مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

محمّد باب العلوم

مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

المؤلف:

محمّد باب العلوم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-45-4
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والصحيح منها يحمل على التأويل لا التنـزيل.

وممن تصدّى لهذه الحركة التضليلية محمّد بن بابويه القمي الملقّب بالصدوق صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه ، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة ، والسيد الشريف المرتضى ، وتلميذه الشيخ الطوسي صاحب كتاب التبيان وكتابين من كتب الحديث الأربعة ، وشيخ المفسرين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي.

ومما ذكره السيد المرتضى ونقله الطبرسي في تفسيره قوله : " القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية ، والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بالغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه ، وقراءته ، وحروفه ، وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد.

وذكر أيضاً " أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن. واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة ، مثل عبد الله بن مسعود ، وأُبي بن كعب ، وغيرهما ، ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة ختمات.

٨١

كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث.

وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته (١).

وأمّا محمّد حسين آل كاشف الغطاء فقال : إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدّي ، ولتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وأنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة (٢).

هذا هو إجماع الشيعة في القرآن ، واعتبر فضيلته أنّ الأخبار الواردة في نقصه أو تحريفه ، سواء كانت من طريق الشيعة أو طريق غيرهم ، ضعيفة شاذة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فإمّا أن تؤوّل بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار.

هذا هو موقف الشيعة في ما أنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ القرآن الكريم المتداول بين أيديهم ليس فيه تحريف بزيادة أو

______________________

(١) أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، ج ١ ص ١٥.

(٢) محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، أصل الشيعة وأصولها ، ص ٦٦.

٨٢

نقصان ، وما ذكر في بعض الروايات بأنّ فيه تحريف ونقصان فهو مخالف لعقيدتهم في القرآن ، ومناقض للوعد الإلهي الصريح بحفظه من أيّ تلاعب أو تحريف أو إضافة.

فما يمكن أن ينسب إلى المذهب إنّما هو الرأي الذي يلتزمه الجمهور الغالب ، لا الفرد ولا الجماعة الشاذّة ، إنّ رأي هؤلاء لا يحسب على الكلّ وإن اتفقوا في جوامع المذهب وأصول العقيدة ، بعد رفض الأكثرية لعمل الشاذين ، لوضوح فساد ما يلتزمون باعتبار ضعف أدلتهم.

وإذا لاحظنا قول السيد المرتضى في أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن ، وهذا اعتقاد الشيعة في القرآن ، فلا سبيل إذن لإلصاق تهمة تحريف القرآن إليهم.

ورواية جمع القرآن لها ارتباط وثيق مع أصالته ، ولكون عملية الجمع قد ابتدأت برقابة مباشرة ممن أنزل إليه ، فمن المستحيل أن يأتيه باطل أو زيغ أو يخلو مما عساه أن يكون من القرآن وليس منه.

وإذا سلّمنا بالروايات التي تتعلّق بجمع القرآن ، وأنّه ابتدأ في عهد أبي بكر ، ومن ثمّ ملاحظتها ومقارنتها مع ما جاء في الصحاح ، فطريقة الجمع بمثل ما رويت في تلك الكتب عرضة

٨٣

للتحريف والتبديل ، إمّا بالنقصان أو الزيادة.

والغريب من أولئك الذين نسبوا تحريف القرآن إلى الشيعة غيابهم عن ما جاء في رواية مسلم المتعلّقة بآية الرجم الدالّة على وقوع التحريف في القرآن. وقيل : إنها منسوخة الرسم وإن بقي حكمها في الدين.

أقول : فما هي الحكمة في رفع تلاوتها ؟ مع أنّ الهدف من نزول الآية هو الحكم ، والمفروض أنّ النزول قد تحقق ، الحكم باق ، فليس هناك أي معنىً في رفع التلاوة المزعوم.

وقد عبّر بعضهم عن هذا الاعتراض بأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم ، فما هي المصلحة في رفع آية منه مع بقاء حكمها ؟

إنّ ذلك غير مفهوم ، وليس ما يدعو إلى القول به.

وفي الختام أودّ أن أقول لمن ينسب تحريف القرآن إلى الشيعة : أهذا ، يكشف عن حب القرآن ، أم عن عداء وتصدّ وتشهير بهذا الكتاب الإلهي المقدّس ؟ بالله ، لو بلغته تهمة في عرضه أكان يبحث عنها هكذا ، ويكشفها على الملأ ، وينشرها في الكتب والمجلات لإثبات الجريمة على المتهم ؟ الذي ينادي ببراءته ؟ أم كان يكذّبها ، ويغطيها ، ويدفنها ، حفاظاً على سمعته وشرفه ، وصيانة لكرامة عرضه. فليكن القرآن الكريم أعزّ عليه

٨٤

من عرضه ، فليكذّب كلّ من يحاول إثارة التهمة إلى هذا الكتاب المقدّس ، وليضرب التهمة في وجه زاعهما ومثيرها ، وليصدّق الطائفة المعارضة بأنّها بريئة عن تهمة التحريف.

٨٥
٨٦



الفصل الثاني : السنّة النبوية

تعريف السنّة

السنّة في اللغة الطريقة ، وهي هدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن في مادة السنن ما نصّه : فالسنن جمع سنّة ، وسنّة الوجه طريقته ، وسنّة النبي طريقته التي كان يتحرّاها.

فمعنى السنّة هي أنّها ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قول أو فعل أو تقرير.

تاريخ تدوين السنّة

من المعروف أنّ العرب قبل الإسلام لم يعرفوا الكتابة والقراءة ، وعليه ذهب علي السايس على اتكال الصحابة في السنّة على حفظهم ، فلم يكتبوها ، ولم يأمروهم النبي بكتابتها كما كان يأمر بكتابة القرآن ، بل على العكس من ذلك ينهاهم عن الكتابة كما جاء في رواية مسلم " لا تكتبوا عنّي شيئاً إلا القرآن ، فمن

٨٧

كتب عنّي شيئاً غير القرآن فليمحه " (١).

ولذا ذهب أكثر علماء السنّة على أنّ السنّة لم تدوّن إلا في أوائل المائة الثانية من الهجرة بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على المدينة أبي بكر محمّد بن عمرو بن حزم بقوله : " انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه ، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء " (٢).

وقد أجاب الأعلام ـ كالشيخ عبد الخالق عبد الغني في حجية السنّة والعجاج الخطيب في السنّة قبل التدوين ـ عن هذه الشبهة : أنّ جملة « لا تكتبوا عنّي شيئاً إلا القرآن » بنفسها دالة على وجود المؤهل للكتابة عند العرب ، بل وجود الكتبة عندهم ، إذ لا يعقل أن يخاطب الرسول جمعاً ليس لهم قدرة الكتابة بقوله : « لا تكتبوا ».

وقد ثبت في التاريخ وجود كتّاب ، كزيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي بكر بن عمرو بن حزم وغيرهم. وعليه فالكتابة كانت موجودة عند العرب ، ويضاف إليه وجود نيف وثلاثين كاتباً للرسول يحسنون الكتابة ،

______________________

(١) صحيح مسلم ، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم ح ٨٥١٠ ص ١٢٩٧.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٣ ، كتاب العلم.

٨٨

وقد كتبوا إلى الرؤساء والملوك ، وأنّ الإسلام كان يدعو إلى الكتابة وتعلّمها (١).

هذا مضافاً إلى المناقشة السندية فإنّ هذا الحديث لم يروه مرفوعاً إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا همام بن يحيى. وقال الخطيب : تفرّد همام بروايته هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعاً (٢).

مع أنّه مناقض مع بعض الروايات الدالّة على إذن الرسول لبعض أصحابه في كتابة كل ما سمعه من النبي. فقد ورد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال قلت : يا رسول الله أكتب كلّ ما أسمع منك. قال : نعم. قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم ، فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلا حقّاً (٣).

وجاء أيضاً عن طارق بن شهاب قال : شهدت علياً وهو يقول على المنبر : والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة معلّقة بسيفه ، أخذتها من رسول فيها فرائض الصدقة معلّقة بسيف له حليته حديد (٤).

______________________

(١) منع تدوين الحديث : ٢٩.

(٢) تدوين السنّة النبوية : ٢٩٠.

(٣) جامع بيان العلم وفضله ، لابن عبد البر ١ : ٧١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

(٤) مسند أحمد بن حنبل ح ٩٦٢ ص ١١٧ ، أيضاً حديث رقم ٧٩٨ ، ٨٧٤ ، ٧٨٢.

٨٩

ولوجود هذه الروايات تعددت آراء علماء السنّة فيما يراد بـ " النهي عن الكتابة ". فرأى البعض أنّ حديث النهي منسوخ ، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن ، فلمّا أمن من ذلك أذن في الكتابة.

وأمّا مناع القطان فنقلاً عن أقوال بعض العلماء رأى إنّما النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة. (١)

ومهما يكن من الأمر فإنّ القائل بأنّ السنّة دوّنت في القرن الثاني للهجرة نفى بدء كتابتها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لشيوع الأمية ، وخوفهم من اختلاط السنّة بالقرآن ، ولئلا ينصرف الناس بحفظ السنة عن حفظ القرآن.

أقول : إنّ القول بأنّ كتابة السنّة قد ابتدأت منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهو الأقرب إلى الواقع. وحجّة النافي بأنّ النهي كان لشيوع الأمية مرفوض بالقول بأنّ الأمية ليست سمة المسلمين على وجه العموم ، ويشهد على ذلك أنّ الرسول أذن لأسرى بدر بأن يفدي كلّ كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من سكان المدينة الكتابة والقراءة. وهذا يدلّ على أنّ المسلمين يجيدون الكتابة والقراءة. فكيف يقال بعد ذلك لكون شيوع الأمية نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

______________________

(١) مناع القطان ، مباحث في علوم القرآن ، ص ٩٥.

٩٠

كتابة السنّة ؟! وأيضاً حجة النافي لئلا تختلط السنّة بالقرآن مردودة بسمة إعجاز القرآن ، وحرص المسلمين على العناية إلى أن بلغوا في حفظه والعناية به الغاية من الدقّة والشدّة حتّى عرفوا كلّ شيء من إعرابه وقراءته وحروفه فمن البعيد أن يختلط مع غيره من كلام المخلوق.

السنة النبوية عند الشيعة

كغيرهم من المذاهب الإسلامية فإنّ الشيعة يعتمدون على السنة النبوية في أخذ معالم الدين أصولاً وفروعاً ، ويجعلونها المصدر الثاني بعد كتاب الله في أخذ أحكام الله.

ولأهمية السنّة النبوية في تشريع الأحكام ، فقد اهتمّوا بها اهتماماً بالغاً لتنقيب الأحاديث التي اعتمدوا عليها ، ودوّنوا الحديث في كتبهم ، وأشهرها الكتب الأربعة ، وهي : الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة ٣٢٨ هـ فيه ١٦٠٩٩ حديثاً ، وكتاب من لا يحضره الفقيه لمحمّد بن بابويه القمي المتوفى سنة ٣٨١ هـ فيه ٩٠٤٤ حديثاً ، وكتابي التهذيب وفيه ١٣٠٩٥ حديثاً والاستبصار وفيه ٥٥١١ حديثاً لصاحبها الشيخ محمّد بن الحسين الطوسي المتوفى سنة ٤٦١ هـ وهذه الكتب

٩١

مبوّبة مرتّبة يذكر في كلّ باب جميع ما يتصل به من الأحاديث. (١)

ولصيانة التراث النبوي وحمايته من الأوهام ، وضع علماؤهم الأسس والقواعد التي يمكن التوصّل بها إلى معرفة الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن غيرها. فالسنة المعتبرة عندهم ما صحّ لهم من طريق أهل البيت عن جدّهم ، يعني : ما رواه الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن أمير المؤمنين عن رسول الله سلام الله عليهم جميعاً ، كما وضعوا أيضاً علم الدراية والرجال ، وألّفوا فيها عشرات الكتب لتصفية الأحاديث ، وبيان ما يجوز الاعتماد عليها وما لا يجوز.

والحديث عندهم ينقسم إلى المتواتر والآحاد ، ويعنون بالمتواتر أن ينقله جماعة بلغوا من الكثرة حدّاً يمنع من اتفاقهم على الكذب ، ولا إشكال في حجّية هذا النوع من الأخبار. وأمّا الآحاد : هو الذي لا ينتهي إلى حدّ التواتر ، سواء أكان الراوي واحداً أو أكثر. فقد اتفق أكثرهم على جواز العمل بأخبار الآحاد في الأحكام ، وينقسم هذا النوع من الخبر إلى أربعة أقسام (٢) وهي كالتالي :

______________________

(١) محمّد جواد مغنية ، الشيعة في الميزان ، ص ٣١٧ ـ ٣١٨.

(٢) هاشم معروف الحسني ، أصول التشيّع عرض ودراسة ، ص ٢٠٦.

٩٢

١ ـ الصحيح ما إذا كان الراوي إمامياً ثبتت عدالته بالطريق الصحيح.

٢ ـ الحسن ما إذا كان الراوي إماميا ممدوحا ولم ينص أحد على ذمّه أو عدالته.

٣ ـ الموثق ما إذا كان الراوي مسلماً غير شيعي ولكنه ثقة أمين في النقل.

٤ ـ الضعيف ما لا يستوفي الشروط المتقدّمة كأن يكون الراوي فاسقاً.

تلك هي جهود الشيعة في تنقيح السنّة النبوية ، وإن بلغ جهدهم إلى أقصاه في إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وصيانة السنة النبوية وحمايتها من الأوهام والإسرائيليات ، ولكنّهم لم ينجوا من التهم في أنّهم لا يعترفون بالسنّة النبوية ، وأنكروا كل الأحاديث الواردة عن طريق الصحابة ، بل أنّ الشيعة شنّوا هجوماً عنيفاً على رواة الحديث الذين عند حدّ مناقضيهم من أهل الثقة ، أمثال : أبي هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير والمغيرة ابن شعبة وغيرهم ، وعلى ذلك فهم إذن من الملحدين ؛ لأنّ الأحاديث تصل إلينا عن طريقهم ، وهي تمثّل التراث الهائل ، وتكون نصف الدين ومفسرة لمبهم القرآن ومجمله ، فمن أنكرها فقد كفر. هذا قول خصوم الشيعة.

٩٣

والضرورة تملي علينا أن نسرد أقوال علمائهم فيها ؛ لأنّه ليس من الإنصاف إلصاق التهم إليهم من غير إعطاء علمائهم الفرصة الكافية للدفاع عن أنفسهم. فإنّ الشيعة اعتمدوا على الأحاديث النبوية في إثبات الأحكام الشرعية. وتقسيمهم للأحاديث إلى أربعة أقسام نوع من احتياطهم لقبول ما جاء عن الرسول وأئمتهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وهذا لا يعني أنّهم يرفضون كلّ ما جاء عن طريق غيرهم ، فإن كانوا معروفين بالوثاقة قبلوا الرواية ، ولهذا قال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : إنّ كلّ ما أذكره في هذا الكتاب هو أفتي به ، وأحكم بصحّته ، وأعتقد أنّه الحجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره. وما يرويه في الكتاب المذكور فيه الإمامي وغيره (١).

وكفى بهذا القول ردّاً على عدوان بعض القائلين بأنّ الشيعة لا يقبلون أحاديث إخوانهم أهل السنّة ، فهم لا ينفوا ما جاء عن طريق غيرهم لكن وضعوا الشروط المتشدّدة في قبول صحّة الحديث ، وكان ذلك من النتائج الطبيعية للظروف القاسية التي اجتاحت بهم في عهد الدولتين الأموية والعباسية ، وصدور آلاف الأحاديث المكذوبة على أهل البيت عليهم‌السلام.

______________________

(١) هاشم معروف الحسني ، أصول التشيّع عرض ودراسة ، ص ٢٥.

٩٤

وأمّا رفضهم لصحيح البخاري ، في حين أنّه عند معارضي الشيعة من أصحّ الكتب بعد كتاب الله ، فذهب السيّد شرف الدين العاملي إلى القول بأنّ البخاري لم يستوف الشروط المتفقة عندهم في نقل الأخبار (١). فقد كتم البخاري كثيراً من النصوص المتعلّقة ببيان خصائص أهل البيت بالإضافة إلى أنّه اعتمد على أبي هريرة ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص الذين عند الشيعة ليس لهم من الاعتبار مقدار جناح بعوضة بدلاً من أن يروي من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ، مع أنّ أقوال أئمة أهل البيت حجّة لهم ؛ وذلك لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الأمّة بالأخذ بأقوالهم ، كما صرّح في حديث العترة ، فالتمسك بأحاديث الأئمة عندهم امتثال لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلال ، وأنّ النبي شبّه العترة بسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، وهذه كلّها تدلّ على حجّية أقوال أئمة العترة الطاهرة عليهم‌السلام (٣).

ورفض الشيعة لصحيح البخاري لا يقدح في إسلامهم شيئاً ، وإخراجهم عن حظيرة الإسلام ، ماداموا متمسّكين بالسنة النبوية

______________________

(١) عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، المراجعات ، ص ١٢٧.

(٢) محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، أصل الشيعة وأصولها ، ص ٧٩.

(٣) جعفر السبحاني ، الاعتصام بالكتاب والسنة ، مؤسسة الإمام الصادق ، قم ١٩٨٧ ، ص ٣٤٤.

٩٥

الواردة عن طريق غيره ، ويستمدّون منها أحكام الدين. وهذا الرفض ليس الرفض للسنة النبوية ، وإنّما الرفض للرجال الذين اعتمد عليهم البخاري. ومثل هذا الرفض ليس بغريب عند المحدّثين ، فقد قال الذهبي : إنّ الاثنين من علماء هذا الشأن لم يجتمع على توثيق الضعيف ولا على تضعيف الثقّة.

وعلى هذا أنفي شبهة القائلين بأنّ الشيعة ينكرون حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعملون بأخبار إخوانهم أهل السنّة ، ومن ثمّ يلصقون بهم التهم ، وينسبون إليهم الأراجيف والأكاذيب ، وهم منها براء. أمّا موقفهم اتجاه بعض الصحابة ، فبيانه في الموضوع اللاحق إن شاء الله تعالى.

الشيعة والصحابة

الضرورة تملي علينا إفراد بحث خاص عن حياة الصحابة وشؤونهم وما فعلوه وما اعتقدوه ؛ لكونهم جزءاً لا يتجزّأ من السنّة النبوية ، منهم أخذنا ديننا ، وبهم تصل إلينا سنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنستضيء بها في الظلمات في معرفة أحكام الدين.

هذا ، وقبل معرفة آراء الشيعة في الصحابة حريّ بنا معرفة المراد من الصحابة في عرف المحدّثين.

قال البخاري : من صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه. يلاحظ أصل تعريفه من أستاذه علي بن المديني حيث

٩٦

قال : من صحب النبي أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). يشمل هذا التعريف أولئك الذين ارتدّوا في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعده. ومن البديهي أنّ هذا التعريف مرفوض ؛ لأنّ الردّة تنفي العمل إذ لا يمكن ضمّ المرتدّين إلى جماعة الصحابة.

وأمّا سعيد بن المسيب فقال : إنّهم من أقام مع النبي سنة أو سنتين ، وغزا معه غزوة أو غزوتين (٢). هذا التعريف لا يقبله عامّة المسلمين ؛ لأنّه يخرج عدداً غفيراً من أولئك الذين أقاموا مدّة قصيرة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلذلك نفى ابن حجر التعريف المذكور ؛ لأنّ المسلمين اتّفقوا على عدّ جمع كثير في الصحابة لم يجتمع مع النبي إلا في حجة الوداع.

وإن اختلفت الآراء حول تعريف الصحابة ، فإنّ هذا اللقب يخصّص إلى من لقي النبي ، طالت مجالسته أو قصرت ، وروى عنه أم لم يرو. وأنّ أولئك كلّهم عدول ، وما صدر عنهم من الأحكام أو الأفعال إنّما يندرج في الاجتهاد فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد. هذا هو اعتقاد أكثرية المسلمين في

______________________

(١) ناصر علي عائض حسن الشيخ ، عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة ، مكتبة الرشيد ، الرياض ، ص ٣٣.

(٢) ناصر عائض ، المصدر السابق ، ص ٣٤.

٩٧

الصحابة ، فصار حدّاً فاصلاً يفرّق بين الشيعة وإخوانهم أهل السنّة. والشيعة تنفي عدالة جميع الصحابة فعدالة كلّ الصحابة عندهم ما لا أساس لها. وعلى ذلك قسّموا الصحابة إلى ثلاثة أقسام بقدر صدقهم وإخلاصهم لله ورسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

القسم الأوّل : وهم من الصحابة الأخيار الذين بايعوا الله ورسوله حقّ البيعة ، وصاحبوه بالصدق في القول والإخلاص في العمل ، فقد امتدحهم الله في كتابه. والشيعة يذكرونهم باحترام وتقديس ويترضّون عليهم كما يذكرهم أهل السنّة باحترام وتقديس أيضاً.

القسم الثاني : هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام إمّا رهبة أو رغبة ، وكانوا يؤذون رسول الله في بعض الأوقات ، ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه ، بل يجعلون لآرائهم مجالاً في مقابل النصوص حتّى نزل القرآن بعتابهم مرّة وتهديدهم مرّة أُخرى. والشيعة لا يذكرونهم إلا بأفعالهم بدون تقديس.

القسم الثالث : هم المنافقون الذين صحبوا رسول الله للكيد له ، وقد أظهروا الإسلام وانطوت سرائرهم على الكفر ، وهؤلاء اتفق الشيعة وأهل السنّة على لعنهم والبراءة منهم.

______________________

(١) محمّد التيجاني السماوي ، ثمّ اهتديت ، ص ٧٧ ـ ٧٩.

٩٨

وهناك قسم خاصّ من الصحابة يتميّزون عليهم بالقرابة القريبة ، وبفضائل خلقية ونفسية وخصوصيات اختصّهم الله ورسوله بها لا يلحقهم فيها غيرهم ، وهؤلاء هم أهل بيته الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. والشيعة يقتدون بهم ويقدّمونهم على كلّ الصحابة لوجود النصوص الصريحة الدالّة على ذلك ، كما سبق ذكره.

وأمّا أهل السنّة والجماعة مع احترامهم لأهل البيت وتعظيمهم إلا أنّهم لا يعترفون بهذا التقسيم للصحابة ، ولا يعدّون المنافقين في الصحابة ، بل الصحابة في نظرهم من خير الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ كلّهم عدول ، وكلّ ما صدر عنهم من الأفعال لابدّ من تفسيره من باب اجتهادهم. وإذا كان هناك تقسيم فهو من باب فضيلة السبق للإسلام والبلاء الحسن فيه ، فيفضّلون الخلفاء الراشدين في الدرجة الأولى ، ثمّ الستة الباقين من العشرة المبشّرين بالجنة على ما يروونه.

ويرى الشيعة أنّ إطلاق لفظ الصحابة إلى من أقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يضمن على من انضمّ إليه الأمانة والصدق على الإطلاق ، فهم متفاوتون في الصدق والإخلاص بقدر ماصدر عنهم من خير أو شرّ وما يترتب من أفعالهم ، فالصحابي مهما ارتقى في درجات الإيمان فإنّه إن لم يكن معصوماً من قبل الله

٩٩

جاز عليه العصيان والانقلاب ، كما أنّ الصحابة عندهم أيضاً تشمل المتآمرين والمتربّصين الذين تقرّبوا ليكيدوا بالإسلام والمسلمين وراء ستار الدين حتّى أن فضح الله كيدهم.

هذا وليُرى مصداق قول الشيعة نذكر فيما يلي نماذج من أفعال الصحابة.

الصحابة في صلح الحديبية

مجمل القصّة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة مع ألف وأربعمائة من أصحابه فأمرهم أن يضعوا سيوفهم في القرب ، وأحرم هو وأصحابه بذي الحليفة وقلّدوا الهدي ليعلم قريشاً أنّه إنّما جاء زائراً معتمراً وليس محارباً ، ولكن قريشاً بكبريائها خافت أن يسمع العرب بأنّ محمّداً دخل مكّة عنوة وكسر شوكتها ، فبعثوا إليه بوفد ، وطلبوا منه أن يرجع في هذه المرّة من حيث أتى على أن يتركوا له مكّة في العام القادم ثلاثة أيام ، وقد اشترطوا عليه شروطاً قاسية قبلها رسول الله لاقتضاء المصلحة التي أوحى بها إليه ربّه عزّ وجل.

ولكن بعض الصحابة عارضوه في ذلك معارضة شديدة ، وجاءه عمر بن الخطاب قائلاً : ألست نبي الله حقّا ؟ قال : بلى ، قال عمر : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل ؟ قال : بلى ، قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال رسول الله : إنّي رسول

١٠٠