الحقوق الإجتماعية في الإسلام

الحقوق الإجتماعية في الإسلام

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-033-1
الصفحات: ١٢٧

والإحسان قد يكون بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه ، فيحسن أن يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والاحسان ، فاذا لم يُحسن أحدهما إلى الآخر فلا خير فيهما لسائر الناس ـ إلى أن قال : ـ على هذا المنهج القويم من القرآن ، وهذا الأسلوب المنير من السنة ، سار الإمام زين العابدين عليه‌السلام في هذا الفصل من رسالته الخالدة في التنويه بحق الجار والعناية والاهتمام به ، أَلا تنظر إليه قائلاً : « وحق جارك حفظه غائباً وإكرامه شاهداً ونصرته إذا كان مظلوماً .. ». يعني : يجب حفظه إذاً ... بمعنى ان لا يخونه وأن يكون أميناً على ما ائتمنه عليه ، وإكرامه واحترامه والحفاوة به إذا حضر ، ونصره ومعونته إذا ألمَّ به خطب أو نزل به ضرٌّ.

ويجب على ما قرّره عليه‌السلام ستره ما أمكن ، فالله يحب الساترين ، ويكره الفضيحة والافشاء ، ويكره التجسس والمراقبة ، فإن ظهر على الجار شيء ما مِن دون تجسس أو مراقبة ، فعلى جاره أن يكتم كل ما عرف ، وأن يكون حصناً حصيناً لهذا السر الذي بيده مفتاحه. ويجب أن ينصره إذا سمع عليه مقالة سوء ، ويكره الله أن يستمع إلى قوم ينوشون جاراً بالسوء وفسق اللِّسان وهو عنهم راض ، وأن يقيل عثرته ، وينهضه من كبوته ، ويُغضي عن بعض ما قد يسوء من أعماله ، فان الإنسان معرّض للخطأ ، وأن يمنعه ، ويذود عنه ، ويدفع كل ما يضر به ) (١).

وهنا يبدو من الضروري بمكان ، الإشارة إلى أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لم يختص تميّزهم عن غيرهم بنظرتهم العميقة لمعنى الجوار ، وهو الصبر

__________________

(١) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي ٢ : ١٩١.

٤١

على الاذى وليس كف الأذى كما قال العبد الصالح عليه‌السلام : « ليس الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى » (١).

وإنما تميزوا أيضاً بتجسيدهم هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع.

لقد ترجم أهل البيت عليهم‌السلام أقوالهم إلى سلوك سوّي ، أصبح قدوة حسنة لمن أراد الاقتداء به. فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الإمام السجاد عليه‌السلام ، حريصاً على أداء حقوق الآخرين ، وان كانوا من أعدائه .. جاء في رواية الواقدي : إنّ هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد المخزومي كان والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، وقد أساء جِوار الإمام ولحقه منه أذى على حد تعبير الراوي ، فلما مات عبدالملك ، عزله الوليد بن عبدالملك ، وأوقفه للناس ؛ لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلاّ علي بن الحسين ، فمر عليه الإمام ، وسلم عليه ، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : « إن كان أعجزك مال تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، ويسد حاجتك ، فطب نفساً منّا ، ومن كل من يطيعنا » ، فقال له هشام بن اسماعيل : الله أعلم حيثُ يجعل رسالته (٢).

وكان الإمام السجاد عليه‌السلام يدعو لجيرانه بكلمات بلغت الغاية في الرّقة ، ضمّنها ما لهم من الحقوق ، وصبها في قالب الدّعاء.

تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة السجادية ، الذي يفيض

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ٦٣٦ ـ ٦٣٧ / ٩ باب ٢٤ من كتاب العشرة ، كنز العمال : ح ٤٤٢٢.

(٢) سيرة الائمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ، القسم الثاني : ١٤٩.

٤٢

بالمعاني ، ويحمل أجمل المشاعر : ـ « اللّهُمَّ تولَّني في جيراني باقامة سُنَّتكَ ، والاَخذ بمحاسن أدَبك في إرفاقِ ضعيفهم ، وسدْ خلّتهم ، وتَعهُّد قادمهم ، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدَةِ والاِفضال ، واعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤالِ والجود بالنَّوال ـ اي العطاء ـ يا أرحم الراحمين » (١).

__________________

(١) الصحيفة السجادية الكاملة : ١٣٢ دعاء ٢٦ ، نشر وتحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ط ١.

٤٣
٤٤

الفصل الثاني

الحقوق العائلية

٤٥
٤٦

المبحث الأول

حق الأبوين

أولى الإسلام عنايةً خاصة للاَسرة وللمحافظة عليها ، من خلال تحديده للحقوق المترتبة على أفرادها تجاه بعضهم البعض ، كي تصان الأسرة بصفتها اللّبنة الاساسية في بناء المجتمع الذي ينشده الإسلام. ولما كان الوالدان هما حجري الاساس في بناء الأسرة وتنشئة الجيل ، نجد القرآن الكريم يصرّح بعظم مكانتهما ووجوب الإحسان اليهما.

وفيما يأتي بيان لحقوق الوالدين في القرآن الكريم ، والسُنّة النبوية ، وأقوال أهل البيت عليهم‌السلام :

أولاً : حقوق الوالدين في القرآن الكريم :

قرن تعالى وجوب التعبد له ، بوجوب البرّ بالوالدين في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ تعبُدُوا إلاّ إيّاهُ وبالوالدين إحساناً .. ) ( الإسراء ١٧ : ٢٣ ) ، وقوله تعالى : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدونَ إلاّ الله وبالوالدين إحساناً .. ) ( البقرة ٢ : ٨٣ ) ، وقوله تعالى : ( قُلْ تعالوا أتلُ ما حرَّمَ ربّكم عليكُم ألاّ تُشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً .. ) ( الانعام ٦ : ١٥١ ). ثم قرن الشكر له بالشكر لهما في قوله تعالى : ( .. أن أشكُر لي ولوالديك إليَّ المصيرُ ) ( لقمان ٣١ : ١٤ ).

٤٧

وهكذا نجد أنّ الله تعالى يعتبر الإحسان إلى الوالدين ، قضية جوهرية ، فهي من الأهمية بمكان ، بحيث يبرزها ـ تارة ـ في عالم الاعتبار بصيغة القضاء : ( وقضى ربُّك .. ) ، ويجسدها ـ تارة أُخرى ـ في عالم الامتثال بصيغة الميثاق : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل .. ) ، ويعتبر التعدي على حرمتهما حراماً.

وهنا لابد من التنبيه على أن القرآن الكريم وفي العديد من آياته يؤكد على الأولاد بضرورة الإحسان إلى الآباء ، أما الآباء فلا يؤكد عليهم الإهتمام بأبنائهم إلاّ نادراً ، وفي حالات غير عادية كأن لا يقتلوا أولادهم خشية الاِملاق ، ويكتفي بالتأكيد على أن الاولاد زينةٌ ومتعة ، وموضع فتنة وإغراء للوالدين ، ولم يذكرهم إلاّ مقرونين بالمال وفي موضع التفاخر.

قال تعالى : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) ( الانفال ٨ : ٢٨ ) ، وقال تعالى : ( ... وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد ... ) ( الحديد ٥٧ : ٢٠ ) ، والسرُّ في ذلك : ان علاقة الوالدين بأولادهم هي أشدّ وأقوى من علاقة الأولاد بوالديهم ، فالآباء بحكم الغريزة الطبيعية أكثر حباً للأولاد من حب الأولاد لهم ، وخصوصاً الأم التي تلف أبناءها برداء الحنان وتضحي بالغالي والنفيس من أجلهم ، وتندفع غريزياً وتلقائياً للقيام بما يؤمن حوائجهم ، وتعمل جاهدة من أجل صنع إكليل سعادتهم ، وعليه فلا يحتاج الآباء إلى توجيه وتوكيد في هذا الصَّدد ، وانما يحتاجون ـ فقط ـ إلى استجاشة الوجدان من أجل تنشئة الجيل ، تنشئة صالحة.

أما الأبناء فتعلقهم بالآباء أضعف فطرةً من تعلق الآباء بهم. ومن هنا

٤٨

وَرَدَ الأمر القرآني القاضي بالاحسان إلى الوالدين من أجل رسم علاقة متكافئة بين الطرفين ، لذا وضع حقهم في المرتبة اللاحقة بعد حقّه تعالى.

وبنظرة أعمق جعل الإحسان إلى الوالدين المظهر الاجتماعي للعبادة الحقّة ، وكل تفكيك بين العبادة ومظهرها الاجتماعي ، بالإساءة إلى الوالدين على وجه الخصوص، ولو بكلمة « أُفّ » ، يعني إفساداً للعبادة .. كما تُفسد قطرة الخلّ العسل.

للأم حقٌ أكبر :

منح القرآنُ الأم حقاً أكبر ، وذلك لما تقدمه من تضحيات أكثر. فالاَُم هي التي يقع عليها وحدها عبء ( الحمل والوضع والارضاع ) وما يرافقهما من تضحيات وآلام ، حيثُ يبقى الطفل في بطنها مدّة تسعة أشهر على الاغلب في مرحلة الحمل ، يتغذى في بطنها من غذائها ، ويقر مطمئنا على حساب راحتها وصحتها ، ثم تأتي مرحلة الوضع ، الذي لا يعرف مقدار الألم فيه إلاّ الأم ، حيثُ تكون حياتها ـ أحياناً ـ مهددة بالخطر ، وتأتي بعدها مرحلة الارضاع والحضانة وما يتخللها من عناء وسهر. فمن أجل كل ذلك يؤكد الإسلام على الأولاد بضرورة القيام بحق الأم ، وفاءً بالجميل ، واعترافاً بالفضل. وفي ظل هذه التضحيات كان من الطبيعي ، ان يخصّ القرآن الأم بالعرفان ، ويوصي بها على وجه الخصوص : ( ووصَّينا الإنسان بوالديه حملتهُ أُمُّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين .. ) ( لقمان ٣١ : ١٤ ) ، وبذلك يؤجج القرآن وجدان الابناء حتى لا ينسوا أو يتناسوا جهد الآباء وخاصة الأم وما قاسته من عناء ، ويصبّوا كلَّ اهتمامهم على الزوجات والذرّية.

٤٩

ثانياً : حقوق الوالدين في السُّنة النبوية :

احتلت مسألة الحقوق عموماً وحقوق الوالدين على وجه الخصوص مساحةً كبيرةً من أحاديث ووصايا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك للتأكيدات القرآنية المتوالية ، وللضرورة الاجتماعية المترتبة على الإحسان إليهما ، خصوصاً وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اضطلع بمهمةٍ تغييرية كبرى تتمثل باعادة تشكيل وعي جديد ومجتمع جديد.

ولما كانت الأسرة تشكل لبنةً كبيرة في البناء الاجتماعي ، وجب رعاية حقوق الوالدين القيِّمَين عليها ، وبدون مراعاة ذلك ، يكون البناء الاجتماعي متزلزلاً كالبناء على الرَّمل.

وعليه ، فقد تصدّرت هذه المسألة الحيوية سلّم أولويّات التوجيه النبوي ، بعد الدعوة لكلمة التوحيد ، فقد ربط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين ، حتى يعطي للمسألة بعدها العبادي ، وأكد ـ أيضاً ـ بأنّ عقوق الوالدين هي من أكبر الكبائر ، وربط بين حب الله ومغفرته ، وبين حب الوالدين وطاعتهما ، فعن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام : « إنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا رسول الله ما من عمل قبيح إلاّ قد عملته فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فهل من والديك أحد حيٌّ » ؟ قال : أبي ، قال : « فاذهب فبره ». قال : فلمّا ولّى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو كانت أُمّه » (١).

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٨٢.

٥٠

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله مَنْ أبِرُّ ؟ قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال: أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أباك » (١).

وفي التوجيه النبوي : من حق الوالد على الولد ، ان يخشع له عند الغضب ، حرصاً على كرامة الآباء من أن تُهدر ، وفوق ذلك ، فقد اعُتبر التسبب في شتم الوالدين من خلال شتم الولد للآخرين كبيرة من الكبائر ، تستحق الإدانة والعقاب الاخروي. ثم ان البَّر بهما لا يقتصر على حياتهما فيستطيع الولد المطيع ان يبَّر بوالديه من خلال تسديد ديونهما أو من خلال الدعاء والاستغفار لهما ، وغير ذلك من أعمال البرَّ.

لقد جسّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه التوصيات على مسرح الحياة ، ففي الوقت الذي كان يحث المسلمين على الهجرة ، ليشكل منهم نواة المجتمع التوحيدي الجديد في المدينة ، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد ، تروي كتب السيرة ، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : جئت أبايعك على الهجرة ، وتركت أبويّ يبكيان. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إرجع اليهما فاضحكهما كما أبكيتهما » (٢).

ومن الشواهد الاخرى ذات الدلالة القوية ، على تأكيد السيرة النبوية على رعاية حق الوالدين ، أنّ أختاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة زارته يوماً ، فرحَّب بها ترحيباً حاراً ، وأكرمها غاية الإكرام ، ثم جاء أخوها إليه ، فلم يصنع معه ما صنع معها من الحفاوة والإكرام ، فقيل له : يا رسول الله :

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ١٦٧ / ٩ باب البر بالوالدين.

(٢) التّرغيب والترهيب ٣ : ٣١٥.

٥١

صنعت بأخته ما لم تصنع به ، وهو رجل ! فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّها كانت أبرَّ بأبيها منه » (١).

وهكذا نرى أنّ التوجه النبوي يجعل ميزان القرب والبُعد مرتبطاً بمدى رعاية المرء لحقوق والديه.

ولا يفوتنا في نهاية هذه الفقرة ، ان ننوه بالمكانة التي يوليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأم ، ويكفي شاهداً على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الجنة تحت أقدام الامهات » (٢).

ثالثاً : حقوق الوالدين في مدرسة أهل البيت :

أعطى الأئمة الأطهار لتوجّهات القرآن الكريم وأقوال النبي وأفعاله الفكرية والتربوية روحاً جديدة ، وزخماً قوياً عندما أُلقيت على عواتقهم وظيفة النهوض الحضاري بالأمة في جميع المجالات ، خصوصاً بعد التداعيات والشروخ التي حصلت في المجتمع الاسلامي من جراء سيطرة حكام الجور والضلال على مراكز القرار. فعمل الأئمة عليهم‌السلام باخلاص من أجل تقويم الاعوجاج وترشيد المسار الحضاري للأمة.

وفي ما يتعلق بحق الوالدين ، نلاحظ أنهم عملوا على عدة محاور ، يمكن إبرازها على النحو الآتي :

١ ـ تفسير ما ورد من آيات قرآنية :

ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم الذين أُنزل القرآن في

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٨٢.

(٢) كنز العمال ١٦ : ٤٦١ / ٤٥٤٣٩.

٥٢

بيوتهم ، وقَرنَهم الرسول الأعظم به ، وغدوا بذلك قرآناً ناطقاً ، ينطقون بالحق ويؤكدون على أداء الحقوق.

فقد حدّد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام مفهوم الإحسان الوارد بقوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ تعبدُوا إلاّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً .. ) ( الإسراء ١٧ : ٢٣ ) ، فقال عليه‌السلام : « الإحسان : أن تُحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه ، وإنْ كانا مستغنيين » (١).

وحول قوله تعالى : ( .. إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدُهُما أو كلاهُما فلا تقُلْ لهما أُفٍّ ولا تنهرهُما .. ) ( الإسراء ١٧ : ٢٣ ).

قال عليه‌السلام : « إن أضجراك فلا تقل لهما أُفٍّ ، ولا تنهرهما إن ضرباك » (٢).

وعن قوله تعالى : ( وقُلْ لهما قولاً كريماً ) ( الإسراء ١٧ : ٢٣ ) ، قال عليه‌السلام : « إنْ ضرباك فقل لهما : غفر الله لكما » (٣). وقال الصادق عليه‌السلام : « أدنى العقوق ( أُفٌّ ) ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه » (٤).

وفي ضوء قوله تعالى : ( واخفض لهما جناح الذُّل من الرَّحمةِ وقُلْ رَبِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً ) ( الإسراء ١٧ : ٢٥ ) ، يقول أيضاً عليه‌السلام : « لا تملأ عينيك من النّظر اليهما إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدَّم قدّامهما » (٥). وحول الآية الكريمة : ( ان اشكُر

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ١٦٥ / ١ باب البر بالوالدين.

(٢) أُصول الكافي ٢ : ١٦٥ / ١ باب البر بالوالدين.

(٣) أُصول الكافي ٢ : ١٦٥ / ١ باب البر بالوالدين.

(٤) أُصول الكافي ٢ : ٣٤٩ / ١ باب العقوق.

(٥) أُصول الكافي ٢ : ١٦٥ / ١ باب البر بالوالدين.

٥٣

لي ولوالديك إليَّ المصير ) ( لقمان ٣١ : ١٤ ) ، يقول الإمام علي بن موسى الرِّضا عليه‌السلام : « إن الله عزّ وجل .. أمر بالشكر له وللوالدين ، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله » (١).

٢ ـ استثارة الوازع الأخلاقي :

أراد الأئمة عليهم‌السلام أن تبقى منظومة الأخلاق في الأمة حيةً فعالةً ، انطلاقاً من حرصهم الدائم على سلامة المجتمع الإسلامي ، حتى لا يتردى أفراده في مهاوي القلق والضياع.

وعليه فقد حثّوا على التمسك بالقيم الأخلاقية في تعامل الأولاد مع والديهم ، بحيث تتحول إلى طبع يطبع سلوك الأبناء .. وفي هذا الصَّدد يقول الإمام علي عليه‌السلام : « برّ الوالدين من أكرم الطباع » (٢). ويقول حفيده الإمام الهادي عليه‌السلام : « العقوق ثكل من لم يثكل » (٣).

٣ ـ تحديد الحكم الشرعي :

لم يبقِ آل البيت عليهم‌السلام مسألة حقوق الوالدين في إطار التوجهات القرآنية أو مجرد استثارة الدوافع الاخلاقية ، بل حددوا الحكم الشرعي لهذه المسألة الحيوية ، واعتبر الامام علي عليه‌السلام : « برّ الوالدين أكبر فريضة » (٤). ويقول الإمام الباقر عليه‌السلام : « ثلاث لم يجعل الله عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة :

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٧٧ : ٢١٢.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٨٤.

(٤) غرر الحكم : ٢٣٩ / ٤٥١٢.

٥٤

أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين » (١).

والجدير بالذكر ، أن الإسلام لم يربط حقوق الوالدين بقضية الدين ، وضرورة كونهما مسلمين ، بل أوجب رعاية حقوقهم بمعزل عن ذلك ، يقول الإمام الرِّضا عليه‌السلام : « برّ الوالدين واجب وإنْ كانا مشركين ، ولا طاعة لهما في معصية الخالق » (٢). ولم يكتف الإمام الرِّضا عليه‌السلام بتبيان الحكم الشرعي بل كشف عن الحكمة من وراء هذا التحريم بقوله : « حرّم الله عقوق الوالدين لما فيه من الخروج من التّوفيق لطاعة الله عزّ وجلّ ، والتّوقير للوالدين ، وتجنّب كفر النّعمة ، وابطال الشكر ، وما يدعو من ذلك إلى قلّة النّسل وانقطاعه ، لما في العقوق من قلّة توقير الوالدين ، والعرفان بحقّهما ، وقطع الأرحام ، والزّهد من الوالدين في الولد ، وترك التّربية بعلّة ترك الولد برّهما » (٣).

من خلال التمعن في هذا النصّ نجد نظرةً أرحب وأعمق لحق الوالدين، وكون القضية لا ترتبط بالجانب المعنوي المتعلق بحقوق الوالدين فحسب ، بل لها آثار واقعية على مجمل الكيان الاجتماعي ، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة حفظ الجنس البشري من الانقراض والاستئصال ، كما أن للمسألة آثاراً تربوية سلبية واضحة ، فعندما يجد الوالدان أنفسهما وقد هدرت كرامتهما ، وصودر حقهما من قبل الأبناء ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٥٦.

(٢) بحار الأنوار ٧٤ : ٧٢.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٧٥.

٥٥

فسوف يتشكل رأي عام في المجتمع ، بأن انجاب الأولاد ، أو على الأقل بذل الجهد في تربيتهما ، عملية خاسرة ، وتسفر عن نتائج غير مُرضية ، وهذا سوف يؤدي إلى قلة أو انقطاع النسل ـ كما نوّه الإمام عليه‌السلام ـ أو يؤدي إلى عدم الاهتمام بتربية الابناء ، وفي كلتا الحالتين فالخسارة فادحة على المجتمع. ويحصل العكس من ذلك لو وجد الاَبوان أنفسهما في موضع التكريم والاحترام ، فسوف يحرصون على إنجاب الأطفال ، والقيام بتربيتهم على النحو الأفضل.

وخير شاهد معاصر على ذلك ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية ، فقد أدّى التفكك الاَُسري إلى متاهات لا تُحمد عقباها ، وأخذ الولد يتنكر لقيمومة والديه ويتنصل عن أداء حقوقهما ، وانجرف في تيار المادة واللّذة العارم ، الأمر الذي أدّى إلى قلّة النسل الشرعي وعدم الاهتمام بتربية الطفل، وايكاله إلى دور الحضانة ، وبلغ الانتكاس الاجتماعي حداً ، بحيث أصبحوا يهتمون بتربية الحيوان وخاصة الكلاب أكثر من الذين خرجوا من الاَصلاب ! واذا استمر هذا الوضع الشاذ ، بشيوع حالة من الأنانية والانعزال ، فسوف يؤدي إلى انقطاع أو على الأقل قلة النسل الشرعي ، وتصبح المجتمعات الغربية على شفير الهاوية.

٤ ـ تحديد الحقوق المترتبة للوالدين :

تتسع عدسة الرؤية للحقوق في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام عن غيرها من المدارس والمذاهب القانونية والاجتماعية ، فهي تركز في توجهاتها على الحقوق المعنوية ، وتضعها في سلّم الأولوية ، ولا يعني ذلك إهمال الحقوق المادية ، فإذا كانت النَّظرة المتعارفة للحق انه حقٌّ ماديٌّ بالدَّرجة

٥٦

الأساس ، فانَّ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تنظر للحق نظرة أرحب وأشمل ، هي نظرة الإسلام العميقة التي تُقدم الجانب المعنوي على المادي ، وعلى هذا الأساس ، نلاحظ أنّ أكثر توصيات وأحاديث الأئمة عليهم‌السلام تنصب على رعاية الحقوق المعنوية ، كالطاعة للوالدين والشكر والنصيحة لهما ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : « إنّ للولد على الوالد حقّاً .. أن يطيعه في كلِّ شيء إلاّ في معصية الله سبحانه » (١).

ويقول حفيده الإمام الصادق عليه‌السلام : « يجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء : شكرهما على كلِّ حال ، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله ، ونصيحتهما في السرِّ والعلانية » (٢).

ويقول الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام في رسالة الحقوق : « أمّا حق أبيك فأنْ تعلم أنّه أصلك ، وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك ، فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلاّ بالله » (٣).

ويقول عليه‌السلام في ما يتعلق بحق الأم : « أما أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها مالا يعطي أحدٌ أحداً ، ووقَتْك بجميع جوارحها ، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك ، وتضحى وتظلّك ، وتهجر النّوم لأجلك ، ووقَتْك الحرَّ

__________________

(١) نهج البلاغة ـ ضبط صبحي الصالح : ٣٩٩.

(٢) تحف العقول ـ لابن شعبة الحراني : ٣٢٢ ـ مؤسسة النشر الإسلامي ط ٢.

(٣) بحار الأنوار ٧٤ : ٦.

٥٧

البرد تكون لها ، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون الله وتوفيقه » (١).

بهذه اللغة الوجدانية الشفافة يصوغ الإمام زين العابدين عليه‌السلام بنود الحقوق الاعتبارية للوالدين.

وأيضاً ينقل أبو الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام عن جده المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن رجلاً سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حقّ الولد على والده ؟ قال : « لا يُسمّيه باسمه ، ولا يمشِ بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له » (٢).

وأنت لو تمعنت في السطور المتقدمة ، تلمس بوضوح عمق التركيز على الحقوق المعنوية للوالدين ، ولعل السرّ في ذلك أن تطعيم الأولاد فكريا ووجدانياً من خلال إدراك هذا النوع من الحقوق الاعتبارية ، يمنح الأولاد المناعة والحصانة من الإصابة بالأمراض الاجتماعية ، تلك التي تقوّض كيان الأسرة كمجتمع صغير ، وتنعكس أعراضها وآثارها التدميرية على المجتمع الكبير.

ومن الضروري الإشارة إلى أن التركيز على الحقوق المعنوية ، لا يعني بحال اغفال ما للوالدين من حقوق مادية ، كضرورة الانفاق عليهم عند العوز أو الشيخوخة ، ولكن وفق ضوابط وحدود معقولة.

والظاهر أنّ الرأي السائد آنذاك ، هو ان للوالد مطلق التصرف في أموال بنيه، اعتماداً على رواية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الخصوص ، ولكن الإمام

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ : ٦.

(٢) أُصول الكافي ٢ : ١٦٦ / ٥ باب البر بالوالدين ، ولا يستسب : أي لا يصير سبباً لسب الناس له ، كأن يسب آباءهم فيسب الناس والده.

٥٨

الصادق عليه‌السلام قشع هذا المفهوم الخاطئ من أذهان الكثيرين ، وفق مبادئ وقواعد الإسلام ، التي تمنع الضَّرر والإضرار بالآخرين ، وكشف عليه‌السلام عن الدواعي التي حملت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القول لرجل اشتكى من أبيه ـ وادّعى أنه أخذ ميراثه الذي من أمه ـ : « أنت ومالك لأبيك » بان الأب كان معسراً ، وقد الجأته الضرورة لذلك ، فالأمر لا يعدو أن يكون قضية في واقعة.

يتضح لك ذلك عند قراءة الرّواية التالية : عن الحسين بن أبي العلاء قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : ما يحلّ للرّجل من مال ولده ؟ قال عليه‌السلام : « قوته بغير سرف إذا اضطرّ اليه » ، قال : فقلت له : فقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرّجل الذي أتاه ، فقدّم أباه ، فقال له : « أنت ومالك لأبيك » ؟ فقال عليه‌السلام : « إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمي ، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرّجل شيء أفكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبس الأب للإبن » (١) !

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١٣٨ / ٦ باب ٤٧ من كتاب المعيشة.

٥٩

المبحث الثاني

الآثار السلبية الدنيوية لمن عق والديه

ذكرنا فيما سبق بعض الآثار الأخروية المترتبة على عقوق الوالدين ، ولعل من أبرزها التعرض لسخط الله تعالى ، وعدم قبول الطاعات وغير ذلك من آثار. ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام يجد حشداً من الأحاديث في هذا المجال ، وهنا سوف نقتصر على إبراز الآثار السلبية في دار الدنيا لمن أساء لوالديه ، ويمكننا تصنيفها حسب النقاط الآتية :

أولاً : التعرض للفقر والفاقة :

يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام في هذا الخصوص : « أيّما رَجلٍ دعا على ولده أورثه الفقر » (١).

ثانياً : المقابلة بالمِثل :

إنّ الأولاد الذين يسيئون التصرف مع آبائهم ، سوف يقابلهم أبناؤهم بالمِثل ، ولا يقيمون لهم وزناً عندما يكبرون ، ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « برّوا آباءكم ، يبرّكم آبناؤكم » (٢) ، وقد

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٩.

(٢) بحار الأنوار ٧٤ : ٦٥.

٦٠