موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-500-7
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٠

الضلالة ، وصرخ بهم ناعق البدعة ، وفيهم خَور الباطل وضحضحة المكاثر ، فلو قد مستها سيوف أهل الحق لتهافتت تهافت الفراش في النار ، ألا فسووا بين الركب وعضّوا على النواجذ واضربوا القوانص [ ب : القوابض ] بالصوارم ، وأشرعوا الرماح في الجوانح ، وشدوا فإنّي شادّ. ( حَم ، لاَ يُنصَرُونَ ).

فحملوا حملة ذي يد ( لبد ) فأزالوهم [ عن أماكنهم ( مصافهم ) ، ودفعوهم ب ، ر ] عن أماكنهم ، ورفعوهم عن مراكزهم [ ر : مراكبهم ] ، وارتفع الرهج وخمدت الأصوات ، فلا يسمع [ أ : تسمع ] إلاّ صلصلة الحديد وغمغمة الأبطال ، ولا يُرى إلاّ رأس نادر أو يد طائحة. وأنا كذلك إذ أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام من موضع يريد يتحال [ ب : يتحاك ] الغبار وينفض [ ب : ينفذ ] العلق عن ذراعيه ، سيفه يقطر الدماء وقد انحنى كقوس نازع! وهو يتلو هذه الآية : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ )(١).

قال : فما رأيت قتالاً أشد من ذلك اليوم.

يا بني إنّي أرى الموت لا يقلع ، ومن مضى لا يرجع ، ومن بقي فإليه ينزع ، إنّي أوصيك بوصية فاحفظها [ ر ، أ : فاحفظني ] واتق الله وليكن أولى الأمور بك الشكر لله في السر والعلانية ، فإنّ الشكر خير زاد ) (٢).

____________

١ ـ الحجرات / ٩.

٢ ـ تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي / ٤٣١ ـ ٤٣٢ ، بتحقيق محمد الكاظم.

٨١

( صورة أخرى )

برواية أبي جعفر محمد بن أبي القاسم محمد بن علي الطبري من علماء الإمامية في القرن السادس ، في كتابه ( بشارة المصطفى لشيعة المرتضى ) :

( أخبرنا الشيخ العفيف أبو البقاء إبراهيم بن الحسن البصري رحمة الله قراءة عليه في صفر سنة عشرة وخمسمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : حدثني الشيخ أبو طالب محمد ابن الحسين بن عتبة ، قال : حدثني أبو الحسين محمد بن أحمد بن محمد بن خالد المداري ، قال : حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله ابن المطلب الشيباني في شعبان سنة ست وثمانين وثلاثمائة ببغداد في نهر الدجاج في دار الصيداوي المنشد ، قال : حدثنا محمد بن محمد بن معقل العجلي القرميسني بشهرزور ، قال : حدثنا محمد بن أبي الصهبان الباهلي ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبان بن عثمان الأحمر ، عن أبان بن تغلب رحمة الله ، عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس ، عن عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه ، قال : عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، ما كشفت النساء ذيولهن عن

____________

أخرجه ابن عساكر في تاريخه ، والرضي في نهج البلاغة والمسعودي في مروج الذهب وغيرهم ، وقد أورده الطبري الإمامي في بشارة المصطفى / ١٧٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١١ / ٣٣٨ ط حيدر آباد ( الثانية ) جميعاً ذكروا فقط وصف ابن عباس للإمام عليه اسلام بصفين بدءاً من قوله عقمت النساء ، وفي رواية الطبري كثير تفاوت في الألفاظ ، لذلك ذكرت روايته.

٨٢

مثله ، لا والله ما رأيت فارساً محدثاً يوزن به ، لرأيته يوماً ونحن معه بصفين وعلى رأسه عمامة سوداء وكأنّ عينيه سراجاً سليط تتوقدان من تحتهما ، يقف على شرذمة شرذمة يخطبهم ، حتى انتهى إلى نفر أنا فيهم ، وطلعت خيل لمعاوية لعنه الله تدعى بالكتيبة الشهباء عشرة آلاف دارع على عشرة آلاف أشهب ، فاقشعر الناس لها لمّا رأوها وانحاز بعضهم إلى بعض.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( فيما النخع والخنع يا أهل العراق ، هل هي إلاّ أشخاص مائلة فيها قلوب طائرةٌ لو مستها سيوف أهل الحق لرأيتموها كجراد بقيعة سفته الريح في يوم عاصف ، ألا فاستشعروا الخشية ، وتجلببوا السكينة ، وأدّرعوا الصبر ، وغضّوا الأصوات ، وقلقلوا الأسياف في الأغماد قبل السلّة ، وأنظروا الخزر ، واطعنوا الشزر ، وكافحوا بالضبا ، وصلوا السيوف بالخطى ، والنبال بالرماح ، وعاودوا الكرّ ، واستحيوا من الفرّ فإنّه عار في الأعقاب ، ونار يوم الحساب ، فطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشية سجحا ، فإنّكم بعين الله عزوجل ومع أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليكم بهذا السرادق الأدلم ، والرواق المظلم ، واضربوا بثجه ، فإنّ الشيطان راقد في كسره ، نافش حضنيه ، مفترش ذراعيه ، قد قدّم للوثبة يداً وأخّر للنكوص رجلاً ، فصمداً صمداً ، حتى ينجلي لكم عمود الحق ، وأنتم الأعلون والله معكم ، ولن يتركم أعمالكم ، ها أنا شادّ فشدوا ، ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ ، حَم ، لاَ يُنصَرُونَ ).

ثم حمل عليهم أمير المؤمنين ( صلى الله عليه وعلى ذريته الصلاة

٨٣

والسلام ) حملة ، وتبعته خويلة لم تبلغ المائة فارس ، فأجالهم فيها جولان الرحى المسرحة بنفالها ، فارتفعت عجاجة منعتني النظر ثم انجلت ، فأثبت النظر فلم أرَ إلاّ رأساً نادراً ، ويداً طايحة ، فما كان بأسرع من أن ولوا مدبرين ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ )(١). فإذا أمير المؤمنين قد أقبل وسيفه ينطف ووجهه كشقة القمر ، وهو يقول : ( فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ )(٢).

قال عكرمة : وكان ابن عباس رضي‌الله‌عنه يحدّث فيقول : أمر رسول الله عليّاً عليه‌السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (٣).

____________

١ ـ المدثر / ٥٠ ـ ٥١.

٢ ـ التوبة / ١٢.

٣ ـ حديث أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، رواه أبو أيوب الأنصاري في خلافة عمر بن الخطاب كما في مستدرك الصحيحن ( ٣ / ١٣٩ ) قال : ( أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ).

وأخرج الحاكم أيضاً بسنده عن أبي أيوب قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي بن أبي طالب : ( تقاتل الناكثين والقاسطين بالطرفات والنهروانات وبالسعفات ) ، قال أبو أيوب قلت يا رسول الله مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال : ( مع علي بن أبي طالب ).

ولأبي أيوب حديث رواه الخطيب البغدادي في تاريخه ( ١٣ / ١٨٦ ) بأوسع مما مرّ حدّث به عند منصرفه من صفين ، كما حدّث به أيضاً في صنعاء كما في مجمع الزوائد ( ٩ / ٢٣٥ )؟ نقلاً عن الطبراني. وروى هذا الحديث أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله مضافاً إلى الإمام عليه‌السلام الذي كان يقول على المنبر : ( والله ما كَذبت ولا كُذبت ، ولا ظللت ولا ضُلّ بي ، بل عهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهده إليّ وقد خاب من أفترى ، عهد إليّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ) أخرجه البزار وأبو يعلى ، وعنهما في كنز العمال ( ٦ / ٨٢ط الهند الأولى ) ، فالحديث ثابت لا شك فيه.

٨٤

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( يا عليّ أنّك لمقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) (١).

____________

١ ـ بشارة المصطفى لشيعة المرتضى / ١٧٢ ـ ١٧٣ ط الحيدرية سنة ( ١٣٦٩ هـ ).

حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) فأستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر ، قال أبو بكر : أنا هو؟ قال : ( لا ، ولكن خاصف النعل ) ، يعني علياً عليه‌السلام ، وكان تخلف علي عليه‌السلام يخصفها ، وهذا أخرجه أحمد في مسنده ( ٣ / ٣٣ و ٨٢ عن أبي سعيد الخدري والنسائي في الخصائص برقم ( ١٥٦ ) ،

وإلى القارئ نص الحديث منه بتحقيق أحمد ميرين البلوشي ط مكتبة العلا ـ الكويت :

( ٥٥ ذكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( علي يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله ).

١٥٦ ـ أخبرني إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن قدامة ، واللفظ له ، عن جرير ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إلينا قد أنقطع شسع نعله ، فرمى بها إلى علي ، فقال : ( إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) فقال أبو بكر : أنا؟ قال : ( لا ) ، قال عمر : أنا؟ قال : لا. ولكن صاحب النعل ). قال محقق الكتاب : إسناده حسن ، رجاله ثقاتُ إلا رجاء بن ربيعة الزُبيدي ـ بضم الزاي ـ أبو إسماعيل الكوفي فهو صدوق كما قال ابن حجر ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن خلفون : وثقه العجلي وغيره. التهذيب ( ٣ / ٢٦٣ ) التقريب ( ١٠٢ ).

وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( ١٢ / ٦٤ ) وعنه ابن عدي ( ٧ / ٢٦٦٦ ) حدثنا يحيى بن عبد الملك بن حميد عن أبيه.

وأخرجه أحمد في المسند ( ٣ / ٣١ ، ٣٣ ، ٨٢ ) ، والقطيعي في زوائد الفضائل ( ١٠٧١ ) ، وأبو نعيم في الحلية ( ١ / ٦٧ ) ، وابن المؤيد الجويني في فرائد السمطين ( ١ / ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ٢٨٠ ) ، وابن عساكر ( ١٢ / ١٨٠أ ) من طريق فطر بن خليفة.

وأخرجه القطيعي ( ١٠٨٣ ) ، وابن حبان ( ٥٤٤ ـ الموارد ) ، والحاكم ( ٣ / ١٢٢ ) ، والخوارزمي في المناقب ( ١٨٣ ) ، وابن الجوزي في العلل ( ١ / ٢٣٩ ) ، وابن عساكر ( ١٢ / ١٧٩ / أ ) ، والبغوي في شرح السنة ( ١٠ / ٣٣ ) ، والذهبي في معجم شيوخه ( ٣٩ق ) ، من طريق الأعمش ، ثلاثتهم ( عبد الملك ، وفطر والأعمش ) عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه به.

٨٥

وكان ابن عباس يقول : ليس الحرورية بأشدّ إجتهاداً من اليهود والنصارى وهم يضلون ) (١).

____________

وصحح الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

قلت : رجاء بن ربيعة لم يخرج له البخاري.

ووهم ابن الجوزي رحمه الله تعالى فأدخل هذا الحديث العلل المتناهية ظناً منه إن إسماعيل ابن رجاء الزبيدي راوي الحديث هو الحصني الذي ضعفه الدارقطني وابن حبان ، وهذا خطأ فإن إسماعيل بن رجاء الزبيدي شخصٌ متأخر طبقة عن الزبيدي ، وقد تعقبه الذهبي في تلخيص العلل المتناهية ( ١٨ق ) وقال : ( تكلم فيه ابن الجوزي من قبل إسماعيل فأخطأ ، هذا ثقة ، وإنما المضعف رجل صغير روى عن موسى ابن الحصين ، فهذا حديث جيد السند ).

وللحديث طريق آخر عند ابن عساكر ( ١٢ / ١٨٠ / ب ) عن علي بن يزيد الصدائي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد بنحوه ، وإسناده ضعيف. علي بن يزيد هذا قال أبو حاتم عنه : منكر الحديث. وقال ابن عدي : لا تشبه أحاديثه أحاديث الثقات. الميزان ( ٣ / ١٦٢ ) وعطية صدوق يخطئ كثيراً ويدلس.

وهذا الحديث علمّ من أعلام النبوة ، وفيه منقبة عظيمة لعلي رضي‌الله‌عنه وأرضاه حيث أخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال علي للخوارج قبل وقوعه ، كما ترجم ابن كثير في البداية والنهاية ( ٧ / ٣٠٥ ) بهذا وأورد الحديث.

١ ـ التنبيه والرد للمطي / ١٧٤.

٨٦

مواقف عقائدية مع بقية أصحاب المذاهب

لقد كانت في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري شدّة الصراع بين أصحاب المذاهب الضالّة ، فهي فيما بينها يكفّر بعضهم بعضاً ، فثمة المجبّرة في الشام تدعمهم السلطة الأموية ، وثمة القدرية في الحجاز والعراق ، وقد أساؤا التفكير وأعلنوا التنكير والتكفير في مسألة القضاء والقدر ، وكانت المرجئة ، وكانت فرق الخوارج في مقالاتها الجائرة الكافرة ، فهي جميعاً متنافرة ، وأحياناً متناحرة ، ولم يكن غير رجال أهل البيت عليهم‌السلام بالمرصاد لكلّ أولئك في ردّ عاديتهم عن عقائد الإسلام الصحيح ، وكان يومئذ أبرزهم مواقف هو ابن عباس رضي‌الله‌عنه فهو أكبرهم سنّاً ، وليس شأناً لوجود إمام الحق عليّ ابن الحسين عليه‌السلام الذي كان هو يحبّه حُبّاً شديداً فيدخل عليه ، وفيه يقول لنافع بن الأزرق ولنجدة كما سيأتي : ( ذلك بقية النبيّين ، وسلالة الماضين ، له الولاية مع القرابة والطهارة يوم الكساء ) ، ويقول : ( عليّ بن الحسين من الربانيّين صلى الله عليه وعلى آبائه الطيبين وسلّم تسليماً ).

فلنقرأ بعض ما جاء عنه في ذلك :

في علم الكلام

لمّا كان الكلام في إثبات أصول العقيدة الإسلامية بالبرهان العقلي

٨٧

والحجة النقلية هما المنطلق لتكوين علم الكلام ـ في مراحله الأولى ـ وقد إجتاحت يومئذ الساحة الفكرية صراعات عقائدية أفرزتها قوة السلطة لتبرير السياسات الحاكمة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد مرّ بنا نماذج من تلك الإفرازات في حوارت ابن عباس مع عمر ، حين يرد على عمر بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد عليّاً للأمر من بعده ، فيرد عليه عمر : وماذا كان إذا أراد رسول الله شيئاً وأراد الله غيره ، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسول الله. فهذه المقولة التي في الأساس جبرية المنشأ ، كما هي للتفريق بين إرادة الله وتخلف إرادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، مضافاً إلى إختلافه معه في مسألة الخلافة بالنص أو بالإختيار؟ وقد مرّت شواهد ذلك فراجع ، وقد كان المعتزلة يرون فيه ناصراً لهم على المجّبرة.

قال الأستاذ علي سامي النشار :

( وينتقل المعتزلة إلى التكلم عن شخصية ابن عباس ، وكان لابد أيضاً أن يضعوه في سلسلة السند ، فهو مفسر القرآن الأوّل وحبر الأمّة ، وقد رأى المجبّرة بالشام يعلنون الجبر ، ويجدون التأييد والتعضيد من بني أمية ، ولكن ابن عباس لا يسكت كما سكت غيره ، فيرسل إلى هؤلاء القرآء أما بعد ... ) فذكر الكتاب الذي سيأتي ذكره في جملة كتبه.

والآن فلنقرأ ماذا عنه مع المجبّرة وهم أعوان السلطة ، والسلطة معهم.

٨٨

موقفه مع المجبّرة

كان لابن عباس ، موقف صارم وقويّ في دحض مقالة المجبرّة بعد أن اتسعت عقيدتهم بالإنتشار في عهد معاوية ومَن بعده من حكام الأمويين.

قال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه ( المذاهب الإسلامية ) : ( ولقد أدرك ابن عباس أنّ مصدر هذا الإنحراف الفكري هو السلطة وأنصارها ، فخاطبهم خطاباً عنيفاً قال فيه : أتأمرون الناس بالتقوى ، وبكم ضلّ المتقون؟ وتنهون الناس عن المعاصي ، وبكم ظهر العاصون؟ يا أبناء سلف المنافقين وأعوان الظالمين ، وخزّان مساجد الفاسقين ، هل منكم إلاّ مفتر على الله يجعل إجرامه عليه سبحانه ، وينسبه علانية إليه ) (١).

ونَقل عن ( المنية والأمل ) لابن المرتضَى : ( إنه قيل لابن عباس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قبل الله تعالى ، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي.

فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضت على حلقه فعصرته حتى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر الله على المعاصي ، ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد عاملون ) (٢).

____________

١ ـ المذاهب الإسلامية / ١٧٢.

٢ ـ المذاهب الإسلامية / ١٧٣.

٨٩

وسيأتي كتاب ابن عباس إلى مُجبّرة أهل الشام في جملة كتبه.

( لا عقاب إلاّ بعد الفعل إلاّ في مكة )

لقد مرّ بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى استنكار ابن عباس لتهديم الكعبة بأمر ابن الزبير وخروجه مغاضباً إلى الطائف.

فقالوا له : لم لا تقيم بمكة؟

فقال : لا أقدر على حفظ خاطري من إرادة ظلمي للناس ، أو ظلمي لنفسي ، فكيف لو وقعت في الفعل؟ فإنّ الله تعالى لم يتوعد أحداً على مجرَد إرادته السوء دون الفعل له إلاّ بمكة ، ويشير إلى قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )(١) ، فإرادة الإلحاد بظلم في مكة تستوجب العذاب الأليم (٢).

____________

١ ـ الحج / ٢٥.

٢ ـ أنظر موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى ٥ / ٢٥٨ فما بعدها.

٩٠

موقفه من القدرية

والقدرية هم الذين نفو القَدرَ لا الذين أثبتوه ، فأولئك يلتقون مع الجبرية في سوء المقالة ، أمّا نفاة القدر فهم كالمفوّضة ، لذا كانوا هم أولى بهذا اللقب ، ومهما يكن فقد سمّوا في الحديث ( مجوس هذه الأمّة ) ، وهؤلاء كانوا الفريق المقابل والمناوئ للجبرية ، وقد أخطأوا حين قالوا بالإرادة ومحض الإختيار ، تفويضاً إلى الإنسان من دون أي أثر للمشيئة الإلهية وإذنه ، فإفراطهم في نفي المشيئة من الله إنّما كان مقابل تفريط الجبرية في تعطيل الإرادة الإنسانية في أقواله وأفعاله ، وأنّه مجبور على ما يصدر منه ، وهكذا تجاذبت الفرقتان بين الإفراط والتفريط ، ولم يسلم من هذا التجاذب إلاّ الوسط المعتدل من المسلمين ، وفي مقدمتهم أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم القائلون : ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ).

والى القارئ حديث الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام مع الشيخ الكوفي الذي سأله عن القضاء والقدر ، وهذا ممّا رواه ابن عباس كما في ( عيون أخبار الرضا ) في هذا ، ثم حديث الإمام الرضا عليه‌السلام أيضاً ، ومن ثَمَّ نعرف سبب شدّة ابن عباس ضد القدرية.

فقد روى الشيخ الكليني في كتاب ( الكافي ) ، فقال :

( علي بن محمد ، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد وغيرهما

٩١

رفعوه ، قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام جالساً بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه (١) ، ثم قال له : يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( أجل يا شيخ ، ما علوتم تلعة (٢) ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر ).

فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي (٣) يا أمير المؤمنين.

فقال له : ( مَه يا شيخ! فو الله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين ).

فقال له الشيخ : وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟

فقال له : ( وتظن أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدةٌُ للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ،

____________

١ ـ جثا يجثوا جثواً وجثياً : جلس على ركبتيه وأقام على أطرافه أصابعه.

٢ ـ التلعة : ما أرتفع من الأرض.

٣ ـ أي منه أطلب أجر مشقتي.

٩٢

وقدرية هذه الأمّة ومجوسها ، إنّ الله تبارك وتعالى كلف تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مُكرهاً ، ولم يملك مفوضاً ، ولم يخلق السماوت والأرض وما بينهما باطلاً ، ولم يبعث النبيّين مُبشرين ومُنذرين عبثاً ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ )(١).

فأنشأ الشيخ يقول :

أَنْتَ الإمَامُ الَّذي نَرجُو بِطاعتِهِ

يَوْمَ النَّجاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرانَّا

أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنْا مَا كَانَ مُلْتَبِساً

جَزَاكَ رَبُّكَ بِاْلأِحْسَاْنِ إِحْسَاْنَاً ) (٢)

وقد روى الصدوق في ( عيون أخبار الرضا ) هذا الخبر بعدّة أسانيد ينتهي رابعها إلى ابن عباس ، وفي آخر الشعر ذكر الشعر في ستة أبيات كما يلي :

أَنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

فليس معذرة في كلّ فاحشة

قد كنت راكبها فسقا وعصيانا

لا لا ولا قائلا ناهيه أوقعه

فيها عبدت اذاً ياقوم شيطانا

ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا

قتل الولي له ظلما وعدوانا

أنى يحب وقد صحت عزيمته

ذو العرش أعلن ذاك الله اعلانا

____________

١ ـ ص / ٢٧.

٢ ـ أصول الكافي كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ١ / ١١٩ ـ ١٢٠.

٩٣

ثم قال الصدوق : ولم يذكر محمد بن عمر الحافظ في آخر هذا الحديث من الشعر إلاّ بيتين من أوّله ) (١).

( علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : يا يونس! لا تقل بقول القدرية فإنّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس ، فإنّ أهل الجنة قالوا : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )(٢). وقال أهل النار : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ )(٣). وقال إِبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي )(٤).

فقُلتُ : والله ما أقول بقولهم ، ولكنّي أقول : لا يكون إلاّ بما شاء الله وأراد وقدر وقضى.

فقال : يا يونس! ليس هكذا ، لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى؛ يا يونس؟ تعلم ما المشيئة؟

قُلت : لا.

قال : هي الذكر الأوّل ، فتعلم ما الإرادة؟

قلت : لا.

قال : هي العزيمة على ما يشاء ، فتعلم ما القدر؟

____________

١ ـ عيون أخبار الرضا ٢ / ١٢٨.

٢ ـ الأعراف / ٤٣.

٣ ـ المؤمنون / ١٠٦.

٤ ـ الحجر / ٣٩.

٩٤

قلت : لا.

قال : هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء.

قال : ثم قال : والقضاء هو الإبرام وإقامة العين.

قال : فاستأذنته أن أقبل رأسه ، وقلت : فتحت لي شيئاً كنتُ عنه في غفلة ) (١).

أمّا ابن عباس فله في القدرية عدّة أقوال ، منها :

ما رواه عبد الرزاق في ( المصنف ) عن طاووس :

( إنّ رجلاً قال لابن عباس : إنّ ناساً يقولون إنّ الشرّ ليس بقدر.

فقال ابن عباس : فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ _ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ )(٢) ) (٣).

ومنها ما رواه ابن عبد البر في ( التمهيد ) ، عن عطاء بن أبي رباح ، يقول :

( كنت عند ابن عباس فأتاه رجل ، فقال : أرأيت من حرمني الهُدى وأورث الضلالة والردى ، أتراه أحسن إليّ أو ظلمني؟

فقال ابن عباس : إن كان الهدى شيئاً كان لك عنده فمنعه فقد ظلمك ،

____________

١ ـ الكافي ١ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٢ ـ الأنعام / ١٤٨ ـ ١٤٩.

٣ ـ المصنف ١١ / ١١٤.

٩٥

وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء فما ظلمك شيئاً فلا تجالسني بعده ) (١).

ومنها ما رواه ابن عساكر عن وهب بن منبه ، قال :

( بلغ ابن عباس عن مجلس كان في ناحية باب بني سهم يجلس فيه ناس من قريش ، فيختصمون ، فترتفع أصواتهم.

فقال لي ابن عباس : أنطلق بنا إليهم.

فأنطلقنا حتى وقفنا عليهم. فقال ابن عباس : أخبرهم عن كلام الفتى الذي كلّم به أيوب وهو في حاله.

قال وهب : فقلت : قال الفتى : يا أيوب أما كان في عظمة الله وذكر الموت ما يكلّ لسانك ويقطع قلبك ويكسر حجتك؟ يا أيوب أما علمت أنّ لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير عيّ ولا بكم ، وأنّهم الفصحاء الطلقاء الألباء العالمون بالله وآياته ، ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله تقطّعت قلوبهم وكلّت ألسنتهم وطاشت عقولهم وأحلامهم فرقاً من الله وهيبة له ، فإذا استفاقوا من ذلك استقبلوا إلى الله بالأعمال الزاكية ، لا يستكثرون لله الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، يعدّون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين وإنّهم لأنزاه أبرار أخيار ، ومع المضيّعين المفرطين ، وأنّهم لأكياس أقوياء ناحلون دائبون ، يراهم الجاهل فيقول مرضى وليسوا بمرضى ، وقد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم ) (٢).

____________

١ ـ التمهيد ٦ / ٦٤ ط المغرب.

٢ ـ تاريخ دمشق ١٠ / ٧٩ ط دار الفكر.

٩٦

أقول : وأنا في شك من صحة هذا الخبر! فقد رواه مرّة أخرى أيضاً عن وهب ، قال : ( كان ابن عباس جالساً في المسجد الحرام ومعه وهب بن منبه ، فنهض ابن عباس يتهادى على عطاء بن أبي رباح وعكرمة ، فلمّا دنا من باب المسجد إذ هو بقوم يتجادلون قد علت أصواتهم ، فوقف ابن عباس عليهم وقال لعكرمة : أدع لي وهب بن منبه ، فدعاه ، فقال له ابن عباس : حدّث هؤلاء حديث الفتى ، قال : نعم.

قال : لمّا أشتد الجدال بين أيوب وأصحابه ، قال فتى كان معهم لأصحاب أيوب في الجدال قولاً شديداً ، ثم أقبل على أيوب ... ) (١).

وهذا الخبر رواه البسوي في ( المعروفة والتاريخ ) بسنده عن وهب بن منبه ، وهو أصح ممّا سبق :

( قال وهب : إنّ ابن عباس طاف بالبيت حين أصبح أسبوعاً ، قال وهب : وأنا وطاووس معه وعكرمة مولاه ، وكان قد رقّ بصره ، فكان يتوكأ على العصا ، فلمّا فرغ من طوافه انصرف إلى الحطيم ، فصلى ركعتين ، ثم نهض فنهضنا معه ، فدفع عصاء إلى عكرمة مولاه ، وتوكأ عليَّ وعلى طاووس ، ثم انطلق بنا إلى غربي الكعبة بين باب بني سهم وباب بني جمح ، فوقفنا على قوم بلغ ابن عباس أنّهم يخوضون في حديث القدر وغيره ممّا يختلف الناس فيه ، فلمّا وقف عليهم سلّم عليهم فأجابوه ، فرحبّوا به وأوسعوا له ، فكره أن يجلس إليهم.

____________

١ ـ انساب البلاذري / برقم٩٧ ، نسخة مخطوطة بقلمي ، تاريخ دمشق ١٠ / ٧٩ ط دار الفكر.

٩٧

ثم قال : يا معشر المتكلمين فيما لا يعنيهم ، ولا يُردّ عليهم ، ألم تعلموا أنّ لله عزوجل عباداً قد أسكتتهم خشيته من غير عيّ ولا بكم ، وإنّهم لهم الفصحاء النطقاء والنبلاء الأولياء والعالمون بالله عزوجل وبآياته ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم وكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاماً لله عزوجل وإعزازاً وإجلالاً ، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عزوجل بالأعمال الزكيّة ، يعدّون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين ، وإنّهم لأنزاه أبرار ، ومع المقصّرين والمفرّطين ، وإنّهم لأكياس أقوياء ، ولكنهم لا يرضون لله عزوجل بالقليل ، ولا يستكثرون له الكثير ، ولا يُدلّون عليه بالأعمال ، متى ما لقيتهم فهم مهتمون مخوَّفون مروَّعون خائفون مشفقون وجلون ، فأين أنتم منهم يا معشر المبتدعين. إعلموا أنّ أعلم الناس بالقدر أسكتهم عنه ، وأنّ أجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه.

قال وهب : ثم انصرف عنهم وتركهم ، فبلغ ابن عباس أنّهم تفرّقوا عن مجلسهم ذلك ، ثم لم يعودوا إليه حتى هلك ابن عباس ) (١).

عن طاووس ، قال :

( كنت عند ابن عباس رضي‌الله‌عنه ومعنا رجل من القدرية ، فقلت : إنّ أناساً يقولون لا قدر.

قال : أوفي القوم أحد منهم؟

قلت : لو كان ما كنت تصنع به؟

____________

١ ـ المعرفة والتأريخ ١ / ٥٢٤ ـ ٥٢٥.

٩٨

قال : لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ، ثم قرأت عليه آية كذا وكذا : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً )(١) ) (٢).

وجاء في كتاب ( المجروحين ) لابن حبان ، عن أنس بن مالك :

( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي ، المرجئة والقدرية ).

قال : فقال ابن عباس : يا رسول الله فمن المرجئ؟

قال : ( قوم يكونون في آخر الزمان إذا سئل أحدهم عن الإيمان ، يقولون نحن مؤمنون إن شاء الله ).

قال : فما القدرية؟

قال : ( قوم يقولون لا قدر ) (٣).

وقال ابن عباس : في قوله تعالى : ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ )(٤) : ( يحفظونه ممّا لم يقدر نزوله ، فإذا جاء المقدر بطل الحفظ ) (٥).

وفي ( جامع بيان العلم ) :

( قال ابن عباس : لا يزال أمر هذه الأمة موائماً ( مقارباً ) حتى يتكلموا

____________

١ ـ الإٍسراء / ٤.

٢ ـ مستدرك الحاكم ٢ / ٣٦٠.

٣ ـ المجروحين ١ / ٣٣٧ ، بحار الأنوار ٦٧ / ١٥٥.

٤ ـ الرعد / ١١.

٥ ـ جامع بيان العلم لابن عبد البر ٢ / ٩٤.

٩٩

في الولدان والقدر ) (١).

إلى غير ذلك من أقواله في القدر والتنديد بالقدرية.

وروى أبو نصر السجزي في كتاب ( الإبانة ) ونقله عنه السيوطي في ( اللئالي المصنوعة ) بسنده إلى عبيد الله بن أبي زياد قال :

( رآني ابن عباس وأنا أكلمّ رجلاً من القدرية.

فقال : من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.

قلت : يا أبا العباس كيف يوقّر؟

قال : تكنيّه وتبدؤه بالسلام ) (٢).

وقد جاء في ( شرح أصول الإعتقاد ) للألكائي بسنده عن عكرمة ، قال :

( كنت حاضراً عند عبد الله بن عباس فجاءه رجل ، فقال : يا أبا عباس أخبرني من القدرية ، فإنّ الناس قد اختلفوا عندنا بالمشرق؟

فقال ابن عباس : القدرية قوم يكونون في آخر الزمان ، دينهم الكلام ، يقولون : إنّ الله لم يقدّر المعاصي على خلقه وهو معذّبهم على ما قدّر عليهم ، فأولئك هم القدرية ، فأولئك هم مجوس هذه الأمّة ، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين ، فلا تقاولوهم فيفتنونكم ، ولا تجالسوهم ، ولا تعودوا مرضاهم ، ولا تشهدوا جنائزهم ، أولئك أتباع

____________

١ ـ جامع بيان العلم ٢ / ٩٣ ، لقد ذكر الحاكم النيسابوري في المستدرك هذا الحديث مرفوعاً عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢ ـ اللئالي المصنوعة ١ / ١٣١.

١٠٠