الدكتور صائب عبد الحميد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بخمسين سنة ، فما الذي نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت ، او شسع نعل كان له ، أو قلامة ظفر ، أو شَقَفة من إناء شرب فيه ؟
فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك ، أكنت تعده مبذّراً أو سفيهاً ؟! كلّا.. فأبذل مالك في زورة مسجده الذي بنىٰ فيه بيده ، والسلام عليه عند حجرته في بلده ، وتملّأ بالحلول في روضته ومقعده ، فلن تكون مؤمناً حتىٰ يكون هذا السيد أحبّ إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلّهم. وقبّل حجراً مكرّماً نزل من الجنّة ، وضع فمك لاثماً مكاناً قبّله سيد البشر بيقين ، فهنّأك الله بما أعطاك ، فما فوق ذلك مفخر ، ولو ظفرنا بالمِحْجَن الذي أشار به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلىٰ الحجر ثمَّ قبّلَ مِحْجَنه ، لحَقّ لنا أن نزدحم علىٰ ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل ، ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر أرفع وأفضل من تقبيل مِحْجَنه ونعله.
قال : وقد كان ثابت البُناني إذا رأىٰ أنس بن مالك أخذ بيده فقبلها ، ويقول : يدٌ مسّتها يد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فنقول نحن إذا فاتنا ذلك : حجر معظّم بمنزلة يمين الله في الاَرض مسّته شفتا نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم لاثماً له.. فإذا فاتك الحج ، وتلقّيت الوفد فالتزم الحاج وقبّل فمه ، وقل : فمّ مسَّ بالتقبيل حجراً قبّله خليلي صلىاللهعليهوآلهوسلم (١).
وفي كلام الذهبي هذا تعريض واضح بابن تيمية وأتباعه ، وهو يحث علىٰ شدّ الرحال لزيارة قبره ، وبذل الأموال من أجل ذلك ، بل من أجل الحصول علىٰ شيء من آثاره ، ولو شسع نعل كان له.
وخلاصة القول : إنّ التبرك بمسّ قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنبره وآثاره أمر معروف
_________________________________
(١) سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٢.
عند متقدمي السلف ، مشهود بينهم ، وسائر الفقهاء لا يخالفون في هذا ، غير أن بعضهم كان يرىٰ أنّ التأدب مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقتضي أن لا يدنو الزائر من قبره كثيراً ، بل يقف أمامه علىٰ فاصلة ، بكل إجلال ، كما لو كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قائماً أمامه ، وهو رأي لا نكارة فيه لمن يرىٰ هذا من التأدّب ، وهو بعد لم يستند إلىٰ أدلّة تجعل منه السنّة الثابتة في الزيارة ، إنّ القائلين به أيضاً كانوا يستثنون من غلبته شدّة الشوق ، فقبل القبر أو المنبر ، أو رمىٰ بنفسه عليهما ، ولا ريب أنّ بعض أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا يصنعون معه مثل هذا في حياته في حالات الشوق الشديد الذي لا يمتلك معه المرء نفسه ، وقد كان ذلك ممّا يبعث في نفسه الشريفة الارتياح ، ويزيده لهم محبّة ، وعليهم رحمة وشفقة.
كما اتفقوا أيضاً علىٰ أنّ من فعل ذلك لغرض التبرك وحده ، فلا بأس به ، ولا نكارة عليه.
وإنّما كرهوا أن يكون ذلك تصنّعاً ، وأن يتخذه المرء عادةً وسنّةً ، دون أن يكون ذلك مصحوباً بشوق حقيقي. وهو المستفاد مما نسب إلىٰ الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام ـ علىٰ فرض صحَّة إسناده ـ وقد رأىٰ رجلاً يفعل ذلك مراراً وفي كل يوم ، فقال له : « ما يحملك علىٰ هذا ؟ ».
قال : أُحبُّ التسليم علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال له زين العابدين عليهالسلام : « هل لك أن أحدّثك عن أبي ؟ ».
قال : نعم.
قال عليهالسلام
: «
حدّثني أبي ، عن جدّي ، أنّه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث ما كنتم ،
فسيبلغني سلامكم وصلاتكم » (١).
وأخرج عبدالرزاق في ( المصنّف ) نحو هذا عن الحسن بن علي عليهماالسلام.
وليس في هذا الكلام إنكار لأصل الزيارة ، لاسيما بعد أن ثبت أنّهم يفعلونها ، وأنّهم مجمعون علىٰ صحّتها وكونها قربة ، ولكنه لما رأىٰ الرجل قد جاوز الحد في صنيعه عند القبر ، مكرراً ذلك غداة كل يوم كما جاء في صدر الخبر ، الأمر الذي يبعُد معه احتمال كونه يصنع ذلك كلَّه بشوق حقيقي خالٍ من التصنُّع ، أنكر عليه ذلك ، وأراد تعليمه أنَّ السلام يبلغه ولو من بعد ، دون الحاجة إلىٰ هذا القدر من التصنُّع المكرَّر يوماً بعد آخر.
ويشهد لهذا أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهمالسلام ، منها :
ـ حديث الإمام الباقر عليهالسلام عن أبيه علي بن الحسين نفسه ، أنّه كان يقف علىٰ قبر النبي ويلتزق بالقبر (٢).
ـ وأنّ الإمام الصادق عليهالسلام كان يأتي قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيضع يده عليه. وسيأتي بكامله مع أحاديث أُخرىٰ مماثلة في ( آداب الزيارة ).
ـ وحديث الإمام الصادق عليهالسلام : « مرّوا بالمدينة فسلّموا علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من قريب ، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد » (٣).
ـ وقوله عليهالسلام : « صلّوا إلىٰ جانب قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن كانت صلاة المؤمنين
_________________________________
(١) أخرجه السبكي عن القاضي إسماعيل في كتاب ( فضل الصلاة علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ) ، شفاء السقام : ٧٩.
(٢) الكافي ٤ : ٥٥١ / ٢.
(٣) الكافي ٤ : ٥٥٢ / ٥ ـ كتاب الحج ـ باب دخول المدينة وزيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
تبلغه أينما كانوا » (١).
وسيأتي في ( آداب الزيارة ) أن الأئمة عليهمالسلام وسائر أهل العلم كانوا يعلِّمون الناس سنناً وآداباً خاصةً في الزيارة ، ليتمسّك بها الناس ، فلا يتجاوزونها.
وشأن الزيارة في ذلك شأن سائر العبادات والقربات المحفوفة بالسنن والآداب.
_________________________________
(١) الكافية ٤ : ٥٥٣ / ٧ تهذيب الأحكام ٦ : ٧ / ٤.
الفصل الرابع
آداب الزيارة وردُّ الشبهات المثارة حولها
آداب الزيارة
كغيرها من الأعمال التي يُتقرّب بها إلىٰ الله تعالىٰ ، لابدّ أن تكون للزيارة سنن وآداب ، ينبغي التزامها ، والعمل بمقتضاها والحذر من مجاوزتها وإغفالها لما قد يجره ذلك عن خروج من السنن أحياناً ، ومجاوزة للآداب أحياناً أخرىٰ.
وقد تقدّم في ( زيارة القبور وفضيلتها ) عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه نهىٰ أن يقول الزائر هجراً ، أي أن يأتي بالكلام الذي لا يستقيم مع روح الدين الإسلامي ومقاصده.
ولما كانت زيارة قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقبور الأولياء الصالحين ممّا عمل به المسلمون منذ الصدر الأول ، واستمروا عليه ، فقد وجد الأئمة عليهمالسلام وسائر الفقهاء لزاماً تعليم الناس فقه الزيارة وسننها وآدابها ، حفاظاً علىٰ صورة الدين
الحنيف ، وعلىٰ صورة هذه الشعيرة من شعائره ، فورد عنهم في هذا أثر كثير ، يؤكد
بالمرتبة الأولىٰ إجماعهم علىٰ أنّها من سنن هذا الدين ، وأنّها من الأعمال التي يتقرّب بها العبد إلىٰ الله تعالىٰ..
ونكتفي هنا بإيراد نماذج منتخبة ، تحقق الغرضين معاً ، شرعية الزيارة ، ثمَّ سننها وآدابها.
١ ـ في حديث حسن الإسناد عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام : « إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها ، ثمَّ تأتي قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمَّ تقوم فتسلّم علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمَّ تقوم عند الاسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر ، وأنت مستقبل القبلة ، ومنكبك الأيسر إلىٰ جانب القبر ، ومنكبك الأيمن مما يلي القبر ، فإنّه موضع رأس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأشهد أنّك رسول الله ، وأشهد أنّك محمد بن عبدالله ، وأشهد أنّك قد بلغت رسالات ربّك ونصحت لأمّتك وجاهدت في سبيل الله وعبدت الله مخلصاً حتىٰ أتاك اليقين ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأدّيت الذي عليك من الحقّ ، وأنّك قد رؤفت بالمؤمنين ، وغلظت علىٰ الكافرين ، فبلغ الله بك أفضل شرف محلّ المكرّمين.
الحمد
لله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة ، اللهم فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقرّبين وعبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين وأهل السماوات والأرضين ومن سبّح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين علىٰ محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيّك وخاصّتك وصفوتك وخيرتك من خلقك ، اللهم أعطه
الدرجة والوسيلة من الجنّة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون.
اللهم إنّك قلت : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) وإنّي أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي ، يا رسول الله إنّي أتوجه بك إلىٰ الله ربّي وربّك ليغفر ذنوبي ».
قال : « وإذا كان لك حاجة فاجعل قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك واسأل حاجتك ، فإنّها أحرىٰ أن تُقضىٰ إن شاء الله » (١).
وفي الحديث ما هو صريح بالتوسل والاستشفاع بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أمّا استدبار القبر الشريف أثناء الدعاء فقد ورد مثله في أحاديث أُخر ، كما ورد أيضاً استقباله في الدعاء ، مما يدل علىٰ جواز الأمرين ، وليس في أيّهما مخالفة لأدب الزيارة أو أدب الدعاء.
٢ ـ من حديث الإمام موسىٰ بن جعفر ، عن أبيه ، عن جدّه الباقر عليهمالسلام ، قال : « كان أبي علي بن الحسين عليهماالسلام يقف علىٰ قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيسلّم عليه ، ويشهد له بالبلاغ ، ويدعو بما حضره ، ثمَّ يسند ظهره إلىٰ المروة (٢) الخضراء الدقيقة العرض مما يلي القبر ، ويلتزق بالقبر ، ويسند ظهره إلىٰ القبر ويستقبل القبلة ، فيقول : اللهم إليك ألجأت أمري ، وإلىٰ قبر محمد عبدك
_________________________________
(١) الكافي ٤ : ٥٥٠ ـ ٥٥١ / ١ ـ كتاب الحج ـ باب دخول المدينة وزيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، تهذيب الأحكام ٦ : ٥ / ١ باب٣.
(٢) المروة : الحجر البراق.
ورسولك أسندت ظهري ، والقبلة التي رضيت لمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم استقبلت... » في دعاء طويل (١).
٣ ـ عن محمد بن مسعود ، قال : رأيت أبا عبدالله عليهالسلام انتهىٰ إلىٰ قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فوضع يده عليه ، وقال : « أسأل الله الذي اجتباك واختارك وهداك وهدىٰ بك أن يصلّي عليك » ، ثمَّ قال : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢).
٤ ـ عن الإمام الصادق عليهالسلام : « إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فأت المنبر وامسحه بيدك ، وخذ برمّانتيه ، وهما السفلاوان ، وامسح عينيك ووجهك به ، فإنّه يقال إنّه شفاء العين. وثمَّ عنده فاحمد الله وأثنِ عليه ، وسل حاجتك ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة ، ومنبري علىٰ ترعة من ترع الجنّة (٣) ، ثمَّ تأتي مقام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتصلّي فيه ما بدا لك ، فإذا دخلت المسجد فصلِّ علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك ، وأكثر من الصلاة في مسجد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم » (٤).
وهو صريح بجواز التبرّك بمنبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٥ ـ نصّ زيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ( الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ).
وردت عن أعلام المذاهب الأربعة نصوص عديدة في زيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ،
_________________________________
(١) الكافي ٤ : ٥٥١ / ٢.
(٢) الكافي ٤ : ٥٥٢ / ٤.
(٣) الترعة : الباب الصغير.
(٤) الكافي ٤ : ٥٥٣ / ١ ، باب المنبر والروضة ، تهذيب الأحكام ٦ : ٧ / ٥.
إختار منها صاحب كتاب ( الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ) نصّاً موجزاً نسبياً ، يتلوه الزائر عند قبر المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو :
« السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته ، أشهد أنّك رسول الله ، فقد بلّغت الرسالة وأدّيت الأمانة ، ونصحت الأمّة ، وجاهدت في أمر الله حتىٰ قبض الله روحك حميداً محموداً ، فجزاك عن صغيرنا وكبيرنا خير الجزاء ، وصلّىٰ عليك أفضل الصلاة وأزكاها ، وأتمّ التحية وأنماها ، اللهم اجعل نبيّنا يوم القيامة أقرب النبيين إليك ، واسقنا من كأسه ، وارزقنا من شفاعته ، واجعلنا من رفقائه يوم القيامة ، اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليهالسلام ، وارزقنا العود إليه يا ذا الجلال والإكرام » (١).
وفي الفقرة الأخيرة ما يدلّ علىٰ استحبابهم القصد لزيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، غير مقرون بقصد آخر « اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليهالسلام ، وارزقنا العود إليه ».
استقبال القبر واستدبار القبلة
تقدّم في حديثي الإمامين زين العابدين والصادق عليهماالسلام استحباب استقبال القبلة وجعل القبر الشريف وراء الكتف حال الدعاء عنده ، وقد أشرنا هناك إلىٰ ورود ما يدعو إلىٰ استقبال القبر الشريف حال الدعاء والاستشفاع ، وعندها تكون القبلة وراء كتف الزائر. ومما ورد في هذا :
١ ـ عن أبي حنيفة ، قال : جاء أيوب السختياني ، فدنا من قبر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاستدبر القبلة ، وأقبل بوجهه إلىٰ القبر ، فبكىٰ بكاءً غير متباكٍ (٢).
_________________________________
(١) الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ١ : ٧١٣.
(٢) شفاء السقام : ٧٤ ، عن مسند أبي حنيفة ، لأبي القاسم طلحة بن محمد بن جعفر.
٢ ـ مالك بن أنس : في مناظرة مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور في المسجد النبوي الشريف ، قال أبو جعفر لمالك : يا أبا عبدالله ، أستقبل القبلة وأدعو ، أم استقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟
قال مالك : ولِمَ تصرف وجهك عنه ، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليهالسلام إلىٰ الله تعالىٰ يوم القيامة ؟! بل استقبله ، واستشفع به فيشفّعه الله تعالىٰ (١).
٣ ـ مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، والمنقول عن ابن عمر : استقبال القبر واستدبار القبلة.
قال الخفاجي في ( نسيم الرياض ) : استقبال وجهه صلىاللهعليهوآلهوسلم واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور ، ونُقل عن أبي حنيفة. وقال ابن الهمام : ما نُقل عن أبي حنيفة أنّه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر : أنّ من السنّة أن يستقبل القبر المكرّم ويجعل ظهره للقبلة. قال : وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة (٢).
وقد تقدمت رواية أبي حنيفة عن أيوب السختياني بما يوافقه.
٤ ـ إبراهيم الحربي (٣) : قال في مناسكه : تولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسط القبر ، وتقول : السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته (٤).
في آداب زيارة مراقد الأئمة عليهمالسلام :
إنّ من تمام الوفاء بالعهد لهم عليهمالسلام زيارة قبورهم.. رغبةً في زيارتهم ،
_________________________________
(١) شفاء السقام : ٦٩ ، ويأتي بتمامه في ( التوسل ).
(٢) نسيم الرياض في شرح الشفا ٣ : ٥١٧ ، الغدير ٥ : ١٩٩.
(٣) من كبار الحفّاظ وأهل الفقه والزهد ، سمع من أحمد بن حنبل وطبقته ، وكان جلساؤه يفضلونه علىٰ أحمد بن حنبل ، مولده سنة ١٩٨ ، ووفاته سنة ٢٨٥ هـ ، سير أعلام النبلاء : ٣ : ٣٥٦ ـ ٣٧٢.
(٤) شفاء السقام : ٧٠.
وتصديقاً لما رغبوا فيه ، كما ورد عن الإمام الرضا عليهالسلام في ما تقدّم ، من أجل ذلك ، وحفظاً لسنن الشريعة وآدابها ، لا نجد واحداً منهم عليهمالسلام إلّا وقد ورد في آداب زيارته وما يقال عنده ما فيه غنىً لقاصديهم ، تعليماً وتأديباً ، وما في حفظه براءة من كلّ محدَثٍ مبتَدع من الأمور التي قد تصدر هنا أو هناك عن بعض زوار القبور ، لجهالة أو لغفلة ، وفيه البراءة أيضاً من كل ما لا يليق بمقاماتهم الشريفة.. ولكون هذه الآداب والتعاليم متشابهة ، نكتفي بذكر القليل منها :
١ ـ في زيارة أمير المؤمنين عليهالسلام ، عن أبي عبدالله عليهالسلام : « إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين عليهالسلام فتوضّأ واغتسل وامشِ علىٰ هنيئتك ، وقل : الحمد لله الذي أكرمني بمعرفة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن فرض طاعته ، رحمةً منه وتطوّلاً عليَّ بالإيمان..
الحمد لله الذي سيّرني في بلاده ، وحملني علىٰ دوابه ، وطوىٰ لي البعيد ودفع عني المكروه حتىٰ أدخلني حرم أخي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم... الحمد لله الذي جعلني من زوّار قبر وصي رسول الله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده ، وأشهد أنّ علياً عبد الله وأخو رسوله.
ثمَّ تدنو من القبر وتقول : السلام من الله والتسليم علىٰ محمد أمين الله... » ثمَّ ذكر تسليماً يعدِّد فيه خلال وخصال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الحميدة ، ثمَّ التسليم علىٰ أمير المؤمنين بنحو ذلك ويكثر من الصلوات عليهما وعلىٰ آلهما ، في ذكر طويل (١).
_________________________________
(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٥.
غير انّ هناك نصّاً آخر مختصراً جامعاً لزيارته عليهالسلام روي عن الإمامين الصادق والكاظم عليهماالسلام ، جاء فيه :
« تقول عند قبر أمير المؤمنين عليهالسلام : السلام عليك يا ولي الله ، أنت أول مظلوم ، وأول من غُصِبَ حقّه ، صبرت واحتسبت حتىٰ أتاك اليقين.. وأشهد أنّك قد لقيت الله وأنت شهيد.. عذَّب الله قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب.. جئتك عارفاً بحقّك ، مستبصراً بشأنك ، معادياً لأعدائك ومن ظلمك ، ألقىٰ علىٰ ذلك ربّي إن شاء الله ، يا ولي الله إنّ لي ذنوباً كثيرةً فاشفع لي إلىٰ ربّك عزّوجلّ ، فإنّ لك عند الله مقاماً محموداً ، وأنّ لك عند الله جاهاً وشفاعةً ، وقال تعالىٰ : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) » (١).
فالاغتسال قبل الدخول ، ثمَّ الدخول بوقار واحترام وتواضع ، والوقوف أولاً عن بعد وأداء السلام اللائق بعد تقديم الحمد لله تعالىٰ والثناء عليه بما هو أهله ، ثمَّ الدنو من القبر ، وتجديد السلام بأليق الألفاظ وأجمعها لخصاله ، ثمَّ الإستشفاع به إلىٰ الله تعالىٰ علىٰ هذا النحو المذكور ، وما يدور في مضمونه ، تلك هي صورة الزيارة التي نقرأها في تراث أهل البيت عليهمالسلام ، مع ما ورد من جواز مس القبر تبركاً به.
ثمَّ يحسن بعد ذلك أداء الوداع لصاحب القبر المزور قبل الخروج ، كما يودّع لو كان حياً ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفىٰ ، ومما يقال فيه بعد تجديد السلام والعهد بالولاء : « اللهم إنّي أسألك أن تصلّي علىٰ محمّدٍ وآل محمّدٍ ، ولا تجعله
_________________________________
(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٨.
آخر العهد من زيارته ، فإن جعلته فاحشرني مع هؤلاء الميامين الأئمة » (١).
٢ ـ وهكذا ورد أيضاً مع كل زيارة ، فبعد أداء الزيارة للاِمام الحسن عليهالسلام : « تقف عند قبره كوقوفك عليه عند الزيارة ، وتقول : السلام عليك يا ابن رسول الله ، السلام عليك يا مولاي ورحمة الله وبركاته ، استودعك الله وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام ، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئت به ودللت عليه ، اللهم اكتبنا مع الشاهدين.. ثمَّ تسأل الله حاجتك وأن لا يجعله آخر العهد منك » (٢).
٣ ـ وفي زيارة قبر الإمام الحسين سيد الشهداء عليهالسلام ورد التأكيد أوّلاً علىٰ الاغتسال بماء الفرات ، ثمَّ تراعىٰ الخطوات الآنفة ، مع ملاحظة ما يخصّه عليهالسلام من وقائع وأحداث : « إذا أتيت قبر الحسين عليهالسلام فائت الفرات واغتسل بحيال قبره ، وتوجّه إليه وعليك السكينة والوقار حتىٰ تدخل إلىٰ القبر ، من الجانب الشرقي ، وقل حين تدخله : السلام علىٰ ملائكة الله المنزلين » ويكرر السلام علىٰ ملائكة الله ببعض خصالهم « فإذا استقبلت قبر الحسين عليهالسلام ، فقل : السلام علىٰ رسول الله » ويستغرق في السلام والصلاة عليه ، ثمَّ علىٰ أمير المؤمنين عليهالسلام ، ثمَّ الإمام الحسن عليهالسلام ، ثمَّ الإمام الحسين عليهالسلام ، ثمَّ سائر الأئمة « ثمَّ تأتي قبر الحسين فتقول : « السلام عليك يا ابن رسول الله » ويستغرق في التسليم عليه بأجمل خصاله ، وكل خصاله جميلة ، ويؤكد الولاء له ، والبراءة من أعدائه « ثمَّ اجلس عند رأسه وقل : صلّىٰ الله عليك ،
_________________________________
(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠.
(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٤١.
أشهد أنّك عبدالله وأمينه ، بلّغت ناصحاً وأدّيت أميناً ، وقُتلت صدّيقاً ، ومضيت علىٰ يقين ، ولم تؤثر عمىً علىٰ هدىٰ ، لم تَمِلْ من حقٍّ إلىٰ باطل.. أشهد أنّك قد أقمت الصلاة ، وآتيت الزكاة ، وأمرت بالمعروف ، ونهيت عن المنكر ، واتّبعت الرسول وتلوت الكتاب حق تلاوته ، ودعوت إلىٰ سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة... » « ثمَّ تحوّل عند رجليه وتخيّر من الدعاء ، وتدعو لنفسك ».
« ثمَّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين » وتسلّم عليه بما يليق بشأنه « ثمَّ تأتي قبور الشهداء وتسلّم عليهم » « ثمَّ ترجع إلىٰ القبر ـ قبر الحسين عليهالسلام ـ ... وإذا أردت أن تودعه فقل : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، أستودعك الله وأقرأ عليك السلام.. اللهم لا تجعله آخر العهد منّا ومنه » ثمَّ يدعو له بالدرجة العالية الرفيعة (١).
وعلىٰ هذا النحو سار أئمّة أهل البيت عليهمالسلام في تعليم المسلمين سنن الزيارة وآدابها بعد أن كانوا قد علّموهم فضيلتها ، ورغَّبوهم فيها ، وحثّوهم عليها.
فحريٌّ بنا التزام هذه السنن والآداب ، والحذر من مجاوزتها وفقاً لذوقٍ خاصٍّ او استحسانٍ عقلي ، فكثيراً ما ينزلق الذوق الخاص والاستحسان بصاحبه إلىٰ ما لا أصل له في الشريعة ، وأحياناً إلىٰ ما يتناقض مع سنن الشريعة وآدابها ، ولنا في ما ثبت عنهم عليهمالسلام كفاية في نيل فضيلة الزيارة وشرفها ، فلو كانوا يرون في غير ذلك فضلاً لذكروه ، وكفى بهذا حجَّةً للمتمسِّك بالسنن ، وكفىٰ به زاجراً للخارج عنها.
_________________________________
(١) انظر : الكافي ٤ : ٥٧٢ ـ ٥٧٥ ، من حديث الإمام الصادق عليهالسلام.
شبهات حول الزيارة
لم يناقش أحد في مشروعية الزيارة ، بل الاتفاق حاصل علىٰ استحبابها وكونها قربة ، لما ثبت فيها من النص والسيرة والأثر ، وإن ناقش بعضهم في النص ، فإنه لم ينكر أصل الزيارة ومشروعيتها ، وإنَّما وقع من بعضهم التمسك بشبهات داحضة تتصل ببعض الشؤون المتعلقة بالزيارة ، وتنحصر هذه الشبهات في ثلاثة :
الشبهة الأولىٰ : حرمة شدِّ الرحال إلىٰ غير المساجد الثلاثة :
لقد ثبت في الفصول الثلاثة المتقدمة أن زيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد موته في نفسها مستحبة ، وأنها من القربات :
أولاً : لأنّها داخلة في عموم زيارة القبور التي حثت عليها السنة النبوية المطهّرة.
ثانياً : لما ورد فيها علىٰ نحو الخصوص من تأكيد الفضيلة والاستحباب.
فكيف إذا ما توقفت الزيارة علىٰ السفر ؟
وهل يجوز السفر من مكان بعيد بقصد زيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمرتبة الأولىٰ ؟
ليس يخفىٰ أن بين الفعل وبين المقدمة التي يتوقف عليها الفعل ملازمة عقلية ، فلا يمكن أن يتحقق الحج ما لم يتم السفر إلىٰ ديار الحج.
وفي الأحكام الواجبة يذهب أكثر الفقهاء
إلىٰ أن مقدمتها واجبة أيضاً ، وهو
المراد بالقاعدة الفقهية المشهورة : « ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب » (١). أما الذين لا يرون إفراد المقدمة بحكم ، فلأنهم ذهبوا إلىٰ أنه بين المقدمة وذي المقدمة ملازمة عقلية محضة لا تستدعي جعل أمر مولوي (٢).
والملازمة العقلية ثابتة بين المندوب وملازمه ، من هنا ذهب أكثر الفقهاء إلىٰ أن المقدمة التي يتوقف عليها الحكم المستحب هي مستحبة أيضاً ، تبعاً للقول بأن المتلازمين تلازم العلّة والمعلول يجب أن يأخذا حكماً متماثلاً.. وأدنىٰ ما يقال إن الملازم للمندوب لابد أن يكون مباحاً ، فلايمكن أن يكون محرماً أو مكروهاً وهو شرط لازم لإتيان المستحب.
ولما كانت زيارة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مستحبة في نفسها ، وقد توقفت علىٰ السفر إلىٰ حيث مرقده الشريف ، فلابد أن يكون السفر بقصد الزيارة مباحاً ، إن لم يكن مستحباً هو الآخر.
ومن ناحية ثانية : فإن النصوص الواردة في الزيارة تثبت أن السفر بقصد الزيارة قربة ، أيضاً ، ذلك :
١ ـ لأنّ النص علىٰ الزيارة يتضمن السفر أيضاً ، إذ الزيارة تستدعي الانتقال إلىٰ مكان المزور؛ قريباً كان أو بعيداً ، فالزيارة إذ كانت تعني الحضور عند المزور فقد استدعت الانتقال إلىٰ المكان الذي هو فيه ، وهو السفر ، وإذا كانت الزيارة تعني الانتقال إلىٰ المزور بقصد الحضور عنده ؛ فالسفر بهذا القصد هو المنصوص عليه إذن في كل ما تقدم من الأحاديث الحاثة علىٰ الزيارة.
_________________________________
(١) راجع : شرح القواعد الفقهية / أحمد الزرقا : ٤٨٦ ، والقواعد الفقهية / علي أحمد الندوي : ٣٤٥.
(٢) الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم : ٦٧.
٢ ـ ولأنّ السفر بقصد الزيارة هو ظاهر الطلب وموضع الحث في بعض النصوص :
ـ كما في قوله تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) فمجيؤهم إلىٰ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هو متعلِّق التوبة والرحمة ، فلم يطلب منهم الاستغفار وحده ، بل طلب أولاً مجيئهم إلىٰ الرسول ثمَّ الاستغفار بحضرته ليستغفر لهم هو صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا أمر صريح بالسفر إلىٰ الرسول ، وقد رأينا الاتفاق علىٰ أن مشروعيته ثابتة بعد وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كما كانت ثابتة في حياته.
ـ وكما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من جاءني زائراً لا تُعْمِلُهُ حاجة إلّا زيارتي » فإنّه صريح في السفر بقصد زيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا يشترك معها قصد آخر.
ـ وهكذا كلُّ حديثٍ يقول فيه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من زارني ـ أو ـ من زار قبري » فإنّه عامٌّ يدخل فيه القريب والبعيد.
هذه المقدمة كافية لوحدها في إثبات بطلان ما تمسك به البعض في تحريم السفر بقصد الزيارة ، إضافةً إلىٰ ما تنطوي عليه شبهتهم من تهافت واضح..
وهي شبهة قائمة علىٰ فهم حرفي خاطئ لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصىٰ ».
فقال هؤلاء : هذا يعني أنّ السفر إلىٰ غير هذه الأماكن الثلاثة حرام ! وأنّ السفر بأي قصد غير قصد هذه الاَماكن الثلاثة تعظيماً ، والصلاة فيها حرام !!
قال بهذا نفر من المفرطين في السطحية في
فهم النص ، فلما انتصر له ابن تيمية
أصبح هو مذهب دعاة السلفية حتىٰ اليوم.. (١).
وهذه الشبهة مردودة ؛ أولاً : بما تقدم في الفصول السابقة. وثانياً : بالمقدمة الآنفة الذكر. وثالثاً : بالحديث الذي تمسكوا به نفسه.
فالحديث يقول : « لا تشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد ».
والاستثناء هنا يعود إما إلىٰ المساجد ، فيكون المعنىٰ : لا يجوز شدّ الرحال لشيء من المساجد تعظيماً لها ، إلّا المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث.. وهذا هو الراجح ، لأنه لا يتعارض مع أوامر الشريعة ، أو حثها علىٰ شدّ الرحال إلىٰ أماكن كثيرة وبمقاصد كثيرة ، كما لا يتعارض مع واقع السيرة النبوية الشريفة وسيرة المسلمين ، كما سيأتي.
أو أنه استثناء من شدّ الرحال ، فيكون المعنىٰ : لا يجوز شدّ الرحال إلىٰ شيء من الأماكن إلّا المساجد الثلاثة.. وهذا هو الذي تمسك به أصحاب هذه الشبهة.
وليس لهذا الكلام معنى إلّا أن يراد به قصد مكان من الأماكن تعظيماً له بذاته ، ولذلك جعلوا النذر بالسفر إلىٰ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس ملزماً..
وعلىٰ هذا المعنى سوف يخرج كل سفر إلىٰ أي مكان من الاَماكن ، لا بقصد تعظيمه بذاته ، بل لخصوصية فيه ، من حكم النهي.. فشدّ الرحال إلىٰ مكان ما لغرض طلب العلم ، ليس هو تعظيماً للمكان المقصود بذاته.. وشدّ الرحال إلىٰ مواقع الجهاد أو لحماية الثغور أو لصلة الرحم ونحو ذلك ، ليس فيه شيء من تعظيم الأماكن المقصودة ، فليست هذه الأماكن هي علّة السفر لعظمة شأنها ، وإنَّما هي غاية السفر لخصوصيات فيها.
_________________________________
(١) انظر : كتاب الزيارة / ابن تيمية : ١٨ ـ ٢١ ، المسألة الثانية.
وهكذا يقال في شأن الزيارة ، فلم يكن موقع القبر هو علّة السفر ، وإنّما علّة السفر هو من فيه ، فهو بهذا خارج أيضاً عن حكم النهي.
ولا يمكن قبول أي تفسير آخر للحديث يحرّم السفر إلىٰ أي مكان غير المساجد الثلاثة بأي قصد كان ، فالسفر في طلب العلم قد يرقىٰ إلىٰ الوجوب الكفائي أحياناً ، وكم شدّ الرحال تابعون كبار في طلب حديث واحد عند رجل في مكان ناءٍ.. والهجرة قد تجب أحياناً ، كما كان في الهجرة من مكة إلىٰ المدينة ، ولقد هاجرت أسرة ابن تيمية نفسه من حرّان إلىٰ دمشق فراراً بحياتهم من المغول.. وهكذا القول مع الجهاد وسدّ الثغور وصلة الرحم ، وإسداء النصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من المقاصد التي حثت عليها الشريعة.
وهذا ما يفسّر ورود الحديث بصيغة أُخرىٰ ليس فيها نهي ولا تخصيص ، فقد جاء في رواية معمر عن الزهري : « تشد الرحال إلىٰ ثلاثة مساجد » أخرجه مسلم (١).
وقد قال بعض العلماء : الصحيح إباحة السفر لزيارة القبور والمشاهد ، وجواز القصر فيه (٢) ، لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : « زوروها تذكّركم الآخرة ». وأما قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » فيحمل علىٰ نفي الفضيلة ، لا علىٰ التحريم ، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ، ولا يضرّ انتفاؤها (٣).
_________________________________
(١) صحيح مسلم ـ كتاب الحج ـ باب لا تشد الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد.
(٢) اي قصر الصلاة ، إذ لا يجوز القصر في الاَسفار المحرمة.
(٣) المغني / ابن قدامة ٢ : ١٠٣.
والمراد بنفي الفضيلة هو أن المساجد الأخرىٰ متساوية في الفضل ، فلا معنىٰ لتفضيل بعضها علىٰ بعض.
وقال الغزالي في آداب السفر : القسم الثاني أن يسافر لأجل العبادة ، إما لجهاد ، أو حج.. ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهمالسلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء ، وكل من يُتبَرّك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته. ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله عليهالسلام : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصىٰ » لأن ذلك في المساجد ، فإنها متماثلة بعد هذه المساجد ، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله تعالىٰ.
قال : أما البقاع فلا معنىٰ لزيارتها سوىٰ المساجد الثلاثة ، وسوىٰ الثغور للرباط بها ، فالحديث ظاهر في أنه لا تشدّ الرحال لطلب بركة البقاع إلّا إلىٰ المساجد الثلاثة (١).
ثمَّ تمسّك أصحاب هذه الشبهة بأنّ السلام والدعاء يصل الموتىٰ من بعد ، فلم يبقَ في الزيارة إلّا قصد الأماكن ، وهو منهي عنه في الحديث.
وهذا مردود ؛
أولاً : بأن الزائر لا يقصد البقعة بذاتها ، وإنَّما يقصد زيارة مَنْ فيها.
وثانياً : هو مردود أيضاً بفعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد كان يخرج إلىٰ البقيع مراراً ، كما تقدم في حديث عائشة ، ويخرج إلىٰ قبور الشهداء خارج المدينة ، ليسلّم عليهم
_________________________________
(١) إحياء علوم الدين ٢ : ٣٩٨ ـ كتاب آداب السفر ـ ط دار الوعي بحلب.