مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

محمّد باب العلوم

مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

المؤلف:

محمّد باب العلوم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-45-4
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وفروعهم إلى هذا الزمان (١).

هذا مما امتاز به الشيعة على غيرهم من المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وأمّا الأئمة الأربعة فليس لهم عند أحد من الناس منزلة أئمة أهل البيت عند شيعتهم ، بل لم يكونوا أيام حياتهم بالمنزلة التي تبوؤها بعد وفاتهم ، كما صرّخ به ابن خلدون ، ونحن مع ذلك لا نرتاب في أنّ مذاهبهم إنّما هي مذاهب أتباعهم ؛ لأنّ أتباعهم أعرف بمذاهبهم ، كما أنّ الشيعة أعرف بمذهب أئمتهم ، بالإضافة إلى أنّ الشيعة من أوّل نشأتها لا تبيح الرجوع في الدين إلى غير أئمتها ، فلذلك انقطعوا في أخذ معالم الدين إليهم فقهاً وعقيدة ، وبذلك سمّي مذهبهم بمذهب أهل البيت.

وبهذا فإنّ زعم ابن تيمية في أنّ الشيعة انحرفوا بعيداً عن أهل البيت ليس إلا محاولة تشويه الحقيقة ، وهذا ليس بغريب عند من أمعن النظر في تهجّمه على مذهب أهل البيت ، فإنّه يخبط خبط العشواء تارة بتضعيف الحديث الذي ثبتت صحّته عن طريق الثقات ، وتارة يصرفه إلى غير معناه ، وغير ذلك.

سبب التسمية بـ " مذهب الجعفرية "

قد ذكرنا في ما سبق أنّ الشيعة أخذوا معالم الدين من أئمة

______________________

(١) محمّد جواد مغنية ، الشيعة في الميزان ، ص ٤٦٣.

٦١

أهل البيت الاثني عشر ؛ ولهذا اشتهر مذهبهم بهذا الإسم « مذهب أهل البيت ». وهناك اسم آخر اشتهر به هذا المذهب ألا وهو لفظ « الجعفرية ».

وقبل البحث عن سبب التسمية حريّ بنا معرفة استدلال الشيعة على إمامة الأئمّة الاثني عشر.

روى مسلم من عدّة طرق أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، ثمّ قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ما قال ؟ فقال : كلّهم من قريش (١).

وأفضل قريش بنو هاشم ، كما رواه مسلم في كتاب الفضائل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم (٢).

فلو جمع هذا الحديث وحديث الثقلين ، ثمّ عطف بعضها على البعض ، جاءت النتيجة أنّ الخلافة في أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم علي وبنوه.

وأمّا علماء أهل السنّة ففي حيرة من أمرهم ، فهم إن قالوا هم

______________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش ، ص ٨١٦.

(٢) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبي ، ص ١٠٠٨.

٦٢

الخلفاء الأربعة لم يبلغ العدد اثني عشر ، وإن أدخلوا فيهم الخلفاء الأمويين أو العباسيين تعدّوا العدد المفترض ، فتفسير الشيعة المذكور بالأئمة الاثني عشر من أهل بيته لهو أقرب إلى المنطق والعقل السليم ، وبهذا اشتهر مذهب الشيعة بالإمامية الاثني عشرية.

وأمّا التسمية بـ " الجعفرية " فيرجع إلى أنّ آثار الإمام الصادق عليه‌السلام فيه أكثر من غيره ، وظهرت في كلّ كتاب من كتب الفقه والحديث للشيعة. وقد اعتنى الشيخ أبو جعفر الطوسي بعدد الرواة والأصحاب الذين بلغوا أكثر من ثلاثة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز والشام وخراسان ، وقد جُمِعَ فتاواه في أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف ، وأننا نجد الرواة في عهد الصادق أكثر بكثير من الرواة في عصر سلفه أو خلفه ، وهذا ليس بغريب ؛ لأنّ الظروف التي تهيّأت له لم تتهيّأ لغيره.

وينقل لنا التاريخ أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام عاش في انقراض الدولة الأموية ومستهلّ قيام الدولة العباسية ، ويذكر لنا كيف كانت كلتا الدولتان تمارس الضغوط على الشيعة ، وكبت حرّيتهم ، وعدم السماح لهم ببيان عقائدهم الحقّة ؛ كي يُعرف

٦٣

التشيّع من أفواه أوليائه لا من مخاريق أعدائه.

نعم ، هبّ على الشيعة نسيم من الحريّة في فترات وجيزة لم تكن كافية لتحقيق هذا الهدف ، وذلك في عصر الصادق عليه‌السلام حين بدأ الضعف يدبّ في جسم الدولة الأموية ، واشتعلت فيها الفتن ، فاشتغل خصومهم في هذه الظروف ، فأعلنوا الثورة باسم التشيّع لعلي وأهل بيته تضليلاً للرأي العام الإسلامي الذي كان يحترق لما حلّ بأهل البيت من كوارث ، والذي اقتطف ثمارها العباسيون.

ويجدر الإشارة إلى أنّ الفقه الجعفري ليس هو في الحقيقة من رأي الإمام الصادق ، وإنّما مجموعة من العلوم المقتبسة من الأئمة الطاهرين المتصلة بعلوم جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمتّصل هو بدوره بالوحي.

وهذا ما هو إلا نزر يسير من بين الأدلّة الكثيرة المختلفة والمنتشرة في شتات الكتب الإسلامية مما يشير إلى وجوب اتّباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام. إضافة إلى أنّ الحقائق التاريخية تفيد على أنّ أهل القرون قبل ظهور المذاهب السنية لم يعتنقوا بشيء من تلك المذاهب أصلاً.

وأمّا الشيعة فيعتنقون مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وغير الشيعة

٦٤

يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ، فلا يوجد أيّ مبرّر يوجب التعبّد بالمذاهب الأربعة دون غيرها من المذاهب التي كان معمولاً بها من ذي قبل.

وإن كان اتّباعهم على أساس أنّهم " أهل السنّة والجماعة " ، وهي الفرقة الوحيدة الناجية كما أخبر الرسول بذلك في حديث افتراق الأمّة ، فلماذا افترقوا إلى عدّة مذاهب ؟! وبدّع بعضهم بعضاً حتّى وصل الأمر إلى حدّ التكفير وإهدار الدماء حتّى قيل أنّ الشيخ أبا حسن الأشعري المعروف بشيخ أهل السنّة من أهل البدعة والضلال.

٦٥
٦٦



الباب الثالث

مصدر التشريع الإسلامي

الفصل الأول : القرآن

تعريف القرآن

القرآن في الأصل مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً ، معناه في اللغة الجمع والضم.

وقد خصّ اسم القرآن بالكتاب المنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صار له كالعَلَمِ ، كما أنّ التوراة أنزلت على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود عليهم‌السلام.

وأمّا سرّ تسمية هذا الكتاب قرآنا بمعنى الجمع والضم ، فيرى بعض العلماء أنّه جامع لثمرة الكتب السابقة ، بل وأنّه جامع لثمرة جميع العلوم لقوله تعالى ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (١).

______________________

(١) النحل ٨٩.

٦٧

والقرآن ـ كما هو المعروف ـ في اصطلاح الجميع هو كلام الله المنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة جبريل ، والمنقول إلينا بالتواتر ، المتعبّد بتلاوته ، المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس (١).

وللقرآن الكريم أسماء عديدة ، كلّها تدلّ على رفعة شأنه ، وعلوّ مكانته ، وأنّه أشرف كتاب سماوي على الإطلاق ، فيسمّى أيضاً بـ :

الفرقان ، جاء في قوله تعالى ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (٢).

الذكر ، جاء في قوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٣).

الكتاب ، جاء في قوله تعالى ( لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ) (٤).

التنزيل ، جاء في قوله تعالى ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٥).

______________________

(١) مناع القطان ، مباحث في علوم القرآن ، مؤسسة الرسالة ، ص ٢١. أيضاً علي الصابوني ، التبيان في علوم القرآن ، عالم الكتب ، بيروت ، ص ٨.

(٢) الفرقان ١.

(٣) الحجر ٩.

(٤) الأنبياء ١٠.

(٥) الشعراء ١٩٢.

٦٨

وبالعناية البالغة التي قام بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار والصحابة الكرام بقي القرآن محفوظاً من أيّ تحريف أو تبديل إنجازاً لوعد الله تعالى الذي وعد بحفظه حيث قال تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ). ومع كلّ هذا ظهرت دعوى التحريف لوجود الروايات المتعلّقة بجمع القرآن وغيره والتي أصبحت هي سلاحاً لمن يطعن في أصالته.

وعليه فيهمّنا البحث عن موضوع جمع القرآن بتحليل الروايات المتعلّقة به محاولةً للحفظ على أصالة القرآن من أيّ دعوى للتحريف أو التبديل.

جمع القرآن

ذهب العلماء فيما يراد بجمع القرآن إلى معنيين :

المعنى الأوّل : الجمع بمعنى " الحفظ " (١) ، وجمع القرآن بمعنى حفظ القرآن ، وجمّاع القرآن هم حفّاظه. وممّا لا خلاف فيه أنّ حفّاظ القرآن كانوا على كثرة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا المعنى هو الذي ورد في قوله تعالى ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *

______________________

(١) مناع القطان ، مباحث في علوم القرآن ، ص ١١٨.

٦٩

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (١). قال الطبرسي : وفي رواية سعيد بن جبير عنه [ ابن عباس ] أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعاجل من التنـزيل شدّة وكان يشتدّ عليه حفظه فكان يحرّك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي فقال سبحانه ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ ) أي : بالوحي أو القرآن ( لِسَانَكَ ) يعني بالقراءة ( لِتَعْجَلَ بِهِ ) ، أي : لتأخذه : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ ) في صدرك حتى تحفظه (٢).

المعنى الثاني : جمع القرآن بمعنى كتابته في مصحف واحد. وإذا أريد بالجمع هذا المعنى ، أي : جمع القرآن كلّه بين دفّتي مصحف واحد ، فاختلف العلماء فيه إلى قولين :

القول الأوّل : إنّ القرآن قد اكتمل جمعه في مصحف واحد منذ عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ نفراً من الصحابة ، وهم : علي بن أبي طالب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود قد جمعوا القرآن كلّه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

القول الثاني : إنّ القرآن لم يجمع في مصحف واحد في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما بعد وفاته.

______________________

(١) القيامة ١٦ ـ ١٩.

(٢) أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، مجمع البيان ، ج ١٠ ص ١٧٥.

٧٠

هذا ، وليتّضح الأمر لنا للترجيح بين القولين نذكر بعض الروايات المتعلّقة بجمع القرآن ، ثمّ نحللها لنصل لقول الحق.

الأولى : عن ابن شهاب عن عبيد بن السباق أنّ زيد بن الثابث رضي الله عنه قال : أرسل إليّ أبو بكر ، مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه : إن ّعمر أتاني فقال : إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر ، قال زيد : قال أبو بكر : إنّك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ، فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت : كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ؟ قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) حتّى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى

٧١

توفّاه الله ، ثمّ عند عمر ، ثمّ عند حفصة بنت عمر (١).

الثانية : عن ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدثه أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة. فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى ، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالمصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك ، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت ، وعبد الله بن زبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، فنسخوها في المصاحف ، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنّما نزل بلسانهم ، ففعلوا حتّى إذا نسخوا المصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، فأرسل إلى كلّ أفق بمصحف مما نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال ابن شهاب : وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت سمع زيد بن ثابت قال : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا الصحف ، قد كنت أسمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت

______________________

(١) صحيح البخاري ، باب جمع القرآن ص ٩٨ دار الفكر ، بيروت ١٤٠١.

٧٢

الأنصاري ( مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) فألحقناها في سورتها في المصحف (١).

الثالثة : عن قتادة قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه من جمع القرآن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : أربعة كلّهم من الأنصار : أُبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (٢).

الرابعة : عن مسروق ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ، فقال : لا أزال أحبه ، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأُبي ابن كعب (٣).

وما هذا إلا نزر قليل من بين الروايات الكثيرة المتعلّقة بجمع القرآن.

ومع قليل من التعمّق في الروايات السابقة نجد التعارض بين هذه الروايات. فقد دلّت الأولى على أنّ الجمع كان بعد وفاة النبي وفي زمان أبي بكر ، وأمّا الثانية فأشارت على أنه كان في عهد عثمان لوجود الاختلاف في القراءة.

وهناك رواية أُخرى في كنز العمال تدلّ على أنّ جمع القرآن

______________________

(١) صحيح البخاري ، ص ٩٩.

(٢) صحيح البخاري ، باب القرّاء من أصحاب النبي ، ج ٦ ص ١٠٣.

(٣) صحيح البخاري ، ص ١٠٩.

٧٣

كان في زمان عمر بن الخطاب (١). وعليه فيكون الجمع في ثلاثة عهود ، في عهد أبي بكر وعمر وعثمان.

وإذا لاحظنا قول زيد بن ثابت في الرواية الثانية " فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ... فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت " ، ثمّ لاحظنا الرواية الأولى وغيرها من الروايات التي ظاهرها ، بل صريحها أنّه لم يبق شيء من الآيات لم يدوّن ، فيكون حينئذٍ المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر فيه نقصان لعدم وجود آية من سورة الأحزاب ، وما هذا إلا تناقض صريح.

وإذا لاحظنا الرواية الثالثة والرابعة يتّضح أنّ الجمع كان في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولعلّ قائلاً يقول : إنّ المراد من " الجمع " هنا هو الجمع في الصدور لا في السطور ، وهذا الزعم لا شاهد عليه ، مضافاً إلى أنّه يناقض رواية النسائي عن عبد الله بن عمر حيث قال : " جمعت القرآن فقرأت به في كلّ ليلة ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي : إقرأ به في كلّ شهر " (٢).

مضافاً إلى أنّ الحقائق التاريخية تدلّنا على منافسة الصحابة في

______________________

(١) كنز العمال ، باب جمع القرآن ، ج ٢ ص ٥٧٨ ، حديث ٤٧٦٧.

(٢) السنن الكبرى ٥ : ٢٤ حديث ٨٠٦٤ ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت.

٧٤

حفظ القرآن وكانوا الحافظين للقرآن أكثر من أن يحصون ، فكيف يمكن حصرهم في هؤلاء الأربعة أو الستّة دون غيرهم ؟! وحتّى لو أخذنا بالرواية الأولى مثلاً ، فلماذا دعا أبو بكر زيداً فقط لجمعه من العسب واللخاف ، ولم يدع أُبي وعبد الله ومعاذ ، وهم على قيد الحياة عند الجمع ؟!

وبجانب تعارض الروايات بعضها مع بعض ، أيضاً تتعارض أحاديث الجمع مع ما جاء في الآيات القرآنية ، فقد تحدّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشركين وأهل الكتاب على أن يأتوا بعشر سور مثله ، بل بسورة من مثله ، وهذا التحدّي دالّ على أنّ القرآن قد انتشر بين الناس بمن فيهم المشركين.

والقرآن سمي أيضاً بالكتاب ، وهذه التسمية دليل على أنّ القرآن مدوّن بين دفّتين في مصحف واحد ؛ لأنّ الحفظ في الصدور أو الكتابة في الأكتاف والرقاع لا تسمّى كتاباً.

كما أنّ أحاديث الجمع تتعارض مع إجماع المسلمين ، فمن المجمع عليه عند المسلمين قاطبة أنهّ القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر ، في حين أنّ طريقة إثباته في الروايات المذكورة منحصر بشهادة شاهدين ، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين ، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضاً ، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك ؟! وإذا كان الأمر

٧٥

كذلك فلا حرج للمسلم في رفض هذه الأحاديث إذ لا يمكن قبول إثبات القرآن بشهادة شاهدين في حين أجمع المسلمون قاطبة أن لا طريق لإثباته إلا بالتواتر.

وخلاصة ما تقدّم ذكره ، أنّ إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقوم عليه دليل قطعي ، ومناقض للقرآن والسنة وإجماع الأمّة. إذن ثبت أنّه جمع منذ عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا لا سبيل لطعن أصالة القرآن ؛ إذ إنّه قد جمع في عصر النبي ، ووصل إلينا بالتواتر القطعي.

هذا كلّه مضافاً إلى حكم العقل برفض أن يدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي منتشر ومتشتّت في عدّة صحف ورقاع مما يجعله في طريق التحريف.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لا يسمّى الصحف والرقاع والأكتاف كتاباً ، بل الكتاب هو ما بين دفّتي مصحف واحد.

وعلى هذا رأى السيد المرتضى : " إنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن " (١).

وأمّا ما فعله عثمان ليس إلا توحيد الأمّة على قراءة واحدة من بين القراءات السبعة وهي القراءة التي كانت متعارفة بين

______________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٣.

٧٦

المسلمين ، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحيلولة دون وقوع النزاع بين المسلمين.

فهو اليوم في أيدينا كما أنزل على نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وليس فيه تحريف ولا تبديل ولا تغيير ، هذا هو اعتقاد المسلمين أجمع بما فيهم الشيعة. ونسبة تحريف القرآن إلى الشيعة افتراءٌ عليهم. فقد صرّح علماؤهم بأنّ القرآن هو ما في أيدي الناس لا غير. وعليه فنأسف حقاً على حدّة الحملة على الشيعة ، وإخراجهم من حظيرة الإسلام بدعوى تحريف القرآن بدون أيّ دليل لإثبات الدعوى.

وعلى هذا أرى أهمية بحث تحريف القرآن بصورة مستفيضة ، ومن ثمّ معرفة آراء علماء الشيعة في القرآن لنرى صحّة أو خطأ ما نسب إليهم.

تحريف القرآن

لقد وعد الله أن يحفظ القرآن من أيّ تحريفات أو تبديلات ، وهذا ضمان صريح على أصالة القرآن إلى يومنا هذا ، وأنّه اليوم على هيئة ما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلذلك لا سبيل إلى طعنه والشك فيه ؛ لأنّ الشك في القرآن هو الشك في نبوة محمّد ، ومعاذ الله أن نكون ممن يرتاب في نبوّته.

٧٧

ومع وجود هذا الضمان من الله تعالى انتاب جماعة من المسلمين الغرور بقول تحريف القرآن ، ولا يثق بضمان الله تعالى ، والعجب العجاب أن ينسب هذا التحريف إلى إخوانهم الشيعة من غير أن يسمعوا قول الشيعة في نفي التحريف عن القرآن.

فقد ذهب البعض ضمن سلسلة ردّه للشيعة قائلاً : " إنّ القرآن المتداول بين أيدي الناس اليوم عند الشيعة محرّف زيد فيه ونقص منه الكثير ، وأنّ القرآن الأصلي بيد قائمهم محمّد الحسن العسكري الذي سيأتي به عند خروجه إذا حان وقته ، فيرفع هذا القرآن المتداول بين الناس ". واعتبر أنّ قراءة الشيعة للقرآن المتداول اليوم والعمل بأحكامه جبراً وتقية.

وأما أبو حامد المقدسي في كتابه الردّ على الرافضة فيقول : " ومن مكائد الشيعة أنّهم لا يعتقدون بأنّ القرآن الكريم الموجود بأيدي الناس بعد تمامه ما أنزل الله على محمّد ، بل يظنون أنّه محرّف ".

فقد ردّ هذا القول علماء الشيعة ـ قديماً وحديثاً ـ وأنكروا وقوع التحريف.

هذا ، ومن يتّهم الشيعة بالتحريف فإنّ مصادره الأساسية مليئة بالروايات التي تدلّ على وقوع التحريف في القرآن ، فهذا

٧٨

صحيح البخاري ومسلم نقلا أنه قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله قد بعث محمّداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم ، قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، وأنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف (١).

وروى مسلم أيضاً أنّ أبو موسى الأشعري بعث إلى قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورة ، كنّا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي قد حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، وكنّا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها غير أنّي قد حفظت منها : يا أيها

______________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب من اعترف على نفس بالزنى ، ص ٧٤٩.

٧٩

الذين آمنوا لم تقولون ما لا تعملون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (١).

وغيرها من الروايات فهي كثيرة.

الشيعة والقرآن

ذهب السيد هاشم معروف الحسني أنّ الشيعة تدين بتعظيم القرآن وتقديسه ، وأنّه الكتاب المنزل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منه يستقون عقيدتهم وأحكامهم ، وهو المرجع الأوّل عندهم في الأصول والفروع ، والذي في أيدي المسلمين اليوم هو الذي يؤمنون به ويعتقدون نزوله على النبي ، ويستحيل أن تناله يد التحريف بالزيادة أو النقصان لوجود الضمان من الله تعالى على حفظه ، فمن نسب لهم غير ذلك فقد افترى عليهم الكذب (٢).

وشدّة الحملة في نسبة تحريف القرآن إلى الشيعة مما تدعو إلى الحزن ، فقد تصدّى علماء الشيعة لمزاعم التحريف ، وبيّنوا أنّ ما ذكر في الروايات الموهمة للتحريف المنسوبة لأهل البيت ـ والتي تمسك بها القائلون بالتحريف ـ أغلبها ضعيفة السند

______________________

(١) صحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا ، ص ٤٢٢.

(٢) هاشم معروف الحسني ، أصول التشيّع عرض ودراسة ، ص ١٦٩.

٨٠