليكُم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوَّتكم ولا تتولَّوا مُجرمين ) ( هود ١١ : ٥٢ ).

فرؤية آل البيت عليهم‌السلام تنطوي على ضرورة تأديب أفراد المجتمع وخصوصاً

__________________

(١) بحار الانوار ١٠ : ٧٨.

٨٦

الأحداث منهم على الطاعة ، وتميل إلى أن المسؤولية في ذلك لا تناط بالوالدين فحسب ، وإنّ كان دورهم أساسياً ، وإنّما تتسع دائرتها لتشمل الجميع ، فالسُنّة الاجتماعية بطبيعتها تنطبق على الجميع بدون استثناء.

ب ـ من الضروري مراعاة عمر الطفل ، فلكل عمر سياسة تربوية خاصة ، فمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام سبقت المدارس التربوية المعاصرة بالاَخذ بمبدأ ( التدرج ) وهو مبدأ التزمت به المناهج التربوية المعاصرة ، بعد أنْ اثبتت التجارب العملية فائدته وجدواه ، ويمكن لنا أن نأتي بشواهد على ذلك ، ففيما يتعلق بالتربية الدينية ، يؤدب الطفل على الذكر لله إذا بلغ ثلاث سنين ، يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « إذا بلغ الغلام ثلاث سنين فقل له سبع مرّات : قل : لا إله إلاّ الله ، ثم يُترك .. » (١). ثم نتدرج مع الطفل فنبدأ بتأديبه على الصلاة ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة والطهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً » (٢) ، بعد ذلك : « يؤدّب الصّبي على الصّوم ما بين خمسة عشر سنة إلى ستّ عشرة سنة » كما يقول الإمام الصادق عليه‌السلام (٣).

وفي أثناء هذه الفترات يمكن تأديب الطفل على أُمور أُخرى لا تستلزم بذل الجهد ، كأن نؤدبه على العطاء والاحسان إلى الآخرين ، ونزرع في وعيه حبّ المساكين ، وفي هذا الصَّدد يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « مُر الصّبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء ، وإن قلّ ، فإنّ كلَّ شيء

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٥.

(٢) تنبيه الخواطر : ٣٩٠.

(٣) بحار الأنوار ١٠٢ : ١٦٢.

٨٧

يراد به الله ـ وإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه ـ عظيم .. » (١).

وهنا يبدو من الأهمية بمكان الاشارة إلى أن الأئمة عليهم‌السلام يتبنون بصورة عامة تقسيماً ( ثلاثياً ) لحياة الطفل ، ففي كل مرحلة من المراحل الثلاث ، يحتاج الطفل لرعاية خاصة من قبل الأبوين ، وأدب وتعليم خاص، استقرأنا ذلك من الاحاديث الواردة في هذا المجال ، وكشاهد على تبنيهم التقسيم الثلاثي ، نورد هذه الرّوايات الثلاث :

عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد سيّد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين ، فإن رضيت خلائقه لاحدى وعشرين سنة ، وإلاّ ضُرب على جنبيه ، فقد أعذرت إلى الله » (٢).

وقد نسج الإمام الصادق عليه‌السلام على هذا المنوال فقال : « دع ابنك يلعب سبع سنين ، ويؤدب سبع سنين ، والزمه نفسك سبع سنين ، فإن أفلح ، وإلاّ فإنَّه لا خير فيه » (٣) ، فمن خلال هاتين الروايتين نجد تقسيماً ثلاثياً لمرحلة الطفولة ، كل مرحلة تستغرق سبع سنين ، فالمرحلة الأولى هي مرحلة لعب ، والثانية مرحلة أدب ، والثالثة مرحلة تبني مباشر للطفل وملازمته كظله.

وفي الرّواية الثالثة نجد انها تلتزم هذا التقسيم لكن مع اختلاف طفيف إذ تجعل مدّة المرحلة الأولى والثانية ست سنين وتُبقي المرحلة الثالثة على عددها أي سبع سنين : عن الحسن الطّبرسي في مكارم الأخلاق نقلاً

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٢٦١ / ١ باب ٤ من أبواب الصدقة.

(٢) الوسائل ١٥ : ١٩٥ / ٧ باب ٨٣ من أبواب أحكام الاولاد.

(٣) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٥.

٨٨

عن كتاب المحاسن عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « احمل صبيّك حتى يأتي عليه ستّ سنين ، ثمّ أدّبه في الكتاب ستّ سنين ، ثم ضمّه اليك سبع سنين فأدّبه بأدبك ، فإن قبل وصَلُح وإلاّ فخلّ عنه » (١).

ج‍ ـ ينبغي عدم الاِسراف في تدليل الطفل ، واتباع أُسلوب تربوي يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب ، كما يحذّر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من الأدب عند الغضب ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام « لا أدب مع غضب » (٢) ، وذلك لأن الغضب حالة تحرك العاطفة ولا ترشد العقل ، ولا تعطي العملية التربوية ثمارها المطلوبة بل تستحق هذه العملية ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة. فالطفل يحتاج إلى استشارة عقلية متواصلة ؛ لكي يدرك عواقب أفعاله ، وهي لا تتحقق ـ عادة ـ عند الغضب الذي يحصل من فوران العاطفة وتأججها ، وبدون الاستشارة العقلية المتواصلة ، لا تحقق العملية أهدافها المرجوة ، فتكون كالطرق على الحديد وهو بارد.

وعند تمعننا المتأني في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام نجد أنّ هناك رخصة في اتباع أسلوب ( الضرب ) مع الصبي في المرحلة الثانية دون المرحلة الطفولة الأولى ، منها قول الإمام علي عليه‌السلام : « أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصّلاة والطّهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً » (٣).

ولكن بالمقابل نجد أحاديث أُخرى تحذر من اتباع أسلوب الضرب ،

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ١٩٥ / ٦ باب ٨٣ من أبواب أحكام الاولاد.

(٢) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم ٢ : ٧٤ / ١٠٥٢٩.

(٣) تنبيه الخواطر : ٣٩٠.

٨٩

منها قول بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن موسى عليه‌السلام ابناً لي ، فقال : « لا تضربه ولا تطل » (١).

ويمكن الجمع بين الأمرين ، بأنّ اسلوب الضرب ـ من حيث المبدأ ـ غير مجدٍ على المدى البعيد ، ولكن لابدَّ منه في حالات استثنائية مهمة ، وخاصة في ما يتعلق بأداء الفرائض الواجبة من صلاة وصيام ، والضرورة تقدر بقدرها لذلك نجد الإمام علي عليه‌السلام يقول : « ... فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً » ، وعليه يجب الابتعاد ـ ما أمكن ـ عن ضرب الأطفال ؛ لانه ثبت تربوياً انه يُؤثر سلباً على شخصيتهم ولا يجدي نفعاً ، ولا مانع من اتباعه في حالات خاصة بقدر ، كالملح للطعام.

ولابدَّ من التنويه على ان مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تراعي طاقة الطفل ، فلا تكلفه فوق طاقته ، بما يشق عليه.

عن الحلبي ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال : « إنا نأمر صبياننا بالصلاة ، إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين. ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فاذا غلبهم العطش والغرث افطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه ، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم ، فاذا غلبهم العطش افطروا » (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ١٠٢.

(٢) فروع الكافي ٣ : ٤٠٩ / ١ باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها ، وأُنظر ٤ : ١٢٥ / ١ باب صوم الصبيان ومتى يؤخذون بها من فروع الكافي أيضاً. والغرث : الجوع.

٩٠

وضمن هذا التوجه يستحسن ، تكليف الطفل بما يَقْدِرُ عليه ، كالقيام ببعض أعمال البيت ، مثل ترتيب الفراش ، وتنظيف الاَثاث ، والقاء الفضلات في أماكنها ، وتهيئة وتنسيق مائدة الطعام وأدواته ، والعناية بحديقة المنزل ، وما إلى ذلك من أعمال بسيطة تنمي روح العمل والمبادرة لدى الطفل ، وتعوده على الاعتماد على نفسه.

وهناك حق آخر للطفل مكمل لحقه في اكتساب الأدب ألا وهو حقّ التعليم ، فالعلم كما الأدب وراثة كريمة ، يحث أهل البيت عليهم‌السلام الآباء على توريثه لأبنائهم. فالعلم كنز ثمين لا ينفذ. أما المال فمن الممكن ان يتلف أو يسرق ، وبالتالي فهو عرضة للضياع. ومن هذا المنطلق ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « لا كنز أنفع من العلم » (١). ثم إنَّ العلم شرف يرفع بصاحبه إلى مقامات سامية ولو كان وضيع النسب ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « العلم أشرف الأحساب » (٢).

فمن حق الولد على الوالد أنْ يسعى لاكتسابه هذا الشرف العظيم منذ نعومة أظفاره ، ومن حقه أيضاً على الأب أن يُورِثه هذا الكنز المعنوي الذي لا يُقَدَّر بثمن ، والذي هو أصل كل خير. قال الشهيد الثاني رضي‌الله‌عنه في كتاب منية المريد : ( اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طرّاً ، وكفى بذلك جلالة وفخراً. قال الله في محكم الكتاب ، تذكرة وتبصرة لأولي الألباب : ( الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنَّ يتنزّل الأمر بينهنَّ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ١٦٥.

(٢) بحار الأنوار ١ : ١٨٣.

٩١

قدير وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً ) ( الطلاق ٦٥ : ١٢ ).

وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم ، لا سيّما علم التّوحيد الّذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة ) (١).

ولما كان العلم بتلك الأهمية ، يكتسب حق التعليم مكانته الجسيمة ، لذلك نجد أن الحكماء يحثون أولادهم على كسب العلم ، وفاءً بالحق الملقى على عواتقهم. يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « كان فيما وعظ لقمان ابنه ، أنه قال له : يابنيّ اجعل في أيّامك ولياليك نصيباً لك في طلب العلم ، فإنك لن تجد تضييعاً مثل تركه » (٢). كما نجد الأئمة عليهم‌السلام ، يعطون هذا الحق ما يستحقه من عناية ، لا سيّما وأن الإسلام يعتبر العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، وهذه الفريضة لا تنصبّ على الأب والام فحسب بل تنسحب إلى أولادهما ، لذا نجد الإمام علياً عليه‌السلام يؤكد على الآباء بقوله : « مروا أولادكم بطلب العلم » (٣).

ولما كان العلم في الصِّغر كالنقش على الحجر ، يتوجب استغلال فترة الطفولة لكسب العلم أفضل استغلال ، وفق برامج علمية تتبع مبدأ الأولوية ، أو تقديم الأهم على المهم ، خصوصاً ونحن في زمن يشهد ثورة علمية ومعرفية هائلة ، وفي عصر هو عصر السرعة والتخصص. ولقد أعطى أهل البيت عليهم‌السلام لتعلم القرآن أولوية خاصة ، وكذلك تعلم مسائل الحلال والحرام ، ذلك العلم الذي يمكِّنه من أن يكون مسلماً يؤدي

__________________

(١) مقدمة مُنية المريد.

(٢) بحار الانوار ١٦ : ١٦٩.

(٣) كنز العمال ١٦ : ٥٨٤ / ٤٥٩٥٣.

٩٢

فرائض الله المطلوبة منه ، وللتدليل على ذلك ، نجد أن من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما‌السلام : « .. أبتدأتك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره » (١).

وأيضاً نجد في هذا الصَّدد ما قاله أحدهم للإمام الصّادق عليه‌السلام : ( إنّ لي ابناً قد أُحبّ أن يسألك عن حلال وحرام ، لا يسألك عما لا يعنيه ، فقال عليه‌السلام : « وهل يسأل النّاس عن شيءٍ أفضل من الحلال والحرام » (٢) ؟! وزيادة على ضرورة تعليم الاطفال العلوم الدينية من قرآن وفقه ، تركز السُنّة النبوية المعطرة على أهمية تعلم الطفل لعلوم حياتية معينة كالكتابة والسباحة والرَّمي ، وسوف أورد بعض الروايات الواردة في هذا الخصوص.

منها : قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلّمه الكتابة ، ويزوّجه إذا بلغ » (٣). إذن فتعليم الكتابة حق حياتي تنقشع من خلاله غيوم الجهل والأميّة عن الطفل.

وفي حديث نبوي آخر، نلاحظ أنّ حق تعليم الكتابة يتصدر بقية الحقوق الحياتية للطفل ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة ، والسّباحة ، والرّماية ، وأن لا يرزقه إلاّ طيّباً » (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح ـ كتاب ٣١.

(٢) بحار الأنوار ١ : ٢٩٤.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٨٠.

(٤) كنز العمال ١٦ : ٤٤٣ / ٤٥٣٤٠.

٩٣

وهناك نقطة جوهرية كانت مثار اهتمام الأئمة عليهم‌السلام وهي ضرورة تحصين عقول الناشئة من الاتجاهات والتيارات الفكرية المنحرفة من خلال تعليمهم علوم أهل البيت عليهم‌السلام واطلاعهم على أحاديثهم ، وما تتضمنه من بحر زاخر بالعلوم والمعارف. وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : « علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها » (١) ، وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة » (٢).

ومن المعلوم أن فكر المرجئة حينذاك يملي للظالمين ويمدّ لهم حبال الأمل في النجاة ؛ لأنه يرفض الثورة على الحاكم الظالم ، ويُرجيء حسابه إلى يوم القيامة ، ويعتبر الفاسق الذي يرتكب الكبائر مؤمناً ! لأجل ذلك النشء اهتم الأئمة عليهم‌السلام بتحصين فكر النشىء الجديد ضد التيارات الفكرية المنحرفة والوافدة ، من خلال الدعوة إلى تعليم الأطفال الافكار الإسلامية الأصيلة التي تُستقى من منابع صافية.

٤ ـ حق العدل والمساواة :

إنّ النظرة التمييزية للأطفال ـ وخصوصاً بين الذكر والأنثى ـ تزرع بذور الشقاق بين الأشقاء ، وتحفر الاَخاديد العميقة في مجرى العلاقة الاَخوية بينهما ، فالطفل ذو نفسية حساسة ، ومشاعره مرهفة ، فعندما يحسّ أنّ والده يهتم كثيراً بأخيه ، سوف يطفح صدره بالحقد عليه. وقد يحدث أن

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ٥٧٨ / ٥ باب ٨٤ من أبواب أحكام الأولاد.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٥٠ / ٥ باب تأديب الولد ، وعنه في تهذيب الاحكام ٨ : ١١١ / ٣٨١ ، والوسائل ٢١ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧ / ١ باب ٨٤ من أبواب أحكام الأولاد.

٩٤

أحدَ الوالدين أو كليهما يحب أحد أولاده ، أو يعطف عليه ـ لسبب ما ـ أكثر من إخوته ، وهذا أمر طبيعي وغريزي ، ولكن إظهار ذلك أمام الإخوة ، وإيثار الوالدين للمحبوب بالاهتمام والهدايا أكثر من إخوته ، سوف يؤدي إلى تعميق مشاعر الحزن والأسى لدى الآخرين ، ويفرز مستقبلاً عاقبةً قد تكون وخيمة. وعليه فالتزام العدالة والمساواة بين الاولاد يكون أشبه بمانعة الصواعق ، إذ تحيل العدالة والمساواة من حصول أدنى شرخ في العلاقة بين أفراد الأسرة ، وإلاّ فسوف تكون عاملاً مشجعاً لانطلاق مشاعر الغيرة والحقد فيما بينهم.

وفي قصة يوسف عليه‌السلام درس في كيفية معاملة الأبناء بالعدل والمساواة .. فهذا يوسف قريب من قلب والده يعقوب عليه‌السلام لأنه توسّم فيه أَمارات النبوّة ، لذا آثره على إخوته ، فأثار ذلك حفيظتهم وبغضاءهم ، وظهرت أمارة ذلك عليهم ، مما دفع يعقوب عليه‌السلام إلى تحذير يوسف عندما قصَّ عليه رؤياه وما تحمل من إرهاصات في رفعته وعلوّ شأنه ، بأنْ قال له : ( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتِك فيكيدوا لك كيداً ) ( يوسف ١٢ : ٥ ).

ويحث الأئمة عليهم‌السلام على الاستفادة من هذا الدَّرس القرآني الذي لا يُنسى ، وقد وضعوه نصب أعينهم.. فعن مسعدة بن صدقة قال : قال جعفر ابن محمد عليه‌السلام : « قال والدي عليه‌السلام : والله إنّي لأصانع بعض ولدي ، وأجلسه على فخذي ، وأُكثر له المحبّة ، وأكثر له الشّكر ، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي ، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره ، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف إخوته .. » (١).

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٦٦ / ٢.

٩٥

وهناك عدة شواهد من السُنّة النبوية تعطي وصايا ذهبية للوالدين في هذا المجال ، وتكشف عن الحقوق المتبادلة بين الجانبين ، حيثُ يلزم الوالد من الحقوق لولده ، ما يلزم الولد من الحقوق لوالده ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم ، كما أن لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك » (١) ، وأيضاً يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اعدلوا بين أولادكم في النُّحْلِ ـ أي العطاء ـ كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف » (٢).

فهنا نجد نظرة أرحب وأعمق للحق ، فكما أنَّ للأب حق البِّر ، عليه بالمقابل حق العدالة ، فالحقوق يجب أن تكون متبادلة ، وكلٌّ يتوجب عليه الإيفاء بالتزاماته ، ويمكن التدليل على عمق النظرة النبويّة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله تعالى يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم حتّى في القُبَل » (٣) !. صحيح أنّ القاعدة العامة في الإسلام تجاه الأبوين ، هي قاعدة الإحسان ، لا قاعدة العدل ، فلا يسوغ للابن أن يقول : إن أبي لا يعطيني ، فأنا لا أُعطيه ، أو إنّه لا يحترمني فلا احترمه ؛ ذلك إنّ الأب هو السبب في منح الحياة للولد وهو أصله. ولكن الصحيح أيضاً هو أن يتبع الآباء مبدأ العدل والمساواة في تعاملهم مع ابنائهم ، ليس فقط في الاُمور المعنوية من اعطاء الحنان والعطف والتقبيل بل أيضاً في الاُمور المادية ، في العطيّة ، فقد وصّى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآباء بقوله : « ساووا بين أولادكم في العطيّة ، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النّساء » (٤).

__________________

(١) كنز العمال ١٦ : ٤٤٦ / ٤٥٣٥٨ ، وقريب منه ما قبله برقم ٤٥٣٥٧.

(٢) كنز العمال ١٦ : ٤٤٤ / ٤٥٣٤٧.

(٣) كنز العمال ١٦ : ٤٤٥ / ٤٥٣٥٠.

(٤) كنز العمال ١٦ : ٤٤٤ / ٤٥٣٤٦.

٩٦

٥ ـ حقوق الأولاد المالية :

لا شك أن على الوالدين واجباً مالياً تجاه أولادهما ، وهو وجوب الانفاق على معيشتهم ، وتوفير حوائجهم الحيويّة من طعام ولباس وسكن وما إلى ذلك ، والشريعة تعتبر الاقربين أولى بالمعروف ، والدينار الذي يُنفق على الأهل أعظم أجراً من الذي ينفق في موارد خيرية أُخرى. كما أن الأولاد يرثون من الوالدين ، فلا يُجوّز الشرع المقدس حرمان الأولاد من نيل حقوقهم المفروضة لهم ـ كطبقة أُولى من طبقات الارث ـ إلاّ في موارد نادرة كالارتداد ، أو قتل الوالدين. وحول ميراث الأولاد ، قال عزّ من قائل ( يوصيكُمُ اللهُ في أولادكُم للذّكر مثلُ حظِّ الاَُنثيين ... ) ( النساء ٤ : ١١ ) ( ولكم نصفُ ما تركَ أزواجُكُم إن لَّم يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فإن كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ ممَّا تَرَكنَ مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أو دَينٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكتُم إن لَّم يَكُن لَّكُم وَلَدٌ فإن كانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكتُم مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أو دَينٍ .. ) ( النساء ٤ : ١٢ ).

ورب سائل يسأل ويقول : ذكرتم في الفقرة السابقة عن حق الأولاد في العدالة والمساواة ، وعدم التفرقة بين الاولاد في العطاء ، فلماذا يعطي القرآن يا ترى للذكر مثل حظ الانثيين ؟

لقد طُرح هذا السؤال قديماً على الأئمة عليهم‌السلام وكان جوابهم واحداً .. ( عن اسحاق بن محمّد النَّخَعي قال : سأل الفهفكي أبا محمد عليه‌السلام : ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ، ويأخذ الرّجل سهمين ؟ فقال أبو محمد عليه‌السلام : « إن المرأة ليس عليها جهاد ، ولا نفقة ، ولا عليها معقُلة ، إنما ذلك على الرّجال ». فقلت في نفسي قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي

٩٧

العوجاء سأل أبا عبدالله عليه‌السلام عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب ، فأقبل أبو محمد عليه‌السلام عليَّ فقال : « نعم ، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء ـ وكان زنديقاً ـ والجواب منّا واحد » ) (١).

وهناك تحليلات أُخرى للاَئمة عليهم‌السلام صفوة القول فيها : إنّ الرّجل يُعطي للمرأة الصَّداق ، وهو حق جعله الله تعالى لها وحدها ، زد على ذلك ، أنّ الرّجل هو المعيل للمرأة ، وليس عليها إعالته. وعليه فإن هذا الاختلاف بين الأولاد الذكر والانثى في الميراث هو عين العدالة.

والقرآن يصرح بأنّ أولاد الأنبياء قد ورثوا من آبائهم : ( وورث سليمان داوود ) ( النمل ٢٧ : ١٦ ). حتى إن الإمام علياً عليه‌السلام استشهد بهذه الآية المباركة على حق فاطمة الزهراء عليها‌السلام بوراثة أبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : « هذا كتاب الله ينطق » فسكتوا وانصرفوا (٢) ! وقد منع أبو بكر فاطمة إرث أبيها بدعوى ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة » ، وهذا القول كما لا يخفى يخالف صريح القرآن ، وقد ولَّد صدمةً نفسية حادّة لبنت المصطفى ، لإحساسها العميق بالغبن ، وعدم قدرتها على نيل حقوقها ، الأمر الذي اسهم بقسط في وفاتها.

بقي علينا أنْ نشير إلى أنّ الأنبياء والأوصياء والصالحين ، قد الزموا أنفسهم بحق الوصية لابنائهم ، والقرآن الكريم قد نقل لنا وصية إبراهيم عليه‌السلام لبنيه : ( ووصّى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بنيَّ إنَّ الله اصطفى لكُمُ الدّين فلا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضَر يعقوب الموتُ إذ قال لبنيه

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٤ : ٣٢٨.

(٢) كنز العمال ٥ : ٦٢٥ / ١٤١٠١ ، عن طبقات ابن سعد.

٩٨

ما تعبدُونَ من بعدي قالوا نعبُدُ إلهك وإله آبائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحنُ له مسلمون ) ( البقرة ٢ : ١٣٢ ـ ١٣٣ ).

وتنقل لنا النصوص الإسلامية وصية قديمة وقيّمة هي وصية آدم عليه‌السلام إلى ابنه شيت نقتبس منها : « .. إذا نفرت قلوبكم من شيء فاجتنبوه ، فإني حين دنوت من الشّجرة لأتناول منها نفر قلبي ، فلو كنت امتنعت من الأكل ، ما أصابني ما أصابني » (١).

وقد استخدم الأئمة عليهم‌السلام الوصية أداة تنويرية ، وكأسلوب لايصال أفكارهم النيّرة ، وإرشاداتهم الخيّرة للاجيال التالية ، فمن خلال الوصية يُطلعون أبناءهم على ثوابتهم العقائدية ، وعلى خلاصة تجربتهم الحياتية.

إقرأ بتمعن هذه الفقرات المنتخبة من وصايا الإمام علي عليه‌السلام لفلذة كبده الحسن عليه‌السلام وسوف تدرك ـ بلا شك ـ صفاء بصيرته ، وطهارة وجدانه ، وعمق إنسانيته : « أُوصيك بتقوى الله أي بنيّ ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله. وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ! أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين ، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت .. واعلم يا بنيَّ أنَّ أحبّ ما أنت آخذ به إليَّ من وصيتي ، تقوى الله ، والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذُ بما مضى عليه الأولون من آبائك ، والصّالحون من أهل بيتك .. » (٢).

وأيضاً اقرأ هذا المقطع من وصيته عليه‌السلام لولده الحسين عليه‌السلام ، يضمّنه

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٨ : ٤٥٣.

(٢) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح ـ كتاب ٣١.

٩٩

أسمى المعاني وأجمل المشاعر : « يا بنيَّ أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ في الرّضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصّديق والعدوّ ، وبالعمل في النّشاط والكسل ، والرّضى عن الله في الشدّة والرّخاء .. » (١).

وقد سلك بقية العترة الطاهرة هذا المسلك ، يوصي السابق منهم اللاحق ، ولا يتّسع المجال لذكر جميع وصاياهم عليهم‌السلام ، وفيما أوردناه كفاية لما أردناه.

وفي نهاية هذا المطلب ، يبدو من الضروري بمكان ، ان نلخّص ما توصلنا إليه من نقاط البحث بالقول : ان للولد على أبيه حقوقاً عديدة منها : ما يسبق ولادته ، كحقه في الوجود وحق اختيار والدته.

ومنها ما يُوجب له بعد ولادته : كحقه في الحياة ، فلا يجوز إطفاء شمعة حياته بالوأد والقتل ، وكحقه بانتحال الاسم الحَسِن ، وتعهده بالتأديب والتربية الصالحة ، وتعليمه العلوم والمعارف الضرورية والنافعة ، ومعاملة الأولاد بالعدل والمساواة ، والاِنفاق عليهم بسخاء ، وعدم مصادرة حقوقهم المالية الواجبة ، وعدم البخل عليهم بالوصايا النافعة للدنيا والآخرة. وعلى هذا الصعيد لابدَّ من الاستشهاد في نهاية المطاف برسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه‌السلام الذي استلهم بنودها من معدن الرسالة ومعين النبوة ، وما أروع الصورة البيانية التي يرسمها الإمام السجاد عليه‌السلام لحقوق الأولاد عندما يقول : « .. وحق ولدِكَ أن تعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عما وليته به

__________________

(١) تحف العقول ٨٨.

١٠٠