الحقوق الإجتماعية في الإسلام

الحقوق الإجتماعية في الإسلام

المؤلف:


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ٠
ISBN: 964-319-033-1
الصفحات: ١٢٧

الوصول إلى الحق والحقيقة ، حيث عقدوا المناظرات مع الخصوم ، وشكّلوا الحلقات التي برّزت آراءهم في شتى المجالات. فعلى سبيل المثال قام الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام ، بدور فكري بارز في النصف الأول من القرن الثاني الهجري ، وكانت فترة استقرار نسبي وانفتاح ثقافي ، فعقدوا المناظرات مع العلمانيين من ملاحدة وزنادقة وكذلك مع علماء المذاهب الإسلامية.

ولعل من أجلى الشواهد على إيمان الأئمة عليهم‌السلام بحق التفكير والتعبير ، هو مناظراتهم مع الخوارج الذين كانوا من أشد الفرق عداءاً للإمام علي عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ، وقد شكّل الخوارج تياراً فكرياً وسياسياً معارضاً. فقد حاججهم الإمام علي عليه‌السلام بنفسه قبل معركة النهروان عندما أطلقوا مقولتهم المعروفة : ( لا حكم إلا لله ) ، فقد أقرَّ الإمام علي عليه‌السلام بأنها كلمة حق ولكن أريد منها الباطل وطمس الحقيقة المتمثلة بأن علياً عليه‌السلام إمام حق. ولقد منحهم الإمام حرية التعبير عمّا في ضمائرهم ما لم يؤدِ ذلك إلى إراقة الدماء ، وحينئذ يسقطون حقهم الطبيعي بالتعبير لاحتكامهم إلى السيف والعنف.

والملاحظ ان الأئمة عليهم‌السلام واجهوا خصومهم باسلوب الحوار العقلاني ، وتكلموا معهم بالتي هي أحسن ، ولكن خصومهم كانوا يستعملون اسلوباً يغلب عليه طابع التحدي. ينقل المؤرخ محمد بن جرير الطبري ( ت / ٣١٠ ه‍ ) : ( إنّ عليّاً لما دخل الكوفة دخلها ومعه كثير من الخوارج ، وتخلّف منهم بالنّخيلة وغيرها خلق كثير لم يدخلوها ، فدخل حرقوص ابن زهير السّعدي وزرعة ابن البرج الطائي ـ وهما من رؤوس الخوارج ـ على عليّ عليه‌السلام ، فقال له حرقوص : تُب من خطيئتك ، واخرج بنا إلى

٢١

معاوية نجاهده ، فقال له عليّ عليه‌السلام : « إني كنت نهيتكم عن الحكومة فأبيتم ، ثم الآن تجعلونها ذنباً » !

فقال زرعة : أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرّجال لأقتلنّك ، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه !! فقال له عليّ عليه‌السلام : « بؤساً لك ما أشقاك ! كأنّي بك قتيلاً تسفي عليك الرّياح » ! قال زرعة : وددت أنّه كان ذلك (١).

وبعد ذلك اغلق الخوارج باب الحوار فقتلوا ( عبدالله بن خبّاب ) وكان يحمل مصحفاً في عنقه !. وعندئذٍ اضطُر الإمام علي عليه‌السلام إلى استخدام القوة معهم ، لمروقهم عن الحق.

خامساً : حق التمتع بالأمن :

لكلِّ إنسان سوي حق طبيعي في التمتع بالأمن ، فلا يجوز لأي كان تعكير صفو حياته ، وجعله أسير الحزن والأسى من خلال التهديد والوعيد بالاعتداء على حياته أو عرضه أو ماله.

ويتأكد حق الأمان إذا أمّن الإنسان إنساناً آخر بموجب ميثاق أو عهد ، وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين احترام مواثيق الأمان حتى مع الكافرين كما في قوله تعالى : ( ... فإن تولّوا فخُذُوهم واقتُلُوهُم حيثُ وجدتُّموهُم ولا تَتَّخذُوا مِنُهم وليّاً ولا نصيراً * إلاَّ الَّذينَ يصلُونَ إلى قوم بينكُمْ وبينَهُم ميثاقٌ .. ) ( النساء ٤ : ٨٩ ـ ٩٠ ).

والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا إلى رعاية هذا الحق الإنساني العام وقال في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ٢ : ٢٦٨ ـ دار احياء التراث العربي ط ٢.

٢٢

هذا السياق : « من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنَّة ، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً » (١).

وفي حديث آخر قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « .. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذّمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على سواهم » (٢).

وقد سُئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يسعى بذّمتهم أدناهم » فقال : « لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين ، فأشرف رجلٌ منهم ، فقال : أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم أناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان ، وجب على أفضلهم الوفاء به » (٣).

وقد أكد الإمام علي عليه‌السلام هذا التوجه النبوي ، وضمنه عهده المعروف لمالك الأشتر ، وجاء فيه : « .. وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذِمَّة ، فَحُطْ عَهدَكَ بالوفاءِ ، وارع ذِمَّتكَ بالأمانةِ .. » (٤).

إنّ الإسلام وفّر ـ في الواقع ـ الأمان في مجتمعه وهيأ فيه أجواء الاطمئنان للمعاهدين ، وأوجب الوفاء بعهدهم إلى المدّة المتفق عليها والقابلة للتمديد ، كما وفّره أيضاً للذميين المقيمين في ظل الحكومة الاسلامية من أهل الكتاب ، ولم يُجز التجاوز عليهم بكلمة سوء ، أو بغصب مالٍ ، أو إزهاق نفس ، ومن فعل ذلك فقد ضيّع ذمَّة الله وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) كنز العمال : ح ١٩١٤.

(٢) بحار الانوار ١٠٠ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٣) ميزان الحكمة ١ : ٣٥٤.

(٤) بحار الانوار ١٠٠ : ٤٧.

٢٣

سادساً : حق الاعتقاد :

ونقصد من ذلك : إنّ الإسلام لا يجبر أحداً على اعتناقه ، فلا توجد في القرآن الكريم آية ولا في السُنّة النبوية روايةً تدل على جواز حمل أصحاب الاديان الاَُخرى على تركها والدخول في دين الإسلام بالجبر والقهر ، وفرض العقيدة الحقّة بالقوة ، بل انّ قوله تعالى ( لا إكراه في الدِّين قد تَّبيَّن الرُّشْدُ من الغَيّ .. ) ( البقرة ٢ : ٢٥٦ ) ، دليل واضح على المنع من ذلك.

ومن هنا يظهر وهن الشبهة الغربية القائلة : إن الإسلام دين انتشر بالسيف !!

كيف ، ولم يجبر المسلمون أحداً من أهل الكتاب على اعتناق عقيدتهم ؟ والقرآن يدعو المسلمين إلى محاورتهم بالتي هي أحسن.

لقد سلك الأئمة الاطهار عليهم‌السلام هذا المسلك وفتحوا حواراً مع الزنادقة والملحدين وأهل الكتاب ، ودافعوا عن العقيدة وأصول الإسلام بالحجة الدامغة والمنطق الرَّصين ، وكشاهد تاريخي على ذلك : احتجاج الإمام محمد الباقر عليه‌السلام على عبدالله بن معمر الليثي في المتعة ، فقد ورد في كشف الغمة عن الآبي في كتاب نثر الدرر : ان الليثي قال لأبي جعفر عليه‌السلام : بلغني انك تفتي في المتعة ؟ فقال عليه‌السلام : « أحلّها الله في كتابه ، وسنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمل بها أصحابه ». فقال عبدالله الليثي : فقد نهى عنها عمر ، قال عليه‌السلام : « فأنت على قول صاحبك ، وأنا على قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، قال عبدالله : فيسرك ان نساءك فعلن ذلك ؟ قال أبو جعفر عليه‌السلام « وما ذكر النساء

٢٤

يا أنوك (١) ؟ إن الذي أحلّها في كتابه وأباحها لعباده أغير منك وممن نهى عنها تكلفاً ، بل ويسرك ان بعض حرمك تحت حائك من حاكة يثرب نكاحاً » ؟ ، قال الليثي : لا ، قال عليه‌السلام « فلمَ تحرّم ما أحلّ الله » ؟! قال : لا أحرم ، ولكن الحائك ما هو لي بكفو. قال عليه‌السلام « فإنَّ الله ارتضى عمله ، ورغب فيه ، وزوجه حوراً ، أفترغب عمن رغب الله فيه ، وتستنكف ممن هو كفو لحور العين كبراً وعتواً » ؟ فضحك عبدالله ، وقال : ما أحسب صدوركم إلاّ منابت أشجار العلم ، فصار لكم ثمره وللناس ورقه (٢).

سابعاً : حق المساواة وحق التمتع بالعدل :

لقد أعلن القرآن الكريم ان الناس متساوون جميعاً في أصل الخلقة ، قال تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ أكرمكُم عند الله أتقاكُم .. ) ( الحجرات ٤٩ : ١٣ ) فقضى بذلك على عبودية البشر للبشر ، واعتبرهم جميعاً مخلوقات لله تعالى ، وبذلك وضع صمّام الأمان على كل نزعةٍ نحو الطغيان على أساس العرق أو اللّون أو اللِّسان. وأوجد شعوراً بالمساواة بين الحاكم والمحكوم ، والغني والفقير ، وبين القوي والضعيف ، وأصبح مقياس الكرامة والفضل : التقوى والعمل الصالح.

إنّ الاعتقاد بمساواة البشر شرط لابدَّ منه لقيام العدل الذي جعله القرآن الكريم غاية النبوات ، قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( الحديد ٥٧ : ٢٥ ) ، وكيف

__________________

(١) الأنوك : الأحمق.

(٢) كشف الغمة ، للاربلّي

٢٥

يقام العدل بين الجماعات إذا كانوا يعتقدون أنهم طبقات متمايزة أو أُسر متفاضلة ؟ وقد مرَّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أول من أعلن مبدأ المساواة في حجة الوداع ، وكان يساوي بين المسلمين في العطاء.

ولقد سار الإمام علي عليه‌السلام ـ عندما استلم دفة الخلافة ـ على خطى المنهج النبوي ، فساوى بين الناس في التعامل وفي العطاء ، وكان يأخذ كأحدهم ، وقصته مع أخيه عقيل مشهورة حين طلب منه زيادة في عطائه ، فقال له : « إصبر حتى يخرج عطائي » فلم يقبل ، فأبى أن يعطيه أكثر من عطائه. وبلغ من تمسكه بهذا الحق حدّاً ، بحيث أنه وجد في مال جاءه من اصفهان رغيفاً فقسمه سبعة أجزاء كما قسم بيت المال ، وجعل على كل جزء جزاً (١).

__________________

(١) راجع : كتاب في رحاب أئمة أهل البيت ، السيد محسن الامين ١ : ٢٦ ـ ٧٣ ، دار التعارف للمطبوعات ـ طبعة عام ١٤٠٠ ه‍.

٢٦

المبحث الثاني

الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية

وضع الإسلام في دائرة اهتماماته حقوق الضعفاء من الناس الذين لا يمتلكون حولاً ولا قوة :

كاليتيم الذي لم يبلغ الحلم ، وفقد والديه ، أو أحدهما.

والأسير الذي وقع في الاَسر وليس له من الأمر شيء ، فيكون تحت رحمة آسريه.

والفقير الذي لا يملك قوت سنته.

والمسكين الذي أسكنه الفقر والفاقة. كلّ هؤلاء وضعهم الإسلام في دائرة اهتمامه وأوجب رعاية حقوقهم.

لقد وجه القرآن الكريم سهام نقده للمجتمع الجاهلي ؛ لاستضعافه اليتيم وعدم إكرامه ، والاعتداء على أمواله ، قال تعالى : ( ... كلا بل لا تُكرمون اليتيم ) ( الفجر ٨٩ : ١٧ ) ، وفي آية أُخرى نجد الوعيد الشديد للذين يعتدون على أموال اليتامى ظلماً وعدواناً ، قال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنَّما يأكُلون في بُطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ) ( النساء ٤ : ١٠ ).

٢٧

ومما لا شك فيه ان عدم العناية بالايتام سوف يولّد في نفوسهم عُقداً قد تترك آثاراً تدميرية على المجتمع ، ولأجل ذلك نجد اهتمام الإمام علي عليه‌السلام قد انصبَّ على الأيتام ، بحيث ضمّن وصيته قبل الموت فقرةً يقول فيها : « الله الله في الأيتام فلا تغبّو أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار » (١). فعن عبيد بن زرارة ، قال : سألتُ أبا عبدالله عليه‌السلام عن الكبائر ، فقال : « منها أكل مال اليتيم ظلماً » (٢).

ومن جانب آخر أوجب الإسلام للأسير حقوقاً كالإطعام والإحسان اليه ، وان كان يراد من الغد قتله. وأنَّ علياً عليه‌السلام كان يطعم من خُلِّد في السّجن من بيت مال المسلمين (٣). ولما ضربه اللَّعين ابن ملجم المرادي ، أوصى الحسن والحسين عليهما‌السلام : ان يطعموه ويسقوه ويُحسنوا إساره (٤).

وتجدر الاشارة إلى أنَّ الآية الكريمة : ( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً .. ) ( الإنسان ٧٦ : ٨ ). قد نزلت في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام : كان عند فاطمة عليها‌السلام شعير فجعلوه عصيدة ، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم ، جاء مسكين ، فقال المسكين: رحمكم الله ، فقام علي عليه‌السلام فأعطاه ثلثاً ، فلم يلبث أن جاء يتيم ، فقال اليتيم : رحمكم الله ،

__________________

(١) فروع الكافي ٧ : ٥١ ـ دارالتعارف للمطبوعات ط ٣.

(٢) بحار الانوار ٧٥ : ١٠.

(٣) وسائل الشيعة ١١ : ٦٩ / ٢ باب ٣٢ من أبواب جهاد العدو.

(٤) مستدرك الوسائل ٢ : ٢٥٧.

٢٨

فقام علي عليه‌السلام فأعطاه الثلث ، ثم جاء أسير ، فقال الاسير : رحمكم الله ، فأعطاه علي عليه‌السلام الثلث وما ذاقوها ، فأنزل الله تعالى الآية (١).

وتذهب مدرسة أهل البيت بعيداً في رعاية حقوق الضعفاء ، فزيادة على توصياتها بضرورة إعطائهم الحقوق المالية التي منحها الله تعالى لهم ، تدعو إلى الأخذ بنظر الاعتبار حقوقهم المعنوية ، كحقّهم في الاحترام والتوقير ، ولا يخفى ان تحقير الفقير والأسير وكذلك اليتيم سوف يشعرهم بالدّونية ، يولّد في أعماق نفوسهم مشاعر الحزن والأسى ، ويدفعهم ذلك إلى الانتقام آجلاً أو عاجلاً.

وإدراكاً من الأئمة عليهم‌السلام للعواقب المترتبة على الإساءة إلى كرامة الضعفاء ، جهدوا على استئصال كل ما من شأنه المس بكرامتهم ، واستعملوا الوازع الديني كوسيلة أساسية ، من خلال التذكير بسخط الله تعالى وغضبه على كل من انتقص من الضعيف وطعن في كرامته ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام موصياً : « لا تحقّروا ضعفاء إخوانكم ، فإنه من احتقر مؤمناً لم يجمع الله عزّ وجل بينهما في الجنّة إلاّ أن يتوب » (٢) ، وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من حقّر مؤمناً مسكيناً ، لم يزل الله حاقراً ماقتاً عليه حتى يرجع عن محقرته إيّاه » (٣) ، وقال عليه‌السلام : « من لقي فقيراً مُسلماً فسلَّم عليه خلاف سلامه على الغنيّ ، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان » (٤).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ٥ : ٤٧٠ ، أُنظر مجمع البيان ١٠ : ٥١٤ دار احياء التراث العربي ـ بيروت.

(٢) بحار الانوار ٧٢ : ٤٢.

(٣) بحار الاَنوار ٧٢ : ٥٢.

(٤) بحار الانوار ٧٢ : ٣٨.

٢٩

المبحث الثالث

الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الأخلاقية

أولاً : حق المعلِّم أو الاستاذ :

أوجب الإسلام لمن يعلِّم الناس حقاً عظيماً يتناسب مع عظمة العلم والمعرفة ، وقد نقل لنا القرآن الكريم رغبة موسى عليه‌السلام ـ وهو من أولي العزم ـ في طلب العلم ، وكيف صَمّمَ على بلوغ هذا الهدف السامي مهما كانت العوائق ومهما بعد المكان وطال الزمان ، عندما قال : ( .. لآ أبرَحُ حتى أبلُغَ مجمعَ البحرينِ أو أمضِيَ حُقُباً ) ( الكهف ١٨ : ٦٠ ) ، ولما وجد العبد الصالح وضع نفسه موضع المتعلم ، وأعطى لاستاذه حق قيادته وإرشاده ، قائلاً له : ( هل أتَّبِعُكَ على أن تُعلّمنِ ممَّا عُلّمت رُشداً ) ( الكهف ١٨ : ٦٦ ) ، فإذا نَبهه إلى أمر تنبّه ، وإذا انكشف له الخطأ سارع إلى الاعتذار من استاذه ووعده بالطاعة ، وأعطى بذلك درساً بليغاً في أدب المتعلم مع المعلّم.

وكان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرح بانه بُعث معلّماً ، ودعا في أحاديث عديدة إلى مراعاة حق العلم والمعلِّم. وتناولت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام

٣٠

حقوق المعلم والمتعلم معاً بشيء من التفصيل وحثت على إكرام المعلم وتبجيله ، لكونه مربّي الأجيال.

تمعّن في هذه السطور التي سطرها يراع زين العابدين عليه‌السلام في رسالة الحقوق ، بعبارات تحمل معاني التقدير والعرفان بالجميل ، فيقول : « حق سائسك بالعلم : التعظيم له ، والتّوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والاقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس » (١).

وانطلاقاً من حرص الإسلام الدائم على انسياب حركة العلم ، وعدم وضع العقبات أمام تقدمه وانتشاره ، طلب من المعلم أن يضع نصب عينه حقوق المتعلّم ، فيسعى إلى ترصين علمه ، واختيار أفضل السُّبل لإيصال مادته العلمية ، ولا يُنفّر تلاميذه بسوء عشرته.

ومن المعلوم أن الأئمة عليهم‌السلام قد اضطلعوا بوظيفة التربية والتعليم واعطوا القدوة الحسنة في هذا المجال ، وخلّفوا تراثاً علمياً يمثل هدىً ونوراً للاجيال. فمن حيث الكفاءة العلمية فهم أهل بيت العصمة ، ومعادن العلم والحكمة ، ومن حيث التعامل الأخلاقي فهم في القمّة ، بدليل أنّ الطلاّب يقصدونهم من كلِّ حدب وصوب ، ويسكنون لهم كما يسكن الطير إلى عشّه. وكان الإمام الصادق عليه‌السلام يشكّل الاُنموذج للمعلم

__________________

(١) بحار الانوار ٢ : ٤٢.

٣١

الناجح الذي يقدّر العلم حقّ قدره ، وقد جمع إلى علميته الفذّة أخلاقية عالية. قال الحسن بن زياد : سمعتُ أبا حنيفة وقد سُئل عن أفقه من رأيت ، قال : جعفر بن محمد. وقال ابن ابي ليلى : ما كنتُ تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد إلاّ رجلاً واحداً هو جعفر بن محمد (١). وقال فيه مالك بن أنس ـ أحد أئمة المذاهب الاربعة ـ : كنت أرى جعفر بن محمد. وكان كثير الدعابة والتبسم. فإذا ذكر عنده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اخضرَّ واصفرَّ .. (٢) ، وقال مالك أيضاً : ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً .. (٣). ثم أشاد بزهده وفضله. وعلى الرغم من كونه يمتاز بشخصية محببة كانت له هيبة وجلالة في قلوب الناس.

روى أبو نعيم في الحلية بسنده عن عمرو بن المقدام ، قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنّه من سلالة النبيين (٤).

ثانياً : حق الأخ :

الإسلام دين التآخي والتآلف ، يُقدم المثل الصالح في نسج علاقات تقوم على الاُخوّة الصادقة. ويعتبر المقياس الصحيح للاُخوّة هو ذاك المستند إلى الحقوق المتقابلة. فكل إخلال بها سوف ينعكس سلبا على رابطة الإخاء ويحقق علاقة غير سليمة بين الطرفين ، بل مشحونة بروح العداء وتؤدي إلى القطيعة والجفاء. وضرب لنا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المثل

__________________

(١) في رحاب أئمة أهل البيت ٢ : ٤٣.

(٢) الإمام جعفر الصادق ، المستشار عبدالحليم الجندي : ١٥٩ ، طبع القاهرة ١٩٧٧ م ـ ١٣٩٧ ه‍.

(٣) في رحاب أئمة أهل البيت ٢ : ٣١.

(٤) في رحاب أئمة أهل البيت ٢ : ٣١.

٣٢

الاعلى في مراعاة حقّ الإخوان ، كان إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده (١). ولأخيه الإمام علي عليه‌السلام توصية ذهبية في هذا المجال ، يقول فيها عليه‌السلام : « لا تُضيّعنّ حقّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينَهُ ، فإنَّهُ ليسَ لك بأخٍ مَنْ أضعت حقَّهُ » (٢). وللاَخ أيضاً حق الإكرام ، فمن أكرمه حصل على رضا الله تعالى ، وينبغي قضاء حاجته وعدم تكليفه الطلب عند معرفتها ، ويتوجب المسارعة إلى قضائها. فقضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتقين.

وبلغ السمو السلوكي لأهل العصمة ، في تقدير حق الأخوّة ، درجة بحيث أن الإمام الباقر عليه‌السلام سأل يوماً أحد أصحابه ـ سعيد بن الحسن ـ قائلاً : « أيجيء أحدكم إلى أخيه ، فيدخل يده في كيسه ، فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟ » فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « فلا شيء إذاً » ، قلت : فالهلاك إذاً ، فقال : « إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد » (٣).

وقدم لنا أهل بيت العصمة مقاييس معنوية نحدد من خلالها مدى تعظيم الاشخاص لدين الله تعالى ، ومدى قربهم وبعدهم عنه ، ومن هذه المقاييس حق الاخوان ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « من عظّم دين الله عظّم حق إخوانه ، ومن استخفَّ بدينه استخفَّ بإخوانه » (٤) ، وعن الإمام العسكري عليه‌السلام : « وأعرف النّاس بحقوق إخوانه ، وأشدّهم قضاءً لها ،

__________________

(١) بحار الانوار ١٦ : ٢٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن ابي الحديد ١٦ : ١٠٥.

(٣) أُصول الكافي ٢ : ١٨١ / ١٣ باب حقّ المؤمن على أخيه واداء حقّه.

(٤) بحار الانوار ٧٤ : ٢٨٧.

٣٣

أعظمهم عند الله شأناً » (١).

ثالثاً : حق الجليس :

إنَّ للجلوس آداباً وأحكاماً ، وللجليس حقوقاً وعليه التزامات. ولما كان الإنسان يتأثر بجليسه سلباً أو ايجاباً ، ويكتسب من أخلاقه ، ويكون وسطاً ناقلاً لآراءه ، إهتم الإسلام بموضوع الجليس ، فقد روي عن الإمام علي عليه‌السلام انه كان يقول : « جليس الخير نعمة ، وجليس الشرّ نقمة » (٢).

وعلى العموم توصي مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بمجالسة العلماء ، ومزاحمتهم بالرّكب ، ومجالسة الحلماء لكي يزداد الإنسان حلماً ، ومجالسة الأبرار الذين إذا فعلت خيراً حمدوك ، وإنْ أخطأت لم يعنّفوك ، وكذلك مجالسة الحكماء ؛ لما فيها من حياة للعقول ، وشفاء للنّفوس. وأيضاً مجالسة الفقراء ؛ لكي يزداد الإنسان شكراً. كما نجد نهياً عن مجالسة الأغنياء الذين أطغاهم الغنى فأصبحوا أمواتاً وهم أحياء ، ونهياً عن مجالسة الجهلاء ، وأهل البدع والأهواء ، وضرورة الفرار منهم كما يُفر من المجذوم.

ومن الطبيعي أن للجليس الصالح حقوقاً ، يغلب عليها الطابع المعنوي ، وهي عبارة عن آداب العشرة الحسنة معه ، أدرجها الإمام السجاد عليه‌السلام في رسالة الحقوق وهي : « وحقّ جليسك أن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تقوم من مجلسك إلاّ بإذنه ، ومن تجلس إليه يجوز له القيام عنك بغير اذنك ، وتنس زلاّته ، وتحفظ خيراته ،

__________________

(١) بحار الانوار ٧٥ : ١١٧.

(٢) ميزان الحكمة ٢ : ٦٠.

٣٤

ولاتسمعه إلاّ خيراً » (١).

رابعاً : حق الناصح والمستنصح :

ما من إنسان إلاّ ويأتي عليه زمان يلتمس فيه النصح والإرشاد للخروج من مشكلةٍ وقع فيها ، أو لمشروع يعتزم القيام به ، وعندما يقدّم إليه أحدٌ نصيحة مخلصة ، يُفتح له باب المخرج أو تُكسر له حلقة الضيق ، فيمتلىء قلبه غبطةً وابتهاجاً.

والإسلام دين التناصح والتشاور ، يعتبر الدّين النصيحة ، ويشجع على بذلها. والبعض من الاَفراد يتحاشى النصيحة ، خوفاً من إغضاب إخوانه ، وخاصة أولئك الذين يسدّون آذانهم عن الآراء والنصائح التي لا تتفق ـ عاجلاً ـ مع مصالحهم وأهوائهم. هذا الموقف ترفضه تعاليم أهل البيت عليهم‌السلام ، يقول الإمام علي عليه‌السلام في كلماته الوعظية للحسن عليه‌السلام : « أمحَضْ أخاك النَّصيحة ، حسنةً كانت أو قبيحة » (٢) ، ويقول عليه‌السلام : « ما أخلصَ المودّةَ مَنْ لم ينصح » (٣). والإسلام يرى أن أفضل الاعمال ـ التي توجب القرب من الحضرة الإلهية ـ : النصح لله في خلقه.

وقد أشار الإمام زين العابدين عليه‌السلام لهذين الحقّين المتقابلين بقوله :

« حقّ المستنصح : أن تؤدّي إليه النّصيحة ، وليكن مذهبك الرّحمة له ، والرّفق به.

__________________

(١) شرح رسالة الحقوق ، السيد حسن القبانچي ٢ : ١٥١.

(٢) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : ٤٠٣.

(٣) ميزان الحكمة ١٠ : ٥٥.

٣٥

وحقُّ النّاصح : أن تلين له جناحك وتُصغي إليه بسمعك ، فإن أتى بالصّواب حمدتَ الله عزّ وجلّ ، وإن لم يوافق رحمته ، ولم تتّهمه ، وعلمت أنَّه أخطأ ، ولم تؤاخذه بذلك إلاّ أن يكون مستحقاً للتّهمة ، فلا تعبأ بشيء من أمره على حال » (١).

__________________

(١) بحار الانوار ٧٤ : ٨ ـ ٩.

٣٦

المبحث الرابع

حقوق الجِوار

رابطة الجوار لها دورها العظيم في بناء الحياة الاجتماعية بناءً سليماً ؛ لأنّها تعد بالمرتبة الثانية في النسيج الاجتماعي بعد رابطة الأسرة ، ولهذا نجد في التشريع الإسلامي عناية خاصة بهذه الرابطة ، كما سيتضح في الفقرات التالية.

أولاً : الجوار في القرآن الكريم :

لم يرد ذكر الجار في القرآن الكريم إلاّ مرتين في آية واحدة ، وهي من قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجّار ذي القُربى والجّار الجُنُب والصّاحب بالجَنْب .. ) ( النساء ٤ : ٣٦ ).

إنّ تدبّر الآية الكريمة يوقفنا على حقيقة في غاية الأهمية ، وهي : إنّ الله تعالى قرن حقّ الجّار مع حقّ عبادته ومع حق الوالدين وذي القربى والمساكين ، وفي ذلك دلالة صريحة على أهمية حق الجِوار في الإسلام ، لانتظامه مع التوحيد في سلك واحد ، مما يبوؤه المكانة التي يستحقها من البحث والدراسة.

٣٧

يقول الشيخ أبو علي الطبرسي في معرض تفسيره لهذه الآية : ( لما أمر سبحانه بمكارم الاخلاق في أمر اليتامى والازواج والعيال ، عطف على ذلك بهذه الخلال المشتملة على معاني الاُمور ومحاسن الاَفعال ، فبدأ بالأمر بعبادته ، فقال : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) أي وحّدوه ، وعظّموه ، ولا تشركوا في عبادته غيره ، فإنّ العبادة لا تجوز لغيره ؛ لانها لا تستحق إلاّ بفعلِ اُصولِ النِعَم ، ولا يقدر عليها سواه تعالى ، ( وبالوالدين احساناً ) ، أي فاستوصوا بهما برّاً وإنعاماً وإحساناً وإكراماً ، وقيل : أنّ فيه اضمار فعل ، أي وأوصاكم الله بالوالدين إحساناً ، ( وبذي القربى واليتامى والمساكين ) ، معناه : احسنوا بالوالدين خاصة ، وبالقرابات عامة ، يقال : أحسنتُ اليه وأحسنتُ به ، واحسنوا إلى المساكين فلا تضيعوهم ، واعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لابدّ منه لهم ، ( والجار ذي القربى والجار الجنب ) ، قيل معناه : الجار القريب في النسب، والجار الاَجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة ـ إلى أن يقول ـ : وهذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الإسلام ، والتنبيه على مكارم الاخلاق. ومن تدبّرها حق التدبّر ، وتذكّر بها حق التذكّر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ، وهَدَتْه إلى جمّ غفير من علوم العلماء ) (١).

والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال إصراره على حق الجوار ، تمكن من قلب قيم وعادات المجتمع الجاهلي رأساً على عقب. صحيح أنّ المجتمع الجاهلي كان يحترم الجوَار ويرعى ـ في الأعمّ ـ حرمته وعرضه وفي ذلك قال الشاعر ربيعة بن عامر ( مسكين الدارمي ) ( ت / ٨٩ ه‍ ) :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير القرآن ٢ : ٩٨. منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت.

٣٨

ما ضرّ جاري أن أُجاورَهُ

أنْ لا يكون لِبابِهِ سترُ

أعمى إذا ما جَارتي خَرَجَتْ

حَتى يُواري جَارَتي الخِدْرُ

ناري ونَارُ الجَّارِ واحِدةٌ

وإليه قَبْلي ينزلُ القِدرُ


لكن الصحيح أيضاً ، أنّ كثيراً ما يُضرب بحقوق الجار عرض الحائط ، فيُغار عليه ، وتُسلب أمواله ، وتُسبى حريمه في السنين العجاف ، أو يشن عليه حرباً لا يخف لها أوار من أجل الثأر ، أو بدافع من العصبية القبلية ، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصية. زد على ذلك كانت الإثرة والأنانية تضرب بأطنابها في المجتمع الجاهلي الذي كان على شفير الهاوية ، فانقذه الإسلام منها وانتقل المجتمع ـ آنذاك ـ إلى مدار جديد بعد ان تكرّست فيه قيم وعادات جديدة.

لقد أعاد الوحي تشكيل الوعي الاجتماعي ، وخلق نفوساً نبيلة تؤثر المصلحة الاجتماعية على المصالح الفردية الآنية ، وخير شاهد على ذلك ما روته كتب السيرة من أنه : ( أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأس شاة فقال : إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منَّا ، فبعث به إليهم ، فلم يزل يبعث واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى الاوّل ) (١).

ثانياً : حق الجار في رسالة الحقوق :

رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه‌السلام هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الإنسان. وهذا الأثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ،

__________________

(١) الدّر المنثور ، السيوطي ٦ : ٩٥.

٣٩

تتناقله الأجيال من جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق الإنسان في الكرامة والرّفعة ، والاعتراف بحقوقه المقدسة.

وفيما يتصل بحق الجِوار ، فقد جاء فيها : « وحقّ جارك فحفظه غائباً، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا تسلمه عند شدائده ، وتقيل عثرته ، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا تدّخر حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل فيه كيد حامل النميمة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله » (١).

هذه الفقرة من رسالة الحقوق المنسوجة بلغة قوية الإيحاء ، نجد فيها نظرة أعمق وأرحب لحقوق الجّار ، فهي ترسم علاقة تكاملية بين المتجاورين ، وتعقد بينهم أواصر أُخوّة حقيقية. فنلاحظ أنّ للجّار حق الحفظ في غيبته ، وحق الإكرام في إقامته ، وحق النصرة عند مظلوميته ، وفوق ذلك له حقوق إضافية منها : حق الستر ، والنصيحة ، والمغفرة ، والمعاشرة الحسنة.

وقد تناول شارح رسالة الحقوق هذه الفقرة مبيناً أنّ الإسلام قد اعتنى بحق الجار وجعله عظيماً ، يكاد يكون ـ حسب تعبيره ـ من أعظم الحقوق الإنسانية ، واستدل على ذلك بوصايا جبريل عليه‌السلام المتكررة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الجار ، وبالآية المتقدمة من سورة النساء ، ثم استأنف قائلاً : ( وعلى هذا فالوصاية بالجار مأمور بها مندوب إليها مسلماً كان أو كافراً.

__________________

(١) شرح رسالة الحقوق ، القبانچي ٢ : ١٦٩.

٤٠