موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-500-7
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٠

المبحث الثاني

فيما دار بينه

وبين الطغاة ومردة الحاكمين

وفيه بحثان

٣٠١
٣٠٢

البحث الأوّل

في كتبه إلى معاوية

وعمرو بن العاص أيام صفين

لقد مرّت بنا نصوص ما دار بينهم في ( الحلقة الأولى ج٤ / ١١١ ـ ١٢٤ ) وإن بعدت على القارىء ، فليرجع إلى الجزء الرابع من هذه الحلقة ( ص٤٣٢ ) تحت عنوان ( محاوراته مع عمرو بن العاص ) وما بعدها.

وممّا يلحق بالمقام :

فيما دار بينه وبين الطغاة

ما قد مرّ بنا في ( الحلقة الأولى من هذه الموسوعة ) (١) ذكر كتاب لابن عباس رضي‌الله‌عنه كتبه إلى معاوية وهو بعد في ولايته على البصرة في أيام الإمام الحسن الزكي عليه‌السلام حيث كانت جواسيس معاوية تأتي المصرين ، الكوفة والبصرة ـ لإفساد الناس على خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام ـ فكان ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، وقد بلغه ذلك يقظاً حذراً ، قد اتخذ بطانة ممن يخشون الله تعالى ، ولم يتخذوا

____________

١ ـ موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى ٤ / ٣٤٥.

٣٠٣

إيمانهم دغلاً ، يخبرونه بما يحدث في البلاد من حركات مريبة ، وكان رحمه‌الله وهو في حزمه وعزمه لم تزل تساوره الشكوك في استقامة الأمور ما دام العدو اللدود يتربّص الدوائر ويتحيّن الفرص وقد وافته ، وزاد في قلق ابن عباس ما بلغه من إختراق معاوية لمجتمع المصرَين ـ الكوفة والبصرة ـ فأرسل إليهما جاسوسين ، رجلاً من حمير إلى الكوفة ، ورجلاً من بني القين إلى البصرة ، يكتبان له بالأخبار ، ويفسدان الرجال ، فدُلّ الإمام الحسن عليه‌السلام على الحميري عند لحام بن جرير ، فأخذه وقتله ، ودُلّ ابن عباس على القيني وكان نازلاً في بني سليم بالبصرة فأخذه وقتله ، وكتب إلى معاوية :

( أمّا بعد ، فإنّك ودسّك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيّتك لكما قال أمية بن الأسكر (١) :

لعمرك إنـّي والخزاعيّ طارقاً

كنعجة عاد حتفها تتحفّر

أثارت عليها شـفرة بكراعها

فظلّت بها من آخر الليل تنحر

شمتّ بـقوم من صديقك أهلكوا

أصابهم يوم من الدهر أصفر

فأجابه معاوية : أمّا بعد ، فإنّ الحسن بن عليّ قد كتب إليَّ بنحو ممّا كتبت به ، وأنبأني بما لم أجز ظناً وسوء رأي ، وإنّك لم تصب مثلكم ومثلي ، ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر :

____________

١ ـ الأغاني ١٨ / ١٦٢ ط دار الكتب ، مقاتل الطالبين / ٥٣ – ٥٤ ط مصر ، شرح النهج لابن أبي الحديد ٤ / ١٢ ط مصر الأولى و ١٦ / ٣٢ ط محققة.

٣٠٤

فوالله ما أدري وإنّي لصادق

إلى أيٍّ من يـظنّني أتعذّر

أعنّف أن كانت زبينة أهـلكت

ونال بني لحيان شرُّ فأنفروا

كتابه إلى زياد في تفسير بعض الصفات المتضادة في الإنسان :

روى النويري في ( نهاية الارب ) ، والراغب في ( المحاضرات ) ، والسيوطي في ( الكنز المدفون ) :

( إن زياد كتب إلى ابن عباس كتاباً يقول فيه : صف لي الشجاعة والجبن ، والجود والبخل؟

فكتب اليه :

كتبت تسألني عن طبائع رُكبت في الإنسان تركيب الجوارح ، إعلم أنّ الشجاع من يقاتل من لا يعرفه ، والجبان يفرّ عن عرسه ، وأنّ الجواد يعطي من لا يلزمه حقه ، وأنّ البخيل يمسك عن نفسه ) (١).

____________

١ ـ نهاية الارب ٣ / ٣٥٣ ، المحاضرات ٢ / ٥٧ ، الكنز المدفون / ٢٨.

٣٠٥
٣٠٦

البحث الثاني

في كتبه إلى يزيد

وعبد الملك بن مروان وابن الزبير

لم تكن صلات ابن عباس رضي‌الله‌عنه مع أولئك الجبّارين ، صلات مودة تستدعي أن يكتب إليهم رغبة في مال أو جاه ، بل على العكس ، فقد كان كارهاً لهم مبغضاً لهم ، غير أنّ قساوة الظروف أرغمته أن يكتب إليهم جواباً كما في :

كتاب يزيد إلى ابن عباس في أمر الحسين عليه‌السلام وجوابه

روى سبط ابن الجوزي في ( التذكرة ) : ( وقال الواقدي : ولمّا نزل الحسين مكة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس :

أمّا بعد ، فإنّ ابن عمك حسيناً وعدو الله ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكة مرصدَين للفتنة ، معرّضين أنفسهما للهلكة. فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف غداً ، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار اليكم أهل البيت

٣٠٧

ممّا كان منه ، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ، ويمنّونه الخلافة ، ويمنّيهم الإمرة ، وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك فالقه فاردده عن السعي في الفرقة ، وردّه عن هذه الفتنة ، فإن قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة ، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه ، وإن طلب الزيادة فأضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك ، وأقوم له بذلك ، وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه ، عجّل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إليَّ وقبلي والسلام.

قال هشام بن محمّد : وكتب يزيد في أسفل الكتاب :

يا أيها الراكب الغادي لطيته ... الأبيات الآتية ) (١).

جواب ابن عباس إلى يزيد :

قال السبط في ( التذكرة ) : ( فكتب إليه ابن عباس :

أمّا بعد ، فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكة ، فأمّا ابن الزبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه ، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره يوري علينا وري الزناد ، لا فكّ الله أسيرها فارء في أمره ما أتيت رأيه.

وأمّا الحسين فإنّه لمّا نزل مكة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه ، سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام

____________

١ ـ تذكرة الخواص ط حجرية ، و ٢١٥ ط منشورات الشريف الرضي بقم.

٣٠٨

الفاحش ، فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به ، وسألقاه فيما أشرت إليه ، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ، ويطفئ به النائرة ، ويخمد به الفتنة ، ويحقن به دماء الأمّة ، فاتق الله في السرّ والعلن ، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ، ولا ترصده بمظلمة ، ولا تحفر له مهواة ، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه ، وكم من مؤمّل أملاً لم يؤتَ أمله ، وخذ بحظك من تلاوة القرآن ونشر السنّة ، وعليك بالصيام والقيام ، لا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها ، فإنّ كلّ ما شغلت به عن الله يضرّ ويفنى ، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى والسلام ) (١).

هذه صورة الكتابين ، وقد رواهما السبط عن الواقدي وعن الكلبي كما ذكرهما ، وروايته أتم ممّا رواه ابن سعد والطبري فضلاً عن المتأخرين الّذين أخذوا عنهما. ويبدو أنّ السبط حصل على بعض كتب الواقدي وهشام بن محمّد الكلبي ، كما يبدو أنّ إختزالاً متعمداً عند ابن سعد والطبري.

وإلى القارئ صورة ما ذكره ابن سعد في طبقاته :

قال ابن سعد في ( الطبقات ) : ( وكتب يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عباس يخبره بخروج الحسين إلى مكة : ونحسبه جاءه رجال من أهل هذا المشرق فمنّوه الخلافة ، وعندك علم منهم خبرة وتجربة ، فإنّ كان فعل فقد قطع واشج القرابة ، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه ، فاكففه عن السعي في الفُرقة.

____________

١ ـ التذكرة / ٢١٦.

٣٠٩

وكتب بهذه الأبيات إليه وإلى من بمكة والمدينة من قريش :

يا أيّها الراكب الغادي لطيّته (١)

على عذافرة (٢) في سيرها قحم (٣)

أبلغ قريشاً على نأي (٤) المزار بها

بيني وبين حسين الله والرحم

وموقف بفناء البيت أنـشده

عهد الإله وما توفى به الذمم (٥)

عنّيتم (٦) قومكم فخراً بأمّكمُ

أمّ لعمري حَـصانٌ عفةٌ (٧) كرم

هـي الّتي لا يـداني فضلها أحدٌ

بنت الرسول وخير الناس قد علموا (٨)

وفضلها لكم فضلٌ وغيركمُ

مـن قومكم لهمُ في فضلها قِـسَمُ

____________

١ ـ طيّته : حاجته.

٢ ـ العذافرة : الناقة الشديدة العظيمة ( اللسان ٤ / ٥٥٥ ).

٣ ـ قحم : أي سريعة تطوي المنازل وتتقحمها منزلاً بعد منزل ( نفس المصدر ١٢ / ٤٦٤ ).

٤ ـ تاريخ الطبري ٨ / ٢٠٢ ط دار المعارف على شحط المزار.

٥ ـ تاريخ الطبري : وما ترعى له الذمم.

٦ ـ وفيه : عنّفتم وببالي في بعض المصادر هُنّيتم ، وهو الأنسب بالسياق.

٧ ـ في الطبري وتاريخ دمشق وتاريخ ابن كثير ( بَرّة ) ، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢١٨ ط الزهراء : ( عمّها الكرم ).

٨ ـ في مقتل الخوارزمي ( وكلّ الناس قد علموا ).

٣١٠

إنـّي لأعلم أو ظناً كعالمه

والظن يصدق أحياناً فينتظم

أن سوف يترككم ما تدّعون به (١)

قتـلى تهاداكمُ العِقبان والرَخَم

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ سكنت (٢)

ومـسّكوا بحبال السلم واعتصموا (٣)

قد غرَت الحرب (٤) من قد كان قبلكم

من القرون وقد بادت بها الأمم

فانصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً (٥)

فربّ ذي بذخٍ زلّت به القدم (٦)

____________

١ ـ في الطبري ( ما تطلبون بها ).

٢ ـ في الطبري ( إذ خمدت ).

٣ ـ في الطبري بعد هذا البيت :

لا تركبوا البغي ان البغي مصرعه مَصرَعةٌ

وإن شارب كأس البغي يتّخم

٤ ـ في الطبري ( قد جرب الحرب ) ، وفي مقتل الخوارزمي ( قد عضّت الحرب ).

٥ ـ في مقتل الخوارزمي ( لا تشمخوا بذخاً ).

٦ ـ في كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ومقتل الخوارزمي ، واحسبه نقله من الأوّل قال : فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات ثمّ وجهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ رضي‌الله‌عنه فلمّا نظر فيه علم انّه كتاب يزيد بن معاوية فكتب الحسين الجواب.

بسم الله الرحمن الرحيم ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) والسلام. والآية في سورة يونس / ٤١ ( وَإِنْ كَذَّبُوكَ ... ) فاقتبس الإمام معنى الآية.

٣١١

قال : فكتب إليه عبد الله بن عباس : إنّي لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه ، ولست أدع النصيحة له فيما يجمع الله به الألفة ، ويطفي به النائرة.

قال : ودخل عبد الله بن عباس على الحسين فكلّمه ليلاً طويلاً ، وقال : أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة ، لا تأتي العراق ، وإن كنت لابدّ فاعلاً فأقم حتى ينقضي الموسم ، وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون ثمّ ترى رأيك ـ وذلك في عشر ذي الحجة سنة ستين ـ ).

قال سبط ابن الجوزي : ( ذكر الواقدي ، وهشام ، وابن إسحاق وغيرهم ، قالوا : لمّا قتل الحسين عليه‌السلام بعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن عباس ليبايعه وقال : أنا أولى من يزيد الفاسق الفاجر وقد علمت سيرتي وسيرته ، وسوابق أبي الزبير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسوابق معاوية.

فامتنع ابن عباس ، وقال : الفتنة قائمة وباب الدماء مفتوح ، وما لي ولهذا ، إنّما أنا رجل من المسلمين. فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فكتب إلى ابن عباس ... ) (١).

وروى البسوي بسنده عن شقيق بن سلمة ، قال : ( لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب ثار عبد الله بن الزبير ، فدعا ابن عباس إلى بيعته ، فامتنع ابن عباس وظنّ يزيد بن معاوية أنّ إمتناع ابن عباس تمسكاً منه ببيعته فكتب إليه ... ) (٢).

وروى الطبراني في ( المعجم الكبير ) ـ وعنه الهيثمي ـ بسنده عن أبان

____________

١ ـ تذكرة الخواص / ١٥٥ ط حجرية و ٢٤٧ ط منشورات الشريف الرضي بقم.

٢ ـ المعرفة والتاريخ ١ / ٥٣١ ط الأوقاف ببغداد.

٣١٢

ابن الوليد ، قال : ( كتب عبد الله بن الزبير إلى ابن عباس في البيعة فأبى أن يبايعه ، فظنّ يزيد بن معاوية أنّه إنّما إمتنع عليه لمكانه ، فكتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس ... ) (١).

ولمّا كانت روايات الرواة لهذا الكتاب تتفاوت في بعض الألفاظ ، فأنا اخترت للقارئ رواية الطبراني التي إختارها الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ، ونقلتها بلفظه ، لأنّ المطبوع من ( معجم الطبراني ) فيه تصحيف لبعض الألفاظ مخرج للمعنى ، ولم يتنبه إليه محقق الكتاب.

وإليك نسخة ما كتب به يزيد وما أجاب به ابن عباس برواية ( مجمع الزوائد ) بعد تصحيح الأخطاء المطبعية فيه :

قال : ( فكتب يزيد بن معاوية : أمّا بعد ، إنّه بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته ليدخلك في طاعته فتكون على الباطل ظهيراً وفي المأثم شريكاً ، فامتنعت عليه ، وانقبضت ، لما عرفك الله في نفسك من حقنا أهل البيت ، فجزاك الله أفضل ما جزى الواصلين عن أرحامهم ، الموفين بعهودهم ، ومهما أنس من الأشياء فلن أنس برّك وصلتك وحسن جائزتك التي أنت أهلها ، في الطاعة والشرف والقرابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنظر مَن قبلك من قومك ومن يطرأ عليك من أهل الآفاق ممّن يسحره ابن الزبير بلسانه وزخرف قوله ، فخذّلهم عنه ، فإنّهم لك أطوع ، ومنك أسمع منهم للملحد والخارق المارق والسلام.

____________

١ ـ المعجم الكبير ١٠ / ٢٤١ ط الأوقاف الثانية ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٥٠ ط القدسي.

٣١٣

فكتب ابن عباس إليه : أمّا بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه دعاء ابن الزبير إياي للذي دعاني إليه ، وإنّي امتنعت عليه معرفة لحقك ، فإن يكن ذلك كذلك فلست برّك أرجو بذلك ولكن الله بما أنوي به عليم.

وكتبت إليّ أن أحثّ الناس عليك وأجذبهم عن ابن الزبير فلا ، ولا سروراً ولا حبوراً ، بفيك الكثكث (١) ولك الأثلب (٢) ، إنّك العازب إن منّتك نفسك ، وغنّك لأنت المفقود المثبور.

وكتبت إليَّ بتعجيل بري وصلتي ، فاحبس أيّها الإنسان عنّي برّك وصلتك ، فإنّي حابس عنك ودي ونصرتي. ولعمري ما تعطينا ممّا في يدك لنا إلاّ القليل ، وتحبس منه الطويل العريض لا أباً لك.

أتراني أنسى قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب ، مصابيح الدجى ونجوم الأعلام ، وغادرتهم خيولك بأمرك ، فأصبحوا مصرّعين في صعيد واحد ، مرمّلين بالدماء ، مسلوبين بالعراء ، لا مكفّنين ولا موسّدين ، تسفيهم الرياح ، وتغزوهم الذئاب ، وتنتابهم عوج الضباع ، حتى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوا في دمائهم فكفنوهم وأجنّوهم.

وبهم والله وبي منّ الله عليك فجلست في مجلسك الذي أنت فيه.

ومهما أنس من الأشياء فلست أنسى تسليطك عليهم الدعيّ ابن الدعي ، الذي كان للعاهرة الفاجرة ، البعيد رحماً ، اللئيم أباً وأماً ، الذي اكتسب أبوك في ادعائه له العار ، والمأثم ، والذلة ، والخزي في الدنيا والآخرة ، لأنّ رسول

____________

١ ـ صغار الحجارة والتراب.

٢ ـ الحصى والحجر.

٣١٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، وإنّ أباك يزعم أنّ الولد لغير الفراش ، ولا يضير العاهر ويلحق به ولده كما يلحق ولد البغي الرشيد ، ولقد أمات أبوك السنة جهلاً ، وأحيى الأحداث المضلّة عمداً.

ومهما أنس من الأشياء فلست أنس تسييرك حسيناً من حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حرم الله ، وتسييرك إليه الرجال ، وإدساسك إليهم إن هو نذر بكم فعاجلوه ، فما زلت بذلك وكذلك ، حتى أخرجته من مكة إلى أرض الكوفة ، تزأر إليه خيلك وجنودك زئير الأسد ، عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته ، ثمّ كتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والأسنة والسيوف ، ثمّ كتبت إليه بمعاجلته وترك مطاولته ، حتى قتلته ومن معه من فتيان بني عبد المطلب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

نحن أولئك لا كآبائك الأجلاف الجفاة أكباد الحمير ، ولقد علمت أنّه كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً ، وأعزّه بها حديثاً لو ثوى بالحرمين مقاماً ، واستحلّ بها قتالاً ، ولكنه كره أن يكون هو الذي يستحل حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرمة البيت الحرام ، فطلب الموادعة ، وسألكم الرجعة ، فاغتنمتم قلّة أنصاره وإستئصال أهل بيته ، كأنّكم تقتلون أهل بيت من الترك أو كابل.

وكيف تحدوني على ودّك وتطلب نصري ، وقد قتلت بني أبي ، وسيفك يقطر من دمي ، وأنت أحد ثاري ، فإن يشأ الله لا يطلّ لديك دمي ، ولا تسبقني بثاري ، وإن تسبقنا به ، فقبلنا ما قُتلت النبيون وآل النبيين ، فطلّت دماؤهم في الدنيا ، وكان الموعد الله ، وكفى بالله للمظلومين ناصراً ، ومن الظالمين منتقماً.

٣١٥

والعجب كلّ العجب وما عشت يريك الدهر العجب ، حملك بنات عبد المطلب وحملك أبناءهم أغيلمة صغاراً إليك بالشام ، تُري الناس أنّك قد قهرتنا ، وأنّك تذلّنا ، وبهم والله وبي منّ الله عليك وعلى أبيك وأمك من السباء.

وأيم الله إنّك لتصبح وتمسي آمناً لجراح يدي ، وليعظمن جرحك بلساني وبناني ، ونقضي وإبرامي فلا يستعزنّك (١) الجذل ، فلن يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ قليلاً ، حتى يأخذك الله أخذاً أليماً ، ويخرجك من الدنيا آثماً مذموماً ، فعش لا أباً لك ما شئت فقد أرداك عند الله ما اقترفت.

فلمّا قرأ يزيد الرسالة قال : لقد كان ابن عباس مضبّاً (٢) على الشرّ ) (٣).

ولقد ذكر هذا الكتاب غير واحد من المؤرخين والمحدّثين ، وبين رواياتهم تفاوت في الألفاظ فمن شاء مزيد الإطلاع فليرجع إلى المصادر التالية :

١ ـ ( المعرفة والتاريخ ) للفسوي ( ت ٢٧٧ هـ ) : ١ / ٥٣١ ط الأوقاف ببغداد.

٢ ـ ( أنساب الأشراف ) للبلاذري ( ت ٢٧٩ هـ ) : ١ق ٤ / ٣٠٥ تح احسان عباس وذكر شطراً من الكتاب.

٣ ـ تاريخ اليعقوبي ( ت بعد ٢٩٢ هـ ) : ٢ / ٢٢٠ ط الغري بالنجف الأشرف.

٤ ـ ( المعجم الكبير ) للطبراني ( ت ٣٦٠ هـ ) : ١٠ / ٢٤١ ط الثانية بالموصل.

____________

١ ـ في جملة من المصادر تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، ومعناه لا يغلب عليك ، يقال استعزّ به الحال أي غلب عليه.

٢ ـ في جملة من المصادر تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، ومعناه أخفى غلّه في قلبه وأمسكه.

٣ ـ مجمع الزوائد ٧ / ٢٥٠ ط القدسي.

٣١٦

٥ ـ ( مقتل الحسين ) للخوارزمي ( ت ٥٦٨ هـ ) : ٢ / ٧٧ ط الزهراء في النجف الأشرف.

٦ ـ تاريخ ابن الأثير ( ت ٦٣٠ هـ ) : ٤ / ٥٤ ط بولاق.

٧ ـ ( تذكرة الخواص ) لسبط ابن الجوزي ( ت ٦٥٤ هـ ) : ١٥٥ ط حجرية و ٢٧٤ ط منشورات الشريف الرضي.

٨ ـ ( مجمع الزوائد ) للهيثمي ( ت ٨٠٧ هـ ) : ٧ / ٢٥٠ ط القدسي.

٩ ـ ( تطهير الجنان ) لابن حجر الهيتمي ـ بالتاء المثناة ـ ( ت ٩٧٤ هـ ) : / ١٣٥ بهامش ( الصواعق المحرقة ).

١٠ ـ ( بحار الأنوار ) للمجلسي ( ت ١١١١ هـ ) : ٤٥ / ٣٢٣.

فهذه عشرة كاملة وحسبي بها ، فضلاً عن مصادر ثانوية كثيرة كـ ( الدرجات الرفيعة ، وأعيان الشيعة ، والمجالس السنية ، وإقناع اللائم ، ومشكوة الأدب ، وناسخ التواريخ ( فارسي ) ) ، وغيرها.

وقد ورد في جملة من المصادر الأولية : أنّ يزيد لمّا وصلت إليه رسالة ابن عباس غضب غضباً شديداً وهمّ بقتل ابن عباس ، ولكن الله شغله بأمر ابن الزبير ثمّ أخذه أخذ عزيز مقتدر ، فمات السكران بحوارين.

وقد جاءت الرسالة في بلاغتها كأنّها مستقاة من نهج إمامه وابن عمه سيّد البلغاء في نهج البلاغة ، في قوّة الحجة وبليغ الكلام.

كما أنّها تعتبر وثيقة تاريخية تدين يزيد بجرائمه ، وتدمغ الذين برؤوه من جريمة القتل وأدانوا بها ابن زياد.

٣١٧

وأخيراً فقد كانت آخر ما عُرف عن ابن عباس من موقف سياسي مع يزيد ، ولم يكد جور السلطة الأموية ينتهي بموته ، فإنّه سيأتي لابن عباس مع عبد الملك بن مروان ما سنذكره.

ولقد أعجبت الرسالة بعضهم ، فقال :

نصرت ابن عباس حسين بن فاطم

بحدّ لسان ما عن السيف ينقص

دعتك إليه شيمة هاشمية

لعمرك أنت الهاشمي المخلّص (١)

غداة ابن هند أسلس القول طامعاً

بودّك حاشا الله ودّك ينكص

فلقّيته صعباً شديداً مراسه

فتى ثأر أهليه به يتربّص

وتالله لولا حكمة الله لانثنت

لكم غارة منها السماء تقلّص (٢)

ويبقى هذا الكتاب خير شاهد على تفجّر غيظه جُملاً حمماً ، تطاير حرفُها فصكّ بها وجه يزيد حتى همّ بقتله ، لولا أنّه شُغل بأمر ابن الزبير. وهو في وضعه المؤثّر المعبّر عن عظم المأساة وشدّة النكبة التي مُني بها المسلمون ، لم يتعدّ عن الواقع يومئذ ، كما أنّه في كتابه إستبان عظيم حزنه المتصل ، فهو في حداد مستمر وبكاء دائم ، وهذا حال بقية الهاشميين والهاشميات ، حتى لقد روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ( ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ، ولا رؤي في دار هاشمي دخان خمس سنين ، حتى قتل عبيد الله بن زياد ) (٣).

____________

١ ـ الدرجات الرفيعة / ١٤٥ ط الحيدرية.

٢ ـ زيادة في مجموع المرحوم السيّد جعفر الخرسان بخطه ( عندي ).

٣ ـ أصدق الأخبار للسيّد الأمين / ٩١ ط صيدا.

٣١٨

ويبقى كتاب ابن عباس يعطي المسلمين صورة واضحة عن مدى ما وصلت إليه الأمور من الشدّة ، والمشاعر من التوتر بالنسبة لأكثر الناس حكمة ، وأوفرهم علماً ، وأرجحهم عقلاً مثل ابن عباس ، فكيف بمن هو دونه من عامة الناس.

ويبقى ابن عباس في موقفه الرافض والناقم على بني أمية.

ولما هلك يزيد لعنه الله ورفض ابنه معاوية تولي الخلافة المغتصبة ، ووليها مروان بعد هياط ومياط (١) ومن بعده ابنه عبد الملك ، وكان ابن الزبير دعا الناس إلى بيعته ، وجرت بينه وبين الأمويين من حروب استحلوا فيها حرمة البيت الحرام ، وكان الطرفان يريد أن يكسب ابن عباس وابن الحنفية إلى جانبهما ليخادعوا الناس بذلك ، وقد مرّت في الحلقة الأولى (٢) بعض أخبار تلك المحنة التي أبتلي بها بنو هاشم ، وأشدّها إيلاماً ما كان من ابن الزبير من أخبار التحريق والحبس ممّا جعل عبد الملك يتودد إلى بني هاشم ، ويدعوهم إلى الوفود عليه.

ولقد مرّ بنا ذكر خروج محمّد بن الحنفية إلى الشام بدعوة من عبد الملك بن مروان. وأنّه لمّا وصل مدين وبلغه غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد ندم على إتيانه وخافه ، فنزل أيلة ... وقد ذكر جمال الدين بن يوسف الشامي من أعلام القرن السابع في كتابه ( الدر النظيم ) صورة كتاب من ابن عباس

____________

١ ـ تماطوا : فسد ما بينهم وتباعدوا ، وهم في هياط ومياط بكسرهما دنوّ وتباعد ( القاموس ( هيط ).

٢ ـ موسوعة عبد الله بن عباس الحلقة١ ج٤ / ٢٦٩.

٣١٩

إلى عبد الملك بن مروان يوصيه بمحمّد بن الحنفية ورعاية حقه ، فقال :

( كتب عبد الله بن عباس إلى عبد الملك بن مروان لمّا عزم محمّد بن الحنفية على التوجه إلى بلاد الشام :

( أمّا بعد فإنّه توجّه إلى بلادك رجل منّا ، لا يَبدأ بالسوء ، ولا يكافيء على الظلم ، ولا بعجول ولا بجهول ، سميع إلى الحقّ أصم عن الباطل ، ينوي العدل ، ويعاف الحيف ، ومعه نفر من أهل بيته وعدّة رجال من شيعته ، لا يدخلون داراً إلاّ بإذن ، ولا يأكلون شيئاً إلاّ بثمن ، رهبان الليل ليوث بالنهار ، فاحفظنا فيهم رحمك الله ، فإنّ ابن الزبير قد نابذنا بالعداوة ونابذناه والسلام ).

فأجابه عبد الملك بكتاب يقول فيه :

أمّا بعد فقد أتاني كتابك توصيني فيه بمن توجّه إلى ما قبلي من أهل بيتك ، فما أسرّني بصلة رحمك ، وحفظ وصيتك ، وكلّما هويت من ذلك فمفعول ومتّبع ، فأنزل بي حوائجك رحمك الله كيف أحببت ، فلن أتحرج حاجة عرضت لك قبلي ، فإنّك قد أصبحت عظيم الحقّ عليَّ ، مكيناً لديّ ، وفقنا الله وإياك لأفضل الأمور ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ) (١).

ما دار بينه وبين ابن الزبير من مكاتبة مغاضبة :

كان ابن عباس رضي‌الله‌عنه بعد أن أتى الطائف منفياً عن مكة ، مغاضباً لابن الزبير ، قد أتخذ من مجلسه الذي يجتمع إليه فيه أهل الطائف ، وسيلة

____________

١ ـ الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم ج٢ ( مخطوط بمكتبة العلامة السماوي ). وقد طبع أخيراً بتحقيق المرحوم الشيخ المحمودي.

٣٢٠