موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-500-7
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٠

وقد روى الأثبات بعض الشواهد على ذلك ، فقد ذكر الحافظ ابن شهر آشوب مسائل رسول ملك الروم لأبي بكر وجواب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه (١).

وروى سبط ابن الجوزي في ( التذكرة ) نقلاً عن أحمد في ( الفضائل ) مسائل ملك الروم من عمر وعجزه عن الجواب ، فأجاب الإمام عليه‌السلام أيضاً عنه حتى قال ابن المسيب راوي الخبر : وسيقول عمر ، أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن ، كان هو جواب تلك المسائل.

وروى الحافظ ابن شهر آشوب نماذج أخرى عن معاوية في مسائل سأله عنها قيصر فعجز عن الجواب فاحتال في تحصيل الجواب من الإمام عليه‌السلام بوسائل ملتوية.

هذا في أيام حياة الإمام عليه‌السلام ، أمّا بعد وفاته فكان مفزعه في ذلك إلى ابن عباس.

فقد روى ابن قتيبة ( ت ٢٧٦ هـ ) في ( عيون الأخبار ) (٢) مسائل قيصر من معاوية فعجز عن جوابها فاستعان بابن عباس ، ورواها البسوي ( ت ٢٧٧ هـ ) في ( المعرفة والتاريخ ) (٣) ، وبين روايتيهما بعض التفاوت. ورواها ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد ) (٤).

____________

١ ـ أنظر المناقب ٢ / ١٨٠ ط الحيدرية.

٢ ـ عيون الأخبار ١ / ١٩٩ ط دار الكتب المصرية.

٣ ـ المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣٠ ط الأوقاف ببغداد.

٤ ـ التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد ٣ / ٢٥ ط دار إحياء التراث العربي بيروت سنة ( ١٤٢٠ هـ ) وفي كتابه بهجة المجالس ٢ / ١٥٤.

٣٤١

كما رواها المعلم بطرس البستاني ( ت ١٣٠١ هـ ـ١٨٨٣ م ) في ( دائرة المعارف ) (١) ، وفي روايته أيضاً بعض التفاوت ، فأنا أذكر الخبر مرتباً منها جميعاً :

قالوا : ( كتب قيصر ملك الروم إلى معاوية :

سلام عليك ، أمّا بعد ، فأنبأني بأحبّ كلمة إلى الله عزوجل؟ وثانية وثالثة ورابعة وخامسة؟ ومَن أكرم عباده عليه؟ ومَن أكرم إمائه عليه؟ وعن أربعة أشياء فيهم الروح لم يركضوا في رحم؟ وبقبر يسير بصاحبه؟ وبمكان لم تصبه الشمس إلاّ مرة؟ وبالمجرّة وما موضعها من السماء؟ وبقوس قزح وما بدء أمره؟

قال ابن قتيبة والبسوي : فلمّا قرأ كتابه قال : اللّهمّ ألعنه ما أدري ( ما يدريني ) ما هذا.

وفي لفظ البستاني : ( قال معاوية : أخزاه الله وما علمي بما هنا. فقيل له اكتب إلى ابن عباس ، فكتب إليه بذلك ).

فكتب إليه ابن عباس : إنّ أفضل الكلام لا إله إلاّ الله كلمة الإخلاص لا يقبل عمل إلاّ بها وهي المنجية ، فإذا قالها العبد يقول الله عزوجل : أخلص عبدي.

والثانية التي تليها : سبحان الله وبحمده ، صلاة الخلق ( الحقّ ) ، فإذا قال سبحان الله ، قال : عبدني عبدي.

والثالثة التي تليها : كلمة الشكر ، فإذا قال الحمد لله ، قال : شكرني عبدي.

والرابعة التي تليها : الله أكبر ، فواتح الصلوات والركوع والسجود ، فإذا قال الله أكبر ، قال : صدق عبدي أنا أكبر.

____________

١ ـ دائرة المعارف ١ / ٥٨٤.

٣٤٢

والخامسة التي تليها : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، وإذا قال لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، قال : ألقى إلي عبدي السلم.

وأمّا أكرم عباد الله ( أكرم الخلق على الله عزوجل ) ، فآدم عليه‌السلام الذي خلقه بيده وعلّمه الأسماء كلّها.

وأمّا أكرم إمائه عليه ، فهي مريم التي أحصنت فرجها فنفخ فيه الروح.

وأمّا الأربعة التي فيهن الروح ولم يركضن في رحم ، فآدم وحواء وعصا موسى حين ألقاها وكانت ثعباناً مبيناً ، ( وفي رواية ناقة صالح بدل العصا ) والكبش الذي ذبح عن إسماعيل ( وفي هامش البسوي في الأصل إسحاق ) ( وصوّبه بطرس أيضاً! ).

وأمّا القبر الذي سار بصاحبه ، فهو بطن الحوت الذي كان فيه يونس.

وأمّا المكان الذي لم تصبه الشمس إلاّ مرة واحدة ، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل.

وأمّا المجرّة ، فباب من أبواب السماء.

وأمّا قوس قزح : فأمان من الغرق بعد قوم نوح.

قال البسوي في روايته : ( فلمّا قرأ قيصر كتابه ، قال : أيم الله ما علمتَها وما كنت تعلمها إلاّ من رجل من أهل بيت نبيّ ).

معاوية يستنجده ثانياً فينجده

روى العاصمي ( من القرن الرابع ) في ( زين الفتى ) (١) ، والابشيهي

____________

١ ـ زين الفتى في تفسير سورة هل أتى ( مخطوط ).

٣٤٣

( ت ٨٥٠ هـ ) في ( المستطرف ) (١) ، والأمير حيدر الشهابي ( ت ١٢٥١ هـ ) في ( الغرر الحسان ) (٢) ، والخبر مرتباً منهم جميعاً ، قالوا :

( إنّ هرقل ملك الروم كتب إلى معاوية عن الشيء ولا شيء؟ وعن كلمة ( دين ) لا يقبل الله غيرها؟ وعن مفتاح الصلاة؟ وعن غرس الجنّة؟ وعن صلاة كلّ شيء؟ وعن أربعة فيهم الروح ولم يركضوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء؟ وعن رجل لا أب له؟ وعن رجل لا أم له؟ وعن امرأة ولدت من غير أم؟ وعن رجل لا قوم له؟ وعن قبر جرى بصاحبه؟ وعن قوس قزح ما هو؟ وعن بقعة طلعت عليها الشمس مرة واحدة ولم تطلع عليها قبلها ولا بعدها؟ وعن ظاعن ظعن مرة واحدة ولم يظعن قبلها ولا بعدها؟ وعن شجرة نبتت من غير ماء؟ وعن شيء تنفس ولا روح له؟ وعن اليوم وأمس وغد وبعد غد؟ وعن البرق والرعد وصوته؟ وعن المجرة؟ وعن المحو الذي في القمر؟

قيل لمعاوية : لست هناك ، ومتى أخطأت في شيء من ذلك سقطت من عينه ، فاكتب إلى ابن عباس وسله عن تفسيرهن يخبرك عن هذه المسائل.

فكتب إليه ، فأجابه :

أمّا الشيء ، الماء قال الله تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ )(٣).

وأمّا لا شيء ، فإنّها الدنيا تبيد وتفنى.

____________

١ ـ المستطرف ١ / ٤٦ ط دار إحياء التراث العربي ( أفست ).

٢ ـ الغرر الحسان ١ / ٥٣.

٣ ـ الأنبياء / ٣٠.

٣٤٤

وأمّا دين لا يقبل الله غيره ، فشهادة أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له.

وأمّا مفتاح الصلاة ، فهو الله أكبر.

وأمّا غرس الجنة ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.

وأمّا صلاة كلّ شيء ، فسبحان الله وبحمده.

وأمّا الأربعة الذين فيهم الروح ولم يركضوا في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فآدم وحواء وناقة صالح وكبش إسماعيل.

وأمّا الرجل الذي لا أب له ، فالمسيح ابن مريم.

وأمّا المرأة التي ولدت من غير أم ، فهي حواء.

وأمّا الرجل الذي لا قوم له ، فأبونا آدم عليه‌السلام.

وأمّا القبر الذي جرى بصاحبه ، فهو الحوت الذي ابتلع يونان وسار به في البحر.

وأمّا قوس قزح ، فأمان من الله لعباده من الغرق ، وليست بقوس قزح ، وانّما قزح شيطان.

وأمّا البقعة التي طلعت عليها الشمس مرّة واحدة ، فهي أرض البحر الذي انشق قدام بني إسرائيل ( حين انفلق لبني إسرائيل ).

وأمّا الظاعن الذي ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها ، فجبل طور سيناء ، كان بينه وبين الأرض المقدسة أربع ليال ، فلمّا عصت بنو إسرائيل أطاره الله تعالى بجناحين من نور فيه ألوان العذاب ، فنادى مناد : إن قبلتم التوراة كشفته عنكم وإلاّ القيته عليكم فأخذوا التوراة معذرين ، فرده الله تعالى إلى موضعه

٣٤٥

فذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ... )(١) الآية.

وأمّا الشجرة التي نبتت من غير ماء ، فشجرة اليقطين التي أنبتها الله تعالى على يونس عليه‌السلام.

وأمّا الشيء الذي تنفس بلا روح ، فالصبح قال الله تعالى : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ )(٢).

وأمّا اليوم ، فعمل ، وأمّا أمس ، فَمَثَل ، وأمّا غد ، فأجل ، وبعد غد ، فأمل.

وأمّا البرق ، فمخاريق بأيدي الملائكة تضرب بها السحاب.

وأمّا الرعد ، فاسم الملك الذي يسوق السحاب وصوته زجره.

وأمّا المجرة ، فأبواب السماء ومنها ما يفتح أبواب السماء.

وأمّا المحو الذي في القمر ، فقول الله تعالى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً )(٣) ، ولولا ذلك المحو لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ).

قال العاصمي : فبعث معاوية بهذا التفسير إلى هرقل ملك الروم.

وفي ذلك قال البراء بن عازب القرشي :

سأل الهرقل ابن هند عن عجائبه

عند التخلف فيه فروة الناس

____________

١ ـ الأعراف / ١٧١.

٢ ـ التكوير / ١٨.

٣ ـ الاسراء / ١٢.

٣٤٦

لمـّا أتته أضاقت من مخانقه

حتى استغاث جهاراً بابن عباس

لمّا جلا غيّها عنه ونوّرها

باهى الهرقل بما أعيي على الناس

س هـذا لعمرك أمر ليس ينفعه

علم ابن هند وما بالحق من با

وقال معاوية لابن عباس : ويح لك يا بن عباس إذا دفنت تحت التراب أيّ علم دفن معك ، وإنّ قريشاً لتغبط بك ، بل جميع العرب بل أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال في ذلك أيمن بن خريم الأسدي :

ما كان يعلم هذا العلم من أحد

بعد النبيّ سوى الحبر ابن عباس

مستنبط العلم غـضاً من معادنه

هذا اليقين وما بالحق من باس

دينوا بقول ابن عباس وحكمته

إنّ الفتى فيكُم من أعلم الناس

كالقطب قطب الرحى في كلّ معضلة

أو كاللجام فمنه فروة الراس

من ذا يفرّج فيكم كل معضلة

إذ صاررمساً رميماً بين أرماس

أقول : لقد روى أبو نعيم في ( الحلية ) بعض هذه المسائل ، كما لا يفوتني التنبيه على تداخل بعض الصورتين ، فنجد تكرار بعض المسائل ، وفيما عندي أنّ ذلك من خلط الرواة. وقد حدّد الأمير الشهابي تاريخ الواقعة بسنة ٤٣ هـ ولم أقف على ذلك عند غيره.

٣٤٧

كتاب قيصر ملك الروم إلى ابن عباس وجوابه

ذكر القليوبي في ( النوادر ) في المغالطة في السؤال وحسن الجواب ، فقال :

( كتب ملك الروم إلى ابن عباس رضي‌الله‌عنه : هل يليق من المضيّف أن يخرج الضيف من داره؟ يعني آدم وحواء في إخراجهما من الجنة.

فكتب إليه ابن عباس كتاباً ، قال فيه :

إنّه لم يخرجهما ، وأنه قال لهما ضعا لباسكما ثم أذهبا إلى قضاء الحاجة ، كالضيف إذا خلع ثيابه وذهب إلى المستراح ليقضي حاجته ثم يعود إلى المائدة ) (١).

____________

١ ـ نوادر القليوبي / ٤٢ط مصر.

٣٤٨

المبحث الرابع

بعض أجوبة المسائل

وفي معارف عامّة

٣٤٩
٣٥٠

لقد مرّت جملة وافرة من أجوبة المسائل في إحتجاجاته وفي جوابات كتبه وما بقي أكثر ممّا مرّ ، ولا يسعني الإتيان بالجميع ، لكن هذا لا يمنعني من إختيار بعض ما سئل عنه ، ممّا فيه دلالة على سعة علمه ، ومزيد فضله ، وفي بعض ذلك ما بلغ في إستحسانه أن ذكره الحكماء والعرفاء فضلاً عن الأدباء نحو قوله في جواب :

١ ـ من سأله : أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟

فقال له : أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان؟

٢ ـ ونحوه في جواب من سأله : أين تذهب الجسوم إذا بليت؟

فقال له : أين يذهب لحمها إذا مرضت؟

فهذه الإجابة استوقفت الحكيم المشهور صدر المتألهين الشيرازي المعروف بملا صدرا ( ت ١٠٥٠ هـ ) إعجاباً بها ، فقال في كتابه ( الحكمة المتعالية ) مفسراً لها : ( وأمّا قول ابن عباس حين سئل وقيل له : ( أين تذهب الأرواح عند مفارقة الأبدان؟ فقال : أين يذهب ضوء المصباح عند فناء الأدهان؟ ) ، فغرضه أنّ ذهاب الروح إلى المقام الذي جاء منه ، فمن علم

٣٥١

كيفية مجيء الروح من ذلك المقام العقلي من غير لزوم حركة وتجسم ، يمكنه أن يعلم ذهابه إلى ذلك العالم من غير زيادة مكان أو تغيّر أو تكثر هناك. وقيل له : ( أين تذهب الجسوم إذا بليت؟ قال : أين يذهب لحمها إذا مرضت؟ ) (١) ، انتهى.

أمّا الحكيم الآخر الملا هادي السبزواري صاحب ( المنظومة في الحكمة ) ( ت ١٢٨٩ هـ ) فقد علّق على ما مرّ بقوله : ( لمّا كان ابن عباس جليل القدر ، عظيم الشأن ، ومن أعاظم تلامذة مولى العارفين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكان ظاهر كلامه فناء الأراواح عند بوار الأشباح وتلاشي الروح البخاري ، ونفاذ الدم الذي في الجوف الأيمن من القلب الذي مثلوه بالزيت ، فكما لا يبقى لضوء المصباح عند فناء الأدهان ، كذلك لا بقاء للروح عند نفاد أدهان الروح البخاري والدم القلبي ، أشار قدس‌سره ـ يعنى الملا صدرا ـ إلى أنّ من الواضحات أن ليس مراده رضي‌الله‌عنه ـ ابن عباس ـ ذلك ، بل مراده إذا فرض مصباح أصل ثابت ومصابيح فروع ، وفرض إطفاؤها دون الأصل ، فأين تذهب تلك الفروع ، ومعلوم أنّها ترجع إلى المصباح الأصل ، فهكذا الأرواح التي هي تجليات روح القدس ولا سيّما الأرواح التي صارت بالفعل ترجع عند دثور الأبدان إلى روح القدس المسمّى بلسان المشّائين بالعقل الفعّال الذي هو مكمّل النفوس ، فالمراد بالمصباح في كلامه المصباح الأصل ، وبالضوء المصابيح المشتعلة منه ، ولو مثل بمصباح أصل محفوظ ، ومصابيح عكسية منه في مرآئي ـ أي مرايا ـ متعددة ، وفرض دثور المرائي ، بل تبدّلها بمرآئي

____________

١ ـ الحكمة المتعالية / ٢٧٦ ، الأسفار ط دار إحياء التراث العربي.

٣٥٢

أخر وعكوس أخرى ، وهكذا لكان أظهر ، وقول ابن عباس رضي‌الله‌عنه : ( أين يذهب لحمها إذا مرضت؟ ) ، أيضاً تمثيل حسن ، فإنّه أشار إلى أنّه كما في المرض يذهب اللحم وغيره من الأعضاء الغير الأصلية ، كذلك يبقى حقائق الأجساد وصورها في الآخرة في عين أضمحلال موادها في الدنيا ، كما سيجيء ( س / و ) (١).

٣ ـ ومن نمط ما تقدم ، ما أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن يزيد ابن الأصم : أنّ رجلاً من أهل الأديان قال لابن عباس : تقولون جنّة عرضها السموات والأرض ، فأين النار؟

فقال له ابن عباس : إذا جاء الليل فأين النهار ، وإذا جاء النهار فأين الليل (٢).

٤ ـ ونحو ما مرّ في أجوبته عن الغرائز عند الإنسان ، فقد سئل عن الغضب والحزن أيّهما أشد؟

فقال : مخرجهما واحد واللفظ مختلف ، فمن نازع مَن يقوى عليه أظهره غضبا ، ومن نازع من لا يقوى عليه كتمه حزناً (٣).

وقد روي الجواب بلفظ آخر من دون تغيير في المعنى ، فقد سئل عن الغضب والحزن أيّهما أشدّ؟

فقال : أصلهما واحد ، وذلك وقوع الشيء بخلاف المحبّة ، وفرعاهما مختلفان ، فمن أتاه المكروه ممن فوقه نتج عليه حزناً ، ومن أتاه ممن دونه نتج غضباً (٤).

____________

١ ـ عن هامش الحكمة المتعالية المصدر السابق.

٢ ـ تفسير الدر المنثور ٢ / ٧٢.

٣ ـ محاضرات الراغب ١ / ١٠٩.

٤ ـ ربيع الأبرار ٣ / ٣٩٥ ط بغداد ، ( وفي نسختي المرحوم السماوي ومكتبة الأوقاف ببغداد باب الغموم والمكاره والشدائد ... ) ، وقريب منه في محاضرات الراغب ٢ / ٢٢٦.

٣٥٣

٥ ـ وسئل أيضاً عن الشجاعة والجبن؟

فقال : الشجاع يقاتل عمّن لا يعرفه ، والجبان يفرّ عن عرسه (١).

٦ ـ وسئل عن الجود والبخل؟

فقال : الجواد يعطي من لا يلزمه حقه ، والبخيل يمنع نفسه (٢).

٧ ـ وسئل عن منى ، وقيل : عجباً لمنى وضيقه في غير الحج وما يسع من الحاج؟

فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : إنّ منى ليتسع بأهله كما يتسع الرحم بالولد (٣).

٨ ـ وسئل عن حروف الكتابة بالعربية ، ومعرفة قريش بها؟ سأله عبد الله ابن فروخ.

فقال : قلت : يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي ، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجمعون منه ما أجتمع ، وتفرقون منها ما تفرّق ، مثل الألف واللام والنون؟

قال : نعم.

قلت : وممن أخذتموه؟

قال من حرب بن أمية.

قلت : وممن أخذه حرب؟

قال : من عبد الله بن جدعان.

____________

١ ـ نثر الدر للآبي ١ / ٢٨٧.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ نفس المصدر ١ / ٢٩٣.

٣٥٤

قلت : وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟

قال : من أهل الأنبار.

قلت : وممن أخذه أهل الأنبار؟

قال : من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن؟

قلت : وممن أخذ ذلك الطارئ؟

قال من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهو الذي يقول :

في كلّ عام تحدثونها ورأي على غير الطريق يعبر

وللموت خير من حياة تسبنّا بهاجرهم فيمن يُسبّ وحمير (١)

٩ ـ وسأل رجل عن خصاء البهائم؟

فكرهه ، وقال : ( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ )(٢) (٣).

١٠ ـ وسأله آخر عن ( يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ )(٤)؟

فقال له : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟

قال : إنّما سألتك لتخبرني؟

قال : هما يومان ذكرهما الله في القرآن ، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم (٥).

____________

١ ـ تفسير الآلوسي ، ( روح المعاني ) في تفسير قوله تعالى : ( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) النمل / ٢٩.

٢ ـ الروم / ٣٠.

٣ ـ الدر المنثور ٢ / ٢٢٣.

٤ ـ السجدة / ٥.

٥ ـ أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وعنهم السيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٢٣ في تفسير الآية في سورة النساء.

٣٥٥

١١ ـ وسألة صعصعة بن معاوية ، فقال : إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة؟

فقال له : فتقولون ماذا؟

قال : نقول : ليس علينا بأس في ذلك.

قال : هذا كما قال أهل الكتاب : ( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )(١) ، إنّهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلاّ بطيب أنفسهم (٢).

١٢ ـ وسئل عن النيروز لم أتخذ عيداً؟

قال : لأنّه أوّل السنة المستأنفة ، وآخر النقطة ، فكانوا يستحبون أن يقدموا على ملوكهم بالطُرف والهدايا ، فأتخذته الأعاجم سنّة ، وكان الملك لا يأخذ من أهل الخراج هدية إلاّ السكّر ، وهو أوّل يوم من فروردين ماه (٣).

١٣ ـ وسئل ألمن قتل مؤمناً توبة؟

قال : لا توبة له ، إلاّ النار.

وكان قد سئل مرّة قبل ذلك عن توبة القاتل؟

فقال : له توبة.

فقيل له : ما هكذا كنت تفتينا! قد كنت تفتينا إنّ لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة ، فما بال هذا اليوم؟

قال : إنّي أحسبه ـ الرجل الأوّل ـ رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً ، فرأيت في عينيه أرادة القتل ، وأما الثاني فجاء مسكيناً قد قتل فلم أقنطه ،

____________

١ ـ آل عمران / ٧٥.

٢ ـ تفسير عبد الرزاق ١ / ٣٩٨ في تفسير الآية في سورة آل عمران / ٧٥

٣ ـ ربيع الأبرار باب الأول ( نسخة الرضوية ) ١ / ٨٥ ط أوقاف بغداد.

٣٥٦

فأرسل أصحابه في أثر الأوّل فوجدوه كذلك (١).

١٤ ـ وسأله أعرابي : أتخاف علي جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟

فقال : ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )(٢) ، ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ )(٣) (٤).

١٥ ـ وسأله رجل ، فقال : إنّي نذرت أن أبيت على قيقعان عرياناً حتى أصبح؟

فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : أنظروا إلى هذا أراد الشيطان أن يكشف عورته ثم يضحك منه هو وأصحابه ، انطلق فألبس ثيابك ثم صلّ حتى تصبح (٥).

____________

١ ـ أخرجه عبد بن حميد والنحاس عن سعد بن عبيدة وعنهما السيوطي في تفسيره الدر المنثور ٢ / ١٩٨ ، كما أخرجه عن الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر / ٤٧ ، ومنية المريد للشهيد / ١٨٠ ط حجرية.

وقد ورد بلفظ آخر أخرجه أحمد وسعيد بن منصور والنسائي وابن ماجة وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، والطبراني من طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس إن رجلاً أتاه فقال : أرأيت رجلاً قتل رجلاً متعمداً؟ قال : ( جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ) ، قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما نزل وحي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم أهتدى؟ قال : وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمداً يجيء يوم القيامة آخذاً قاتله بيمنيه أو بيساره ، وأخذا رأسه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دماً في قبل العرش ، يقول : يا ربّ سل عبدك فيم قتلني؟ ) الدر المنثور ٢ / ١٩٦ للسيوطي ط الإسلامية افست.

٢ ـ البقرة / ٢٣٧.

٣ ـ الشورى / ٤١.

٤ ـ محاضرات الراغب ١ / ١١٨.

٥ ـ ربيع الأبرار ١ / ٣١٠ ط أوقاف بغداد ، ورواه السيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٥٢ بتفاوت نقلاً عن أبي شيبة عن سعيد بن حجر قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني نذرت أن أقوم على قيقعان عرياناً إلى الليل ، فقال : أراد الشيطان أن يبدي عورتك وأن يضحك الناس بك ، البس ثيابك وصلّ عند الحجر ركعتين.

٣٥٧

١٦ ـ وسئل عن الطيرة ، وقد مرّ طائر يصيح ، فقال رجل من القوم ، خير؟

فقال ابن عباس : لا خير ولا شر (١).

١٧ ـ وسأله كعب ـ الأحبار ـ ما تقول في الطيرة؟

قال : وما عسيت أن أقول فيها ، لا طير إلاّ طير الله ، ولا خير إلاّ خير الله ، ولا إله إلاّ الله ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

قال كعب : إنّ هذه الكلمات في كتاب الله المنزل ، يعني التوراة (٢).

١٨ ـ وسأله علي الأزدي عن الجهاد؟

فقال : ألا أدلك على ما هو خير؟ تبني مسجداً تعلم الناس فيه القرآن وسنن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفقه في الدين (٣).

١٩ ـ وسأله مجاهد أين الجنة؟

فقال : فوق سبع سموات.

فقال : وأين النار؟

فقال : تحت أبحر مطبقة (٤).

٢٠ ـ وقال له سعيد بن جبير : آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن المنكر؟

قال : إن خفت أن يقتلك فلا.

____________

١ ـ نفس المصدر السابق ٣ / ٤٥٦.

٢ ـ نفس المصدر السابق ١ / ٤٦٨.

٣ ـ نفس المصدر السابق ١ / ٣٠٧ ، ومجموعة ورام / ٤٤١ ط الحيدرية.

٤ ـ الحكمة المتعالية ٩ / ٢٨٥ للملا صدرا ط دار إحياء التراث الإسلامي بيروت.

٣٥٨

قال : ثم عدت ، فقال لي مثل ذلك ، ثم عدت ، فقال لي مثل ذلك ، وقال : إن كنت لابد فاعلاً ففيما بينك وبينه (١).

٢١ ـ وعن طاووس ، قال : أتى رجل ابن عباس فقال : ألا أقوم إلى هذا السلطان فأمره وأنهاه؟

قال : لا تكن له فتنة.

قال : أفرأيت إن أمرني بمعصة الله عزوجل؟

قال : ذاك الذي تريد؟ فكن حينئذ رجلاً (٢).

٢٢ ـ وسأله عطاء عن قوله تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً )(٣)؟

قال : هذه من كنوز علمي ، سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : ( أمّا الظاهرة فما سوىّ من خلقك ، وأمّا الباطنة فما ستر من عورتك ، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم ) (٤).

٢٣ ـ وسأله الضحاك عن الآية نفسها؟

فقال : هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قلت : يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟

قال : ( يا بن عباس أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسّن من خَلقك ، وما

____________

١ ـ أخرجه ابن أبي الدنيا في موسوعته ٢ / ٢١٥ ، شعب الإيمان ١٣ / ٢٧٣ للبيهقي.

٢ ـ موسوعة ابن أبي الدنيا ٢ / ٢١٩.

٣ ـ لقمان / ٢٠.

٤ ـ الدر المنثور ٥ / ١٦٧ نقلاً عن البيهقي في شعب الإيمان.

٣٥٩

أفاض عليك من الرزق. وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك ولم يفضحك به.

يا بن عباس يقول الله تعالى : ثلاث جعلتهن للمؤمن ولم يكنّ له ، صلاة المؤمنين عليه من بعد إنقطاع عمله ، وجعلت له ثلث ماله أكفّر عنه خطاياه ، والثالث : سترت عليه من مساوي عمله فلم أفضحه بشيء منها ، ولو أبديتها لنبذه أهله فمن سواهم ) (١).

٢٤ ـ وسأله رجل عن قوله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً )(٢) ، فقال : كيف يكون في الآخرة أعمى؟

فقال له : أخطأت التأويل ، ألا ترى أنّه جلّ وعزّ عدّد النعم ، ثم قال : ( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ... )، أي : من عمي عن هذه النعم (٣).

٢٥ ـ قال أبو الحسين الملطي ( ت ٣٧٧ هـ ) في كتابه ( التنبيه والرد على الأهواء والبدع ) : لقي سماك ابن عباس في المدينة ، فقال : ما تقول في أمر غمني وأهتممت به؟

قال : ما هو؟

قلت : نفسان أتفق موتهما في طرفة عين ، واحد في المشرق وآخر في المغرب ، كيف قدر عليهما ملك الموت؟

قال : والذي نفسي بيده ما قدرة ملك الموت على أهل المشارق والمغارب والظلمات والنور والهواء إلاّ كقعدة الرجل على مائدة يتناول من أيّها شاء ...

____________

١ ـ تفسير الكشف والبيان ٧ / ٣١٨ للثعلبي ، الدر المنثور ٥ / ١٦٧ للسيوطي نقلاً عن ابن مردويه والبيهقي والديلمي وابن النجار ، ورواه الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية.

٢ ـ الأسراء / ٧٢.

٣ ـ معاني القرآن ٤ / ١٧٧ للنحاس.

٣٦٠