الإمام علي بن الحسين عليه السلام دراسة تحليلية..

مختار الأسدي

الإمام علي بن الحسين عليه السلام دراسة تحليلية..

المؤلف:

مختار الأسدي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-215-6
الصفحات: ١٢٨

ثمّ يلتفت ابن زياد إلىٰ عليّ بن الحسين ويقول : «ما اسمك ؟» قال « علي بن الحسين » قال : «ألم يقتل الله علي بن الحسين ؟» فسكت ، فقال : «مالك لا تتكلم ؟» قال : « كان لي أخ يُقال له علي قتله الناس » !!

فقال ابن زياد : «إنّ الله قتله» فسكت الإمام عليه‌السلام.

قال : «مالك لا تتكلم ؟» فقال الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « الله يتوفىٰ الأنفس حين موتها.. وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن الله... ».

ثم غضب ابن زياد فأراد قتله علىٰ جرأته وتجاسره علىٰ الطاغية بتلك الاَجوبة ، فتشبّثت به عمّته زينب وتعلّقت به ، وقالت لابن زياد : « يا ابن زياد ، حسبُك منّا ما أخذت ، أما رويتَ من دمائنا ؟ وهل أبقيت مِنّا أحداً ؟ أسألك الله ـ إن كنت مؤمناً ـ إن قتلته لمّا تقتلني معه.. ».

وقال الإمام عليه‌السلام لابن زياد : « يا ابن زياد ، إن كانت بينك وبينهنّ قرابة فابعث معهنّ رجلاً تقيّاً يصحبهنّ بصحبة الإسلام... » (١).

أمّا في الشام وحيث الدور الإعلامي أكثر تأثيراً من قعقعة السيوف وطعن الرماح مع ما يستبطن من فضح وكشف واحتمال تصفية وقتل ، يقف الإمام السجاد عليه‌السلام في مجلس يزيد ويلتمس الإذن بالحديث فيُسمح له ، فينبري بعد أن يحمد الله ويثني عليه مسفّهاً الدعاوىٰ الأموية التي حاولت تشويه نهضة أبيه ، وتزييف أهداف ثورته ، قائلاً :

« يا معشر الناس : فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أُعرّفه

_______________________

إضافة خلاصتها : «فقال لها ـ ابن زياد ـ هذه شجاعة لعمري لقد كان أبوك شجاعاً. فقالت ما للمرأة والشجاعة..». وجاءت كلمة (سجّاعة) بدل كلمة (شجاعة) ، وكلمة (سجّاعاً) بدل كلمة (شجاعاً) في مصنفات الشيخ المفيد البغدادي ١١ : ١٦ طبعة المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد.

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٣٥.

٢١

نفسي ، أنا ابن مكّة ومِنىٰ ، أنا ابن مروة والصفا ، أنا ابن محمد المصطفىٰ... أنا ابن من علا فاستعلىٰ ، فجاز سدرة المنتهىٰ ، وكان من ربّه قاب قوسين أو أدنىٰ ، أنا ابن من صلّىٰ بملائكة السماء مثنىٰ مثنىٰ ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلىٰ المسجد الأقصىٰ ، أنا ابن علي المرتضىٰ ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن خديجة الكبرىٰ ، أنا ابن المقتول ظلماً ، أنا ابن المجزور الرأس من القفا ، أنا ابن العطشان حتىٰ قضىٰ ، أنا ابن صريع كربلاء ، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء ، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء ، أنا ابن من ناحت عليه الجنّ في الأرض والطير في الهواء ، أنا ابن من رأسه علىٰ السنان يُهدىٰ ، أنا ابن من حرمه من العراق إلىٰ الشام تُسبىٰ.. أيُّها الناس إنّ الله تعالىٰ ـ وله الحمد ـ ابتلانا أهل البيت ببلاء حسن ، حيث جعل راية الهدىٰ والتُقىٰ فينا ، وجعل راية الضلالة والردىٰ في غيرنا... » (١).

وهكذا حتىٰ عمّ المجلس النحيب والبكاء ـ كما تقول الروايات التأريخية ـ فكشف مالم يكشف وفضح ما تمّ التكتّم عليه أو يُراد له ذلك ، فذكّر الناس أولاً بنسبه الشريف واتصاله بالإسلام ونبي الإسلام ، وأشار إلىٰ العديد من الحوادث التأريخية والجنايات التي ارتكبها جيش الأمويين باسم الإسلام وتجاوزت حدود الدين وتعاليمه المعروفة ، كالتمثيل بالقتلىٰ مثلاً : « أنا ابن المجزور الرأس من القفا » ، والوحشية في التعامل مع الخصم : « أنا ابن العطشان حتىٰ قضىٰ » والتطاول علىٰ حرمة بيت النبوة ، وبنات المصطفىٰ والمرتضىٰ اللواتي « من العراق إلىٰ الشام تُسبىٰ »... وأكثر من كل ذلك وبصريح القول والعبارة : « أنا ابن المقتول ظُلماً »...

_______________________

(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهر آشوب المازندراني ٤ : ١٨٢.

٢٢

وهكذا ممّا أدىٰ إلىٰ بكاء ونحيب الحاضرين وإشعارهم بالإثم والذنب الكبيرين اللذين ارتُكبا بحقِّ الإسلام ووريثه ، وكيف إن الإسلام الذي يزعمه الامويون اليوم مجسّداً برمزه الماثل أمامهم أصبح أسيراً يُساق مع عمّاته وخالاته من بلد إلىٰ بلد ، ورأس ابن الزهراء أبيه أمامهنّ « علىٰ السنان يُهدى »...

إنّه ، باختصار شديد ، وبهذه الخطبة الموجزة أصبح الرمز الذي يقود مسيرة الإحياء ـ إحياء هذا الدين المضيّع ـ الذي شوّهته السلطة الأموية وحكمت أو تحكّمت باسمه... فتراه عليه‌السلام حين أراد يزيد أن يقطع حديثه بالآذان للصلاة ، يُعلِّق علىٰ صوت المؤذن الذي يقول : «أشهد أن محمداً رسول الله» بقوله : « يا يزيد ! هذا جدي أم جدّك ؟ فإن قلت جدك فقد كذبت ! وإن قلت جدي ، فلمَ قتلتَ أبي وسبيت حرمه وسبيتني ؟! » ، ثمّ قال مخاطباً الناس : « أيُّها الناس ، هل فيكم من أبوه وجده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ » فعلت الأصوات بالبكاء.

وقام إليه رجل من شيعته يُقال له : المنهال بن عمرو الطائي ، وفي رواية مكحول صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسأله : «كيف أمسيتَ يا ابن رسول الله ؟».

فيستثمر الإمام السجاد عليه‌السلام هذا السؤال فيروح مندّداً بالعصابة التي حرّفت دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضع أُولىٰ العناوين العريضة في هذه المسيرة التبليغية الإعلامية التي قادت وتقود مسيرة الإحياء العظيمة هذه ، برائدها الوحيد الحيّ الباقي ، مؤكداً علىٰ الفرعونية الجديدة التي تتحكّم باسم الدين مستنهضاً همم الرجال ، مقرّعاً ضمائرهم ، مناشداً غيرتهم علىٰ دين عظيم ضيّعوه بالتواطؤ مع هذه العصابة الضالة المضلّة ، فيجيب

٢٣

سائله بقولٍ موجز بليغ :

« ويحك كيف أمسيت ؟ أمسينا فيكم كهيئة بني إسرائيل في آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأمست العرب تفتخر علىٰ العجم بأنّ محمداً منها ، وأمسىٰ آل محمد مقهورين مخذولين ، فإلىٰ الله نشكو كثرة عدوّنا ، وتفرّق ذات بيننا ، وتظاهر الأعداء علينا... » (١).

وهكذا تبرز وثائقية هذا الطرح الاِعلامي البليغ ، ويتجلّىٰ دور الإمام السجاد عليه‌السلام في قيادة مشروع الإحياء وثورة التصحيح ، ومن هذه المحطة تبدأ رحلة الألف ميل مسافة وعمقاً من الشام إلىٰ المدينة ، ليستأنف الإمام عليه‌السلام مهمته الرسالية في استكمال هذا المشروع وريادة هذه الثورة.

المحطة الثالثة : في المدينة المنوّرة :

١ ـ دوره العلمي.

ليس الحديث عن الدور العلمي للإمام السجاد عليه‌السلام مما تجمعه السطور ، أو تفي بالتعبير عنه ؛ ولكن حسبها أنّها تأتي بمعالم تفصح بعض إفصاح عن ذلك الدور وما كان يتمتع به صاحبه من منزلة.

لقد عاش الإمام زين العابدين عليه‌السلام في المدينة المنورة ، حاضرة الإسلام الاُولىٰ ، ومهد العلوم والعلماء ، في وقت كانت تحتضن فيه ثلّة من علماء الصحابة ، مع كبار علماء التابعين ، فكان بشهادة أكابر أبناء طبقته والتابعين لهم ، الأعلم والأفقه والأوثق ، بلا ترديد.

فقد كان الزهري يقول : (ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحسين ، وما رأيت أحداً كان أفقه منه). وممن عرف هذا الأمر وحدّث به الفقيه

_______________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٤ : ١٨٢.

٢٤

سفيان بن عيينة (١).

وبمثل هذا كان يقول الشافعي محتجاً بعلي بن الحسين عليه‌السلام علىٰ انه كان (أفقه أهل المدينة) (٢). وبمثله كان يقول معاصر الإمام السجاد عليه‌السلام أبو حازم المدني (٣) ، وغيرهم كثير.

هذا وقد كانت مدرسته تعجّ بكبار أهل العلم من حاضرة العلم الاُولىٰ في بلاد الإسلام ، يحملون عنه العلم والأدب ، وينقلون عنه الحديث ومن بين هؤلاء ، كما أحصاهم الذهبي : أولاده أبو جعفر محمد (الباقر عليه‌السلام) وعمر ، وزيد ، وعبدالله ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، والحكم ابن عُتيبة ، وزيد بن أسلم ، ويحيىٰ بن سعيد ، وأبو الزناد ، وعلي بن جدعان ، ومسلم البطين ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعاصم بن عبيدالله ، وعاصم بن عمر ابن قتادة بن النعمان ، وأبوه عمر بن قتادة ، والقعقاع بن حكيم ، وأبو الأسود يتيم عروة ، وهشام بن عروة بن الزبير ، وأبو الزبير المكّي ، وأبو حازم الأعرج ، وعبدالله بن مسلم بن هرمز ، ومحمد بن الفرات التميمي ، والمنهال بن عمرو ، وخلق سواهم.. وقد حدّث عنه أبو سلمة وطاووس ، وهما من طبقته (٤) ، غير هؤلاء رجال من خاصة شيعته من كبار أهل العلم ، منهم : أبان بن تغلب ، وأبو حمزة الثمالي ، وغيرهم كثير (٥).

هذا الجمع الغفير وغيرهم ممن وصف بالخلق الكثير أخذوا عنه عليه‌السلام

_______________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٩. ومختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٢٤٠.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٥ : ٢٧٤.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٩٤.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٨٧.

(٥) راجع : رجال الشيخ الطوسي ـ باب أصحاب علي بن الحسين عليه‌السلام.

٢٥

علوم الشريعة من تفسير القرآن الكريم والعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وأحكامه وآدابه ، والسُنّة النبوية الشريفة روايةً وتدويناً في عصر كانت ما تزال كتابة الحديث فيه تتأثر بما سلف من سياسة المنع من التدوين ، السياسة التي اخترقها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام فكتب عنهم تلامذتهم والرواة عنهم الشيء الكثير ، إلىٰ أحكام الشريعة ، حلالها وحرامها وآدابها ، إلىٰ فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عمدت فيه السياسة علىٰ تعطيل الكثير من الأحكام وتبديل بعض السنن وإحياء بعض البدع ، إلىٰ الجهر في نصرة المظلوم وضرورة الردّ علىٰ الظالم وكشف أساليبه الظالمة للناس.

كما تأدبوا علىٰ يديه في مجالسه بآداب الإسلام التي شحنها في أدعيته التي اشتهرت وانتشرت في عهده حتىٰ أصبحت تشكّل لوحدها ظاهرة جديدة في تبني اسلوب روحي متين ، ليس لإحياء القلوب وشدّها إلىٰ الله تعالىٰ وحسب ؛ بل إلىٰ إحياء معالم الشريعة وحدودها وآدابها الأدعية التي حفظ المشهور جداً منها في الصحيفة المعروفة بـ «الصحيفة السجادية» نسبة إليه حيث عرف عليه‌السلام بالسجاد.

والأثر المحفوظ عنه عليه‌السلام في كلِّ هذه الميادين أثر عظيم يجمع أسفاراً جليلة ، تتضمن سائر علوم الشريعة الإسلامية.

وغير ذلك فقد سجّل الإمام عليه‌السلام سبقاً علمياً وتاريخياً في رسالة تعد من مفاخر الإسلام وتراثه العلمي ، ألا وهي «رسالة الحقوق» الرسالة الخالدة المحفوظة بهذا العنوان ، والتي استوعبت جلّ الحقوق التي لا يستغني الإنسان عن معرفتها ، ولا يستغني المجتمع عن احيائها والعمل بها ، لأجل أن يكون مجتمعاً إسلامياً حيّاً بحق ، كما أرادت له الشريعة السمحة.

٢٦

ومن ناحية أُخرىٰ فقد ظهرت في عهده عليه‌السلام مقولات عقيدية تبنتها فرق إسلامية وتمحورت حولها واتخذت منها مناهج خاصة في فهم عقائد الإسلام وتوجيه أحكامه ، كعقيدتي الجبر والارجاء اللتين روّج لهما الامويون تبريراً لوجودهم في السلطة لمشروعهم السياسي ، وعقيدتي التشبيه والتعطيل في الصفات اللتين اتخذتهما فرق متناقضة بذرائع مختلفة.

وإزاء هذه الاتجاهات وقف الإمام عليه‌السلام موقفه الواضح والمنسجم مع منهجه في التعليم والدفاع عن مبادىء الشريعة ، فضمّن أقواله الحكيمة وأدعيته المشتهرة نصوصاً تجتث تلك المقولات من جذورها ، من ذلك موقفه مع عبيد الله بن زياد يوم أُدخل عليه في قصر الإمارة وعُرض عليه فقال له : من أنت ؟

فقال عليه‌السلام : « أنا علي بن الحسين ».

فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟

فقال له الإمام عليه‌السلام : « قد كان لي أخ يسمىٰ علياً قتله الناس ».

فقال له ابن زياد : بل الله قتله.

فقال الإمام عليه‌السلام : « ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا )(١) » (٢).

وكذا موقفه الآخر مع يزيد بن معاوية عند دخوله عليه مع أخواته وعمّاته في الشام.

قال يزيد : يا بن حسين ، أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ، ونازعني سلطاني ، فصنع الله به ما قد رأيت.

_______________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٤٢.

(٢) الإرشاد / الشيخ المفيد ٢ : ١١٦.

٢٧

فقال الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )(١) » (٢).

أو ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن ثقاة الرواة وعدولهم ، قال : أنه لما أُدخل علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في جملة من حُمل إلىٰ الشام سبايا من أولاد الحسين بن علي عليه‌السلام وأهاليه علىٰ يزيد ـ لعنه الله ـ قال له يا علي ! الحمدُ لله الذي قتل أباك !

قال الإمام عليه‌السلام : « قتل أبي الناس ».

قال يزيد : الحمد لله الذي قتله فكفانيه.

قال الإمام عليه‌السلام : « علىٰ من قتل أبي لعنة الله ، أفتراني لعنت الله عزّ وجلّ ؟ » (٣).

أما موقفه عليه‌السلام من المشبّهة والمجسّمة فنجده قد اتّخذ شكل دعاء ، كما في دعائه في التوحيد إذ يقول : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك.. شبهوك وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء.. فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك » (٤).

ولم يدع الإمام عليه‌السلام مناسبة تمر إلّا وأوضح العقيدة الحقّة التي عليها أهل البيت عليهم‌السلام ، وهي تنزيه الباري جلَّ شأنه وتعظيمه ، وذلك ما تجده شاخصاً في دعائه الأول والثاني من الصحيفة حينما يحمد الله عزَّ وجلّ ويثني عليه بأجلّ الصفات وأنزهها.

_______________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٢.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٢٠.

(٣) الاحتجاج ٢ : ١٣٢.

(٤) الصحيفة السجادية الكاملة : ٢٢ الدعاء رقم (٣).

٢٨

٢ ـ دوره في بلورة المعارضة السياسية.

المؤسف في قراءات ودراسات الكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين هو ارتباكهم وعدم دقّتهم في تحديد أدوار أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وتفكيك مدرستهم الفكرية والسياسية في تعاملهم مع السلطات ، وكذلك عدم قدرة هؤلاء المحللين علىٰ إدراك حكمة تنوّع تلك الأدوار وفلسفتها وعدم استيعاب حرص الأئمة علىٰ الاحتفاظ بوحدة هدفهم في المحافظة علىٰ الإسلام عقيدةً وشريعةً ، نظريةً ومنهاجاً.

يأخذ بعض هؤلاء المحللين دور الإمام الحسن عليه‌السلام مثلاً في صلحه مع معاوية ، ويقومون بتفكيكه بعيداً عن ظروفه وأهدافه ، فيُظهرونه (سلام الله عليه) مصالحاً مساوماً متنازلاً قد رضي بانصاف الحلول مؤيداً ومبايعاً ، بعيدين عن الإنصاف والحقّ طبعاً ، وبعيدين عن الدراسة التحليلية المتأنية التي تضفي علىٰ البحث العلمي رصانته وموضوعيته ، وللحدِّ الذي يسفّ البعض فيصفه ـ عليه‌السلام ـ بأنّه مذلّ المؤمنين ـ كما خاطبه أحد أعوانه يوماً ـ متناسين رأي أبيه فيه في صفين حين قال : « إملكوا عني هذا الغلام ، لشدّة مراسه في الحرب والقتال » ومتجاهلين موقفه هو نفسه ـ سلام الله عليه ـ حين خاطب جيشه قائلاً : « ألا إنّ معاوية دعانا لأمر (يقصد الصلح) ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلىٰ الله تعالىٰ بظبا السيوف ، وإن أردتم الحياة الدنيا ، قبلنا وأخذنا لكم الرضا... » فإذا بالناس من كل جانب ومكان يهتفون ويصرخون ويولولون : «البقية ... البقية» !! (١).

فتجرّع ـ سلام الله عليه ـ مرارة ذلك الوصف وقساوة تلك التهمة علىٰ

_______________________

(١) الكامل في التاريخ / ابن الاَثير ٣ : ٢٠٤ ، ٢١٧.

٢٩

أن يحملهم علىٰ ما يكرهون فيُقال فيه أنّه قتلهم أو قاتل بهم علىٰ المُلك ، فضلاً عن حرصه علىٰ حقن دماء شيعته بعد أن تأكد لديه نكوص جيشه وتخاذل قادته وانهيار جنوده.

وكما تهلهل مثل هذا التحليل مع الإمام الحسن عليه‌السلام ، كان قد تهلهل مع أبيه عليه‌السلام حين إتُّهم أنّه لم يكن سياسياً فذّاً ؛ إذ لم يتراجع خطوة إلىٰ الوراء من أجل خطوتين إلىٰ الإمام ـ كما يقول السياسيون الذرائعيون اليوم ـ فيهادن معاوية ثم ينقضّ عليه غدراً ، كما هو شأن الأخير وطبعه.

وحين يصل الدور إلىٰ الإمام الرضا عليه‌السلام أيضاً ترىٰ بعضهم يحاسبه علىٰ قبوله بولاية العهد ، فيما حاسبه آخرون علىٰ عدم قبوله لها في البداية ، فاتهموه بالتفريط بدماء شيعته عبر إصراره علىٰ الرفض ـ حسب زعمهم ـ.

وهكذا مع الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام اللذين انصرفا إلىٰ العلم وترسيخ العقيدة ، ولم يرفعوا السيف لمواجهة طواغيت زمانهم ، وكأن المؤرخين لم ينظروا إلىٰ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، إلّا من زاوية واحدة أو بُعدٍ واحد ، فجاءت دراساتهم وتحليلاتهم عرجاء تمشي علىٰ رجلٍ واحدة ، أو عوراء تنظر بعينٍ واحدة..

أما موقف الإمام السجاد ـ موضوع البحث ـ من الثورة والجهاد فكان هو الآخر عُرضة لهذا التحليل الشاطح الذي وضع أُسسه صنفان من الناس :

صنف يحب الدعة والاسترخاء فيروح يُفسِّر موقفه عليه‌السلام دعةً واسترخاءً للتغطية علىٰ فشله هو وهزيمته ونكوصه.

وصنفٌ يهوىٰ الثورة والتمرد فيتحامل علىٰ الإمام جسارة أو تجرؤاً فيتّهمه بحبّ الدعة والاسترخاء زوراً وإفكاً.

وهذا يعني أن كلّاً من هذين الصنفين ـ إذا أحسنّا الظن بهما ـ لم يضع

٣٠

نفسه في مكانه ، وإنّما درس القضية أو قرأها من خارج الظرفين الزماني والمكاني ، وراح يسبح في فضاء هذا الإمام العظيم ولكن كمن يطير بلا جناح ، أو كمن يتعلّم السباحة علىٰ حصير...

فبعضهم يزعم أنّه اعتزل السياسة والتصدّي بعد فجيعته بوالده وإخوته ، وغدر الغادرين من أهل زمانه ، فاكتفىٰ بالتضرّع والدعاء (١).

وبعضهم يحلّل إنّه آثر الدعاء والبكاء علىٰ غيرهما ؛ لأنّهما أيسر مؤونةً وأقلُّ كلفةً من المواجهة والنزال وحزِّ الرؤوس وجزِّ الرقاب.. (٢).

وبعضهم يقول إنّه آثر الدعة والراحة طمعاً بهما بعد أن رأىٰ ما رأىٰ من هول المصائب التي حلّت باخوته وأهل بيته في مجزرة كربلاء...

ويشطح صنف آخر أكثر من هؤلاء جميعاً فيزعم أنّه صالح وساوم السلطة ونأىٰ بنفسه بعيداً عن الثورات الشيعية التي تفجّرت في زمانه ؛ بل تبرأ منها في السرِّ والعلن (٣) ـ حسب زعمهم ـ ومن هنا فإنّه أخذ علىٰ أيدي هؤلاء الثوار وخذلهم وتنصّل من مسؤوليته تجاه ثوراتهم ، وما إلىٰ ذلك من هذه الدراسات المبتورة والتحليلات الشوهاء...

فلنتوقف قليلاً أمام هذه المزاعم وندرسها بموضوعية وتأنٍ بعيداً عن لغة البُعد الواحد والنظرة الأحادية والتحليل الجاهز ، وباختصار شديد طبعاً ، آملين ألّا نكون في هذا البحث الموجز مختزلين أو قافزين علىٰ ظهر التاريخ والمؤرخين..

_______________________

(١) راجع جهاد الشيعة / الدكتورة الليثي : ٢٩.

(٢) حياة علي بن الحسين عليه‌السلام / كاظم جواد السبتي : ٣٢٠. ونظرية الإمامة / صبحي الصالح ٣٤٩.

(٣) ثورة زيد / ناجي الحسن : ٣٠ ـ ٣١. وجهاد الشيعة / الدكتورة الليثي.

٣١

المرحلة المنعطف :

بالتأكيد أنّ مرحلة الإمام السجاد عليه‌السلام يمكن أن تسجّل منعطفاً مهماً بين مرحلتين فاصلتين في عمل أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

الاُولىٰ : مرحلة التصدّي والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضدّ المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين ، وقبلهم الكفرة والمنافقين وأعداء الدين الواضحين...

الثانية : مرحلة المعارضة السياسية الصامتة ، أو الرفض المسؤول الواضح للانحراف ، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين ، وبعد ذلك بناء القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة الانحراف والتحريف اللذين غرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية تحت شعارات الإسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية..

ومن هنا ، وحين تختلط المفاهيم ، وتهتزّ القيم وترتجّ المقاييس لابدّ من وقفةٍ متأنيةٍ تتيح للاُمّة أن تلتقط أنفاسها ، وتتأمل في ماضيها وتدرس حاضرها لعلّها تضع بعض الخطوات الصحيحة علىٰ سُلِّم مستقبلها الآتي..

تأسيساً علىٰ ذلك ، كان أمام الإمام زين العابدين عليه‌السلام أن يُلفت الأنظار إلىٰ امور كثيرة اختلط حابلها بنابلها ، وكان عليه أن يجذّر أمور اُخرىٰ في عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الإسلام عقيدةً ونظاماً ، شريعةً ومنهاجاً ، وليس شعاراً وسوقاً ، أو تجارة واستهلاكاً... ومن هذه الاُمور ما يلي :

١ ـ تركيز ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه فعلاً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً

٣٢

لتحكيم دين الله ، ولم يخرج (أشراً ولا بطراً) ، بل لم يخرج علىٰ إمرة (أمير المؤمنين يزيد !!) ولم ينوِ تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة المسلمين ، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين ، وليس (بسيف جدّه) كما كان يروّج الاعلام الرسمي آنذاك ، وبعض المؤرخين المتخلفين اليوم (١).

أي كان علىٰ الإمام زين العابدين عليه‌السلام أن يفضح الشرعية المزيفة التي تقنّع بها الحكم الأموي ، ويكشف زيف شعاراته الإسلامية العريضة ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الإسلامية ، وبالتالي يوضح معالم الإسلام المحمدي الأصيل والفرق بينه وبين الإسلام المدّعىٰ الملفّع بتلكم الشعارات.. والعناوين واللافتات..

٢ ـ بناء الجماعة الواعية ، أو كما تُسمىٰ القاعدة الجماهيرية الشعبية ، المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها ، أو بين الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها ، أو بين الأصيل والطارىء ، الأمر الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها ، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الاُمور...

٣ ـ تعميق مفهوم الإمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت

_______________________

(١) ابن تيمية ، حياته ، عقائده / صائب عبدالحميد : ٣٩٠ ، الطبعة الثانية.

حيثُ يقول ابن تيمية بالحرف الواحد : ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا ، وكان في خروجه وقتله من الفساد مالم يكن يحصل لو قعد في بلده.

وراجع : منهاج السُنّة / ابن تيمية ٢ : ٢٤١.

وذهب أبو بكر العربي المالكي في (العواصم من القواصم) إلىٰ نحو هذا الرأي.

٣٣

لدىٰ العامّة تحت ضغط الإعلام المزيف وأبواقه المأجورة ، ومن ثمّ توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن المرجعية السياسية أو الاجتماعية ، وبالأحرىٰ فصل الدين عن السياسة ، وإبقاء مقاليد الاُمور بيد الصبيان والغلمان ، يعبثون بمقدرات البلاد والعباد.

٤ ـ العمل بدقّة في مقطع زمني بالغ الحساسية ، يحسب علىٰ الإمام حركاته وسكناته ، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة ، وموازنة ذلك مع عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية للدين ، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين في كل زاوية وزقاق ، من جهة اُخرىٰ...

القتال علىٰ جبهات متعددة :

ومن هنا كان علىٰ الإمام أن يقاتل علىٰ جبهات متعددة ويستخدم لغات متعددة في آن واحد ، وهذا أشقّ ما يتحمله أي زعيم سياسي أو قائد ديني يريد مواصلة مسيرته وتركيز خطّه في خندقين متقابلين :

خندق العمل السري ، وخندق الساحة العلنية المكشوفة التي تتربص به الفرص ، وتحسب عليه الكلمات ، وربما تسعىٰ لاستدراجه والايقاع به وإبعاده عن أصحابه أو إبعادهم عنه ، وخاصة الخلّص المؤثرين فيهم ، لئلّا يتأثروا به ويحملوا رسالته وإشعاعاته ودفين أسراره وتحركاته وأهدافه..

أمام هذا المأزق ، وحيث لم يبقَ في مدينة الرسول ومكة « أكثر من

٣٤

عشرين رجلاً يحبوننا أهل البيت » كما قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام (١) ، ولم يبقَ من خيار أمام الإمام إلّا التحرك بحذر وتؤدة ، ربما لا يُفهمان حتىٰ من قبل بعض المخلصين الذين يريدون أو يرغبون موقفاً علنياً صريحاً تجاه تحركاتهم التي تُحسب عليه ولا تحسب عليهم باعتباره الرمز والمحور وهو المتهم بأنه المحرّك لكلِّ تيار معارض أو متململ ضد السلطة والحاكم.

وبذلك فإنّه أوحىٰ للسلطة بأنه ابتعد تماماً عن العمل السياسي وانصرف للتعبّد والدعاء ، وهو من ناحية اُخرىٰ يسعىٰ إلىٰ تركيز المفهوم الإمامي الذي أُولىٰ أولوياته مواجهة الظالم بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

وهنا حار المؤرخون فعلاً في تشخيص موقف الإمام من حركات المعارضة وخاصة تلك التي اشتعلت قريباً منه ، أو تلك التي رفعت شعارات شيعية مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي ، أو ثورة المختار وشعارها المعروف : «يالثارات الحسين» !!

فمن قائلٍ إنّه عليه‌السلام تبرّأ من ثورة المختار مثلاً ، إلىٰ قائل إنّه حينما جيء له برأس عبيدالله بن زياد ورأس عمر بن سعد وببعض قتلة الحسين ، خرّ ساجداً لله قائلاً : « الحمدُ لله الذي أدرك ثأري من أعدائي ، وجزى الله المختار خيراً » (٢).

ومنهم من قال إنّه لم يُجب علىٰ رسالة المختار ورفض دعوته ببيعته له عليه‌السلام ، وإن ذلك من حقّه ، لكون المختار لم يَستَشِرْه في تحركه أو حركته

_______________________

(١) الإمام السجاد عليه‌السلام / حسين باقر : ٦٣.

(٢) رجال الكشي : ١٢٧ / ٢٠٣ عن عمر بن علي بن الحسين. ومناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٧.

٣٥

وإنّه كان بعيداً عنه ولم يكن الإمام يعرف مكنون توجهاته ونواياه ، إلىٰ قائل : إنّ المختار لم يتحرك إلّا تحت إشارته وتلقّي الضوء الأخضر منه ، وهكذا بين مشرّق ومغرّب ويمين ويسار.

أمام هذه المفارقات أو المفترقات لابدّ من القول أن الطريق الأفضل لأن يستكمل الإمام كافة أهدافه ، كان عليه توزيع الأدوار وعدم الانجرار إلىٰ لعبة السياسة القذرة ، والاحتفاظ بالقدر المعقول من حلقاتها التي يستفيد منها القائد ، ولكن لا أن يقع في مستنقعها الآسن ، فتحسب عليه بعض شطحاتها والتواءاتها وتجاوزاتها...

هذه الموازنة الدقيقة أو المعادلة الصعبة ، لم يكن من السهل علىٰ الإمام السجاد عليه‌السلام عبورها أو تمريرها ، لاسيّما وانه كان يمارس عمله تحت الأضواء وفي الهواء الطلق وتحت رقابة العيون والجواسيس من جهة ، وبالتالي فلا ينبغي أن يوحي للسلطة أنّه معارض يبغي الحكم والسلطة ، ولكنه من جهة اُخرىٰ يريد التأكيد علىٰ أنّه وصي ووريث ذلك الإمام العظيم الذي ستبقىٰ حرقة قتله تلتهب في نفس كلِّ شريف عرفه وعايشه وعاشره ، فضلاً عن كونه نجله وولده والمفجوع الأول بقتله والمسؤول عن الثأر له ومواصلة طريقه ، فضلاً عن أنّه حامل رسالته ومؤدي أماناته وامتداده والإمام المستخلف من بعده علىٰ البلاد والعباد...

هكذا كان الإمام السجاد يحيا ، وهكذا كانت تمر أيام حياته وساعاته غصّة بعد غصّة ، وألماً بعد ألم ، والمهمة تكبر وتكبر ، وعليه إتمام المشوار وإكمال الشوط إلىٰ النهاية.

فهو من جهة لا يريد المغامرة بتركةٍ ثقيلة عليه أداؤها في تبليغ الرسالة وحمل الأمانة وبلورة أحكام الدين التي سفّهها حكام بني أمية وجعلوها

٣٦

مهزلة وحكاية ، ومن جهة اُخرىٰ يريد تحريك أجواء الصراع ضد الظالمين واستثمار فضاءاته الحرّة لتطويق مساعي الحكام الأمويين في الالتفاف علىٰ جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الاُمّة المقدس ضد قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحاب الحسين.

ومن جهة ثالثة : لا يريد أن يُتّهم أنه اعتزل التصدي تشبثاً بالحياة وحرصاً علىٰ حطامها ، بل انه كان يسعىٰ إلىٰ تسفيه تلك التهمة باعتباره أزهد الناس في حياة نتنة (اغتالت حسين السبط واختارت يزيداً)...

وفوق ذلك كلّه أنّه عليه‌السلام لم يرد أن يعطي للمتقاعسين والمتخاذلين عذراً آخر لتبرير قعودهم وغدرهم واحتمائهم بعزلته وانطوائه ، أي اتخاذ ذلك ذريعةً وغطاءً لنكوصهم وجبنهم وتهافتهم علىٰ الدنيا وملذّاتها ، وبالتالي مواصلة طريق الانحراف الذي كان عليه‌السلام أصدق الناس في محاربته ، وأمضاهم في مناجزته ومناوءته...

الحصيلة :

كانت حصيلة هذا العمل الدؤوب والمنهج الحكيم ، والموازنة الدقيقة ، وبعد أن كان الناس قد (ارتدوا إلّا ثلاثة) و (لم يبقَ في المدينة ومكة أكثر من عشرين شخصاً محباً لأهل البيت) ـ كما ذكرنا ـ ، وبعد انقطاع مفتعل موهم عن مسرح الأحداث ، واستثمار موفّق لظروف الزمان والمكان ـ كما سيأتي ذكره ـ كانت الحصيلة أن استطاع الإمام السجّاد عليه‌السلام وعدد قليل من المخلصين الذين تظافرت جهودهم علىٰ نصرته أن يحقق نتائج قياسية ويترك آثاراً عظيمة لا يقدر علىٰ تحقيقها أي زعيم أو قائد يمرُّ بظروفه وتعقيدات المقطع الزمني الحساس الذي عاشه أو تفاعل معه

٣٧

أو انفعل فيه.

وكان من هذه الآثار الأرقام التالية :

* (كان القرّاء لا يخرجون إلىٰ مكة حتىٰ يخرج علي بن الحسين ، ومعه ألف راكب).

* (كان القوم لا يخرجون من مكة حتىٰ يخرج علي بن الحسين سيد العابدين).

* (قال الزهري : نعم.. لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه ، والله ما علمتُ له صديقاً في السرِّ ، ولا عدوّاً في العلانية ، فقيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبه إلّا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلّا وهو لشدّة مداراته له يداريه...) (١).

* (... حج هشام بن عبدالملك فلم يقدر علىٰ استلام الحجر الأسود ، من شدّة الزحام فنُصب له منبر فجلس... إذ أقبل علي بن الحسين عليه‌السلام وعليه إزار ورداء ، فجعل يطوف ، فإذا بلغ موضع الحجر تنحّىٰ الناس حتىٰ يستلمه هيبة له وإجلالاً..) الأمر الذي أزعج هشام ، فسأل متجاهلاً له : من هذا ؟ فكان جواب الفرزدق في قصيدته المعروفة التي دفع ضريبتها بعد فترة وجاء فيها :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلُّهم

هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

_______________________

(١) بحار الأنوار / المجلسي ٤٦ : باب ٥ ـ ٢١ ، معلوم أن الزهري من علماء الدولة.. ويبدو أن تحليله للحب والكراهية هنا قد جنح في مالا يمكن تفسيره إلّا بمعنىً آخر لا نرىٰ ضرورة للتفصيل فيه ، لكونه لم يخرج إلّا من موقف الزهري من الإمام عليه‌السلام ، والزاوية التي كان ينظر إليه من خلالها..

٣٨

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مناقب هذا ينتهي الكرمُ

وليس قولك من هذا ؟ بضائره

العُرب تعرفُ من أنكرت والعجمُ (١)

* (وقال القرشي لابن المسيّب : ... ثم غاب عني فترة حتىٰ أتيتُ مكة ، فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعتُ لأنظر فإذا صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هو زين العابدين...) (٢).

* أثناء ثورة المدينة التي تفجّرت ردّاً علىٰ مجون الأمويين وقتلهم لآل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزع مروان كأشدّ ما يكون الفزع مع عياله إلىٰ بيت الإمام زين العابدين ؛ لأنّ الثورة كانت تستهدفه ، فضمّ الإمام نساء الأمويين إلىٰ حرمه ، وقيل أنّه كفل أربعمائة امرأة مع أولادهن وضمهنّ إلىٰ عياله حتىٰ قالت واحدة منهنّ : إنّها ما رأت في دار أبيها من الراحة والعيش الكريم مثل ما رأته في دار الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام (٣).

* وصفه عمر بن عبدالعزيز قائلاً : (إنّه سراج الدنيا وجمال الإسلام) (٤).

* و (لمّا مات شهد جنازته البرّ والفاجر وأثنىٰ عليه الصالح والطالح ، وانهال الناس يتبعونه حتىٰ وضعت الجنازة) (٥).

_______________________

(١) رجال الكشي : ١٢٩ ـ ١٣٠ / ٢٠٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٦ : باب ٥ ـ ٧٨.

(٣) الإمام زين العابدين / أحمد فهمي : ٦٤.

(٤) مقدمة الصحيفة السجادية / السيد محمد باقر الصدر : ٦.

(٥) رجال الكشي : ١١٧ ـ ١١٨ / ١٨٨ عن سعيد بن المسيّب.

٣٩

٤٠