الإمام علي بن الحسين عليه السلام دراسة تحليلية..

مختار الأسدي

الإمام علي بن الحسين عليه السلام دراسة تحليلية..

المؤلف:

مختار الأسدي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-215-6
الصفحات: ١٢٨

في كل موقف وموطن وفي كلِّ نبضة قلب ورمشة جفن ، وكأنه قطعة من كيانٍ وجزءٍ من كلِّ ، لا ينقطع ولا يكلّ ولا يملّ ، حتىٰ يقول :

« يا إلهي لو بكيت إليك حتىٰ تسقط أشفار عيني ، وانتحبتُ حتىٰ ينقطع صوتي ، وقمت لك حتىٰ تنتثر قدماي ، وركعتُ لك حتىٰ ينخلع صلبي ، وسجدتُ لك حتىٰ تتفقأ حدقتاي ، وأكلتُ تراب الأرض طول عمري ، وشربتُ ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتىٰ يكلُّ لساني ، ثم لم أرفع طرفي إلىٰ آفاق السماء استحياءً منك ، ما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي...

فارحم ياربِّ طول تضرّعي وشدة مسكنتي وسوء موقفي ، واستعملني بالطاعة ، وارزقني حُسن الإنابة ، وطهرني بالتوبة ، وأيّدني بالعصمة ، واستصلحني بالعافية ، وأذقني حلاوة المغفرة ، واجعلني طليق عفوك ، وعتيق رحمتك ، واكتب لي أماناً من سخطك ، وبشرني بذلك في العاجل دون الآجل ، إنّك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد ، وإنك علىٰ كلِّ شيء قدير ... ».

إذن ، وباختصار شديد وبكلمات أكثر تفصيلاً يمكن القول ان الصحيفة السجادية التي تركها الإمام زين العابدين عليه‌السلام جاءت لتشكّل مساحة منهجية رائدة وكبيرة ، بكبر القضية التي انتُدب لها أولاً ، وبحجم دوره عليه‌السلام في ريادة هذه القضية وتوجيهها وتعميقها في نفوس الناس ثانياً.

نعم ، جاءت هذه الصحيفة لتكون شوطاً آخر من أشواط الجهاد الذي قطع مشواره المرّ الطويل هذا الإمام العظيم في تبيئة المفهوم الإسلامي ـ كما يقولون اليوم ـ وتأصيل جذوره في الاُمّة والمجتمع بعدما انكمش دوره في دائرة القوالب المشوّهة التي صاغها الأمويون ، وداسوا القيم

٦١

العظيمة التي جاء من أجلها بل لأجلها النبي المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستشهد لأجلها سيد الشهداء عليه‌السلام.

جاء الإمام السجاد في صحيفته هذه ليمزج العاطفة بالوجدان ، والقلب بالعقل ، ويحمل الجميع إلىٰ الحقيقة الإلهية المتعالية بلا رتوش أو أصباغ أو قوالب يتماهىٰ معها أدعياء هذه الحقيقة فيستغرقون ويُغرقون الناس معهم في مفاهيم غائمة لا مصاديق لها ، أو يغوصون في عبارات سائبة عائمة لا تستقر في قعر ولا تركن إلىٰ حصنٍ منيع.

ونكتفي بالإشارة ، والإشارة فقط إلىٰ بعض مضامين دعائه التي لم تحلّق في السماء فقط ، وإنّما نزلت إلىٰ الأرض تقارع الظالمين وتنتصر للمظلومين ، تستنهض الهمم وتدعو لتحكيم دين الله ، ولم تكتفِ ، بل لم تجنح إلىٰ «التهويمات» التي يطير فيها بعض المتصوفين ممن لا علاقة لهم بالناس ، ولا وشيجة لهم مع أُمّة أو مجتمع...

وسنتناول فيما يلي ثلاثة مضامين تناولها الإمام عليه‌السلام وسعىٰ إلىٰ ترسيخها في أذهان الاُمّة ، وقد تمثّلت في العقائد والأخلاق وأخيراً المضمون العبادي الذي يعطي العبادة دورها الفعّال والحيوي في إحياء المجتمع وتزكيته ، وهذه تُعدُّ من أهم ركائز المجتمع الإسلامي :

١ ـ المضامين العقائدية :

ولعلَّ أول ما يطالعنا في هذا السفر الخالد هو قدرة الإمام زين العابدين عليه‌السلام الفائقة علىٰ تجسيد العلاقة بين العبد وربّه ، أو بين الخالق والمخلوق ، وباسلوب أدبي رفيع ومناجاة عذبة صادقة يصدق أن يُقال فيها ما قيل في أقوال جدّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّها تحت كلام الخالق

٦٢

وفوق كلام المخلوق فعلاً..

لنستمع قليلاً إلىٰ بعض ما جاء في هذه الأدعية : « الحمدُ لله الذي خلق الليل والنهار بقوته ، وميّز بينهما بقدرته ، وجعل لكلِّ واحدٍ منهما حدّاً محدوداً وأمداً ممدوداً... اللهمَّ فلك الحمدُ علىٰ ما فلقت لنا من الإصباح ، ومتّعتنا به من ضوء النهار ، وبصّرتنا فيه من مطالب الأقوات ، ووقيتنا فيه من طوارق الآفات... ».

ويرسم الإمام لنا لوحةً اُخرىٰ عن عظمة الخالق سبحانه ، وكيف أنّه جلَّ وعلا أكبر ، ولكنّه أكبر من كلِّ كبير ، وليس أكبر من كلِّ صغير ، وأنّه عزَّ وجلَّ أعلىٰ ، ولكنّه أعلىٰ من كلِّ عالٍ أو متعال وليس أعلىٰ من كلِّ مسكين واطىء ضعيف...

فيقول عليه‌السلام : « الحمدُ لله الذي تجلّىٰ للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الأبصار بالعزة ، واقتدر علىٰ الأشياء بالقدرة ، فلا الأبصار تثبُت لرؤيته ، ولا الأوهام تبلغ كنه عظمته. تجبّر بالعظمة والكبرياء ، وتعطّف بالعز والبر والجلال ، وتقدّس بالحُسن والجمال ، وتمجّد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء. خالق لا نظير له ، وواحد لا ندّ له ، وماجد لا ضدّ له ، وصمد لا كفو له ، وإله لا ثاني له ، وفاطر لا شريك له ورازق لا معين له ، والأول بلا زوال ، والدائم بلا فناء ، والقائم بلا عناء والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير ، والرب بلا شريك.. ليس له حدّ في مكان ، ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبداً هو الإله الحي القيوم الدائم القديم.. » (١).

أما توحيد الباري جلّ وعلا فإنّ الإمام عليه‌السلام يصبّه في قالب دعاء يوجّه

_______________________

(١) الصحيفة السجادية الجامعة : ٢١ و ٢٥ / الدعاء ٢ و ٧.

٦٣

من خلاله الإنسان بهدوء وبساطة إلىٰ وحدانية الله تبارك وتعالىٰ من خلال استقراء ظواهر طبيعية حسيّة هي مع الإنسان في وجوده ، يحملها معه في كلِّ آن ، ولا يستغني عنها لحظة..

فيقول في ذلك : « إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ هيئة جلالك ، فجهلوك وقدّروك بالتقدير علىٰ غير ما أنت به ، شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك ، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك ، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن ينالوك بل ساووك بخلقك ، فمن ثمَّ لم يعرفوك ، واتخذوا بعض آياتك ربّاً ، فبذلك وصفوك ، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك » (١).

٢ ـ المضامين الأخلاقية :

لاشكّ أن المتدبّر في أدعية الصحيفة السجادية سوف يجد آثاراً واضحة تتركها مجمل أدعيته عليه‌السلام علىٰ طبيعة سلوكه بشكل عام. فإنّه عليه‌السلام قد ضرب أروع الأمثلة في الخلق الإسلامي الرفيع ، وجسّد الشخصية الإسلامية المثالية..

وهكذا سعىٰ عليه‌السلام إلىٰ الارتفاع بالنفس المؤمنة في مدارج الكمال عبر بلورة المفاهيم الأخلاقية التربوية من خلال نسجهما بشكل دعاء فيه من الضراعة والخشوع لله تعالىٰ واستمداد العون منه في شحذ النفس بالتعلق بأخلاق السماء ، والتعالي عن كل وضيع ، والارتفاع عن كلِّ دنيء.

ولقد أرسىٰ الإمام عليه‌السلام عبر أدعيته في مختلف مظانها مناهج التغيير الذاتي ، بمحاكاته العقل والوجدان الإنساني وتربيتهما رسالياً ، وهذه

_______________________

(١) الصحيفة السجادية الجامعة : ٢٢ دعاء (٣).

٦٤

مهمة الأنبياء والمصلحين الإلهيين الكبار ، فهي إلىٰ جانب شدّ الإنسان وربطه بالسماء ، تجعله في الأرض بؤرة خير ورحمة ، شديد البأس في ذات الله لا يرضىٰ بظلم ، ولا يرضخ إلىٰ باطل ، قوي العزيمة ، وإنّك لتلمس هذا المنهج بين ثنايا دعائه عليه‌السلام في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال..

ففي هذا الدعاء ـ مثلاً ـ نلتقي بقوله عليه‌السلام وهو ينشدُّ إلىٰ أعماق الأرض ، بقدر انشداده إلىٰ آفاق السماء ، ويغوص في عمق الإنسان فيما هو غارق في عمق العرفان ، فنسمعه يقول : « وأجرِ للناس علىٰ يدي الخير ، ولا تمحقه بالمنّ ، وهب لي معالي الأخلاق ، واعصمني من الفخر. اللهمَّ صلِّ علىٰ محمد وآل محمد ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلّا أحدثت لي ذلّةً باطنةً عند نفسي بقدرها.. ».

فالكلمات التي يعرضها الإمام السجاد عليه‌السلام هنا ـ كما في غيرها ـ تعبّر تعبيراً دقيقاً عن منهج سلوكي عظيم غارقٍ في الشفافية والروح من جهة ، ومستغرقٍ في الفكر والواقع من جهة اُخرىٰ ، فكما أنّه ارتباط عاطفي شديد الصلة متين الانشداد بربِّ العزّة تبارك وتعالىٰ ، ولكنّه من زاوية اُخرىٰ عميق الغوص في الجانب التربوي والأخلاقي والمعرفي الذي لايكتفي صاحبه خلاله بالعرفان المجرّد و (تهويماته) الجميلة ، بل يسحبه إلىٰ الواقع المعاش بكلِّ تفاصيله وخيوطه ونسيجه المعقّد.

« ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها » وهذه أسمىٰ وأرفع سبل تربية الذات ، ودحض الأنا ، وتجاوز الكبر ، والإجهاز علىٰ كل أشكال الغرور والهوىٰ والغطرسة الذاتية.

٦٥

وبكلمة اُخرىٰ استطاع الإمام السجاد عليه‌السلام بهذه العبارة أن يواجه بُعدين ، كلّ منهما سيف ذو حدّين : بُعد الذات التي هي ألدُّ أعداء المرء (١) من جهة ، وهي كرامته وكبرياؤه وعزّته من جهة اُخرىٰ ، وبُعدُ الناس الذين هم ميزان العلاقة ومعيار إنسانية الإنسان من جانبٍ ، وهم الهمج الرعاع الذين يصعب إرضاؤهم وربما يستحيل (٢) من جانب آخر...

وهذا يعني أنّه لم يختفِ أو يحاول الاختفاء ، وراء النص ، كما يفعل الكثيرون ، ولم يحاول التخلّق بأخلاقٍ عالية ربما يكون شعارها النص ومضمونها المخاتلة به والتماهي معه ، وإنّما أراد أن يكون شعاره وخلقه ، نصّه ومضمونه ، متوازنين لا تطغىٰ فيه كفّة علىٰ اُخرىٰ ، ولا زعم علىٰ واقع ، أو واقع علىٰ ادّعاء.

وهكذا ، ومن هذا النص وغيره ، وكما يقول بعض المحللين لشخصية الإمام السجّاد عليه‌السلام ، إنّه استطاع في الظروف العصيبة التي عاشها عليه‌السلام أن يوظّف كل الجهود الممكنة وفي منهج إحيائي حركي لتعميم الثقافة الإسلامية المطلوبة ، وإشاعة التفكير الإسلامي السليم ، أي عبر الدعوة للتفكير الصحيح من خلال الدعاء الذي ورد في هذه الصحيفة التي تنوّعت أبعاده وتعددت آفاقه ليشكل بمجموعه منهجاً كاملاً يأخذ طابع المدرسة الشاملة والثقافة الشمولية المتكاملة التي تملأ كل الفراغات وتغطي كل الثغرات في جسم المجتمع الإسلامي والنموذج المسلم.

فهو ، من جانب ، يغوص في أعماق النفس الإنسانية مدغدغاً أدقّ نوازعها محلحلاً بواطنها ومكنوناتها ، كابحاً لشططها وطيشها وشطحاتها

_______________________

(١) كما روي في الحديث الشريف : « ألدُّ أعداء المرء نفسه التي بين جنبيه ».

(٢) (رضا الناس غايةٌ لا تدرك).

٦٦

« لا ترفعني... إلّا حططتني... » وهو من جانب آخر يسعىٰ إلىٰ توضيح وتيسير المفاهيم الإسلامية العامّة ، وبالتالي استيعاب حاجات الفرد المؤمن المادية والروحية ، وصولاً لاحتواء متطلبات المجتمع المسلم المادية والروحية أيضاً ، وبدون ابتسار أو تعسف أو اختزال..

وهكذا في العشرات بل المئات من المقطوعات المأثورة والبيانات الصريحة التي تعبّر عن اندكاكه بهموم الاُمّة ولوعته في مناشدة الضمائر الحيّة لمقارعة أهل الظلم والجور أياً كانوا وحيثما وجدوا.

فمما روي عنه عليه‌السلام قوله : « يامن اتقيتم سلطان الأرض ، ألا تتقون سلطان السماء ؟ يامن أرهبكم عذاب الدنيا ، ألا ترهبون عذاب الآخرة ، إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ؟ ».

« أتخشون ملكاً تعصونه مرّة ولا تخشون ملك الملوك ، وأنتم في كلِّ يوم له عاصون ؟ ».

« اللهمَّ من تهيأ وتعبأ واستعد لوفادة إلىٰ مخلوق رجاء رفده ونوافله وطلب نيله وجائزته ، فإليك يامولاي كانت اليوم تهيئتي وتعبئتي وإعدادي واستعدادي رجاء عفوك ورفدك وطلب نيلك وجائزتك... » (١).

٣ ـ المضمون العبادي :

ومما يؤكد حرص الإمام علىٰ إنزال الدعاء من السماء إلىٰ الأرض ، وشدّه بين واجبات الإنسان علىٰ الأرض وتطلّعه نحو السماء ، إنّه لم ينفكّ يدعو إلىٰ التواصل والجمع بينهما من أجل توفير الحالة الدينية

_______________________

(١) الصحيفة السجادية الكاملة ، دعاؤه يوم الأضحىٰ ويوم الجمعة.

٦٧

المسؤولة ، وتعبئة الاُمّة لحفظ هذا التواصل وإذكاء جذوته وإبقائه في نفوس الناس...

فلا يكاد المرء يستمع إلىٰ مواعظه إلّا ويستشعر نكهتها التربوية والاجتماعية والسياسية ، ودورها في تهذيب النفوس وتنقيتها ، فهي من جانب تدعو إلىٰ التسامي والترفّع ، ومن جانب آخر إلىٰ التصدّي للظالمين والثورة عليهم ، وتؤكد كذلك علىٰ مسؤولية الإنسان في هذه الحياة الدنيا ودوره فيها.. الأمر الذي يعطي العبادة دورها في إحياء المجتمع والفرد من خلال فتح الأبواب إلىٰ مضامينها وأهدافها التي قد لا يدركها إلّا القليل ممن تذوّق روح الشريعة الإسلامية وأبصر أبعادها.

يقول عليه‌السلام وعلىٰ سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ « أصبحت مطلوباً بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي بالسُنّة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتّباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد.. فأنا بين هذه الخصال مطلوب... » (١).

٢ ـ « أيُّها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا ، المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها ، احذروا ما حذّركم الله منها ، وازهدوا في ما زهّدكم الله فيه منها ، ولا تركنوا إلىٰ مافي هذه الدنيا ركون من أعدّها داراً وتوهّمها قراراً... » (٢).

٣ ـ وقال عليه‌السلام واصفاً أهل الدنيا ، مصنّفاً لهم : « الناس في زماننا ستّ طبقات : أُسد وذئاب وثعالب وكلاب وخنازير وشياه : فأما الاُسد فملوك

_______________________

(١) أمالي ابن الشيخ : ٤١٠.

(٢) تحف العقول : ٢٥٢.

٦٨

أهل الدنيا ، يحبّ كلّ واحدٍ منهم أن يَغلِب ولا يُغلَب ، وأما الذئاب فتُجّاركم يذمّون إذا اشتروا ، ويمدحون إذا باعوا ، وأما الثعالب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم ، ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم ، وأما الكلاب فيهرّون علىٰ الناس بألسنتهم ، فيكرمهم الناس من شرّها ، وأما الخنازير فهؤلاء المخنّثون وأشباههم لا يُدعون إلىٰ فاحشةٍ إلّا أجابوا... ، أما الشياه فهم المؤمنون الذين تجزّ شعورهم ، وتؤكل لحومهم ، وتُكسر عظامهم... ».

ثمّ يتساءل متوجّعاً متألماً مشفقاً علىٰ المؤمنين : « فكيف تصنع الشاة بين أسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير... » (١).

ويقول مخاطباً أصحابه وشيعته :

٤ ـ « ... أيُّها الناس ، اتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه راجعون ، فتجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً... ويحذّركم الله نفسه... ويحك ابن آدم ، إن أجلك أسرع شيء إليك ، ويوشك أن يدركك ، فكأنك قد أوفيت أجلك ، وقد قبض الملك روحك ، وصُيّرت إلىٰ قبرك وحيداً... فان كنت عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين ، موالياً لأولياء الله ، لقّنك الله حجتك ، وأنطق لسانك بالصواب ، فأحسنت الجواب ، وبُشّرت بالجنّة والرضوان من الله ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان ، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ، ودُحضت حجتك ، وعييت عن الجواب وبُشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُلٍ من حميم ، وتصلية جحيم.. » (٢).

ولعلّ أروع مادوّنه الإمام السجاد في معرفة النفس الإنسانية وسبره

_______________________

(١) الخصال للشيخ محمد بن علي الصدوق : أبواب السنة ، الحديث الأخير فيها.

(٢) تحف العقول : ٢٤٩ ـ ٢٥٢. وأمالي الطوسي : ٣٠١. وروضة الكافي : ١٦٠. وأمالي الصدوق : ٣٥٦.

٦٩

أغوارها وتفريقه بين زيفها وصدقها ، وكشفه الفاصلة بين الواقع والادعاء ، والظاهر والباطن ، هو المقطوعة البليغة التالية :

٥ ـ « إذا رأيتم الرجل قد حسُنَ سمتُه وهديه ، وتمادىٰ في منطقه وتخاضع في حركاته ، فرويداً لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام فيها ، لضعف بنيته ومهانته وجبن قلبه ، فنصبَ الدين فخاً له ، فهو لا يزال يُختل الناس بظاهره ، فإنّ تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم ، فإنّ شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يتأبّىٰ من الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه علىٰ شوهاء قبيحة ، فيأتي منها محرماً ، فإذا رأيتموه كذلك ، فرويداً حتىٰ لا يغرّنّكم عقده وعقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثمّ لا يرجع إلىٰ عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله... فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنكم حتىٰ تنظروا أيكون هواه علىٰ عقله ، أم يكون عقله علىٰ هواه ؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ في الناس من يترك الدنيا للدنيا ، ويرىٰ لذّة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرياسة ، حتىٰ إذا قيل له اتق الله أخذته العزّة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد... فهو يحلّ ما حرم الله ، ويحرم ما أحلَّ الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها ، فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً أليما... » (١).

هكذا كان الإمام عليه‌السلام في تشخيصه لنوازع وزوايا النفس البشرية المعتمة.. وهكذا كان دعاؤه وعبادته ومواعظه.. غوص بارع في العمق ،

_______________________

(١) تنبيه الخواطر : ٣١٦. والاحتجاج ٢ : ١٧٥.

٧٠

وتضميد هادىء للجرح ، اشارة دقيقة مركّزة هنا ، واسترسال هادف هناك ، ينتزع أدقّ الأشواك ، ويداعب أغلظ الأوتار ، ويقطع الطريق علىٰ أكثر المرائين قدرةً علىٰ التمثيل والتنطّع والرياء..

٧١

٧٢

الفصل الرابع

فلسفة الإمام عليه‌السلام في الانفاق وتحرير العبيد

كان الرقّ نظاماً متّبعاً قبل الإسلام وجاء الإسلام لعلاجه واجتثاثه ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ) (١) ، كما أنّه كان نتيجة طبيعية للفتوحات الإسلامية ووقوع الآلاف من أبناء البلدان المفتوحة أسرىٰ بأيدي المسلمين ، الأمر الذي لابدّ منه لمساومة حكّام البلدان الاُخرىٰ علىٰ تحرير أسرىٰ المسلمين.. فضلاً عن كونه حالة طبيعية في الوسط الاجتماعي آنذاك...

فقد قيل إن الزبير بن العوّام مثلاً كان يملك ألف عبد وألف أمة (٢) ، وإن عملية فتح واحدة للمسلمين ، كان فيها نصيب الدولة الإسلامية من العبيد ستين ألفاً ، وإن امرأة واحدة من المسلمين اشترت خمسمائة عبد (٣) ، إذ كان العبد الواحد يُباع أحياناً بقبضة من فلفل المطبخ... (٤).

ولما كان هؤلاء العبيد يشكّلون شريحة اجتماعية مهمة يُنظر إليها نظرة ازدراء ودونية طبعاً ، وكان معظمهم لا يستطيع التمرد علىٰ سيده بحكم

_______________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٣.

(٢) فجر الإسلام / أحمد أمين : ٩٠.

(٣) الإمامة والسياسة : ١٣٧ فصل الفتوحات ـ القسم الثاني ـ السجاد.

(٤) الإمامة والسياسة ، فتح الاندلس وشمال أفريقيا...

٧٣

النظام الاجتماعي القائم ، ولا يجد بدّاً من العمل معه أوله مقابل لقيمات يسدُّ بها رمقه ، أو أمانٍ يحفظ له حياته ، من خلال انتمائه لهذا البيت أو هذا الرجل ، كان علىٰ الإمام زين العابدين أن يتعامل مع الظاهرة من موقع المسؤولية ؛ إذ عليه أولاً أن يُعاملهم كبشر لا يختلفون عن غيرهم في طموحاتهم وتطلعاتهم وآمالهم ، وأيضاً في تطلعاته هو عليه‌السلام لكسب ودّهم وتربيتهم وزرع القيم الرسالية في نفوسهم...

وحين كان الواحد من هؤلاء يُخاطب بكلمة «يا عبدي ويا أمتي» كان عليه‌السلام يخاطبهم «يا فتاي ويا فتاتي» ؛ إذ كان يرىٰ فيهم رصيداً اجتماعياً مؤثراً لنشر الإسلام وقيمه وتعاليمه...

هدف الإمام عليه‌السلام من التعامل مع الظاهرة :

ومن هنا كان رأي الإمام أن يتعامل معهم وفق الاُسس التالية :

١ ـ التأكيد علىٰ قيم الإسلام في نظرته إلىٰ البشر بأنهم جميعاً لآدم وآدم من تراب.. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) وأن : « الناس سواسية كأسنان المشط » وأنه « لا فرق بين عربي وأعجمي إلّا بالتقوىٰ » و « لا فضل لابن البيضاء علىٰ ابن السوداء إلّا بالحق » وأن « الناس صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق » ، وبالتالي فإنّ علىٰ الإمام عليه‌السلام تجسيد هذه المثل النبيلة في التعامل مع أولئك العبيد ورعايتهم وتربيتهم وأخيراً تحريرهم ، أي عتقهم ، وبثّهم في ربوع العالم الإسلامي لأداء الأمانة وتبليغ الرسالة...

٢ ـ تربية المسلمين وحثّهم علىٰ إنهاء هذه الظاهرة غير الممدوحة عبر تشجيعهم علىٰ شراء العبيد وعتقهم ، وكل ذلك بعد تأكيده علىٰ عدم

٧٤

التعالي عليهم ومعاملتهم معاملة إنسانية ، أي بآدمية ورفق كما هو شأن القيم الإسلامية في النظر إلىٰ الضعيف أو المستضعف ممّن لا مال لديه ولا أهل ولا عشيرة..

٣ ـ السعي إلىٰ زجِّ هؤلاء العبيد في المجتمع من خلال تبنّيهم ورعاية شؤونهم واحتضانهم واجتثاث عقدة النقص من نفوسهم ، وكذلك اجتثاث جذور الفوقية والعرقية من نفوس أسيادهم بغية استثمار المؤهلين منهم في الوسط الاجتماعي كقادة ومربين ومبلّغين ، فضلاً عن هدف الإمام العظيم لمواجهة الحالة العنصرية التي أوجدتها السياسة الأموية في التفريق بين العرب والموالي أو تفضيل العرب علىٰ غيرهم ، باعتبارهم (مادة الإسلام) كما زعموا ، أو زعم بعضهم.

وهكذا فقد أوجد الإمام السجاد عليه‌السلام تشكيلاً أو وجوداً اجتماعياً مؤثراً ، كان يحترم الإمام ويكنّ له كل ألوان التقدير والإعتزاز والحبّ ، وخاصة حين تأتي تفاصيل تلك المعاملة الأخوية من السموِّ والمثالية مابقي يُذكر علىٰ امتداد الدهور والأزمان..

التربية العالية والخلق الرفيع :

كان عليه‌السلام يُعامل عبيده كأخوة وأصدقاء وأبناء ، وكان يجالسهم ويؤاكلهم ويمازحهم ويزوّجهم ، ويزرع فيهم الثقة والاعتزاز بالنفس وبالدين.

ومن مصاديق ذلك قصته مع خادمه الذي استعجل بشواء جاء به إليه لضيوفه ، وسقوط سفود الشواء علىٰ رأس طفل له وقتله في الحال ، وحين رأىٰ الإمام تغيُّر حال الغلام واضطرابه عاجله بقوله : « لا عليك.. إنّك لم

٧٥

تتعمّد قتله ، وأنت حرّ لوجه الله » وأخذ في جهاز ولده ودفنه (١) ، فإنّها قصة تعبّر عن تسامٍ رفيع ومناقبية عظيمة راحت حكاية للأجيال.

وقصته الاُخرىٰ مع جارية له كانت تحمل له إبريقاً ، إذ سقط الابريق من يدها ليشجّ وجه الإمام ويسيل دمه ، وحين اضطربت ، معتذرة إليه قائلة ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) قال لها : « كظمتُ غيظي » فقالت : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) قال : « عفا الله عنك » فقالت : ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) قال « أنتِ حرّة لوجه الله » (٢).

هذه القصة هي الاُخرىٰ جاءت في سياق هذه التربية الرسالية الهادفة لذلك الغرض النبيل ، وهو تعليم الناس دين الله وأخلاق الإسلام ، والتثقيف بثقافة القرآن.

أقول : إنّ هذه التربية السامية والخلق الرفيع كانا يسريان في نفوس عبيد الإمام وإمائه ، بحيث صار عليه‌السلام يوماً إلىٰ بستان له كان بعهدة أو تحت حراسة أحد غلمانه ، ذهب الإمام إلىٰ ذلك البستان يحمل معه طعاماً للحارس ، فأعطىٰ الإمام الطعام للغلام وتنحّىٰ جانباً يراقب من بعيد ، كان للغلام كلب واقف قريباً منه والغلام يأكل والكلب ناظر إليه ، وحين شاهده راح يأكل لقمةً ويعطيه لقمة حتىٰ انتهىٰ من طعامه ، وحين فاجأه الإمام أن الطعام كان له وليس لكلبه ، جاء جوابه : (والله يا ابن رسول الله إني استحييت أن آكل أمامه وهو دالع لسانه ينظر إلىٰ الطعام ولا أشاركه أو يشاركني..). هذا مع الكلب ، فكيف مع الناس !! وروايات وحكايا ومواقف كثيرة اُخرىٰ من هذا القبيل...

_______________________

(١) بحار الأنوار ٤٦ : باب ٥ ـ ٨١.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني : ١٥٥.

٧٦

وكما كان عليه‌السلام يرتعد من خشية الله أثناء عبادته إذ كان يصفّر وجهه إذا توضّأ للصلاة ـ كما يذكر الرواة ـ وهو يقول : « أتدرون من سأُناجي بعد قليل وأمام من ؟ وبين يدي من سأقف ؟! » (١)..

وكما يُروىٰ عن حريق شبّ يوماً في داره وحين قيل له : النار النار يا ابن رسول الله ، لم يكترث حتىٰ أُطفئت فقيل له : ما الذي ألهاك عن النار ؟ قال : « ألهتني النار الكبرىٰ » (٢).

أقول : كما كان الإمام كذلك في تجسيده لخشية الله وذوبانه في حبّ ربِّ العباد ، كان تجسيده لحبّه لعبيده ورفقه بهم بعيداً عن التمظهر والافتعال والإدّعاء أو الرياء...

تذكر الروايات أنه عليه‌السلام تفقّد يوماً ضيعةً له ، فوجد أنّه أصابها فساد كبير بسبب إهمال غلامه لها وعدم اكتراثه لرعايتها ، فغضب لذلك وقرع المولىٰ بسوط كان في يده.. وما أن استرجع حتىٰ ندم علىٰ قرعه الغلام ، فاعتذر منه وأعطىٰ السوط للغلام ليقتصّ منه ، فأبىٰ الغلام ، بل راح يقبّل يد الإمام ، فقال له عليه‌السلام : « أما إذا أبيت ، فالضيعة صدقة عليك ، وأعطاها إياه... » (٣).

وضرب يوماً غلاماً تباطأ في عملٍ أرسله لإنجازه ، فقال له الغلام تبعثني في حاجتك ثم تضربني ! فبكىٰ الإمام وقال له في الحال « يا بني اذهب إلىٰ قبر رسول الله فصلِّ ركعتين ثم قُل : اللهمّ اغفر لعلي

_______________________

(١) سيرة الأئمة الأثني عشر : ١٦٠.

(٢) مختصر تأريخ دمشق ١٧ : ٣٣٦ / ١٣٤. وسير أعلام النبلاء ٤ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ / ١٥٧. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٣) البحار ٤٦ : باب ٥ ـ ٨٥.

٧٧

بن الحسين خطيئته يوم الدين » ثمّ قال : « اذهب أنت حرٌّ لوجه الله.. » (١).

ومثل ذلك الكثير الكثير ، ولم يكن الإمام بهذه المواقف أو المناقبية الفريدة ، يريد تسجيل لوحات استهلاكية للتشدّق والرياء ، ولم يكن يرغب في تدوينها للتسويق السياسي والتجارة ، وإنّما كانت سجيّته هكذا ، بل كانت أخلاقه ملكة لم يستطع أكثر أعدائه خصومةً له ، تسجيلها عليه علىٰ أنها نوازع خاصة لأهداف مبيّتة يرغب في تسويقها من أجل اكتساب السمعة أو الشهرة أو توسيع دائرة المعجبين والمحبين ، كما يفعل الكثيرون.

ولعلَّ (صدقة السر) المنسوبة له عليه‌السلام تجسيدٌ مثاليٌ رائعٌ لهذه الملكة الخالدة والسجية العظيمة ، فكان يسمىٰ (صاحب الجراب) ؛ إذ كان يقصد بجرابه فقراء المسلمين ليلاً ملثماً ، فيقرع أبوابهم باباً باباً ليضع ما يضعه أمامها في جوف الليل من طعام أو صرّة مال ، ولم يكن ليعرف المسلمون (صاحب الجراب) هذا حتىٰ مات عليه‌السلام حيث كشف بعض خواصه كلمته الخالدة : « إنّ صدقة السرّ ، أو صدقة الليل تطفىء غضب الرب » لتبقىٰ شعاراً خالداً يندّد بالمرائين وتجار السياسة وعشّاق الوجاهة والرئاسة وشُرّاء الذمم والأصوات..

منقبة اُخرىٰ ، بل مناقبية اُخرىٰ ، تكشف هذه السجية في شخصيته ، خلاصتها أنه عليه‌السلام كان يحصي علىٰ عبيده أخطاءهم في شهر رمضان ، ويسجّل ذلك عليهم دون علمهم ، ودون أن يعاقبهم أو يُقرّعهم أو يحاسبهم حتىٰ إذا جاء عيد الفطر جمعهم ، وأخذ يذكّرهم بأخطائهم وذنوبهم أثناء الشهر الكريم مع تحديد الوقت والخطأ الذي ارتكبه كلّ

_______________________

(١) البحار ٤٦ : باب ٥ ـ ٥٩.

٧٨

منهم ، وحين يتذكّر المخطيء منهم فعلته أو خطأه ويعترف بذنبه ، يعفو عنه ويطلب منه أن يدعو له بالمغفرة والعتق من النار كما عفا هو عنه أو عنهم ، ثمّ يعتقه أو يعتقهم أحراراً لوجه الله وهو يردّد وهم جميعاً يرددون معه وبصوت ودعاء ملائكي حزين : « ربّنا أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد عفونا كما أمرت ، فاعفُ عنا.. ربنا وأمرتنا إلّا نردّ سائلاً عن أبوابنا وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين ، وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطائك ، فامنُن بذلك علينا ولا تخيّبنا..

نسألك اللهمَّ بالمخزون من أسمائك وبما وارته الحجب من بهائك إلّا رحمت هذه النفس الجزوعة وهذه الرّمّة الهلوعة التي لا تستطيع حرّ شمسك ، فكيف تستطيع حرّ نارك ، والتي لا تستطيع صوت رعدك ، فكيف تستطيع صوت غضبك.. ».

ثم يُقبل عليه‌السلام علىٰ عبيده فيقول لهم : « قد عفوتُ عنكم ، فهل عفوتم عنّي مما كان مني إليكم من سوء ملكي ؟ فإنّي مليك سوءٍ ، لئيم ظالم ، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل.. ».

فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا وما أسأتَ فيقول لهم قولوا : « اللهمَّ أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا ، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقِّ... ».

ثم يقول : « اللهمَّ تولّني في جيراني بإقامة سنّتك والأخذ بمحاسن أدبك في إرفاق ضعيفهم وسدّ خلّتهم ، وتعهد قادمهم ، وعيادة مريضهم ، وهداية مسترشدهم ، ومناصحة مستشيرهم ، وكتمان أسرارهم ، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم بالجدّة والأفضال وإعطائهم ما يجب لهم قبل السؤال.. ».

٧٩

وهكذا ، مما لا عدّ له ولا حصر في إحصاء زوايا النفس الإنسانية والتنقيب عن مكنوناتها النبيلة في حبّ الآخرين والرفق بهم والعطف عليهم و (مواساتهم بالماعون) ـ لاحظ الدقة ـ ونُصحهم والانتصار لمظلومهم وتعهّد قادمهم وما ذكره وردّده ومازالت تذكره وتردده الأجيال جيلاً بعد جيل رغم تعاقب الدهور والعصور..

وأكثر من ذلك ، أنه عليه‌السلام كان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامىٰ والأضرّاء والزمنىٰ (أي أصحاب العاهات المزمنة) والمساكين الذين لا حيلة لهم ، وكان يناولهم الطعام بيده محبّاً مشفقاً متودداً ، أما من كان له عيال ، فكان يحمل له من طعامه إلىٰ عياله ، وإذا أتاه سائل يسأله كان يجيب : « مرحباً بمن يحمل زادي إلىٰ الآخرة » (١) ، مذكّراً بمقولة جدّته الزهراء عليها‌السلام ومجسّداً لمواقفها العظيمة مع من كان يطرق بابها من الفقراء ، فلا تردّهم ، رغم حاجتها وحاجة أطفالها ، بل كانت تقول : « كيف أردُّ الخير وقد طرق بابي ، أو نزل ببابي » (٢).

سياسة الإنفاق :

أما عن الانفاق فلم يكن عليه‌السلام يفكك بين الروح والمادة ، وبين الحقوق والواجبات ، وبين متطلبات الجسم وتحليقات الروح ، بل كان يجسّد المثال الأروع في الانفاق من خير ما يحب المرء ، وكان دائماً يردد كلام الله جلَّ وعلا : ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (٣).

_______________________

(١) المجالس السنية ٥ : ٤٢٢.

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٧٣.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٩٢.

٨٠