الحقوق الإجتماعية في الإسلام

الحقوق الإجتماعية في الإسلام

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-033-1
الصفحات: ١٢٧

أثبتت التجارب العملية هذه الحقيقة ، وغدت من المسلّمات عِبَر الأجيال ، فالذي يعق والديه يواجه الحالة نفسها مع أبنائه لا محالة.

ثالثاً : العقوق يُورِثُ الذّلة والمهانة :

مما لا شك فيه ، ان الفرد الذي يعق والديه ، ينظر له المجتمع بعين السخط والاستخفاف ، ويصبح منبوذاً مذموماً على الصعيد الاجتماعي ، ولا يُذكر إلاّ بالعار والشنار ، مهما تستر خلف سواتر الأعذار ، يقول الإمام الهادي عليه‌السلام : « العقوق يعقب القلّة ، ويؤدي إلى الذِّلة » .. ويمكن حمل كلمة « القلّة » في الحديث على إطلاقها ، فتشمل القلة في المال والفقر المعنوي والاجتماعي ، المتمثل بقلة الأصدقاء والمعارف الذين لا يلقون حبال ودّهم إلى من عقّ والديه ، وكيف تحصل الثقة بمن قطع حبال الودّ مع والديه ، وهما من أقرب المقربين إليه ؟

٦١

المبحث الثالث

القدوة الحسنة

إنَّ اقتحام العقول والنفوس بغية التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور ، وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً بيّناً في طريقة التفكير ، وفي مركّب المزاج وفي مستوى الثقافة ، ونتيجة لكلِّ ذلك ، تصبح عملية التعامل معهم ، والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة ، وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص ، لا تتوفر إلاّ عند الخواص من أهل الصَّبر ، والعلم بمواقع الأمر. وأهل البيت في مقدمة هذا الطراز الرّفيع من القادة ، الذين تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمّة قلوبهم ، ومفاتيح عقولهم من خلال القدوة الحسنة والسلوك السويّ ، خصوصاً وأنّ الناس ـ عادة ـ لا تتأثر بلسان المقال ، بقدر ما تتأثر بلسان الحال. ومن الشواهد الدالة على إلتزام الأئمة عليهم‌السلام العملي بحقوق الوالدين ، وتأثر الناس بهذا السلوك ، ان الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام كان يأبى ان يؤاكل أمّه ، واسْتَلْفَتَ هذا الموقف أنظار أصحاب الإمام والمحيطين به ، وسألوه باستغراب : إنك أبرّ الناس وأوصلهم للرّحم ، فكيف لا تؤاكل أمك ؟! فقال عليه‌السلام : « إني أكره أن تسبق يدي إلى ماسبقت إليه عينها ، فاكون قد عققتها » (١) !

__________________

(١) في رحاب أئمة أهل البيت للسيد محسن الامين ـ ٢ : ١٩٥.

٦٢

هذا الموقف الذي يستحق الإعجاب والتقدير ، يكشف العمق السلوكي لروّاد مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، ويعطي درساً لا ينسى في وجوب رعاية حقوق وحرمة الوالدين.

وتجدر الاشارة إلى أن الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان يدعو لوالديه ، ويشير إلى عظم حقهما عليه ، فيقول : « يا الهي أين طول شغلهما بتربيتي ؟ وأين شدة تعبهما في حراستي ؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ، ولا أدرك ما يجب عليَّ لهما ، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما » (١).

وفي دعاء آخر تضمنته الصحيفة السجادية ، يقول عليه‌السلام : « اللّهم اجعلني أهابهما هيبة السّلطان العسوف ، وأبرّهما برّ الأم الرّؤوف ، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن حتّى أُوثر على هواي هواهما » (٢).

وقد سلك بقية الأئمة عليهم‌السلام هذا المسلك نفسه ، وعملوا على استئصال كلّ ما من شأنه الحطّ من مكانة الوالدين ، ومن الشواهد الدالة على ذلك : عن ابراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبدالله عليه‌السلام ليلةً ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أُمّي معي ، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها. فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبدالله عليه‌السلام ، فلما دخلت عليه ، قال لي مبتدئاً : « يا أبا مهزم ، مالك ولخالدة أغلظت في كلامها البارحة ؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته ، وأنّ حجرها مهد قد غمزته ،

__________________

(١) التفسير الكاشف ـ محمد جواد مغنيَّه ـ ٢ : ٣٢١ ـ دار العلم للملايين ط ٣.

(٢) الصحيفة السجادية الكاملة : ١٣٢ دعاء ٢٦ ، نشر وتحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ط ١.

٦٣

وثديها وعاء قد شربته » ؟! قال : قلت : بلى ، قال : « فلا تغلظ لها » (١). وكان لهذه الكلمات فعل السحر على الابن فسارع للاعتذار من أمه.

والذي يؤسف له ، أنّ الكثيرين من شباب اليوم ـ بسبب التربية الخاطئة ، أو البيئة المنحرفة ، أو الثقافة الوافدة ـ يكيلون السّباب واللعان للوالدين ، على أتفه الأسباب ، ويصبّون جام غضبهم عليهم ، عندما يُسْدِيان لهم النصيحة المخلصة ، مما يترك أثراً سيئاً على نفسيهما ، فيصابان بخيبة أمل مريرة.

هذا في الوقت الذي يدعو الأئمة عليهم‌السلام إلى مخاطبة الوالدين بعبارات عذبة ، ومهذبة ، تحمل معاني التقدير والشعور بالعرفان وعدم رفع الصوت على الوالدين .. عن الحكم قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إنّ والدي تصدّق عليَّ بدار ، ثمّ بدا له أن يرجع فيها، وان قضاتنا يقضون لي بها ، فقال عليه‌السلام : « نعم ما قضت به قضاتكم ، وبئس ما صنع والدك ، انما الصدقة لله عزّ وجل فما جعل لله عزّ وجل فلا رجعة له فيه ، فان أنت خاصمته فلا ترفع عليه صوتك ، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك » (٢).

ونخلص في نهاية هذا المطلب إلى القول بان حقوق الوالدين جسيمة ، فقد قرن القرآن حقهما مع حقه تعالى في مستوى واحد مع اختلاف في الرّتبة ، فله عزّ وجلّ حقّ العبادة ولهم حقّ الإحسان.

ومنح القرآن الكريم الأم حقاً أكبر ، لما تُقدِّمه من تضحيات أكثر. وقد

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٧٦.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٢٠٤ / ١ باب ١١ من كتاب الوقوف والصدقات.

٦٤

تصدّرت هذه المسألة الحيوية سلّم أولويات السيرة النبوية التي اعتبرت عقوق الوالدين من أكبر الكبائر. ثم إنَّ الأئمة عليهم‌السلام ـ وهم القوّامون على الأمة ـ قد عملوا على عدّة محاور لتوعية الناس بمكانة الوالدين ، فقاموا بتفسير ماورد في ذلك من آيات قرآنية ، واستثاروا الوازع الأخلاقي والوجداني ، وحددوا ـ أيضاً ـ الحكم الشرعي ، وهو أن حقّ الوالدين فريضة من أكبر الفرائض ، ثم عينوا تفصيلاً الحقوق المترتبة على الأولاد تجاه والديهم ، زد على ذلك كشفوا عن الآثار السلبية الدنيوية والأخروية ، لمن عقّ والديه ، وشكّل سلوكهم السويّ تجاه والديهم ، قدوة حسنة للاجيال في هذا المجال.

٦٥

المبحث الرابع

حقوق الأولاد

ضمن الإسلام للأولاد حقاً أساسياً ، وهم بعدُ في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، وهو ( حق الوجود ) ، وللتدليل على ذلك نجد ان تعاليم الإسلام ، تشجع على اتخاذ الذّرية ، وانجاب الأولاد. فالإسلام كما هو معروف يحثُّ على الإكثار من النسل ، ويرى كراهية تحديده ، حتى نجد أن القرآن الكريم ، يعتبر الأبناء زينة الحياة الدنيا ، كما في قوله تعالى : ( المالُ والبنونُ زينة الحياة الدُّنيا ... ) ( الكهف ١٨ : ٤٦ ) ، وينقل لنا أماني ورغبات الأنبياء من خلال الدعاء بأن يهب لهم الله تعالى الذّرية الصالحة ، فعلى سبيل المثال ينقل لنا القرآن الكريم دعاء ابراهيم عليه‌السلام مع استجابة ذلك الدعاء : ( ربِّ هبْ لي من الصّالحين * فبشرناهُ بغُلامٍ حليم .. ) ( الصّافات ٣٧ : ١٠٠ ـ ١٠١ ) ، ويَنقلُ لنا أيضاً رغبة زكريا القوية بان يرزقه تعالى الذّرية وذلك ، عندما رأى ـ بأمّ عينيه ـ القدرة الإلـهية متمثلةً في رزق مريم الإعجازي : ( هنالك دعا زكريّا ربَّهُ قال ربِّ هبْ لي من لدنك ذُريّة طيّبةً إنَّك سميع الدعاء ) ( آل عمران ٣ : ٣٨ ). وقد صوّر لنا القرآن الكريم باسلوبه البلاغي الرائع ، ما كان عليه زكريا عليه‌السلام من الشوق إلى الولد ، وخشيته من البقاء فرداً ، كما في قوله تعالى : ( وَزَكَريَّا إذْ نادى رَبّه رَبِّ لا

٦٦

تذرني فَرداً وأنتَ خير الوارثين ) ( الانبياء ٢١ : ٨٩ ) ، وكيف انه سبحانه استجاب له دعاءه ؛ لأنه كان عليه‌السلام أهلاً لاستجابة الدعاء : ( فاسْتَجَبْنا له ووهبنا له يحْيى واصلحنا له زوجَهُ إنّهُمْ كانوا يُسارعُونَ في الخيراتِ ويدعُونَنَا رَغَباً وَرَهباً وكانوا لنا خاشعين ) ( الانبياء ٢١ : ٩٠ ).

وفي كلِّ ذلك ، تلميح لنا ، بأنْ ندعو الله تعالى أنْ يرزقنا كما رزقهم الذرّية الصالحة.

أضف إلى ذلك أنَّ السُّنة النبوية ـ القولية والفعلية ـ تشجع على الزواج، المصدر الشرعي والعرفي للانجاب ، وتُنفّر أشدّ التنفير من العزوبيّة والرّهبانية ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شرار موتاكم العزّاب » (١).

وتنقل لنا الرغبة النبوية ، بأنْ تكون أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر الأمم يوم القيامة « تناكحوا تكثروا ، فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط » (٢).

ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، يلاحظ أنّ حقوق الأولاد تحتل مكانةً مرموقة في مدرستهم الإلهية ، وحول حق الولد في الوجود ، يجد أحاديث ترغّب الآباء بانجاب الأبناء ، لما في ذلك من قوة في العدد ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصَّدد : « الولد أحد العددين » (٣). وأيضاً للاستعانة بهم في أوقات الحاجة أو الضرورة ، يقول الإمام زين

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٢٠.

(٢) المحجّة البيضاء ٣ : ٥٣.

(٣) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم ٣ : ٣١٧١ / ١٦٦٨ وفيه : ( الولد أحد العدوّين ) ، غرر الحكم : ٧٣ / ١٦٦٨.

٦٧

العابدين عليه‌السلام : « من سعادة الرّجل أن يكون له وُلدٌ يستعين بهم » (١).

إنَّ الولد يشكل الامتداد الطبيعي لوالديه ، فمن خلاله ينقل الوالدان صفاتهما وافكارهما واخلاقهما ، وفي كل ذلك امتداد معنوي لوجودهما.

ويبقى أن نشير إلى ان الآباء سوف ينالون الثواب نتيجة لاعمال أولادهم الحسنة من دعاء أو صدقة أو عبادة ، وما إلى ذلك. وهذا ـ بحد ذاته ـ حافز آخر ، يشجع على اتخاذ الذّرية ، من كل ذلك يوفر الولد للوالدين السعادة الدنيوية والأخروية. وعليه يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « من سعادة الرّجل أن يكون له الولد ، يعرف فيه شبهه : خَلقه ، وخُلقه ، وشمائله » (٢).

زد على ذلك ، ان الولد يديم ذكر والديه ، فاسمهم مقرون بإسمه ، وبذلك يُبقي اسمهم محفوراً على لوحة الزّمان ، يقول الإمام علي عليه‌السلام « الولد الصالح أجمل الذّكرين » (٣).

يضاف إلى هذا أنَّ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، حاربت الانعزال والرَّهبنة والابتعاد عن الواقع والمجتمع ، وشجعت على الزَّواج كأسلوب شرعي للشروع في تكوين الأسرة وانجاب الأطفال ، وفي هذا المجال ، جاء في بحار الاَنوار : أن امرأة سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، فقالت : أصلحك الله إنّي متبتّلة، فقال لها : « وما التبتّل عندك » ؟ قالت : لا أريدُ التزويج أبداً ، قال :

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٥ / ٢ باب فضل الولد.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٧ / ٢ باب شبه الولد.

(٣) المعجم المفهرس لالفاظ غرر الحكم ٣ : ٣١٧١ / ١٦٦٥.

٦٨

« وَلِمَ » ؟ قالت : التمس في ذلك الفضل ، فقال : « انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة عليها‌السلام أحقّ به منك ، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل » (١).

من كلِّ ما تقدم ، نخرج بفكرة عامة ، هي أن الإسلام ـ متمثلٌ في القرآن والسُنّة بمعناها الاَعم ، أي قول المعصوم وفعله وتقريره ـ يؤكد ـ تصريحاً وتلميحاً ـ على ضرورة اتّخاذ الأولاد ، وهو من خلال هذا التوجه ، يضمن لهم ( حق الوجود ) ، بمعنى : أن يبرزوا من كتم العدم إلى حيّز الوجود ، حتى تستمر الحياة جيلاً بعد جيل ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

أولاً : حق اختيار والدته :

للولد ـ قبل أن يتلبس بالوجود ـ حقٌ على أبيه ، وهو أن يختار له أمّاً صالحة ، يستودعها نطفته. وقد ثبت علمياً أنّ الصفات الوراثية الجسمية والمعنوية تنتقل عن طريق التناسل.

وقد سبق الوحيُ العلمَ في الكشف عن هذه الحقيقة المهمة ، وحثَّ على تدارك آثارها السلبيّة ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو الناطق عن الوحي ـ مُوصياً : « تزوجوا في الحِجْزِ الصّالح فانّ العرق دسّاس » (٢). ويقول أيضاً : « تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهن » (٣).

فمن الأهمية بمكان أن يختار الأب الزوجة ذات النسب ، حتى ينقل

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢١٩.

(٢) كنز العمال ١٦ : ٢٩٦ / ٤٤٥٥٩ ، والحِجْز : الأصل.

(٣) كنز العمال ١٦ : ٢٩٥ / ٤٤٥٥٧.

٦٩

لولده صفات جسمية ومعنوية عالية ، تشكل له الدرع الواقي من الانحراف والانجرار وراء ضغط الغرائز الهابطة ، وأيضاً يوصي الإسلام بأن يختار الوالد أم أولاده من ذوات الدين والإيمان ، فتكون بمثابة صمّام أمانٍ يحول دون جنوح الاطفال عن جادة الحق والفضيلة ، وقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً في امرأة نوح ، التي آثرت الكفر على الإيمان وخانت زوجها في رسالته ، وكيف أثّرت سلبياً على موقف ابنها من قضية الإيمان برسالة نوح ، وكانت النتيجة أن أوردته مناهل الهلكة : غَرَقاً في الدنيا ، وعذاباً في الآخرة ! ولقد دفعت العاطفة الاَبوية نوحاً عليه‌السلام إلى مناداة ابنه ليركب في سفينة النجاة مع سائر أهله ، ولكنه كان خاضعاً لتربية أمه المنحرفة ولضغط بيئته الكافرة ، فأصرَّ على الكفر ولم يستجب لنداء أبيه المخلص ، وتشبث بالاسباب المادية العادية فاعتقد أنّ اللجوء إلى الجبل سوف ينقذه من الغرق ، فلا الجبل أنقذه. ولا شفاعة أبيه اسعفته ، فكان من المغرقين.

إقرأ هذه الآيات بتمعن : ( ونادى نوح ربّه فقال ربِّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنّه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم انّي اعظك أن تكون من الجاهلين ) ( هود ١١ : ٤٥ ).

وهكذا نجد أنّ الأم الكافرة متمثلة في امرأة نوح عليه‌السلام تقف سداً منيعاً أمام إيمان ولدها ، وتشجعه على عقوق إبيه ، وعدم السمع والطاعة له.

وفي مقابل ولد نوح الذي يمثل الرَّفض والتمرّد ، نجد اسماعيل ولد ابراهيم عليهما‌السلام يمثل الطاعة والامتثال لتوجهات أبيه ، وذلك عندما أُوحي

٧٠

إليه في المنام أن يذبحه ، فلم يترَّدد إسماعيل عليه‌السلام ـ فيما يوحي به النص القرآني ـ : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يا بُنَيَّ إنّي أرَى في المَنَامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر ماذَا تَرَى قَالَ يا أبتِ افعَل ما تُؤمِر سَتَجِدُني إن شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافات ٣٧ : ١٠٢ ).

وهذا الموقف الإسماعيلي المشرِّف ، لم ينطلق من فراغ ، بل كان نتيجةً طبيعية للتربية الإبراهيمية ، إذ تمكن إبراهيم عليه‌السلام من عزل ولده الوحيد عن ضغوط بيئته المنحرفة ، ولعل الأهم من ذلك أن هاجر ـ أُم إسماعيل ـ كانت امرأة مؤمنة صالحة ، هاجرت مع أبيه وتحملت معه معاناة الجوع والعطش والغربة ، عندما تركها إبراهيم عليه‌السلام في وادٍ غير ذي زرع ، فكانت صابرة محتسبة ، زرعت في ولدها بذور الحب والطاعة لوالده ولرسالته.

وعلى ضوء الهدى القرآني ، كانت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تركّز في توجهاتها التربوية والاجتماعية ، على أهمية ووجوب التفحص والتثبت عند اختيار الزَّوجة ، وأن ينظر الأب نظرة بعيدة الأفق يُراعي بها حق أولاده في الانتساب إلى أم صالحة ، ولا ينظر بعين واحدة فيركز عند الاختيار على مالها أو جمالها أو حسبها فحسب.

وصفوة القول : إنّ على الرجل أن يختار لنطفته المرأة المتدينة، فيفرزها عن غيرها ، ويستخلصها لنفسه كما تُسْتَخلص الزّبدة من ماء المخيض. ومن هنا أكد الإمام الصادق عليه‌السلام على ذلك بقوله : « تجب للولد على والده ، ثلاث خصال : اختيار والدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في

٧١

تأديبه » (١).

ولا ننسى الإشارة إلى أنّ السُنّة قد حذّرت من الافتتان بالجمال الظاهري ، وحثّت على النظر إلى الجمال الباطني المتمثل بالطهارة والإيمان ، فعندما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مُحذراً : « إياكم وخضراء الدّمن » ، قيل : يا رسول الله وما خضراء الدّمن ؟ قال : « المرأة الحسناء في منبت السّوء » (٢). كذلك حذرت السنّة المطهّرة من المرأة الحمقاء ، تلك التي لا تُحسن التصرف ؛ لضعف مستحكم في عقلها ، وكشفت عن الآثار السلبية التي تُصيب الأبناء من جراء الاقتران بالمرأة الحمقاء ، فالحديث النبوي يقول : « إياكم وتزوج الحمقاء ، فإنّ صحبتها بلاء ، وولدها ضياع » (٣).

ويبقى إن نشير إلى أن الإسلام قد حرّم الزِّنا لعلل عديدة : منها ما يتعلق بحق الابناء في الانتساب إلى الآباء الشرعيين ، ومنها ما يتعلق بخلق أجواء عائلية نظيفة توفر للطفل حقه في التربية الصالحة ، وقد حدّد حقوقاً تترتب بدرجة أساسية على الأم التي تُشكل وعاءً للنسل ، فيجب عليها أن تصون نفسها ونسلها من كل شين ، حتى يبقى الولد قرير العين ، مطمئن النفس بطهارة مولده ، وحتى لا تظهر عليه علامات ولد الزِّنا ، وأمامنا شواهد معاصرة في الحضارة الغربية ، التي تشجع على الاختلاط والتبرج وتطلق العنان للشهوة الجامحة ، وتشكل بذلك أرضية ممهدة للعلاقات غير الشرعية بين الجنسين ، فكان من نتيجة ذلك ازدياد أعداد أولاد الزِّنا

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٨ : ٢٣٦.

(٢) بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٣٢.

(٣) فروع الكافي ٥ : ٣٥٤ / ١ باب ٣٠ كتاب النكاح.

٧٢

وما يرافق ذلك من مظاهر شاذّة كظاهرة أولاد الشوارع ، وتفشي الجريمة والسرقة ، الأمر الذي أدّى إلى تمزق النسيج الاجتماعي ، وهو أمر يهدد المجتمع الغربي عموماً بعواقب وخيمة.

ولقد حذّرت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام من تلك العواقب من قديم الزمان ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ألا أخبركم بأكبر الزِّنا ؟.. هي امرأة توطئ فراش زوجها ، فتأتي بولد من غيره فتلزمه زوجها ، فتلك التي لا يكلمها الله ولا ينظر إليها يوم القيامة ، ولا يزكيها ، ولها عذاب عظيم » (٣) ، وفي هذا الحديث إشارة إلى اختلال واختلاط الانساب فيصادر الزِّنا حق الابناء في الانتساب إلى آبائهم.

ويبين الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام علة تحريم الزِّنا بقوله : « حُرم الزِّنا لما فيه من الفساد من قتل النفس ، وذهاب الانساب ، وترك التربية للأطفال ، وفساد المواريث ، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد » (٢).

ولا يخفى ان هذه الامور فيها اعتداء صارخ على حق الطفل في الحياة والانتساب والتربية والميراث. ولقد وجّه أحد الزنادقة سؤالاً إلى أبي عبدالله عليه‌السلام ، لِمَ حرّم الله الزِّنا ؟ فأجابه الامام برحابة صدر وسعة أفق قائلاً : « لِمَا فيه من الفساد ، وذهاب المواريث ، وانقطاع الأنساب ، لا تعلم المرأة في الزِّنا من أحبلها ، ولا المولود يعلم من أبوه .. » (٣).

ولقد أصاب الإمام عليه‌السلام بذلك كبد الحقيقة ، من أن الزّنا يصادر حق

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٩ : ٢٦.

(٢) بحار الأنوار ٧٩ : ٢٤.

(٣) بحار الأنوار ١٠٣ : ٣٦٨.

٧٣

الابن في الانتساب لأبيه ؛ كما كشف لنا الإمام الصادق عليه‌السلام عن علامات ولد الزِّنا ، وفي حديثه الآتي إشارة للآثار السلبية التي يفرزها إنكار حق المولود في الولادة الطبيعية والشرعية ، قال عليه‌السلام : « إنّ لولد الزّنا علامات : أحدها بغضنا أهل البيت ، وثانيها أنّه يحنّ إلى الحرام الذي خُلق منه ، وثالثها الاستخفاف بالدّين ، ورابعها سوء المحضر للنّاس ، ولا يسيء محضر إخوانه إلاّ من ولد على غير فراش أبيه ، أو حملت به أمّه في حيضها » (١).

من كلِّ ما تقدم ، اتضح لنا ، أنّ الإسلام يحث على اختيار المرأة الصالحة، ويعتبر ذلك من حقوق الولد على أبيه ، وأيضاً للولد ـ قبل ان يُخلق ـ حق عظيم على أُمُّه، بأن تحصّن نفسها وتحافظ على عفّتها ، ولا تنزلق إلى الزّنا فتحرم المولود من حق الانتساب إلى أبيه ، وتضيّع حقه في الإرث والتمتع بالسمعة الطيّبة.

ثانياً : حقوق ما بعد الولادة :

١ ـ حق الحياة :

إنَّ للطفل ـ ذكراً كان أو أُثنى ـ حقّ الحياة ، فلا يبيح الشرع لوالديه أن يطفئا شمعة حياته بالوأد أو القتل أو الاجهاض. ولقد شنَّ الإسلام حملة قوية على عادة ( الوأد ) التي كانت متفشية في الجاهلية، وتساءَل القرآن مستنكراً ومتوعداً : ( وإذا الموؤدة سُئلت * بأيّ ذنب قتلت ) ( التكوير٨١ : ٨ ـ ٩ ) واعتبر ذلك جريمة كبرى لا يمكن تبريرها ـ بحال ـ

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٥ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٧٤

حتى في الحالات الاضطرارية كحصول المجاعة. وكانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر ، كما في قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) ( الانعام ٦ : ١٥١ ). وفي آية أُخرى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) ( الإسراء ١٧ : ٣١ ).

والملاحظ في الآية الأولى ، إنّه تعالى قدّم رزق الآباء على رزق الأبناء، وفي الآية الاخرى ، نجد العكس ، إذْ قدّم رزق الأبناء على الآباء ، فما السرّ في ذلك ؟ وهل كان التعبير عفوياً ؟ بالطبع لا ؛ لأن التعبير القرآني قاصد ودقيق ، لا يقدّم كلمة أو يُؤخر أُخرى إلاّ لغاية وحكمة.

وعند التأمل العميق نجد ان قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من املاق ) ( الانعام ٦ : ١٥١ ). توحي بأن الفقر موجود بالفعل ، والمجاعة قائمة ، ولمّا كان اهتمام الإنسان في تلك الازمان يتمحور حول نفسه ، يخشى من هلاكها ، لذا يُطمئنه الخالق الحكيم في هذه الآية بانّه سوف يضمن رزقه أولاً ، ومن ثم رزق أولاده في المرتبة الثانية ، يقول له : ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي يا أصحاب الاِملاق نحن نأتي برزقهم أيضاً.

بينما في الآية التالية ، يقول تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ( الإسراء ١٧ : ٣١ ) ، أي : خوفاً من فقر سوف يقع في المستقبل ، وبتعبير آخر : من فقر محتمل الوقوع ، وهنا يُطمئنه الرَّبّ تعالى بضمان رزق أبنائه أولاً ؛ لأنه يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم فيقول له مُطمئناً : ( نحن نرزقهم وإياكم ).

فالمعنى ـ في الآيتين ـ ليس واحداً ، وكلّ آية تخاطب الوالدين في ظرف معين ، ولكن تتحد الآيتان في الغاية وهي الحيلولة دون الاعتداء

٧٥

على حياة الأبناء. ثم إنّ الجاهلية كانت تمارس سياسة التمييز بين الجنسين بين الذكر والأنثى فتعتدي على حياة الإناث بالوأد الذي كان يتمّ في صورة بشعة وقاسية ، ويفتقد إلى أدنى العواطف الإنسانية ، حيثُ كانت البنت تُدفن وهي حية !..

ينقل مؤلف المختار من طرائف الأمثال والأخبار :

( سُئل عمر بن الخطاب عن أعجب ما مرَّ به في حياته.

فقال : هما حادثتان : كلمّا تذكرت الأولى ضحكت ، وكلمّا تذكرت الاَُخرى بكيت ..

قيل له : فما الأولى التي تُضحكك ؟

قال : كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة ، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم ، وصنعت من البلح الجديد صنماً غيره !

قيل له : وما الاَُخرى التي تبكيك ؟

قال : بينما كنت أحفر حفرة لوأد ابنتي ، كان الغبار يتناثر على لحيتي ، فكانت ابنتي هذه تنفض عن لحيتي هذا الغبار ، ومع ذلك فقد وأدتها ) (١) !!!

إزاء هذه الممارسات الهمجية ، الوحشية ، الخالية من الإنسانية ، والتي كانت تُرتكب في عصر الجاهلية ، عمل الإسلام على تشكيل رؤية جديدة لحياة الإنسان ، رؤية تعتبر الحياة ليست حقا فحسب ، بل هي أمانة إلهية

__________________

(١) المختار من طرائف الأمثال والأخبار ، نبيه الداموري : ٢٩ ، الشركة العالمية للكتاب ط ١٩٨٧ م.

٧٦

أودعها الله سبحانه وتعالى لدى البشر ، وكل اعتداء عليها بدون مبرِّر شرعي يُعد عدواناً وتجاوزاً يستحق الإدانة والعقاب الأخروي ، فليس من حق أية قوة غير إلـهية سلب هذه الوديعة المقدسة ، والله تعالى هو واهب الحياة ، وله وحده الحق في سلبها.

وأيضاً عمل الإسلام على تشكيل وعي اجتماعي جديد بخصوص الأنثى ، وقد كان الجاهليون لا تطيب نفوسهم بولادتها كما يقول القرآن الكريم : ( وإذا بُشّر أحدُهُم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهُو كظيم * يتوارى من القوم من سُوء ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُون أم يَدسُهُ في التُّراب ألا ساءَ ما يحكمون ) ( النحل ١٦ : ٥٨ ـ ٥٩ ). ولقد اختار النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل السُّبل لإزالة هذا الشعور الجاهلي تجاه الأنثى ، والذي كان يتسبب في زهق أرواح مئات الفتيات كل عام ، ففضلاً عن تحذيره من العواقب الأخروية الجسيمة المترتبة على ذلك ، اعتبر من قتل نفساً بغير حق جريمة كبرى ينتظر صاحبها القصاص العادل.

ومن جانب آخر زرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وعيهم أن الرّزق بيد الله تعالى ، وهو يرزق الإناث كما يرزق الذكور ، فأشاع بذلك أجواء الطمأنينة على العيش ، وكان الجاهليون يقتلون الإناث خوف الفقر. أضف إلى ذلك استعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغةً وجدانيةً شفافة ، فتجد في السُنّة القولية عبارات تعتبر البنت ريحانة ، والبنات هن المباركات ، المؤنسات ، الغاليات ، المشفقات.. وما شابه ذلك ، وكشاهد من السُنّة القولية وردّ ( عن حمزة بن حمران يرفعه قال : أتى رجل وهو عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأُخبر بمولود أصابه ، فتغيّر وجه الرّجل !! فقال له النبيّ : « ما لكَ » ؟ فقال : خير ، فقال : « قُل ». قال : خرجت والمرأة تمخض ، فأُخبرت أنّها ولدت جارية !! فقال له

٧٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الأرض تقلّها ، والسَّماء تظلّها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمّها .. » (١) ؟. وقد أكد الإمام علي عليه‌السلام ، ذلك التوجه النبوي بقوله : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا بُشّر بجارية ، قال : ريحانة ، ورزقها على الله عزّ وجلّ » (٢).

ولقد أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُنموذجاً حياً يعدُّ قدوةً في السلوك مع ابنته فاطمة عليها‌السلام ، ينقل الحسني في سيرة الأئمة عن بنت الشاطئ في حديثها عن بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما ولدت فاطمة ( استبشر أبواها بمولدها ، واحتفلا به احتفالاً لم تألفه مكة في مولد أنثى ) (٣) ، ويظهر ذلك أيضاً من الأسماء والالقاب العديدة التي منحها إياها صلى الله عليهما ، فقد نقل الحسني عن الأستاذ توفيق أبي علم ، في كتابه أهل البيت : ( إنّ للسيدة فاطمة الزهراء تسعة أسماء فاطمة ، والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدثة ، والزهراء ، والبتول ، وسيدة نساء أهل الجنة ، واضاف إلى ذلك ( أبو علم ) أنه كان يُطلق عليها : أم النبي ؛ لأنّها كانت وحدها في بيته بعد موت أمّها ، تتولى رعايته والسهر عليه ) (٤) ، وتنقل كتب السيرة أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يمنحها حبّه ، ويسبغ عليها عطفه بحيث أنه كان اذا سافر كانت آخر الناس عهداً به ، وإذا رجع من سفره كانت أولَ الناس

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٥ / ٦ باب فضل البنات من كتاب العقيقة.

(٢) البحار ١٠٤ : ٩٨.

(٣) سيرة الأئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الأول : ٦٥ ـ ٦٧ ، دار التعارف للمطبوعات ط ١٤٠٦ ه‍.

(٤) سيرة الأئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : ٦٥ ـ ٦٧ ، دار التعارف للمطبوعات ط ١٤٠٦ ه‍.

٧٨

عهداً به ، وكان إذا رجع من سفر أو غزاة ، أتى المسجد فصلى ركعتين ، ثم ثنّى بفاطمة (١).

صحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استشف من وراء الغيب السر المكنون فيها .. وأن الذّرية الطاهرة من بضعته الزَّهراء عليها‌السلام ، وأنهم سوف يتابعون المسيرة التي بدأها ولن يفترقوا عن الكتاب حتى يردوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض ، ولكن الصحيح أيضاً أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يرسم لنا صورة مشرقة في التعامل مع البنت ، ذلك النوع من التعامل الاجتماعي الذي غيبته الجاهلية. ولقد سار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على خطى جدّهم العظيم ، واقتفوا آثاره في تغيير النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من الأنثى لحساب الذكر ولا تقيم لها وزناً.

قال الحسن بن سعيد اللّخمي : ولد لرجل من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبدالله عليه‌السلام ، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبدالله عليه‌السلام : « أرأيت لو أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك ! : أن أَخْتَارُ لك ، أو تختار لنفسك ، ما كنت تقول » ؟ قال : كنت أقول : يا ربِّ تختار لي ، قال عليه‌السلام : « فإنّ الله قد اختار لك » (٢). بهذه الطريقة الحكيمة أزاح الإمام الصادق عليه‌السلام رواسب الجاهلية المتبقية في نفوس الآخرين.

على ان الأكثر إثارة في هذا الصَّدد أن بعضهم اتّهم زوجته بالخيانة ، لا لشيء إلاّ لكونها ولدت جارية ! وعندئذ دحض الإمام الصادق عليه‌السلام هذا الرأي السقيم ، الذي لا يستقيم على سكة العقل ولا الشرع ، وكشف

__________________

(١) أُنظر سيرة الأئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : ٦٨.

(٢) فروع الكافي ٦ : ١٠ / ١٠ باب فضل البنات.

٧٩

عن الرؤية القرآنية البعيدة.

عن ابراهيم الكرخي ، عن ثقة حدّثه من أصحابنا قال : تزوجت بالمدينة ، فقال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « كيف رأيت » ؟ قلت : ما رأى رجل من خيرٍ في امرأة إلاّ وقد رأيته فيها ، ولكن خانتني ! فقال : « وما هو » ؟ قلت : ولدت جارية ! قال : « لعلّك كرهتها ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً ) ( النساء ٤ : ١١ ) (١).

وعن الجارود بن المنذر قال : قال لي أبو عبدالله عليه‌السلام : « بلغني أنّه ولد لك ابنة فتسخطها ! وما عليك منها ؟ ريحانة تشمَّها ، وقد كُفيت رزقها .. » (٢).

ولابدّ من التنويه على ان الإمام الصادق عليه‌السلام قد قلب النظرة التمييزية التي تُقدِّم الذَّكر على الأنثى ، رأساً على عقب ، وفق نظرة دينية أرحب ، وهي أن البنين نِعَمٌ ، والبنات حسنات ، والله تعالى يَسأل عن النِعَم ويثيب على الحسنات .. قال عليه‌السلام في هذا الصدد : « البنات حسنات ، والبنون نِعمة ، فانما يثاب على الحسنات ، ويُسأل عن النعمة » (٣).

وعلى ضوء ماتقدم نجد أن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام مارست عملية ( الإخلاء والإملاء ) :

إخلاء العقول من غواشي ورواسب الجاهلية ، وانتهاكها الصارخ لحق المولود في الوجود.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ : ٨ / ١ باب فضل البنات.

(٢) فروع الكافي ٦ : ٩ / ٩ باب فضل البنات.

(٣) فروع الكافي ٦ : ٩ / ٨ باب فضل البنات.

٨٠