مستدرك الوسائل - ج ١٣

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]

مستدرك الوسائل - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ حسين النوري الطبرسي [ المحدّث النوري ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

واقلّدك اياها ، فما رأيك في ذلك ؟ فأنكر الرضا ( عليه السلام ) هذا الامر ، وقال له : « اعيذك بالله ـ يا أمير المؤمنين ـ من هذا الكلام ، وان يسمع به احد » فردّ عليه الرسالة : فاذا أبيت ما عرضت عليك ، فلا بدّ من ولاية العهد من بعدي ، فأبى عليه الرضا ( عليه السلام ) إباء شديداً ، فاستدعاه اليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين ، وليس في المجلس غيرهم ، وقال له : اني قد رأيت ان اقلّدك امر المسلمين ، وافسخ ما في رقبتي واضعه في رقبتك ، فقال له الرضا ( عليه السلام ) : « الله الله ـ يا أمير المؤمنين ـ انه لا طاقة لي بذلك ، ولا قوّة لي عليه » قال : فانّي موليك العهد من بعدي ، فقال له : « اعفني من ذلك ، يا أمير المؤمنين » فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهدد له على الامتناع عليه ، فقال له في كلامه : ان عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستّة ، احدهم جدّك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه ، ولا بدّ من قبولك ما اريده منك ، فاني لا اجد محيصاً عنه ، فقال له الرضا ( عليه السلام ) : « فاني مجيبك الى ما تريد من ولاية العهد ، على انّني لا آمر ولا انهى ، ولا افتي ولا اقضي ، ولا اولي ولا اعزل ، ولا اغير شيئاً مما هو قائم » ، فأجابه المأمون الى ذلك كلّه .

[ ١٥٠١٦ ] ٤ ـ وفي الاختصاص : عن محمد بن عيسى ، عن أخيه جعفر بن عيسى ، عن اسحاق بن عمار قال : سأل رجل أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، عن الدخول في عمل السلطان ، فقال : « هم الداخلون عليكم ، ام انتم الداخلون عليهم ؟ » ، فقال : لا بل هم الداخلون علينا ، قال : « لا بأس بذلك » .

٤٢ ـ ( باب ما ينبغي للوالي العمل به ، في نفسه ، ومع اصحابه ، ومع رعيّته )

[ ١٥٠١٧ ] ١ ـ دعائم الاسلام : روينا عن علي ( صلوات الله عليه ) ، انه قال : « بعث

_________________________

٤ ـ الإِختصاص ص ٢٦١ .

الباب ٤٢

١ ـ دعائم الاسلام ج ١ ص ٣٥٠ .

١٤١
 &

رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سرية ، واستعمل عليها (١) رجلاً من الانصار ، وامرهم ان يطيعوه ، ولما كان ذات يوم غضب عليهم فقال : أليس قد امركم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ان تطيعوني ؟ ، قالوا : نعم ، قال : فاجمعوا حطبا ، فجمعوه فقال : اضرموا ناراً ، ففعلوا ، فقال لهم ادخلوها ، فهمّوا بذلك ، ثم جعل بعضهم يمسك بعضاً ، ويقولون : انّما فررنا الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من النار ، فما زالوا [ كذلك ] (٢) حتى خمدت النار ، وسكن غضب الرجل ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال : « لو دخلوها لما خرجوا منها الى يوم القيامة ، انّما الطاعة في المعروف » .

[ ١٥٠١٨ ] ٢ ـ وعن علي ( صلوات الله عليه ) ، انه ذكر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى علي ( عليه السلام ) قال الذي حدثناه : اراه من كلام علي ( عليه السلام ) ، الّا انا رويناه انه رفعه ، فقال : « عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عهداً كان فيه ـ بعد كلام ذكره ، ثم قال ( صلوات الله عليه ) ـ :

فيما يجب على الأمير من محاسبة نفسه :

أيّها الملك المملوك ، اذكر ما كنت فيه وانظر الى ما صرت اليه ، واعتقد لنفسك ما تدوم ، واستدل بما كان على ما يكون ، وابدأ بالنصيحة لنفسك ، وانظر في امر خاصتك ، وفي معرفة ما عليك ولك ، فليس شيء ادل لامرىء على ما له عند الله من اعماله ، ولا على ما له عند الناس من آثاره ، فاتق الله في خاصة (١) نفسك ، وراقبه فيما حمّلك ، وتعبّد له بالتواضع اذ رفعك ، فان التواضع طبيعة العبودية ، والتكبر من اخلاق (٢) الربوبية ، ولا تميلن بك عن القصد رتبة تروم بها ما ليس لك ، ولا تبطرن نعم الله عليك عن اعظام حقّه ،

_________________________

(١) في المصدر : « عليهم » .

(٢) أثبتناه من المصدر .

٢ ـ دعائم الاسلام ج ١ ص ٣٥٠ .

(١) في المصدر زيادة : امورك و .

(٢) في المصدر : حالات .

١٤٢
 &

فان حقّه لن يزداد عليك الّا عظماً ، ولا تكونن كأنك بما احدث الله لك من الكرامة ، ترى انه اسقط عنك شيئاً من فرائضه ، وانك استحققت عليه وضع الصعاب عنك ، فتنهمك في بحور الشهوات ، فانك ان تفعل ( همدت وزر ) (٣) ذلك على قلبك ، وتذمم عواقب ما فاتك من امرك ، فاعرف قدرك وما أنت إليه صائر ، واذكر ذلك حق ذكره ، واشعر قلبك الاهتمام به ، فانه من اهتم بشيء اكثر ذكره ، واكثر التفكر فيما تصنع ، وفي من يشاركك فيما تجمع ، فانك لست مجاوزاً في غاية المنتهى اجل بعض اخدانك (٤) ، والساعة تأتي من ورائك ، وليس الذي تبلغ به قضاء ما يحقّ عليك ، بقاطع عنك شيئاً من لذاتك التي تحل لك ، ما لم تجاوز في ذلك قصد ما يكفيك ، الى فضول ما لا يصل من نفعه اليك ، الّا ما أنت عليه في غاية من الغناء ، فتحمل بنفسك ما ليس غايتك منه الّا حظّ عينك ، وما وراء ذلك منفعة لغيرك ، فيقصر في ذلك املك ، وليعظم من عواقبه وجلك » .

ذكر ما فيه موعظة الامير لمن كان قبله :

انظر أيها الملك (٥) المملوك ، أين آباؤك واين الملوك من اعدائك ؟ الذين اكلوا الدنيا منذ كانت ، فانما تأكل ما اسأروا (٦) ، وتدير ما اداروا ، واين كنوزهم التي جمعوا ؟ واجسادهم التي نعّموا ؟ وابناؤهم الذين كرموا ؟ هل ترى اقل منهم عقبا ؟ واخمد (٧) منهم ذكرا ؟ واذكر ما كنت تأمل من الاحسان ان احسن الله اليك ، ولا يغلبنك هواك على حظّك ، ولا تحملنك رقتك على الولد على ان تجمع لهم ما لا يحول دون شيء قضاه الله عليهم ، واراد بلوغه فيهم ، فتهلك نفسك

_________________________

(٣) في المصدر : يشتدرون ، والظاهر انه مصحف يشتد درن .

(٤) الاخدان : جمع خدن وهو الصديق ( لسان العرب « خدن » ج ١٣ ص ١٣٩ ) .

(٥) في المصدر : المُمَلّك .

(٦) السؤر : بقية الشيء ، واسأر من شرابه أو طعامه أبقى منه بقية ( لسان العرب « سأر » ج ٤ ص ٣٣٩ ) .

(٧) في المصدر : وأخمل .

١٤٣
 &

في امر غيرك ، وتشقيها في نعيم من لا ينظر لك ، [ ولذّات ] (٨) من لا يألم لألمك ، اذكر الموت وما تنظر من فجأة نقماته ، ولا تأمن من عاجل نزوله بك ، واكثر ذكرك زوال امر الدنيا وانقلاب دهرها ، وما قد رأيت من تغيّر حالاتها بك وبغيرك ، انك كنت حديثاً من عرض الناس ، وكنت تعيب بذخ الملوك وتجبّرهم في سلطانهم ، وتكبّرهم على رعيّتهم ، وتسرعهم الى السطوة ، وافراطهم في العقوبة ، وتركهم العفو والرحمة ، وسوء ملكتهم ، ولزوم (٩) غلبتهم ، وجفوتهم لمن تحت ايديهم ، وقلّة نظرهم في امر معادهم ، وطول غفلتهم عن الموت ، وطول رغبتهم في الشهوات ، وقلّة ذكرهم للخطيئات (١٠) ، وتفكرهم في نقمات الجبار ، وقلّة انتفاعهم بالعبر ، وطول املهم (١١) للغير ، وقلّة اتعاظهم بما جرى عليهم من صروف التجارب ، ورغبتهم في الاخذ وقلّة اعطائهم للواجب ، وطول قسوتهم على الضعفاء ، والايثار لخواصهم والاستئثار ، والاغماض ولزوم الاصرار ، وغفلتهم عمّا خلقوا له ، واستخفافهم بما امروا (١٢) ، وتضييعهم لما حمّلوا ، افنصيحة كانت عيب ذلك منك عليهم واستقباحه منهم ؟ أو نفاسة لما كانوا فيه عليهم ؟ فان كان ذلك نصيحة ، فأنت اليوم أولى بالنصيحة لنفسك ، وان كانت نفاسة ، فهل معك امان من سطوات الله ؟ ام عندك منعة تمتنع بها من عذاب الله ؟ أم استغنيت بنعمة الله عليك عن تحري رضاه ؟ أو قويت بكرامته إياك على الاصحار (١٣) لسخطه ، والاصرار على معصيته ؟ أم هل لك مهرب يحرزك منه ؟ أم (١٤) ربّ غيره تلجأ اليه ؟ أم لك صبر على احتمال نقماته ؟ ام اصبحت ترجو دائرة من دوائر الدهور تخرجك من قدرته الى قدرة غيره !؟ فأحسن النظر في

_________________________

(٨) أثبتناه من المصدر .

(٩) في المصدر : ولؤم .

(١٠) في المصدر : للحسنات ، وبعدها زيادة : وقلّة .

(١١) في المصدر : امنهم .

(١٢) في المصدر : عملوا .

(١٣) في نسخة : الأصحاب .

(١٤) في المصدر زيادة : لك .

١٤٤
 &

ذلك لنفسك ، واعمل فيه بعقلك وهمّك ، واكثر عرضه على قلبك ، واعلم ان الناس ينظرون من امرك الى مثل ما كنت تنظر فيه من امر من كان في مثل حالك من قبلك ، ويقولون فيك (١٥) ما كنت تقوله فيهم ، انظر اين الملوك واين ما جمعوا ؟ ممّا دخلت عليهم المعائب ، وبه قيلت فيهم الأقاويل ، ماذا شخصوا به معهم منه ؟ وماذا بقي لمن بعدهم ؟ فاذكر حالك وحال من تقدّمك ممّن كان في مثل حالك ، وما جمع وكنز ، هل بقيت له تلك الكنوز حين أراد الله نزعها منه ؟ وهل ضرّك اذ كنت لا كنز لك حين أراد الله صرف هذا الامر اليك ؟ فلا ترى ان الكنوز تنفعك ، ولا تثق بها ليومك فيما تأمل نفعه في غدك ، بل لتكن اخوف الأشياء عندك وأوحشها لديك عاقبة ، وليكن احبّ الكنوز اليك وأوثقها عندك نفعاً وعائدة ، الاستكثار من صالح الاعمال واعتقاد صالح الآثار ، فانك ان تُعمِل هواك في ذلك وتصرفه من غيره ، يقلل همّك ويطيب عيشك وينعم بالك ، ولتكن قرّة عينك بالزهد وصالح الآثار ، افضل من قرّة عيون أهل الجمع بالجمع ، عليك بالقصد فيما تجمع وفيما تنفق ، ولا تعدن الاستكثار من جمع الحرام قوّة ، ولا كثرة الإِعطاء في غير حقّ جودا ، فان ذلك يجحف (١٦) بعضه ببعض ، ولكن القوّة والجود ان تملك هواك شح (١٧) النفس بأخذ ما يحلّ لك ، وسخاء النفس باعطاء ما يحق عليك ، انتفع في ذلك بعلمك ، واتعظ فيه بما قد رأيت من امور غيرك ، وخاصم نفسك عند كل امر تورده وتصدره ، خصومة عامد (١٨) للحق جهده ، ينتصف (٩) لله وللناس من نفسه ، غير موجب لها العذر حيث لا عذر ، ولا منقاد للهوى في ورطات الردى ، فان عاجل الهوى لذيذ ، وله غبّ وخيم .

_________________________

(١٥) في المصدر زيادة : مثل .

(١٦) في الطبعة الحجرية : « يخفف » وما أثبتناه من المصدر .

(١٧) في الطبعة الحجرية : « سخاء » وما أثبتناه من المصدر .

(١٨) في المصدر : عامل .

(١٩) في نسخة : منصف .

١٤٥
 &

في أمر الأمراء بالعدل في رعاياهم والأنصاف من انفسهم :

اشعر قلبك الرحمة لرعيتك ، والمحبة لهم ، والتعطف عليهم ، والاحسان اليهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ، تغتنم زللهم وعثراتهم ، فانهم اخوانك في النسبة ، ونظراؤك في الحق (٢٠) ، يفرط منهم الزلل ، وتعتريهم العلل ، ويتوى (٢١) على أيديهم في العمد والخطأ ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك من هو فوقك وفوقهم ، والله ابتلاك بهم ، وولاك امرهم ، واحتج عليك بما عرّفك من محبّة العدل والعفو والرحمة ، ولا تستخفن (٢٢) ترك محبته ، ولا تنصبن نفسك لحربه ، فانه لا يدان لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته ، ولا تعجلن بعقوبته ، ولا تسرعن الى بادرة وجدت عنها مخرجا (٢٣) ، ولا تقولن : اني امير اصنع ما شئت ، فان ذلك يسرع في كسر العمل ، واذا اعجبك ما أنت فيه ، وحدثت لك عظمته ، ودخلتك ابّهة ابطرتك واستقدرتك على من تحتك ، فاذكر عظم قدرة الله عليك ، وفكّر في الموت وما بعده ، فان ذلك ينقص من زهوك ، ويكف من مرحك ، ويحقّر في عينيك ما استعظمته من نفسك ، واياك ان تباهي الله في عظمته ، ولا تضاهيه في جبروته ، وان تختال عليه في ملكه ، فان الله مذل كل جبار ، ومهين كل مختال ، انصف الناس من نفسك ومن اهلك ومن خاصتك ، فانك ان لا (٢٤) تفعل تَظلِم ، ومن يظلم عباد الله فالله خصمه دون عباده ، ومن يكن الله خصمه فهو له (٢٥) حرب حتى ينزع ، وليس شيء أدعى لتغير نعمة أو تعجيل نقمة من اقامة على ظلم ،

_________________________

(٢٠) في المصدر : الخلق .

(٢١) التوى : الهلاك ( لسان العرب ج ١٤ ص ١٠٧ ) وفي المصدر : يؤتى .

(٢٢) في المصدر : فلا تستحقنّ .

(٢٣) في المصدر : مزحلاً .

(٢٤) في المصدر : لم .

(٢٥) في المصدر : لله .

١٤٦
 &

فان الله يسمع دعوة كلّ مظلوم ، وان الله عدوّ للظالمين ، ومن عاداه الله فهو رهين بالهلكة في الدنيا والآخرة ، وليكن احبّ الامور اليك أوسطها في الحق ، واجمعها لطاعة الرب ، ورضى العامة ، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصّة ، وان سخط الخاصة يحتمل رضى العامة ، وليس احد من الرعية اشدّ على الوالي في الرضا مؤونة ، وأقلّ على البلاء معونة ، واشدّ بغضاً للانصاف ، واكثر سؤالاً بالحاف (٢٦) واقلّ مع ذلك عند العطاء شكراً ، وعند الابطاء عذراً ، وعند الملمات من الامور صبراً من الخاصة ، وانّما اجتماع امر الولاة ويد السلطان وغيظ العدو العامة ، فليكن صفوك لهم ما اطاعوك واتبعوا امرك دون غيرهم ، وليكن أبغض رعيتك اليك اكثرهم كشفاً لمعائب الناس ، فان في الناس معائب انت احقّ من تغمّدها ، وكره كشف ما غاب منها ، وانما عليك احكام ما ظهر لك ، والله يحكم في ما غاب عنك ، اكره للناس ما تكره لنفسك ، واستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره ، واطلق عن الناس عقد كلّ حقد ، واقطع عنهم سبب كلّ وتر ، ولا تركبن شبهة ، ولا تعجلن الى تصديق ساع ، فان الساعي غاش وان قال قول النصيح ، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يقصر عن الفضل غايته ، ولا حريصاً يعدك فقراً ويزين لك شرها ، ولا جباناً يضيق عليك الامور ، فان البخل والجبن والحرص ، غريزة واحدة يجمعها سوء الظن بالله .

واعلم : ان شرّ دخائلك (٢٧) وشرّ وزرائك من كان للاشرار دخيلاً ووزيراً ، ممّن شركهم في الآثام ، واقام لهم كلّ مقام ، فلا تدخلن اُولئك في أمرك ، ولا تشركهم في دولتك كما شركوا في دولة غيرك ، ولا يعجبك شاهد ما يحضرونك به ، فانهم اخوان الظلمة ، واعوان الاثمة ، وذئاب كلّ طمع ، وانت تجد في الناس خلفاً منهم ، ممن له معرفة افضل من معرفتهم ، ونصح أعلى من نصحهم ، ممّن قد تصفح الامور فأبصر مساوئها ، واهتم بما جرى عليه منها ، ممن هو أخف عليك مؤونة واحسن لك معونة ، واشدّ عليك عطفاً واقل لغيرك الفاً ،

_________________________

(٢٦) في المصدر : بالإِلحاف .

(٢٧) دخيل الرجل : الذي يداخله في اموره كلها ، وبطانته وصاحب سرّه ( لسان العرب « دخل » ج ١١ ص ٢٤٠ ) .

١٤٧
 &

ممّن لا يعاون ظالماً على ظلم ، ولا آثماً على اثم ، فاتخذ من اُولئك خاصّة تجالسهم في خلواتك ، ويحضرونك (٢٨) في ملئك ، ثم ليكن اكرمهم عليك أقولهم للحق ، واحوطهم على رعيتك بالانصاف ، واقلّهم لك مناظرة بذكر ما كره لك ، والصق بأهل الورع والصدق ، وذوي العقول والاحسان ، وليكن ابغض أهلك ووزرائك اليك اكثرهم لك اطراء (٢٩) بما فعلت ، أو تزييناً لك بغير ما فعلت ، واسكتهم عنك صانعاً بما صنعت ، فان كثرة الاطراء يكثر الزهو ويدني من العِزَّة ، واكثر القول ان يشرك فيه تزكية السلطان ، لأنه ( لا يقصر به ) (٣٠) على حدود الحق ، دون التجاوز الى الافراط ولا تجمعن المحسن والمسيء عندك منزلة (٣١) يكونان فيها سواء ، فان ذلك تزهيد لأهل الاحسان في احسانهم ، وتدريب لأهل الاساءة في اساءتهم ، واعلم انه ليس شيء ادعى بحسن ظن وال برعيته ، من احسانه اليهم ، وتخفيف المؤن عنهم ، وقلّة الاستكراه لهم ، فليكن لك في ذلك ما يجمع لك حسن الظن برعيتك ، فان حسن الظن بهم يقطع عنك هموماً كثيرة ، وان احقّ من حسن ظنّك به من حسن عنده بلاؤك من أهل الخير ، واحق من ساء ظنّك به من ساء عنده بلاؤك ، فاعرف موضع ذلك ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها الصالحون قبلك ، واجتمعت بها الالفة ، وصلحت عليها العامة ، ولا تحدثن سنّة تضرّ بشيء من ماضي سنن العدل التي سنّت قبلك ، فيكون الاجر لمن سنّها والوزر عليك بما نقضت منها ، واكثر مدارسة العلماء ومناظرة الحكماء في تثبيت سنن العدل على مواضعها ، واقامتها على ما صلح به الناس ، فإن ذلك يحيي الحق ويميت الباطل ، ويكتفي به دليلاً على ما يصلح به الناس ، لأن السنة الصالحة من أسباب الحق التي يعرف بها ، ودليل أهلك إلى السبل إلى طاعة الله فيها .

_________________________

(٢٨) في المصدر : ويحضرون لديك .

(٢٩) الإِطراء : المدح أو مجاوزة الحدّ في المدح والكذب فيه ( لسان العرب « طرا » ج ١٥ ص ٦ ) .

(٣٠) في نسخة : لا يقتصر منه ، وفي المصدر : لا يقتصر فيه .

(٣١) في المصدر : بمنزلة .

١٤٨
 &

في ذكر معرفة طبقات الناس :

اعلم ان الناس خمس طبقات ، لا يصلح بعضها الّا لبعض : فمنهم : الجنود ، ومنهم اعوان الوالي من القضاة والعمّال والكتاب ونحوهم ، ومنهم اهل الخراج من أهل الارض وغيرهم ، ومنهم التجار وذوو الصناعات ، ومنهم الطبقة السفلى ، وهم أهل الحاجة والمسكنة ، فالجنود تحصين الرعية باذن الله تعالى عزّ وجلّ ، وزين الملك ، وعزّ الاسلام ، وسبب الامن والخفض (٣٢) ، ولا قوام للجند الّا بما يخرج الله لهم من الخراج والفيء ، الذي يقومون (٣٣) به على جهاد عدوّهم ، وعليه يعتمدون فيما يصلحهم ، ومن يلزمهم مؤونته من أهليهم ، ولا قوام للجند وأهل الخراج الّا بالقضاة والعمال والكتاب ، لما يقومون به من امرهم ويجمعون من منافعهم ، ويأمنون عليه من خواصّهم وعوامهم ، ولا قوام لهم جميعاً الّا بالتجار وذوي الصناعات ، فيما ينتفعون به من صناعاتهم ، ويقومون به من اسواقهم ، ويكفونهم في مباشرة الاعمال بأيديهم ، في الصناعات التي لا يبلغها رفقهم ، والطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة ، يبتلون بالحاجة الى جميع الناس ، وفي الله لكلّ سعة ، ولكل على الامير (٣٤) حق بقدر ما يحق له ، وليس يخرجه من حقّه ما ألزمه الله من ذلك ، الّا بالاهتمام [ به ] (٣٥) والاستعانة بالله عليه ، وان يوطن نفسه على لزوم الحق فيما وافق هواه أو خالفه .

ذكر ما ينبغي للوالي ان ينظر فيه من أمر جنوده (٣٦) :

ولّ امر جنودك افضلهم في نفسك حلماً ، واجمعهم للعلم وحسن السياسة وصالح الاخلاق ، ممّن يبطىء عن الغضب ، ويسرع الى العذر ، ( ويراقب

_________________________

(٣٢) في المصدر : والحفظ .

(٣٣) في المصدر : يقوون .

(٣٤) في نسخة : الامة .

(٣٥) أثبتناه من المصدر .

(٣٦) في الطبعة الحجرية : « عماله » ، وما أثبتناه من المصدر .

١٤٩
 &

الضعيف ) (٣٧) ، ولا يلح على القوي ، ممّن لا يثيره (٣٨) العنف ، ولا يقعد به الضعف ، والصق ( بأهل العفة ) (٣٩) والدين والسوابق الحسنة ، ثم بأهل الشجاعة منهم ، فانهم جماع الكرم ، وشعبة من العزّ ، ودليل على حسن الظن بالله والايمان به ، ثم تفقد من امورهم ما يتفقده الوالد من ولده ، ولا يعظمن في نفسك شيء اعطيتهم ايّاه ، ولا تحقرن لهم لطفاً تلطفهم به ، فانه يرفق بهم كلّ ما كان منك إليهم وان قلّ ، ولا تدعن تفقد لطيف امورهم اتكالاً على نظرك في جسيمها ، فان للّطيف موضعاً ينتفع به ، وللجسيم موضعاً لا يستغنى فيه عنه ، وليكونوا آثر رعيّتك عندك ، وافضلهم منزلة منك ، اسبغ عليهم في التعاون ، وافضل عليهم في البذل ، ما يسعهم ويسع من وراءهم من أهاليهم ، حتى يكون همّهم خالصاً في جهاد عدوّك ، وتنقطع همومهم ممّا سوى ذلك ، واكثر اعلامهم ذات نفسك [ لهم ] (٤٠) من الآثرة والمكرمة وحسن الارضاء (٤١) ، وحقق ذلك بحسن الاثار فيهم ، واعطف عليك قلوبهم باللطف ، فان افضل قرّة اعين الولاة استفاضة الامن في البلاد ، وظهور مودّة الاجناد ، واذا كانوا كذلك سلمت صدورهم ، وصحّت بصائرهم ، واشتدت حيطتهم من وراء امرائهم ، ولا تكل جنودك الى غنائمهم ، احدث لهم عند كلّ مغنم عطيّة من عندك ، لتستصرفهم بها (٤٢) ، وتكون داعية لهم الى مثلها ، ولا حول ولا قوّة الّا بالله ، واخصص أهل الشجاعة والنجدة بكل عارفة ، وامدد لهم أعينهم الى صور عميقات ما عندهم بالبذل ، في حسن الثناء ، وكثرة المسألة عنهم رجلاً رجلاً ، وما ابلى في كلّ مشهد ، واظهار ذلك منك عنه ، فان ذلك يهزّ الشجاع ويحرض غيره ، ثم لا تدع

_________________________

(٣٧) في المصدر : يرأف بالضعيف .

(٣٨) في نسخة : لا يسرّه .

(٣٩) في المصدر : بذوي الفقه .

(٤٠) أثبتناه من المصدر .

(٤١) في نسخة والمصدر : الإِرصاد .

(٤٢) في نسخة : لتستنصر بهم ، وفي المصدر : تستضريهم ، والضاري من السباع : ما لهج بالفرائس واولع بها ( لسان العرب « ضرا » ج ١٤ ص ٤٨٢ ) .

١٥٠
 &

مع ذلك ان يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة والصدق ، يحرضونهم (٤٣) عند اللقاء ، فيكتبون بلاء كلّ امرىء منهم حتى كأنك شاهدته ، ثم اعرف لكلّ امرىء منهم ما كان منه ، ولا تجعلن بلاء امرىء منهم لغيره ، ولا تقصرن به دون بلائه ، وكافىء كلّ امرىء منهم بقدر ما كان منه ، واخصصه بكتاب منك تهزّه به وتنبؤه بما بلغك عنه ، ولا يحملنك شرف امرىء على ان تعظم من بلائه ( ان كان ) (٤٤) صغيراً ، ولا ضعف (٤٥) امرىء على ان تستخف ببلائه ان كان جسيماً ، ولا تفسدن احداً منهم عندك علّة عرضت له ، أو نَبْوة كانت منه ، قد كان له قبلها حسن بلاء ، فان العزّ بيد الله يعطيه اذا شاء ، ويكفّه اذا شاء ، ولو كانت الشجاعة تفتعل لافتعلها اكثر الناس ، ولكنها طبائع بيد الله ملكها وتقدير ما احبّ منها ، وان اصيب احد من فرسانك واهل النكاية المعروفة في اعدائك ، فاخلفه في اهله باحسن ما يخلف به الوصي الموثوق به ، في اللطف [ بهم ] (٤٦) وحسن الولاية لهم ، حتى لا يرى عليهم اثر فقده ، ولا يجدوا لمصابه ، فان ذلك يعطف عليك قلوب فرسانك ، ويزدادون به تعظيماً لطاعتك ، ( وطيب النفس ) (٤٧) بالركوب لمعاريض التلف في تسديد امرك ، ولا قوّة الّا بالله .

ذكر ما ينبغي ان ينظر فيه من امور القضاة :

انظر في القضاء بين الناس ، نظر عارف بمنزلة الحكم عند الله ، فان الحكم ميزان قسط الله ، الذي وضع في الأرض لانصاف المظلوم من الظالم ، والاخذ للضعيف من القوي ، واقامة حدود الله على سنتها ومنهاجها ، التي لا يصلح العباد والبلاد الّا عليها ، فاختر للقضاء بين الناس افضل رعيتك في نفسك ، واجمعهم للعلم والحلم والورع ، ممن لا تضيق به الامور ، ولا تمحكه الخصوم ولا

_________________________

(٤٣) في المصدر : يحضرونهم .

(٤٤) استظهار في الطبعة الحجرية ، ولم ترد في المصدر .

(٤٥) في المصدر : ولا ضعة .

(٤٦) أثبتناه من المصدر .

(٤٧) في المصدر : وتطيب النفوس .

١٥١
 &

يضجره عيّ العي ، ولا يفرطه جور الظلم (٤٨) ، ولا تشرف نفسه على الطمع ، ولا يدخل في اعجاب (٤٩) يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه ، أوقفهم عند الشبهة ، وآخذهم لنفسه بالحجة ، واقلهم تبرّماً من تردد الحجج ، واصبرهم على كشف الامور وايضاح الخصمين ، ولا يزدهيه الاطراء ، ولا يشليه (٥٠) الاغراء ، ولا يأخذ فيه التبليغ بان يقال : قال فلان وقال فلان ، فول القضاء من كان كذلك ، ثم اكثر تعاهد امره وقضاياه ، وابسط عليه من البذل ما يستغني به عن الطمع ، وتقلّ به حاجته الى الناس ، واجعل له منك منزلة لا يطمع فيها غيره ، حتى يأمن اغتيال الرجال (٥١) اياه عندك ، ولا يحابي احداً للرجاء ، ولا يصانعه لاستجلاب حسن الثناء ، احسن توقيره في مجلسك ، وقرّبه منك ، وانفذ قضاياه وامضها ، واجعل له اعواناً يختارهم لنفسه ، من أهل العلم والورع ، واختر لاطرافك قضاة تجهد فيهم نفسك على قدر ذلك ، ثم تفقد امورهم وقضاياهم ، وما يعرض لهم من وجوه الأحكام ، فلا يكن في حكمهم اختلاف ، فان ذلك ضياع للعدل ، وعورة في الدين ، وسبب للفرقة ، وانما يختلف القضاة لاكتفاء كلّ امرىء منهم برأيه دون الامام ، فاذا اختلف القاضيان فليس لهما ان يقيما على اختلافهما في الحكم ، دون رفع ما اختلفا فيه من ذلك الى الامام ، وكلّ ما اختلف فيه الناس فمردود اليه ، ولا قوّة الّا بالله .

ذكر ما ينبغي ان ينظر فيه من امور عمّاله :

انظر في امور عمالك الذين تستعمل (٥٢) ، فليكن استعمالك اياهم اختياراً ، ولا يكونن محاباة ولا ايثارا ، فان الاثرة بالاعمال والمحاباة بها ، جماع من

_________________________

(٤٨) في المصدر : الظلوم .

(٤٩) في المصدر زيادة : ولا .

(٥٠) أشلى الكلب على الصيد : أغراه به ، ودعاه إليه وأطعمه به ، وحثّه عليه ( لسان العرب « شلا » ج ١٤ ص ٤٤٣ ) .

(٥١) في نسخة : الرجل .

(٥٢) في المصدر : تستعملهم .

١٥٢
 &

شعب الجور والخيانة لله ، وادخال الضرر على الناس ، وليست تصلح امور الناس ولا امور الولاة ، الّا بصلاح من يستعينون به على امورهم ، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم ، فاصطف لولاية اعمالك اهل الورع والعفّة (٥٣) والعلم بالسياسة ، والصق بذوي التجربة والعقول والحياء ، من أهل البيوتات الصالحة ، أهل الدين والورع ، فانهم اكرم الناس اخلاقاً ، واشدّ لأنفسهم صوناً واصلاحاً ، واقلّ من المطامع اشرافاً ، واحسن في عواقب الامور نظراً من غيرهم ، فليكونن عمالك واعوانك ، ولا تستعمل الّا شيعتك ، ثم اسبغ عليهم العمالات ، وأوسع عليهم الأرزاق ، فان ذلك يزيدهم قوّة على استصلاح انفسهم ، وغنى عن تناول ما تحت أيديهم ، وهو مع ذلك حجة لك عليهم ، في شيء ان خالفوا فيه امرك ، وتناولوا من امانتك ، ثم لا تدع مع ذلك تفقد اعمالهم ، وبعثة العيون عليهم ، من أهل الامانة والصدق ، فان ذلك يزيدهم جدّاً في العمارة ، ورفقاً بالرعية ، وكفّاً عن الظلم ، وتحفّظاً من الاعواز ، مع ما للرعية في ذلك من القوة ، واحذر ان تستعمل اهل التكبر والتجبر والنخوة ، ومن يحبّ الاطراء والثناء والذكر ، ويطلب شرف الدنيا ، ولا شرف الّا بالتقوى ، وان وجدت احدا من عمالك بسط يده الى خيانة ، أو ركب فجوراً ، اجتمعت لك به عليه اخبار عيونك ، من سوء ثناء رعيّتك ، اكتفيت بها (٥٤) شاهدا ، وبسطت عليه العقوبة في بدنه ، واخذته بما اصاب من عمله ، ثم بمن نصبته للناس فوسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة ، فان ذلك تنكيل وعظمة لغيره ، إن شاء الله تعالى .

ذكر ما ينبغي تعاهده من اهل الخراج :

تعاهد أهل الخراج ، وانظر كل ما يصلحهم ، فان في مصالحهم صلاح من سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم الّا بهم ، لانهم الثمال (٥٥) دون غيرهم ، والناس

_________________________

(٥٣) في المصدر : الفقه .

(٥٤) في نسخة والمصدر : به عليه .

(٥٥) يقال : فلان ثمال القوم : أي عمادهم وغياثهم الذي يقوم بأمرهم ( لسان العرب « ثمل » ج ١١ ص ٩٤ ) .

١٥٣
 &

عيال عليهم ، وليكن نظرك في عمارة أرضهم وصلاح معاشهم ، اشدّ من نظرك في زجاء (٥٦) خراجهم ، فان الزجاء لا يكون الّا بالعمارة ، ومن يطلب الزجاء بغير العمارة ، يخرب البلاد ويهلك العباد ، ولا يقيم ذلك الّا قليلاً ، ولكن اجمع أهل الخراج من كلّ بلد ، ثم مرهم فليعلموك حال بلادهم ، والذي فيه صلاحهم وصلاح ارضهم ، وزجاء خراجهم ، ثم سل عمّا يدفعون اليك اهل العلم من غيرهم ، فان شكوا اليك ثقل خراجهم ، أو علّة دخلت عليهم ، من انقطاع ماء (٥٧) ، أو فساد أرض غلب عليها غرق أو عطش أو آفة مجحفة ، خففت عنهم ما ترجو ان يصلح الله به ما كان من ذلك ، وامرت بالمعونة على استصلاح ما كان من امورهم ، ممّا لا يقوون عليه ، لانّ الله جاعل لك في عاقبة الاستصلاح غبطة وثواباً ان شاء الله ، فاكفهم مؤونة ما كان من ذلك ، ولا تثقلن شيئاً خففته عنهم ، وان احتملته من المؤونات ، فانما هو ذخر لك عندهم ، يقوون (٥٨) به على عمارة بلادك ، وتزيين ملكك ، مع ما يحسن الله به من ذكرك ، ويستجمهم (٥٩) به لغدك ، ثم تكون مع ذلك بما ترى من عمارة ارضهم ، وزجاء خراجهم ، وظهور مودّتهم ، وحسن نياتهم (٦٠) ، واستفاضة الخير فيهم ، اقرّ عيناً واعظم غبطة ، واحسن ذخراً ، منك بما كنت مستخرجاً منهم بالكدّ والاجحاف ، فان حزنك (٦١) امر تحتاج فيه الى الاعتماد عليهم ، وجدت معتمداً بفضل قوتهم على ما تريد ، بما ذخرت فيهم من الجمام ، وكانت مودتهم لك وحسن ظنّهم (٦٢) وثقتهم بما عوّدتهم من عدلك ورفقك ، مع معرفتهم بقدرك فيما حدث من الامور ، قوّة لهم يحتملون بها ما كلفتهم ، ويطيبون بها نفساً بما حمّلتهم ، فان

_________________________

(٥٦) زجا الخراج : تيسرت جبايته ( لسان العرب ج ١٤ ص ٣٥٤ ) .

(٥٧) في المصدر : شرب .

(٥٨) في نسخة : يعودون .

(٥٩) الجمّام : الراحة ( لسان العرب ج ١٢ ص ١٠٥ ) .

(٦٠) في المصدر : ثنائهم .

(٦١) في المصدر : حزبك .

(٦٢) في المصدر زيادة : فيك .

١٥٤
 &

العمل (٦٣) يحتمل باذن الله ما حمّلت عليه ، وعمران البلاد انفع من عمران الخزائن ، لان مادة عمران الخزائن انما تكون من عمران البلاد ، واذا خربت البلاد انقطعت مادّة الخزائن ، فخربت بخراب الارض ، وانما يؤتى خراب الارض وهلاك أهلها ، من اسراف انفس الولاة في الجمع ، وسوء ظنهم بالمدة ، وقلّة انتفاعهم بالغير (٦٤) ، ليس بهم [ إلا ] (٦٥) أن يكونوا يعرفون [ أن ] (٦٦) التخفيف واستجمامهم بذلك في العام للعام القابل ، والانفاق على ما ينبغي الانفاق عليهم منها ، ما هو ازجى لخراجها ، واحسن لاثرهم فيها ، ولكنهم يقولون ويقول القائل لهم : لا تؤخروا جباية العام الى قابل ، كأنكم واثقون بالبقاء الى قابل ، ولكفى عجباً برأيهم في ذلك ، وبرأي من يزينه لهم ، فما الوالي الّا على احدى منزلتين : اما ان يبقى الى قابل ، فيكون قد اصلح الارض واستصلح رعيّته ، فرأى حسناً في عاقبة اثره (٦٧) في ذلك ، ما تقرّ به عينه ، ويكثر به سروره ، وتقلّ به همومه ، ويستوجب به حسن الثواب على ربّه ، واما ان تنقطع مدته قبل القابل ، فهو الى ما عمل به من صلاح واحسان احوج ، والثناء عليه (٦٨) والدعاء له اكثر ، والثواب له عند الله افضل ، وان جمع لغيره في الخزائن ، ما اخرب به البلاد وأهلك به الرعية ، صار مرتهناً لغيره والاثم فيه عليه ، وليس تبقى من امور الولاة الّا ذكرهم ، وليس يذكرون الّا بسيرهم وآثارهم ، حسنة كانت أم قبيحة ، فاما الاموال فلا بدّ من أن يؤتى عليها ، فيكون نفعها لغيره ، أو لنائبة من نوائب الدهر تأتي عليها ، فتكون حسرة على أهلها ، وان احببت ان تعرف عواقب الاحسان والاساءة ، وضياع العقول من ذلك ، فانظر في امور من مضى من صالح العمال والولاة وشرارهم ، وهل تجد منهم احداً ممّن حسّنت في الناس سيرته وخفّت عليهم مؤونته ، اذا سخط باعطاء

_________________________

(٦٣) في المصدر : العدل .

(٦٤) في المصدر : بالعبر .

(٦٥ ـ ٦٦) أثبتناه من المصدر .

(٦٧) في المصدر : أمره .

(٦٨) في المصدر زيادة : أحسن .

١٥٥
 &

حقّ نفسه ، اضرّ به ذلك في شدّة ملكه ، او في لذات بدنه ، أو في حسن ذكره في الناس ، وهل تجد احداً ممّن ساءت في الناس سيرته ، واشتدت عليهم مؤونته ، كان له بذلك من العزّ في ملكه ، مثل ما دخل عليه من النقص به في دنياه وآخرته ، فلا تنظر الى ما تجمع من الاموال ، ولكن انظر الى ما تجمع من الخيرات ، وتعمل من الحسنات ، فان المحسن معان ، والله وليّ التوفيق ، والهادي الى الصواب .

ذكر ما ينبغي ان ينظر فيه من امور كتّابه :

انظر كتّابك ، فاعرف حال كل امرىء منهم فيما يحتاج إليه منه ، فان للكتّاب منازل ، ولكل منزلة منها حقّ من الادب لا يحتمله غيره ، فاجعل لولاية عليا امورك منهم رؤساء تتخيرهم لها ، على مبلغ كل امرىء منهم في احتمال ما تولّيه ، وولّ كتابة خواص رسائلك ، التي تدخل بها في مكيدتك ومكنون سرّك ، اجمعهم لوجوه صالح الادب ، واعونهم لك على امر من جلائل الامور ، واجزلهم فيها رأياً ، واحسنهم فيها ديناً ، وأوثقهم فيها نصحاً ، واطواهم (٦٩) عنك لمكنون الاسرار ، ممّن لا تبطره الكرامة ، ولا يزدهيه الألطاف ، ولا تنجم به دالّة يمتن بها عليك في خلاء ، أو يلتمس اظهارها في ملاء ، واصدار ما ورد عليه من كتب غيرك ، عن استعمال معرفة الصواب فيما يأخذ لك ويعطي منك ، ولا يضعف عقدة عقدها لك ، ولا يعجز عن اطلاق عقدة عقدت عليك ، ولا يجهل في (٧٠) ذلك معرفة نفسه ، ومبلغ قدره في الامور ، فانه من جهل قدر نفسه كان بقدر غيره اجهل ، وولّ ما دون ذلك من كتابة رسائلك وخراجك ودواوين جنودك ، كتّاباً تجهد نفسك في اختيارهم ، فانها رؤوس اعمالك ، واجمعها ( لنفعك ونفع ) (٧١) رعيّتك ، فلا يكونن اختيارك ولاتها (٧٢) على فراستك فيهم ، ولا على

_________________________

(٦٩) في نسخة : وأحملهم .

(٧٠) في نسخة والمصدر : مع .

(٧١) في المصدر : لمنفعتك ومنفعة .

(٧٢) في المصدر : لهم .

١٥٦
 &

حسن الظن منك بهم ، فانه ليس شيء اكثر اختلافاً لفراسة اولي الأمر ، ولا خلافاً لحسن ظنونهم من كثير من الرجال ، ولكن اخترهم على آثارهم فيما ولّوا قبلك ، فان ذلك من صالح ما يستدل به الناس بعضهم على امور بعض ، واجعل لرأس كلّ امر من تلك الامور ، رئيساً من أهل الأمانة والرأي ، ممّن لا يقهره كبير الامور ، ولا يضيّع لديه صغيرها ، [ ثم لا تدع مع ذلك ] (٧٣) ان تتفقد امورهم ، وتنظر في اعمالهم ، وتتلطف بمسألة ما غاب عنك من احوالهم ، حتى تعلم كيف معاملتهم الناس فيما ولّيتهم ؟ فان في كثير من الكتّاب شعبة من العزّ ، ونخوة واعجابا ، وتسرعاً كثيراً من التبرم بالناس ، والضجر عند المنازعة ، والضيق عند المراجعة ، ولا بدّ للناس من طلب حاجاتهم ، فمتى جمعوا عليهم الابطاء بها والغلظة ، الزموك عيب ذلك ، وادخلوا مؤونته عليك ، وفي النظر في ذلك من صلاح امورك ، مع ما لك عند الله من الجزاء حظّ عظيم ، ان شاء الله تعالى .

ذكر ما ينبغي للوالي ان ينظر فيه من أمر طبقة التجار والصنائع (٧٤) :

انظر الى التجار واهل الصناعات ، واستوص بهم خيراً ، فانهم مادّة للناس ، ينتفعون بصناعاتهم ، وممّا يجلبون اليهم من منافعهم ومرافقهم ، في البر والبحر ، ومن رؤوس الجبال ، وبلدان مملكة العدوّ ، وحيث لا يعرف اكثر الناس مواضع ما يحتاجون اليه من ذلك ، ولا يطيقون الايثار (٧٥) به (٧٦) بأنفسهم ، فلهم بذلك حق وحرمة ، يجب حفظها لهم ، فتفقدوا امورهم ، واكتب الى عمالك فيهم ، واعلم مع ذلك ان في كثير منهم شحّاً قبيحاً ، وحرصاً شديداً ، واحتكاراً للتربص والغلاء ، والتضييق على الناس ، والتحكم عليهم ، وفي ذلك مضرّة عظيمة على الناس ، وعيب على الولاة ، فامنعهم من ذلك ،

_________________________

(٧٣) أثبتناه من المصدر .

(٧٤) في المصدر : والصناع .

(٧٥) في المصدر : الإِتيان .

(٧٦) في المصدر زيادة : ولا عمل ما يعملونه .

١٥٧
 &

وتقدم اليهم فيه ، فمن خالف امرك فخذ يدك فوق يده بالعقوبة الموجعة ، ان شاء أو أبى .

ذكر ما ينبغي للوالي ان ينظر فيه من امور اهل الفقر والمسكنة :

ولا تضيّعن امور الطائفة الاخرى من المساكين وذوي الحاجات ، وان تجعل لهم قسماً من مال الله ، يقسم فيهم مع الحقّ المفروض الذي جعل الله لهم في كتابه من الصدقات ، وفرّق ذلك في اعمالك ، فليس أهل موضع احقّ به من أهل موضع ، بل لاقصاهم من الحق ما لادناهم ، وكلّ قد استرعيت امره ، فلا يشغلنك عن تعاهد امورهم النظر في امر غيرهم ، فان لكلّ منك نصيباً لا تعذر بتضييعه ، وتفقد حاجات مساكين الناس وفقرائهم ، ممّن لا تصل إليك حاجته ، وممن تقتحمه العيون ، وتحقره الناس ، عن رفع حاجاته اليك ، وانصب لهم أوثق من عندك في نفسك نصيحة ، واعظمهم في الخير حسبة (٧٧) ، واشدّهم لله تواضعاً ، ممن لا يحقّر الضعفاء ، ولا يستشرف العظماء ، ومرهم فليرفعوا اليك امورهم ، ثم انظر فيها نظراً حسناً ، فان هزيل الرعية احوج إلى الانصاف والتعاهد من ذوي السمانة ، وتعاهد أهل الزمانة والبلاء ، وأهل اليتم والضعف ، وذوي الستر من أهل الفقر ، الذين لا ينصبون انفسهم لمسألة يعتمدون عليها ، فاجعل لهم من مال الله نصيباً ، تريد بذلك وجه الله والقربة اليه ، فان الاعمال انّما تخلص بصدق النيات .

ذكر ما ينبغي أن يأخذ الوالي به نفسه من (٧٨) الأدب وحسن السيرة :

ولا بدّ وان اجتهدت في اعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، ان تتطلع انفس طوائف منهم الى مشافهتك بالحاجات ، وذلك على الولاة ثقل ومؤونة ، والحق ثقيل الّا على من خففه الله عليه ، ولذلك ثقل ثوابه في الميزان ، فاجعل لذوي الحاجات ( من

_________________________

(٧٧) في المصدر : خشية .

(٧٨) في الطبعة الحجرية : « في » ، وما أثبتناه من المصدر .

١٥٨
 &

نفسك قسما ) (٧٩) ووقتاً ، تأذن لهم فيه ، وتتسع بما يرفعونه اليك ، وتلين لهم جناحك ، وتحتمل خرق ذوي الخرق منهم ، وعيّ اهل العيّ فيهم ، بلا انفة منك ولا ضجر ، فمن اعطيت منهم فاعطه هنيئاً ، ومن حرمت منهم فامنعه باجمال وحسن ردّ ، وليس من شيء اضيع لامور الولاة من التواني ، واغتنام تأخير يوم الى يوم ، وساعة الى ساعة ، والتشاغل بما لا يلزم عمّا يلزم ، فاجعل لكل شيء تنظر فيه وقتاً لا يقصر به عنه ، ثم افرغ فيه مجهودك ، وامض لكلّ يوم عمله ، واعط لكلّ ساعة قسطها ، واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقيت ، وان كانت كلّها لله اذا صحّت نيّتك ، ولا تقدم شيئاً على فرائض دينك في ليل ولا نهار ، حتى تؤدّي ذلك كاملاً موفّراً ، ولا تطل الاحتجاب ، فان ذلك باب من سوء الظن بك ، وداعية الى فساد الامور عليك ، والناس بشر لا يعرفون ما غاب عنهم ، وتخيّر حجابك ، وأقص منهم كلّ ذي اثرة على الناس ، وتطاول وقلّة انصاف ، ولا تقطع احداً من حشمك ولا من اهلك ضيعة ، ولا تأذن لهم في اتخاذها ، اذا كان يضرّ فيها بمن يليه من الناس ، ولا تدفعن صلحاً دعاك اليه عدوّك ، فان في الصلح دعة للجنود ، ورخاء للمهموم (٨٠) ، وامناً للبلاد ، فان امكنتك القدرة والفرصة من عدوّك ، فانبذ عهده اليه ، واستعن بالله عليه ، وكن اشدّ ما تكون لعدوّك حذراً ، عندما يدعوك الى الصلح ، فان ذلك ربّما كان مكراً وخديعة ، واذا عاهدت فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمّتك بالامانة والصدق ، واياك والغدر بعهد الله ، والاخفار لذمّته ، فان الله جعل عهده اماناً امضاه بين العباد برحمته ، والصبر على ضيق ترجو انفراجه ، خير من غدر تخاف اوزاره وتباعته وسوء عاقبته ، واياك والتسرع الى سفك الدماء لغير حلّها ، فانه ليس شيء اعظم من ذلك تباعة ، ولا تطلبن تقوية ملك زائل لا تدري ما حظّك من بقائه وبقائك له ، بهلاك نفسك والتعرض لسخط ربّك ، اياك والاعجاب بنفسك والثقة بها ، فان ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه اياك ، والعجلة بالامور

_________________________

(٧٩) في نسخة : قسماً من نفسك .

(٨٠) في نسخة والمصدر : للهموم .

١٥٩
 &

قبل أوانها ، والتواني فيها قبل ابّانها وزمانها وامكانها ، واللجاجة فيها اذا تنكرت ، والوهن اذا تبيّنت ، فان لكل امر موضعاً ، ولكلّ حالة حالاً » .

أقول : هذا العهد كأنّه هو عهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الى مالك الاشتر ، حين ولّاه مصر .

ورواه السيد في نهج البلاغة (٨١) ، والحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول (٨٢) ، وان كان بينها اختلاف شديد في الزيادة والنقصان ، كما ان بين الاخيرين ايضاً اختلافاً فيهما ، وحيث انه لا بدّ لنا من نقل ذلك العهد لكثرة فوائده المناسبة لهذا الباب ، فنحن نسوقه بلفظ السيد :

قال السيد رحمه الله : ومن عهد له ( عليه السلام ) كتبه للاشتر النخعي على مصر واعمالها ، حين اضطرب امر أميره محمد بن أبي بكر رحمه الله ، وهو اطول عهد كتبه واجمعه للمحاسن : « بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، مالكَ بن الحارث الاشتر ، في عهده اليه حين ولاه مصر ، جبوة (٨٣) خراجها ، وجهاد عدوّها ، واستصلاح ارضها واهلها ، وعمارة بلادها . امره بتقوى الله ، وايثار طاعته ، واتباع ما امره به في كتابه ، من فرائضه وسننه ، التي لا يسعد احد الّا باتباعها ، ولا يشقى الّا مع جحودها واضاعتها ، وان ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه ، فانه جلّ اسمه قد تكفّل بنصرة (٨٤) من نصره ، واعزاز من اعزّه ، وامره ان يكسر نفسه عند الشهوات ، ويزعها عند الجمحات ، فان النفس امّارة بالسوء الّا ما رحم الله .

ثم اعلم يا مالك : انّي وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور ، وان الناس ينظرون من امورك مثل ما كنت تنظر فيه من امور الولاة

_________________________

(٨١) نهج البلاغة ج ٣ ص ٩٢ رقم ٥٣ .

(٨٢) تحف العقول ص ٨٤ .

(٨٣) في المصدر : جباية .

(٨٤) في المصدر : بنصر .

١٦٠