مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

محمّد باب العلوم

مصدر التشريع عند مذهب الجعفريّة

المؤلف:

محمّد باب العلوم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-45-4
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الخصيصة ، ولوجود الفضائل الكثيرة بحقّه حتّى قيل : ما جاء لأحد من أصحاب النبي من الفضائل كما جاء لعلي بن أبي طالب.

ولما احتدم الخلاف بين علي ومعاوية ، كانوا يوالون علياً ويشايعونه حتّى ذكر في التاريخ أنّ معظم الأمصار كانوا معه أيام صفّين.

وبعد أن مارس معاوية حيلة التحكيم في نزع علي عن الإمارة مما ترتّب عليه مقتله على يد المجرم ابن ملجم المرادي.

وبعد فاجعة كربلاء حدثت ثورات متتاليات حاولت لإطاحة الدولة الأموية باسم التشيّع لعلي وأهل بيته حتّى لقيت الدولة الأموية مصرعها في المشرق الإسلامي ، ومن ثمّ قيام الدولة العباسية في أوائل القرن الثاني للهجرة ، وفي هذا القرن حدثت ثورة فكرية للشيعة على يد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام مستفيدين من الصراع الأموي العباسي ، وبه انتشر مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وتجلّت هذه المدرسة في مدرسة الإمام الصادق عليه‌السلام ، الإمام السادس للشيعة الإمامية ، وبهذا اشتهر المذهب الإمامي بالجعفرية.

وهكذا فإنّ فكرة التشيّع لعلي وأهل بيته ظهرت بمظاهر مختلفة في المجتمع الإسلامي ، وكان لها أنصارها. ونستنتج من

٤١

هذه المقدّمة أنّ التشيّع قد مرّ على عدّة مراحل ، ونستخلصها في ما يلي :

المرحلة الأولى : التشيّع في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشيعة الأوائل كانوا من الصحابة الذين يرون في شخصية علي امتداداً لشخصية النبي.

المرحلة الثانية : التشيّع في عصر الصحابة ، أي بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مقتل علي عليه‌السلام ، فهم يرون أنّ علياً أولى بالخلافة من غيره.

المرحلة الثالثة : التشيّع في عصر الدولة الأموية بإظهار العداء للأمويين لموقف معاوية من علي وشيعته ، وسبّ الخلفاء الأمويين علياً على المنابر ، ومقتل الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء ، وحدوث ثورات وحركات شيعية.

المرحلة الرابعة : التشيّع في عصر الدولة العباسية إلى عصر الغيبة الصغرى.

المرحلة الخامسة : التشيّع بعد الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجّل الله فرجه إلى يومنا هذا المتمثّل بالرجوع إلى الفقهاء الأتقياء.

في ختام هذا الباب يمكننا الاستنتاج أنّ التشيّع في معدنه هو حركة المحافظة على الإسلام ومراقبة تطبيقه في ميادين سياسية

٤٢

واجتماعية وغيرها ، وأنّ الشيعة قد قاوموا سياسة المصالح على حساب الدين التي طبّقها بعض المسلمون بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة ، وعلى هذا فإنّ التشيّع بالمعنى الذي حدّد هنا من نصرة علي قد كان قديماً قدم الإسلام ، ثمّ ظهر على شكل دعوة سياسية في أوّل لحظة بعد وفاة النبي ، ولابدّ من أن يظهر للناس ، ولكن لم يكن حزباً بالمعنى المفهوم حالياً من حيث إنّ له مبادئ ومناهج ، وله فروع وأنصار ، وسياسة وخطط ، بل كان حزباً همّه أن يسير الإسلام سيره الطبيعي الذي أراده الله ورسوله ، لهذا وجدناهم يعارضون مع معارضة علي ويوافقون مع موافقته.

تنبيه هام لا بدّ منه : إنّ تقسيم التشيّع إلى هذه الأدوار والمراحل لا يمسّ كنهه وحقيقته ، وإنّما باعتبار الوسائل والأساليب التى اعتمدها الدعاة والأنصار في الاستناد إلى النصوص ، ثمّ النقاش والمناظرة مع المذاهب الأخرى ، وكذا بالنسبة للظروف السياسية والاجتماعية.

٤٣
٤٤



الفصل الثاني : إمامة أهل البيت عليهم‌السلام

الأدلّة التي تشير إلى اتّباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام

تعتقد الشيعة أنّ الأرض لا تخلو من الحجّة ، فلذلك أرسل الله رسله إلى الناس أجمعين ليكونوا حجّة لهم وعليهم. وقد أرسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كافّة الناس على اختلاف عصرهم ومصرهم ، ولما ذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى لم يدع الخلق سدى من غير حجّة بل إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الشيعة له وصي ووارث ، وترك فينا الثقلين لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض ، هما : كتاب الله وعترة أهل بيته الطيّبين الطاهرين ، وأوجب مودّتهم بوصفهم سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ، فقد أوصى أمته بالتمسّك بالكتاب وبالتمسّك بهم.

هذا وقد استدلت الشيعة بالروايات الكثيرة المنتشرة في شتات الكتب تاريخياً كانت أم حديثياً شيعية كانت أم سنيّة ، وكذا استدلوا بالآيات الكثيرة ، وفيما يلى نصّها.

٤٥

١. حديث الثقلين

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أيها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » (١). وقال أيضاً : « ... يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ... وأهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي » (٢).

قد صحّح هذا الحديث جماعة من أعلام المحدّثين أمثال مسلم في صحيحه ، والترمذي في جامعه ، والحاكم في المستدرك.

وأمّا من المحدّثين المعاصريين فقد صحّحه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير. (٣)

وللحديث ألفاظ أُخرى ، وطرق متكاثرة ، وأسانيد متظافرة قال السمهودي : « وفي باب عن زيادة على عشرين من الصحابة رضوان الله عليهم » (٤). وقال ابن حجر الهيتمي : « ثمّ اعلم أنّ

______________________

(١) جامع الترمذي ، دار السلام ، الرياض ، الطبعة الأولى ، محرم ١٩٩٩ ، ص ٨٥٩.

(٢) صحيح مسلم ، دار السلام ، الرياض ، ١٩٩٨ ، ص ١٠٦١ ح ٦٢٢٥ ـ ٦٢٢٧.

(٣) محمّد ناصرالدين الألباني ، صحيح الجامع الصغير ١ : ٤٨٢ ، المكتب الإسلامي ـ بيروت.

(٤) جواهر العقدين : ٢٣٤ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

٤٦

لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة ، وردت عن نيف وعشرين صحابياً ... » (١). ولذا حكم غير واحد من أهل العلم بتواتره ، منهم الشيخ أبو المنذر (٢) ، وأبو الفتوح التليدي (٣) ، وغيرهما.

هذا وإن تواتر السند لكن استشكل فيه بعض العلماء أمثال ابن الجوزي وابن تيمية ومن نهج نهجهما من العلماء المعاصرين أمثال الدكتور علي السالوس والدكتور أحمد الجلي ، بل واعتبر أنّ الحديث لم يرد في أمهات الكتب. واعتبر علي السالوس أنّ الحديث ضعيف لا يستدلّ به ؛ لأنّ هذه الروايات من سنن الترمذي يرويها عطية عن أبي سعيد ، والإمام أحمد نفسه تحدّث عن عطية وعن روايته عن أبي سعيد فقال : بأنّه ضعيف الحديث. وقال البخاري في حديث رواه عطية : أحاديث الكوفيين هذه مناكير.

ويلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ الحديث لم يقتصر على السند الذي جاء عن طريق الترمذي كما زعم المعترض ، فلقد رواه مسلم في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، وأحمد في مسنده بطرق كثيرة ،

______________________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣٤ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

(٢) الزهرة العطرة في حديث العترة : ٦٩ ـ ٧٠ ، دار الفقيه ، مصر.

(٣) الأنوار الباهرة : ١٤ ، دار ابن حزم ، بيروت.

٤٧

ولا يخفى أنّ رواية مسلم للحديث ولو بطريق واحد كاف لإثبات صحّته ، وقد وثقه ابن سعد وابن معين وسبط بن الجوزي ، وأمّا زعم أحمد الجلي بأنّ الحديث لم يرد في أمّهات الكتب فكذب وافتراء على الحقيقة.

هذا ، وبعد متابعة شبهات الجلي ، نجد أنّه اعتمد في قدحه على ابن تيمية المعروف بعدائه لآل بيت النبي عليهم‌السلام. وهكذا ضعّف علي السالوس الحديث المذكور وقال : فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفي النشأة ، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك. ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة ، بل إلى سبعين ، غير أنّه لم يصح عن صحابي واحد ، ولو صحّ عن صحابي واحد لكفى إلا أن يكون ممّن لا يستحق شرف الصحبة.

هذا ، ونتسائل هل علي بن أبي طالب لا يستحق شرف الصحبة ، وكذا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبي ذر الغفاري وزيد بن أرقم وأم سلمة زوجة النبي وغيرهم حتّى يقول السالوس بهذا القول ؟! ومتى يكون ابن تيمية حجة على المسلمين ؟! بل وحتّى ابن تيمية نفسه عندما عجز عن تضعيف الحديث من جهة السند ، عمد إلى أسلوب آخر يعبّر عن سوء فهمه وكثرة وهمه وخلطه فيقول : « إنّ الحديث يدلّ على أنّ الذي أُمرنا بالتمسّك به وجُعل المتمسّك به

٤٨

لا يضل هو كتاب الله » (١).

لكنه غفل أنّ للحديث ألفاظاً أُخرى صريحة المعنى والدلالة ، ولا يفهم منها أنّه يشير إلى وجوب التمسك بالكتاب فقط دون العترة كما زعم ابن تيمية ، ولم يقف على هذا الحدّ فقال في حديث العترة : « إنّه من رواية الترمذي ، وقد سئل عنه أحمد فضعّفه ، وضعّفه غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : إنّه لا يصحّ ».

ويُفهم من كلامه أنّ الحديث لم يروه إلا الترمذي ، وقد سبق الذكر أنّه رواه غير واحد من أعلام السنة وحفّاظهم ، وقال الترمذي نفسه : هذا حديث حسن غريب.

ثانياً : ذكر علي السالوس أنّ الحديث جاء عن طريق عطية بن سعد بن جنادة وهو الكوفي الذي قال البخاري ناسباً ذلك إلى أحمد : « إنّ أحاديث الكوفيين هذه مناكير ».

ولنا وقفة مع هذه العبارة :

إنّ مجرّد تضعيف عطية لا يضعّف حديث الثقلين ، حيث أنّ الحديث جاء عن طريق غيره.

______________________

(١) أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم ، منهاج السنة النبوية ، تحقيق : الدكتور محمّد رشاد سالم ، الطبعة الأولى ١٩٨٦ ، ج ٧ ص ٣٩٤.

٤٩

وأمّا القول بأنّ أحاديث الكوفيين هذه مناكير فنسبة ذلك إلى أحمد نسبة كاذبة ؛ لأنّ أحمد يروي هذا الحديث في مسنده ، وفي كتاب فضائل الصحابة ، بأسانيد كثيرة عدّة من الصحابة ، وأين قال أحمد هذا ؟ ومتى قال ؟

وأمّا دعوى : أنّ هذا الحديث منكر فصحيح ، إنّه منكر عند البخاري ؛ لأنّه يدل على إمامة أهل البيت عن طريق الأفضلية والأعلمية وغير ذلك من الجهات ، ثمّ لماذا يروي البخاري نفسه عن الكوفيين في صحيحه ؟!

إذن حديث الثقلين صحيح بشهادة أعلام الأمّة من المحدّثين وحفّاظهم ، فلا يجرء على طعنه إلا ذو قلب مريض امتلأ بغضاً وغيظاً على أهل البيت عليهم‌السلام , وبغرض تضليل الأمّة بكلام مشبوه كالقول : « بإنّ الحديث لم يرد في أمّهات الكتب » ، فهل صحيح مسلم وجامع الترمذي وغيرهما من الكتب من سوقة الكتب التي يتناولها الهمج الرعاع ؟!

هذا ، ولم نجد جواباً كافياً وشافياً ممن يطعن هذا الحديث إلا وكعادته يخبط خبط العشواء في الردّ مما يزيد الطين بلّة.

وأمّأ ناصر الدين الألباني فعندما أثبت صحّته اعتمد أُسلوباً آخر في تمويه دلالة الحديث فقال : « إنّ المراد من الحديث في قوله » عترتي « أكثر مما يريده الشيعة ... » إلى أن قال : « وأهل

٥٠

بيته في الأصل هم نساؤه وفيهنّ الصدّيقة عائشة رضي الله عنهن جميعاً » ، ثمّ أورد قوله تعالى من سورة الأحزاب ٣٣ ، إلى أن قال : « وتخصيص الشيعة ( أهل البيت ) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه من تحريفهم لآيات الله تعالى » (١).

أقول : الشيعة قالوا باختصاص عنوان أهل البيت عليهم‌السلام بعلي وفاطمة وذرّيتهما استناداً إلى الروايات الصحيحة الكثيرة ، كحديث الكساء وغيره ، كما سيتبيّن تحت عنوان تحديد هوية أهل البيت.

تحديد هوية أهل البيت عليهم‌السلام

بعد أن ثبت صحّة حديث الثقلين الدالّ على وجوب إتّباع عترة رسول لله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاحت التساؤلات حول شخصية أهل البيت الذين وصفهم الرسول بسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق.

أليس أزواجه من أهل بيته كما يزعم الألباني ؟ أم أنّ هذا العنوان مختص بعلي وفاطمة وذرّيتهما كما هو اعتقاد الشيعة في أهل البيت عليهم‌السلام.

______________________

(١) محمّد ناصر الدين الألباني ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ : ٣٥٩.

٥١

فنقول : نقل ابن منظور في لسان العرب : « أنّ عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد فاطمة رضي الله عنها ، هذا قول ابن سيدة ، وقال الأزهري وفي حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذكر حديث الثقلين ، فجعل العترة أهل البيت ، وقال ابن الأثير : عترة الرجل أخص أقاربه. وقال ابن الأعرابي : العترة ولد الرجل وذرّيته وعقبه من صلبه ، قال : فعترة النبي ولد فاطمة البتول عليها‌السلام » (١).

هذا ، ولبيان الأمر بصورة أوضع لئلا يدع مجالاً للشك نستدلّ بالروايات الآتية :

أ. أهل البيت في آية التطهير

أخرج مسلم في صحيحه بسنده إلى عائشة ، قالت : « خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء ثمّ الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثمّ قال « إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً » (٢).

______________________

(١) ابن منظور جمال الدين محمّد مكرم الأنصاري ، لسان العرب ، الدار المصرية للتأليف والترجمة ، ج ٦ ص ٢١٢.

(٢) صحيح مسلم ، باب فضائل أهل البيت ، مطبعة دار السلام ، الرياض ، ص ١٠٦٧.

٥٢

وأخرج الترمذي في سننه عن عمر بن أبي سلمة قال : « إنّما نزلت هذه الآية على النبي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) في بيت أم سلمة ، فدعا النبي فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلّله بكساء ، ثمّ قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً " قالت أم سلمة : " وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال : " أنت على مكانك وأنت على خير " » (١).

فاتّضح من هذه الروايات أنّ المراد من أهل البيت ليس مطلق الأقارب ، وإنّما أخصّ أقاربه ، ولذلك عندما سئل زيد بن أرقم في رواية مسلم أنّه من أهل بيته نساؤه ؟ قال : لا وأيم الله إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، وأهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (٢).

أكتفي بهذه الروايات في إثبات أنّ أهل البيت هم أصحاب الكساء ، فيكونون بذلك ثقل القرآن الذي أمرنا رسول الله في حديث الثقلين بالتمسّك بهم.

______________________

(١) جامع الترمذي ، باب مناقب أهل البيت ، ص ٨٥٩ وباب فضائل فاطمة ، ص ٨٧٤.

(٢) صحيح مسلم ، ص ١٠٦١ ح ٦٢٢٨.

٥٣

وعليه فإنّ قول الألباني بأنّ العترة هم في الأصل نساؤه وفيهنّ الصدّيقة عائشة مرفوض لغةً وشرعاً ؛ بشهادة عائشة نفسها حيث قالت ـ كما ورد في صحيح البخاري ـ : « ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أنّ الله أنزل عذري » ، وهو صريح في نفي دخولهن في آية التطهير.

ويؤكّد ذلك : عدم ادّعاء واحدة من نساء النبي هذه المزيّة والمنقبة ، حتّى عائشة في قتالها مع الإمام علي لم تدع ذلك مع حاجتها إلى مثلها لو كانت ، وهذا بخلاف أهل البيت فهذا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : " إن الله قد فضّلنا أهل البيت بمنّة حيث يقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ... .

وقال الحسن بن أمير المؤمنين عليه‌السلام لعمرو بن العاص : « فإياّك عنيّ فإنّك رجس نحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس وطهّرنا تطهيراً » (١).

وشهد بذلك الأصمعي (٢) عندما قال للإمام السجّاد عليه‌السلام :

______________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ١٠٣.

(٢) هو عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمعي الباهلي ، أحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان كان كثير الطواف في البوادي ، يقتبس علومها ويتلقى أخبارها ، ولد بالبصرة عام ١٢٢ هـ وفيها توفي عام ٢١٦ هـ.

٥٤

سيدي ما هذا البكاء والجزع وأنت من أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ، أليس الله تعالى قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١).

وصحّح مفسّر أهل السنّة الإمام فخر الرازي حديث الكساء ، ودعم موقف الشيعة في تفسيره ، فقال : " إنّ هذه الرواية كالمتّفق على صحّتها بين أهل التفسير والحديث ". (٢)

وبهذا اتّضح أنّ الآية مختصة بالخمسة أصحاب الكساء ، وهم نبيّنا محمّد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام.

وقد قال بهذا جمع من علماء أهل السنّة ، منهم : القرطبي ، والطحاوي ، وابن عساكر ، وغيرهم.

ب. أهل البيت في آية المباهلة

نقل لنا التاريخ أنّه عندما جادل رسول الله علماء نصارى نجران بالتي هي أحسن ، ولم يجد منهم إلا الكفر والجحود والعصيان ، فلم يعد هناك سبيل سوى الابتهال ، وهو أن يدعو كلّ واحد منهم بما عنده ، ويجعلوا لعنة الله على

______________________

(١) ملحقات إحقاق الحق ١٢ : ٣٩.

(٢) محمّد الرازي ، فخر الدين ضياء الدين عمر ، تفسير الفخر الرازي ، دار الفكر ، بيروت ، ج ٨ ص ٩٠.

٥٥

الكاذبين ، فحينها جاء الأمر الإلهي : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١). فاستجاب القساوسة دعوة النبي فجمعوا خواصّهم لهذه المعركة.

وعندما جاء الموعد ، واحتشدت الجماهير ، وتقدّم النصارى وباعتقادهم أنّ الرسول سوف يخرج إليهم بجمع من أصحابه ونسائه ، ولكن خاب ظنّهم إذ إنّه تقدّم بخطوات ثابتة مع كوكبة صغيرة من أهل بيته ، الحسن في يمينه والحسين في شماله وعلي وفاطمة خلفه. وعندما رأى النصارى هذه الوجوه المشرقة ، ارتعشوا خوفاً ، فالتفّوا جميعاً إلى الأسقف زعيمهم ، ثمّ قالوا : " يا أبا حارثة ، ماذا ترى في الأمر ؟ فأجابهم الأسقف : " أرى وجوهاً لو سأل الله بها أحد أن يزيل الجبل من مكانه لأزاله ". وحين ذلك قرروا التراجع وترك المباهلة ، ورضوا بالذلّ ودفع الجزية ، فبهؤلاء الخمسة هزم رسول الله النصارى وردّهم صاغرين (٢).

______________________

(١) سورة آل عمران ٦١.

(٢) معتصم سيد أحمد , الحقيقة الضائعة ، ص ١٠٣.

٥٦

والأخبار في ذلك متواترة ، وفيها صحيح الصريح في ذلك.

قال الحاكم : " وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله ابن عباس وغيره ، أنّ رسول الله أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم ... " ونفى الحصّاص الخلاف في ذلك.

وصحّح ابن تيمية هذه الرواية ولكنه عندما عجز عن تضعيف الحديث من جهة السند ، التجأ كعادته إلى طريق آخر في تحريف وتزييف معنى الروايات المتعلّقة بفضل أهل البيت ، فقال في " اللهم هؤلاء أهلي " : لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية (١).

وسلك بعد ذلك أحمد جلي نهجه في تمويه معنى الحديث فقال : " إنّ الحديث لا يقتضي المساواة بينه وبين الرسول كما زعمت الشيعة ، فليس هناك أحد يساوي الرسول صلوات الله عليه وسلم في القدر والمنزلة ، إلى قوله ، إذ إنّ النبي دعا علياً وفاطمة وابنيهما ، ولم يكن ذلك ؛ لأنّهم أفضل الأمّة " (٢).

أقول : مما لا ريب فيه أنّ الآية نوهّت بعظم الفضل للأربعة

______________________

(١) ابن تيمية ، منهاج السنة النبوية ، ج ٧ ص ١٢٣.

(٢) أحمد محمّد جلي ، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ، ص ١٣٠.

٥٧

أصحاب الكساء عليهم‌السلام ، بما ميّزهم عن سائر المسلمين ؛ ولذلك اختارهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين أمّته ، وبأمر من الله تعالى ؛ ليباهل بهم النصارى.

فحقّ للزمخشري أن يقول : « وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام ».

وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلي ؛ لأنّه تعالى قد جعله نفس رسول الله ، والاتحاد محال ، فيبقى المراد بالمساواة الولاية. وأيضاً لو كان غيره هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه ؛ لأنّه في موضع الحاجة ، وإذا كانوا هم الأفضل تعيّنت الإمامة فيهم.

الصلة بين الشيعة وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام

إنّ الكلام عن الصلة بين الشيعة وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام لمما يجب عرضه بصورة مستفيضة وبكلّ احتياط مع إحضار كلّ الوثائق المتعلّقة بها ، ومن ثمّ تحليلها واستنتاجها حتّى ينكشف لنا كنهه وحقيقته لكي نعرف الفرقة المتمسّكة بحديث العترة ، فهل هي الشيعة كما هي تعتقد ، أم أنّهم انحرفوا عن تعاليم الأئمّة كما يدّعى ابن تيمية.

هذا ، وقبل الخوض في الكلام عن انتساب الشيعة لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، حري بنا معرفة قول ابن تيمية في الشيعة فإنّه رفض

٥٨

انتساب الشيعة إلى أهل البيت فقال : لانسلّم أنّ الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت ، لا اثنا عشرية ولا غيرهم ، بل هم مخالفون لعلي رضي الله عنه وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة (١).

أمّا الشيعة فيعتقدون أنّهم أسندوا أصول الدين وفروعه إلى العترة الطاهرة ، فرأيهم ليس إلا تبعاً لرأي أئمتهم ، وأنّهم تقدّموا على من سواهم في تدوين العلوم منذ عصر الإمام علي عليه‌السلام ، والتاريخ خير دليل على كراهية بعض الصحابة في كتابة العلم وتدوين الحديث خوفاً من أن يختلط بالقرآن.

وفي هذه القضية يرى عبد الحسين شرف الدين الموسوي أنّ أوّل شيء دوّنه أمير المؤمنين كتاب الله عزّوجلّ ، فإنّه بعد فراغه من تجهيز النبي آلى على نفسه أن لا يخرج إلا للصلاة ، فجمع القرآن مرتّباً على حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، ونبّه على أسباب النزول ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات ، وكان ابن سيرين يقول : « لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم » (٢).

______________________

(١) ابن تيمية ، منهاج السنة ، ج ٤ ص ١٦.

(٢) عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، المراجعات ، المراجعة رقم ١١٠.

٥٩

فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده من حديث علي عن طارق بن شهاب قال : شهدت علياً وهو يقول على المنبر : والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة ، معلّقة بسيفه ، أخذتها من رسول الله ، فيها فرائض الصدقة معلّقة بسيف له حليته حديد (١).

واقتدى بأمير المؤمنين ثلّة من شيعته فألّفوا على عهده ، منهم : سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، فيما ذكره ابن شهرآشوب.

فاعتقادهم أنّهم في الأصول والفروع على ماكان عليه الأئمة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمما يسنده البرهان القاطع ، فقد بذل علماؤهم الوسع والطاقة في تدوين كلّ ما اقتبسوه منهم حفظاً للعلم الذي جاء ـ عندهم ـ من عند الله ، ومما اشتهر من الكُتب هو الأصول الأربعمائة ، وهي أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف من فتاوى الصادق جُمع على عهده. وقد رتّبها جماعة من أعلامهم في كتب خاصة تسهيلاً للطالب وتقريباً للمتناول ، وأحسنها الكتب الأربعة ، وهي : الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه ، وهي مرجع الشيعة في أصولهم

______________________

(١) رواه أحمد في مسند الإمام علي ص ١٠٥ ح ٧٨١ ، ٧٨٢ ، ٧٩٨ ، ٩٧٤ ، ٩٦٢.

٦٠