موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ١٠

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-500-7
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٤٨٠

وكيع عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه : أنّه مرّ على مجلس ... ثم ذكر الحديث بطوله (١).

أقول : أخرجه الذهبي في ( التلخيص ) أيضاً في هامش ( المستدرك ) ، ولم يغمزه بشيء (٢).

قال الأبشيهيّ : ( حُكيَ أنّ معاوية بينما هو جالس في بعض مجالسه وعنده وجوه النّاس فيهم الأحنف بن قيس ، إذ دخل رجل من أهل الشّام فقام خطيباً وكان آخر كلامه أنْ لَعَنَ عليّاً ـ رضي الله تعالى عنه ولعن لاعنيه­.

فقال الأحنف : يا أمير المؤمنين إنّ هذا القائل لو يعلم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتق الله يا أمير المؤمنين ، ودع عنك عليّاً رضي‌الله‌عنه ، فلقد لقيَ ربّه وأفرد في قبره وخلا بعَمَله ، وكان والله المبرورَ سيفُه ، الطّاهرَ ثوبُه ، العظيمةَ مصيبتُه.

فقال معاوية : يا أحنف لقد تكلّمت بما تكلّمت وأيمُ والله لتصعدنّ على المنبر فتَلعَنه طوعاً أو كرهاً.

فقال له الأحنف : يا أمير المؤمنين إن تعفني فهو خيرٌ لك ، وإن تجبرني على ذلك فو الله لا تجري شفتايَ به أبداً.

فقال : قُم فاصعد.

قال : أما والله لأُنصفنَّك في القول والفعل.

____________

١ ـ المستدرك ٢ / ١٢٩.

٢ ـ نفس المصدر / الهامش.

١٦١

قال : وما أنت قائل إن أنصفتني؟

قال : أصعدُ المنبرَ فأحمد الله وأُثني عليه وأُصلّي على نبيّه محمّد ، ثمّ أقول : أيّها الناس إنّ أمير المؤمنين معاوية أمرني أن العنَ عليّاً ألا وإنّ معاوية وعليّاً إقتتلا فاختلفَا ، فادّعى كلّ واحد منهما أنه مبغيٌّ عليه وعلى فئَته ، فإذا دعوت فأمّنوا رحمكم الله ثمّ أقول : ( اللهمّ العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغيَ منهما على صاحبه ، والعَن الفئة الباغية ، اللهمّ العنهم لعناً كثيراً ) ، أمّنوا رحمكم الله. يا معاوية لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً ولو كان فيه ذهاب روحي.

فقال معاوية : إذاً نعفيك يا أبا بحر.

وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب : إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتُك ولا يرضيني منك إلاّ أن تلعنه على المنبر.

قال : أفعل.

فصعدَ المنبر ، ثمّ قال بعد أن حمد الله وأَثني عليه وصلّى على نبيّه : أيّها النّاس إن معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب فالعنوه ، فعليه لعنة الله. ثمّ نزل.

فقال له معاوية : إنّك لم تبيّن من لعنتَ منهما بيّنه.

فقال : والله لا زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً ، والكلام إلى نيّة المتكلّم ... اهـ ) (١).

أقول : ليس عجيباً أن تنطليَ مغالطةٌ ما على أهل حيّ أو قرية ، لكن

____________

١ ـ المستطرف في كلّ فن مستظرف ١ / ١٠٠.

١٦٢

عجيبٌ أن تنطليَ على أجيال من أهل القراءة والكتابة ، الذين تتميّز عندهم المفاهيم بحدودها ورسومها؛ فكيف غاب عمّن ينسبون إلى معاوية الحلم ، أنّ قلبه كان غليظاً لا أثر للرّحمة فيه؟! وهل يجتمع الحلم وبغض عليّ والحسن والحسين؟ أليس الحليمُ هو الذي يعفو عند المقدرة عمّن أساءَ إليه؟ فمتى فعل معاوية هذا وتلك قصّته مع حجر بن عديّ وأصحابه ، وله قصّة مع عمر وبن الحمق وقصّة مع عبد الرحمن العنزيّ تجعل الولدان شيباً (١) ، وقصّة أخرى مع عبد الرحمن بن عديس البلويّ الذي بايع تحت الشجرة؛ إنّ الحليم لا يذكر الموتى إلاّ بخير ، ومعاوية كان يسبّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ويشتمه ويلعنه على المنبر ، ويشترط ذلك على كلّ من يُوليّه على رقاب المسلمين؛ وهل يجتمع الحلم والغدر؟ وقد افتتح معاوية حكمه بالغدر حين قال أمام الملأ في مسجد الكوفة ( ألا وإنّ كلّ شرط أعطيته للحسن بن عليّ فتحت قدميّ هاتين ) (٢)!

قال الجاحظ في ( البيان والتبيان ) :

( قيل لشريك بن عبد الله : كان معاوية حليماً؟

____________

١ ـ القصة مذكورة في كلّ من تاريخ الطّبريّ ٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت وتاريخ ابن عساكر٢ / ٣٧٩ دار الفكر ١٤١٥ ، والكامل لابن الأثير ٣ / ٢٠٩ ، دار الكتب العلمية بيروت ١٤١٥ هـ. فقد أمر بعقوبته ، فدفن حيّاً بقس الناطف.

٢ ـ العبارة في شرح نهج البلاغة كما يلي : وأما أبو إسحاق السّبيعيّ فقال : إنّ معاوية قال في خطبته بالنّخيلة : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين لا أُفي به ، قال أبو إسحاق : وكان والله غدّاراً ، ( شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ / ٤٦ ).

١٦٣

قال : لو كان حليماً ما سفه الحق ولا قاتل عليّاً ، ولو كان حليماً ما حمل أبناء العبيد على حُرمه ، ولما أنكح الحرائر غير الأكفاء ) (١).

أقول : لقد قرأت كلاماً قاله عبد الباقي قرنة الجزائري في كتابه ( معاوية ) ، وقد طبع كلامه الآتي على ظهر كتابه على الغلاف فأعجبني نقله للقرآء :

( في تصوري أنّ ثقافة الكرسيّ قد جنت على التفكير لدى المسلمين ، ودجّنت الهمَمَ ، وخنَقَت الطموح ، ووظّفت الدّين لخدمة الطاغوت ، حتى صار مثل معاوية يجد من يدافع عنه. ولو أننّا قدّمنا معاوية إلى أحد المفكّرين غير المسلمين ، وسردنا له بنزاهة وانصاف أعماله الإجرامية واحدةً واحدةً وبيّنّا له أنّه مات مصرّاً عليها ، لما وسعه إلاّ أن يصنّفه في الاستبداديّين المجرمين.

ما الذي جناه الإسلام والمسلمون من معاوية غير العداوات والحزازات وتفريق الصفوف وتشتيت القوة وترسيخ الخلاف؟!

ما هي إنجازات معاوية التي يستطيع المسلمون أن يفخروا بها أمام خصومهم ويرفعوا بها هاماتهم؟ ألم يقدّم معاوية لخصوم الإسلام ما يحتجون به عليهم في مجال حقوق الإنسان ، وهو الذي كان يدفن الناس أحياء لمجرّد حبّهم لعليّ بن أبي طالب الذي يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله؟ أو ليس معاوية هو الذي أسّس لثقافة الحقد والكراهيّة وشرع

____________

١ ـ البيان والتبيين ٣ / ٢٥٨ تح هارون.

١٦٤

سبّ الأموات بصورة رسميّة؟ أولم يمنع معاوية المسلمين من تسمية أبنائهم عليّاً وحسناً وحسيناً؟ (١)

وأمّا الذي يدافعون عن معاوية باسم الدين وعدالة الصحابة وأمور من ذلك القبيل ، فيُقال لهم بالحرف الواحد ما جاء في سورة النساء : ( هَا أَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم

____________

١ ـ قال ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة علي بن عبد الله بن عباس :

( ولما ولد علي بن عبد الله ولد معه في تلك السنة لعبد الله بن جعفر غلام فسماه علياً وكناه بأبي الحسن ، فبلغ معاوية ، فوجّه إليهما أن انقلا أسم أبي تراب وكنتيه عن ابنيكما ، وسمياهما باسمي ، وكنيّاهما بكنّّيتي ، ولكل واحد منكما ألف ألف درهم ...

فلما قدم الرسول عليهما بهذه الرسالة سارع إلى ذلك عبد الله بن جعفر فسمى ابنه معاوية ، وأخذ ألف ألف درهم ، وأما عبد الله بن عباس فإنه أبى ذلك ، وقال : حدثني علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : ما من قوم يكون فيهم رجل صالح فيموت فيخلف فيهم مولود فيسمونه بأسمه إلا خلفهم الله بالحسنى ، وما كنت لأفعل ذلك أبدا ، فأتى الرسول معاوية فأخبره بخبر ابن عباس ، فرد الرسول وقال : فانقل الكنية عن كنيته ولك خمسمائة ألف.

فلما رجع الرسول إلى ابن عباس بهذه الرسالة ، قال أما هذا فنعم ، فكناه بأبي محمد.

أقول : ويبدو للباحث تزيد الرواة في الخبر ، وذلك تسمية ابن جعفر لأبنه بمعاوية ، مع أن ابنه علي وهو المعروف بالزينبي ، لأن أمه زينب العقيلة بنت أمير المؤمنين ، وهو أكبر ولد أبيه كان مولوداً ولم يغيرّ اسمه ، نعم كان لابن جعفر ولد اسمه معاوية ، وفيما ذكره ابن عساكر بعد ما تقدم نظر ـ.

ثم قال : وقيل أن على بن عبد الله بن عباس لما قدم على عبد الملك بن مروان من عند أبيه قال له عبد الملك : ما أسمك؟ قال علي ، قال أبو من؟ قال : أبو الحسن ، قال لا تجمعهما علي حوّل كنيتك ولك مائة ألف درهم ، قال : أما وأبي حي فلا ، فلما مات عبد الله كناه عبد الملك أبا محمد. ( أنظر مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ، في ترجمة علي بن عبد الله عباس ).

١٦٥

مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً )(١) ) (٢).

ونزيدهم نحن تنويراً بأنّ ابن عباس حبّر الأمّة قال عنهم : ( أكبّهم الله في جهنم على مناخرهم ).

فإلى أحاديثه مع النواصب ، وقد أخرجها الفريقان : ( هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ )(٣).

____________

١ ـ النساء / ١٠٩.

٢ ـ كتاب ( معاوية ) ط نينوى سنة١٤٢٦ هـ.

٣ ـ الحاقة / ١٩.

١٦٦

ابن عباس يتصدى للتيار الأموي القرشي

لقد قرأنا في الجزء الرابع محاورات ابن عباس مع معاوية ، وقد بلغت عشرين محاورة سوى ما كان فيه مع أذنابه وبقية الشانئين من قريش ممن سخرّهم الحكم الأموي ، لإشاعة الإعلام الكاذب ضد بني هاشم عامّة وضد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة.

فعن ابن الحديد : ( إنّه افتعل في أيام معاوية خاصة حديث كثير على هذا الوجه ـ يعني صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة ـ قصدوا به الإضلال وتحبيط القلوب والعقائد ، وقصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي. ولم يسكت المحدثون الراسخون في علم الحديث عن هذا ، بل ذكروا كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة ...

إلاّ أنّ المحدثين إنّما يطعنون فيما دون طبقة الصحابة ، ولا يتجاسرون في الطعن على أحد من الصحابة لأنّ عليه لفظ ( الصحبة ) ، على أنّهم قد طعنوا في قوم لهم صحبة كبسر بن أرطاة وغيره.

فإن قلت : من أئمة الضلالة الذين يتقرب إليهم المنافقون الذين رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبوه للزور والبهتان ، وهل هذا إلاّ تصريح بما تذكره الإمامية وتعتقده؟

قلت : ليس الأمر كما ظننت وظنوا ، وإنّما يعني معاوية وعمرو بن

١٦٧

العاص ومن شايعهما على الضلال ، كالخبر الذي رواه من رواه في حق معاوية : ( اللهم قه العذاب والحساب وعلمه الكتاب ) (١).

____________

١ ـ الخبر ساقط بكل معنى من الرواة والمروي فيه ، رواه العرباض بن سارية كما في مسند أحمد ٤ / ١٢٧ ، ولفظه : حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية ـ يعني بن صالح ـ عن يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي برهم عن العرباض بن سارية السلمي قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان : ( هلموا إلى الغذاء المبارك ) ثم سمعته يقول : ( اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب ).

ونظرة خاطفة على رجال السند من الأعلى إلى الأدنى ، فالعرباض بن سارية صحابي من أهل الصفّة نزل حمص مات في فتنة ابن الزبير قال محمد بن عوف : كلّ واحد من العرباض بن سارية وعمر بن عسبة يقول انا رابع الإسلام ـ لا ندري أيهما أسلم قبل صاحبه ( أنظر تهذيب التهذيب ٧ / ١٧٤ ، والإصابة في ترجمته ) وحسبنا توهيناً له كذبه بأنه رابع الإسلام إذ أن رابع الإسلام هو زيد بن حارثة فقد أسلم بعد أن أسلمت خديجة عليها‌السلام وأسلم علي عليه‌السلام وأسلم جعفر ( أنظر سيرة ابن هشام ١ / ٢٤٧ ط تراث الإسلام ) ـ

روى عنه الخبر أبو برهم هو السماعي ـ السمعي ـ مختلف في صحبته ، وقال ابن يونس : هو جاهلي عداده في التابعين ، وقال ( أبو حاتم ) : ليست له صحبة ، وقال البخاري : هو تابعي ( أنظر تهذيب التهذيب ١ / ١٩٠ ).

روى الخبر عنه الحارث بن زياد شامي قال ابن حجر في تهذيب التهذيب ٢ / ١٤٢ وقرأت بخط الذهبي في الميزان مجهول وشرطه أن لا يطلق هذه اللفظة إلا إذا كان أبو حاتم الرازي قالها.

وقال أبو عمرو وبن عبد البر في الاستيعاب : مجهول وحديث منكر.

وروى الخبر عنه يونس بن سيف القيسي الكلاعي الحمصي مات / ١٢٠ هـ ، وحسبنا معرفة عصره فهو عاش في حكم الأمويين وطاعة الشاميين لهم معروفة على تربية معاوية الشانئة البغيضة لأهل البيت عليهم‌السلام.

وروى الخبر عنه معاوية بن صالح وهو الحمصي خرج من حمص كان يحي بن معين لا يرضاه ، وقال ابن معين : ليس بمرضي وقال : كان ابن مهدي إذا تحدث بحديث معاوية بن صالح زبره يحيى بن سعيد وقال : أيش هذه الأحاديث ( أنظر تهذيب التهذيب في ترجمته ).

١٦٨

وكرواية عمرو بن العاص تقرباً إلى قلب معاوية : ( إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، إنّما وليي الله وصالح المؤمنين ) (١).

وكرواية قوم في أيام معاوية أخباراً كثيرة من فضائل عثمان ، تقرباً إلى معاوية بها. ولسنا نجحد فضل عثمان وسابقته ، ولكنّا نعلم أنّ بعض الأخبار الواردة فيه موضوع ، كخبر عمرو بن مرّة فيه ، وهو مشهور ، وعمرو بن مرّة ممن له صحبة وهو شامي (٢) ) (٣).

أقول : ولم يذكر ابن أبي الحديد في المقام أبا هريرة الذي روى ـ

____________

١ ـ صحيح البخاري كتاب الأدب باب تبل الرحم ببلالها ٨ / ٦ ط بولاق ، ولفظه : ( إن عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهاراً غير سّر يقول : إن آل أبي ـ قال عمرو في كتاب محمد ابن جعفر بياض ـ ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين.

زاد عنبسة بن عبد الواحد عن بيان عن قيس عن عمرو بن العاص قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ولكن لهم رحم أبلّها ببلالها ) يعني أصلها بصلتها.

أقول : ولم يذكر البخاري سوى هذا الخبر في هذا الباب ، وقد أربك شراح صحيحه في معنى هذا الخبر ، فمن مشرّق إلى مغرّب ، وبالتالي طفح النُصب في كلماتهم.

ولابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٢٤ ـ ٢٨ كلام كثير ورد فيه : ان من رواته قيس بن حازم الراوي عن عمرو بن العاصي كان يحمل على علي ولذلك كان يتجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين ، وكان يقدّم عثمان علي علىَّ ، ومع هذا قال ابن حجر : والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية وهو من كبار التابعين (؟!) ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم .. ).

٢ ـ عمرو بن مرة : قال البخاري : كان يقول : أنا مرجئ ، وقال أحمد : خبيث ، وقال العجلي : وكان يرى ألا رجاء ، وقال : نظرت في هذه الآراء فلم أر قوماً خيراً من المرجئة ، وأنا مرجئ ، فقال له سليمان الأعمش : لم تُسمّ باسم غير الإسلام؟ قال : أنا كذلك.

أقول : ومع هكذا التجريح قالوا فيه من معادن الصدق (؟!) ( باقتضاب من جامع الجرح والتعديل ٢ / ٣٥٠ ـ ٣٠٦ ).

٣ ـ شرح النهج ١١ / ٤٢.

١٦٩

كذباً ـ : ( قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلافة بالمدينة والملك بالشام ) (١).

وروى لصالح معاوية الباغي في قتاله الإمام الشرعي : ( إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما في الجنة.

فقالوا : كيف يا رسول الله؟

قال : يُقتل هذا فيلج الجنة ، ثم يتوب الله على الآخر فيهديه إلى الإسلام ، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ) (٢).

وعلى هذا فلا مؤاخذة على من زجّ بهم معاوية في صفّين فقاتلوا وقتلوا!!

وروى أيضاً ما يوافق هوى معاوية : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( ما من أحد يدخله عمله الجنة ) ، فقيل : ولا أنت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : ( ولا أنا إلاّ أن يتغمدني ربّي برحمته ) (٣).

ولمّا كانت رحمة الله تعالى وسعت كلّ شيء ، فمعاوية له نصيبٌ منها!!

وعامّة رواياته في نحو ما سبق طامة عامة تدلّ على منهج عدائي ، مقصود منه خدمة الجهاز الحاكم القرشي في الشام ، وإلاّ كيف نحتمل سلامة القصد حين يروي أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( اللهم فأيّما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة ) (٤). فسبّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاوية وأبيه وأخيه ، قربة لهم إلى الله وزكاة!!

____________

١ ـ البداية والنهاية ٨ / ٢٢ لابن كثير ، نقلاً عن البيهقي.

٢ ـ صحيح مسلم ٦ / ٤٠ ط صبيح باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة.

٣ ـ نفس المصدر ٨ / ١٤٠ باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى.

٤ ـ نفس المصدر ٨ / ٢٦.

١٧٠

وحديثه فيما يرويه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يحكي عن ربّه عزوجل قال : ( أذنب عبد ذنباً ، فقال : اللهم إغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنباً فعلم أنّ له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.

ثم عاد فأذنب ، فقال : أي ربّ إغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً فعلم أنّ له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب.

ثم عاد فأذنب ، فقال : أي ربّ إغفر ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً فعلم أنّ له ربّاً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، إعمل ما شئت فقد غفر لك ) (١).

ونحو هذا ممّا فتح على الأمّة باب الإفتراء وأدخلهم فيه أفواجاً.

وما دام جراب أبي هريرة مفتوحاً ، فسوف لن تواجه معاوية أيّ معضلة في محاربته مبادئ الإسلام العادلة ، بل وحتى ردّ جميع ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أراد ، فلديه زمرة أفّاكة قد وضعت جميع طاقاتها في خدمته ، وتنفيذ أغراضه ، ولهم من حماية أبي هريرة ما يكفي للدفاع عنهم ، فعمرو ابن العاص ، وبسر بن أبي ارطأة ، وسمرة بن جندب ، وأضرابهم من حثالات منافقي الصحابة الذين خاضوا في دماء المسلمين مع معاوية أيام حكمه ، فقد روى لهم حصانتهم أبو هريرة من خلال حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لا تسبّوا أصحابي ، لا تسبّوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحُد ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه ) (٢).

____________

١ ـ نفس المصدر ٨ / ٩٩ باب قبول التوبة من الذنوب وأنّ تكررت الذنوب والتوبة.

٢ ـ نفس المصدر ٧ / ١٨٨ باب تحريم سب الصحابة رضي‌الله‌عنهم.

١٧١

وليت شعري ، أين كانت هذه الرواية غائبة عن ذهن أبي هريرة يوم صفين وقد حارب معاوية وهو رأس الفئة الباغية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعه من الصحابة الجمع الكثير ومنهم عمار بن ياسر الذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( تقتله الفئة الباغية ) (١).

وأين كان أبو هريرة يوم صار معاوية يلعن الإمام والحسن وال وعبد الله بن عباس ، وقيس بن سعد (٢).

أو ليس هؤلاء من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ولكن أبا هريرة لمّا كان على رأس المجندين في مدرسة الوضع التي أسسها معاوية ، فهو يذكر من جرابه ما يريده معاوية.

ذكر ابن أبي الحديد في شرح النهج : ( إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة على عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جُعلا يُرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير ) (٣).

وكان أبو هريرة مدرسة سيّارة مع معاوية ، فقد حكى ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافي ، قال : ( وروى الأعمش ، قال : لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة ، فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس ، جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً ، وقال :

____________

١ ـ صحيح البخاري ٣ / ٣٠٧.

٢ ـ واقعة صفين / ٦٣٦.

٣ ـ شرح النهج ١ / ٣٥٨ط مصر الأولى.

١٧٢

يا أهل العراق أتزعمون أنّي أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي بالنار ، والله لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ( إنّ لكلّ نبيّ حرماً وإنّ حرمي بالمدينة ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ، وأشهد بالله أنّ عليّاً أحدث فيها ، فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاّه إمارة المدينة ) (١).

ولست في مقام إستعراض ما قام به أبو هريرة في خدمة الحكم الأموى وتثبيت عرشه ، فقد أغنانا عن هذا ما كتبه العَالمَان العلمان السيد شرف الدين والشيخ أبو رية رحمهما الله تعالى. وإنّما الغرض من ذكر ما مرّ فضح النُصب القرشي ، وما قام به رموزه من حاكمين وأتباعهم من معاداة ومحادّة لله ولرسوله في إيذائهم لأهل البيت عليهم‌السلام الذين أمر الله بمودتهم ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(٢) ، فكانت مودتهم في قاموس زمرة النصب القرشي معناها محاربة الإمام عليه‌السلام حيّاً وفرض سبّه على المنابر ميّتاً.

تضليل الشجرة الملعونة بظِلالها وضَلالها في الآفاق

لقد استمرت بدعة السبّ طيلة حكم السفيانية والمروانية إلاّ أيام عمر ابن عبد العزيز الذي أمر برفع السبّ فترة حكمه.

قال الحافظ السيوطي : ( إنّه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بما سنّه لهم معاوية من ذلك ) ، وفي

____________

١ ـ شرح النهج ١ / ٣٥٩ط مصر الأولى.

٢ ـ الشورى / ٢٣.

١٧٣

ذلك يقول العلامة أحمد الحفظي الشافعي في أرجوزته :

وقد حكى الشيخ السيوطي إنّه

قد كان فيما جعلوه سنّه

سبعون ألف منبر وعَشَرةَ

من فوقهن يلعنون حيدرة

وهذه في جنبها العظائمُ

تصغر بل توجّه اللوائمُ

فهل ترى مَن سنّها يعادي؟

أم لا؟ وهل يَسُّر أم يهادي؟

أو عالم يقول عنه نسكتُ؟

أجبّ فإني للجواب منصتُ

وليت شعري هل يقال اجتهدا؟

كقولهم في بغيه أم ألحدا؟

أليس ذا يؤذيه أم لا فاسمعن

إن الذي يؤذيه من ومن ومن؟

بل جاء في حديث أم سلمة

هل فيكم الله يُسبُ مه ، لَمه؟

عاون أخا العرفان بالجواب

وعاد من عادى أبا تراب (١)

والتاريخ مليء بأخبار تلك الشناعة ، حتى كانت البلاد التي يأبى أهلها الإذعان للسبّ تذكر بخير ، فقد ذكر ياقوت في ( معجم البلدان ) في ( سجستان ) عن محمد بن بحر الرهني بعض محامد أهلها ، إلى أن قال :

( وأجلّ من هذا كلّه أنّه لُعن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه على منابر الشرق والغرب ، ولم يلعن على منبرها إلاّ مرّة ، وامتنعوا على بني أمية حتى زادوا في عهدهم أن لا يلعن على منبرهم أحد ... وأيّ شرف أعظم من إمتناعهم

____________

١ ـ النصائح الكافية / ٩٥ ـ ٩٦ ط الحيدرية.

١٧٤

من لعن أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبرهم ، وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة؟ ) (١).

كما أنّ البلاد التي تجاوبت مع نُصب الأمويين والتزمت بدعة السبّ شهّر بهم كما قيل عن أهل أصفهان أيام عمر بن عبد العزيز ، حيث استمهلوه في رفع السبّ أربعين يوماً.

وسواء صح ذلك عنهم أم لا ، فإنّّ الأمويين إمعاناً في النُصب أحدثوا بدعاً لتثبيت بدعة السبّ في أذهان المسلمين ، فقدّموا الخطبة على الصلاة في العيدين خلافاً للتشريع الثابت منذ عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمل به الخلفاء من بعده.

قال ابن حزم في ( المحلى ) : ( ومنها ما أحدث بنو أمية من تأخير الصلاة ، وإحداث الأذان والإقامة ، وتقديم الخطبة قبل الصلاة ) ـ يعني هذا في صلاة العيدين ـ.

ثم قال : ( وأعتلّوا بأنّ الناس كانوا إذا صلّوا تركوهم ولم يشهدوا الخطبة ، وذلك لأنّهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، فكان المسلمون يفروّن ، وحقّ لهم ، فكيف وليس الجلوس للخطبة وأجباً ) (٢).

ومع هذا التمادي في الغيّ تبقى الشجرة الملعونة تلقي بِظِلالها وضَلالها على كثير ممن يفخرون بإنتمائهم إليهم ، ويلوكون ثمارها الوبيء ، ويعتبرونه رصيد شرف للعروبة والإسلام ، ويتحدثون لهم بأمجاد

____________

١ ـ معجم البلدان ٣ / ١٩١.

٢ ـ المحلى ٥ / ٨٥ ـ ٨٦.

١٧٥

إشاعة الظلم والفساد بين العباد ، مع أنّ جوامع الحديث المقبولة عندهم تروي لعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم برواية أم المؤمنين عائشة ـ وهي غير متهمة عندهم ـ.

فقد قالت لمروان : ( أنت فضض من لعنة نبيّ الله ) (١).

ولمّا أتاها في آخر أيام عثمان يستمهلها عن سفرها إلى الحج وعثمان محصور ، فقالت له : وددت والله أنّه في غرارة من غرائري هذه ، وأنّي طُوّقت حمله حتى ألقيه في البحر.

فأنشد مروان :

وحرّق قيس عليّ البلاد

حتى إذا اضطرمت أجذما

فقالت له : أيها المتمثل عليّ بالأشعار ، وددت أنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره في رجل كلّ واحد منكما رحىً وأنكما في البحر ، سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأبيك وجدك إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن (٢).

وعن ابن عباس : ( إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هم بنو أمية ) (٣).

راجع مواقف السيدة عائشة من عثمان ما مرّ في الجزء الثاني من الحلقة الأولى من الموسوعة تجد الشواهد الكثيرة نقلاً عن تاريخ الطبري ، وطبقات ابن سعد ، وأنساب الأشراف للبلاذري ، وغيرهما.

____________

١ ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير ٣ / ٢١٦ حوادث سنة ٥٦ في ذكر البيعة ليزيد بولاية العهد ، ط بولاق بمصر.

٢ ـ الدر المنثور ٤ / ١٩١.

٣ ـ الجامع الأحكام القرآن ١٠ / ٢٨٣ للقرطبي ، تفسير الرازي ٢ / ٢٣٧ ط عبد الرحمن محمد بمصر سنة ( ١٣٥٧ ).

١٧٦

وراجع أيضاً تفاسير الطبري ، والقرطبي ، المالكي ، والبغوي ، وابن الجوزي ، وابن كثير ، والشوكاني ، والسيوطي ، والآلوسي ، وغيرها في تفاسير الآيات الكريمة : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ )(١) ، وقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )(٢) ، وقوله تعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )(٣).

قال البغوي في تفسير الآية الأولى : ( وروي من غير وجه عنه عن علي عليه‌السلام : ( هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، فأمّا بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر ، وأمّا بنو أمية فمتعوا إلى حين ) (٤).

وروى البغوي وغيره ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب : ( فعن عمرو بن مرّة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هذه الآية : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ )(٥)؟

قال : هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك ، فأمّا أخوالي فأستأصلهم الله يوم بدر ، وأمّا أعمامك فأملى الله لهم إلى حين ) (٦).

وبقي ابن عباس بالمرصاد صامداً أمام التيار الأموي القرشي ، الذي كثرت أساليب الخداع عنده ، شامخاً بالقرشية ، ويحكم الناس باسم الإسلام

____________

١ ـ إبراهيم / ٢٨.

٢ ـ الْقَدْر / ١.

٣ ـ الكوثر / ١.

٤ ـ تفسير البغوي / في تفسير الآية ٢٨ من سورة إبراهيم.

٥ ـ إبراهيم / ٢٨.

٦ ـ تفسير البغوي / في تفسير الآية ٢٨ من سورة ابراهيم.

١٧٧

الذي جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنو هاشم هم رهط الأدنون ، ولكنهم معادون ومبعدون ، فكان ابن عباس من أشدّ المجاهدين بلسانه وبيانه ، وحججه وواضح برهانه ، ينسف مقولة الحاكمين في سواسية البطون القرشية في الفضل ، ويكشف زيف دعاواهم بأمجادهم في الجاهلية ، فكان يقول :

( والله لقد علمت قريش أنّ أوّل من أخذ الإيلاف وأجاز لها العبرات لهاشم.

والله ما شدّت قريش رحالاً ولا حبلاً بسفر ، ولا أناخت بعيراً بحضر ، إلاّ بهاشم.

والله إنّ أوّل من سقى بمكة ماءاً عذباً وجعل باب الكعبة ذهباً لعبد المطلب ) (١).

واللافت للنظر في كلام ابن عباس رضي‌الله‌عنه تأكيده بالقسم ثلاث مرّات في كلّ مأثرة من المآثر القرشية التي تميّزت بها على العرب ، وأنّ تلك المآثر في أساسها الراسخ المتين إنّما هي لجديه هاشم وعبد المطلب.

فما دامت قريش الحكومة اتخذت الإنتماء القرشي حجة لتولي الحكم ، حتى تعسّفت في تفسير الحديث الشريف : ( الأئمة من قريش ) ، فجعلت لها الهيمنة على الناس ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك ، فيحق لها الإنفراد بالخلافة والحكم دون غيرها من العرب والعجم ، بإرادة حتمية من السماء على لسان رسول السماء!!

قلت : فما دامت تلكم هي الحجة ، فبنو هاشم رهط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذن هم أولى

____________

١ ـ شرح النهج لابن أبي الحديد ٣ / ٤٥٨ ط مصر الأولى.

١٧٨

من سائر بطون قريش لقرباهم منه ، فهو منهم وهم منه ، وجداهم هاشم وعبد المطلب هما مؤسسا الفخر القرشي ، فلماذا يشمخ حاكم الشام في نزوة من نزواته على الناس بفخر قريش ، ثم هو يحارب أصحاب الفخر من قريش؟!

فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب الأدب في أوّل باب مناقب قريش قال : ( حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : كان محمد ابن جبير بن مطعم يحّدث : أنّه بلغ معاوية وهو عنده في وفدٍ من قريش أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان.

فغضب معاوية فقام فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أمّا بعد فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ، ولا تؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأؤلئك جهّالكم ، فأياكم والأماني التي تُضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول الله يقول : ( إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) (١).

فهذا الذي رواه البخاري في صحيحه بسند رجاله كلّهم غير متهم على معاوية ، فرووا لنا كلامه ، وقد خلا من الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد الثناء على الله سبحانه وتعالى! كما هي العادة في إفتتاح الخطاب ، لكن معاوية الحقود العنيد لا يذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لا يرضيه ( إلاّ دفناً دفناً ) (٢).

وهذا ما كان يثير حفيظة ابن عباس رضي‌الله‌عنه فيعلن للملأ كذب الإعلام الأموي ويفضح عداءه للإسلام ، ويُغلّب على أحاديثه ذكر فضائل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

____________

١ ـ صحيح البخاري ٤ / ١٧٩ كتاب الأدب ، باب مناقب قريش ط بولاق.

٢ ـ في الأخبار الموفقيات وغيرها ، وقد مرّ ذكرها في تكفيرها معاوية بشهادة المغيرة ، فراجع.

١٧٩

رداً على زمرة الأفّّاكين الذين سخرّهم معاوية لتناول الإمام عليه‌السلام بالسبّ.

فروى ابن أبي الحديد عن المدائني ، قال : ( كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاًَ من فضل أبي تراب وأهل بيته.

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ، ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ) (١).

وليت الراوي محمد بن جبير بن مطعم والوفد القرشي الذي خطبهم معاوية وروى لهم سماعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) ، ليتهم سألوه ألم يسمع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( من سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله ، ومن سبّ الله أكبّه يوم القيامة على وجهه في النار ) ، وسيأتي هذا الحديث وملابساته ، برواية ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، فإنّه كان الوحيد الشديد في محاوراته مع عمر وعثمان ومعاوية وأشياع الضلالة من زمر المنافقين ، فهو بحق كان يمثل دور المعارضة الغاضبة التي ترى أنّها صاحبة الحق المغتصب. وقد مرتّ محاوراته مع من ذكرت من رموز قريش نسباً.

أمّا الآن فسنقرأ محاوارته مع أذناب لقريش ، فهم منهم سبباً ، لنعرف أنّه الشخصية الفذة التي تفانت في ولائها للإمام عليه‌السلام معلناً أمام المنافقين بنصرته وولائه ، مظهراً للحقائق التي غيبها السلطان الجائر بإعلامه الكاذب.

____________

١ ـ شرح النهج ١١ / ٤٤.

١٨٠