الزيارة والتوسّل

الدكتور صائب عبد الحميد

الزيارة والتوسّل

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فوقفت علىٰ قبره ، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعته علىٰ عينيها ، وبكت ، وأنشأت تقول :

ماذا علىٰ مَن شمَّ تربةَ أحمـدٍ

أن لا يشُمَّ مـدىٰ الزمان غواليا

صُبَّت عليَّ مصائـب لو أنّها

صُبَّت علىٰ الأيـام عُدنَ لياليا (١)

٢ ـ أعرابي يزور قبر المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من حديث علي عليه‌السلام : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة أيام ، فرمىٰ بنفسه علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحثا من ترابه علىٰ رأسه ، وقال : يا رسول الله ، قلتَ فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك ، وكان في ما أُنزل عليك : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر « قد غُفر لك » (٢).

٣ ـ عمر يزور قبر غريمه

أخرج المحب الطبري حديثاً طويلاً في ما اتفق بالأبواء بين عمر وقد خرج حاجاً في نفر من أصحابه ، وبين شيخ استغاث به هناك ، فلما انصرف عمر من حجّه ونزل ذلك المنزل ، استخبر عن الشيخ ، فقيل له إنّه قد مات. فوثب عمر

_________________________________

(١) السيرة النبوية / ابن سيد الناس ٢ : ٤٣٢ ، السيرة النبوية / زيني دحلان ٢ : ٣١٠ ، إرشاد الساري / القسطلاني ٣ : ٣٥٢ ، أعلام النساء / عمر رضا كحّالة ٤ : ١١٣.

(٢) وفاء الوفا / السمهودي ٤ : ١٣٩٩ ، المواهب اللدنية / القسطلاني ٤ : ٥٨٣.

٦١

مسرعاً ، مباعداً بين خطاه ، حتىٰ وقف علىٰ قبره ، فصلّىٰ عليه ، ثمَّ اعتنقه وبكىٰ (١).

فقد هبَّ عمر مسرعاً لزيارة قبر شخص بعينه ، ثمَّ اعتنقه وبكىٰ ، أما الصلاة المذكورة فالمراد بها الدعاء ، وهو الظاهر ، وقد يُراد بها الصلاة علىٰ الميت.

٤ ـ بلال يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيام عمر

سأل بلالُ عمرَ أن يقرّه بالشام ، قال : وأخي أبو رويحة الذي آخىٰ بيني وبينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففعل ذلك عمر. ثمَّ إنّ بلالاً وهو بالشام رأىٰ في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول له : « ما هذه الجفوة يا بلال ! أما آن لك أن تزورني يا بلال ؟ » فانتبه حزيناً وجلاً ، فركب راحلته وقصد المدينة ، فأتىٰ قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه. فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما. فقالا له : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان بلال قد ترك الأذان بعد وفاة رسول الله ، فاستجاب لهما ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه. فلما أن قال : « الله أكبر ، الله أكبر » ارتجت المدينة.. فلما قال : « أشهد أن لا إله إلّا الله » ، ازدادت رجّتها بأهلها ، فلما أن قال : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » خرجت حتىٰ العواتق من خدورهن ، وقالوا : أبُعِثَ رسول الله ؟! فما رئي يوم أكثر باكياً وباكيةً بالمدينة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك اليوم (٢).

ولهذا الخبر إسناد جيد ، نذكره لتشكيك منكري شد الرحال للزيارة فيه ، اتّباعاً

_________________________________

(١) الرياض النضرة ٢ : ٣٣٠.

(٢) اُسد الغابة ١ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، ترجمة بلال بن رباح ، وأخرجه ابن عساكر في ترجمة بلال أيضاً ، وفي ترجمة إبراهيم بن محمد الأنصاري ، انظر : مختصر تاريخ دمشق ٤ : ١١٨ و ٥ : ٢٦٥ ، وتهذيب الكمال ٤ : ٢٨٩ / ٧٨٢.

٦٢

للهوىٰ ، لا متابعة لأصول النقد العلمي.

فقد أسند الخبر إلىٰ : إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء ، قال : حدّثني أبي محمد بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن بلال ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء ، قال : الخبر...

وليس في هذا الإسناد من يطعن عليه في سائر كتب الرجال.

وروي الحديث بهذا الإسناد من طريقين ، ومداره علىٰ ( محمد بن الفيض الغساني ) وهو الذي يرويه عن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال ، ومحمد بن الفيض هذا هو المولود سنة ٢١٩ هـ ، والمتوفىٰ سنة ٣١٥ هـ ، قال السبكي : روىٰ عن خلائق ، وروىٰ عنه جماعة منهم : أبو أحمد بن عدي ، وأبو أحمد الحاكم ، وأبو بكر المقرىء في معجمه (١).

هكذا صنع بلال ، وهو أحد السابقين إلىٰ الإسلام ، صاحب السيرة المعروفة ، وفي عهد عمر ، والصحابة متوافرون في المدينة المنوّرة.

٥ ـ أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يزور قبر خباب :

خَبّاب بن الأَرَت ، من السابقين الأولين إلىٰ الإسلام ، وكان مع علي عليه‌السلام بالكوفة وقد مرض مرضاً طويلاً فلم يشهد معه صفين ، فلما رجع أمير المؤمنين عليه‌السلام من صفين ، وقف علىٰ قبره وأحسن عليه الثناء. قال زيد بن وهب : سرنا مع علي حين رجع من صفين ، حتىٰ إذا كنّا عند باب الكوفة إذا نحن بقبور سبعة عن أيماننا ، فقال : « ما هذه القبور ؟ » ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنّ خَبّاب بن الاَرَث توفي بعد

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٥٤ ( الباب الثالث ).

٦٣

مخرجك إلىٰ صفين فأوصىٰ أن يدفن في ظاهر الكوفة ، فدفن الناس عنده ، فقال علي رضي‌الله‌عنه : « رحم الله خبّاباً ، أسلم راغباً ، وهاجر طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلي في جسمه ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً » ثمَّ دنا من قبورهم ، فقال : « السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، أنتم لنا سلف فارط (١) ، ونحن لكم تبع عمّا قليل لاحق ، اللهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم ، طوبىٰ لمن ذكر المعاد ، وعمل للحساب ، وقنع بالكفاف ، وأرضىٰ الله عزوجل » (٢).

٦ ـ عائشة تزور قبر أخيها :

عن عبدالله بن أبي مليكة ، أنّ عائشة أقبلت ذات يومٍ من المقابر ، فقلت لها : يا أمَّ المؤمنين من أين أقبلتِ ؟

قالت : من قبر أخي عبدالرحمن بن أبي بكر.

فقلت لها : أليس كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهىٰ عن زيارة القبور ؟

قالت : نعم ، كان نهىٰ ، ثمَّ أمر بزيارتها.

صحَّحه الذهبي (٣).

٧ ـ محمد بن الحنفية يزور قبر الحسن السبط عليه‌السلام :

وقف محمد بن الحنفية علىٰ قبر الإمام الحسن عليه‌السلام فخنقته العبرة،نطق فقال :

_________________________________

(١) أي متقدم.

(٢) اسد الغابة ( ترجمة خباب ) ٢ : ١٤٣ ، العقد الفريد ٣ : ١٢.

(٣) المستدرك ١ : ٥٣٢ / ١٣٩٢.

٦٤

رحمك الله يا أبا محمد ، فلئن عزّت حياتك ، فلقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمّه كفنك ، وكيف لا يكون كذلك وأنت بقية ولد الأنبياء ، وسليل الهدىٰ ، وخامس أصحاب الكساء ، عذّتك أكف الحق ، وربيت في حجر الإسلام ، فطبت حياً وطبت ميتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ، ولا شاكّة في الخيار لك (١).

٨ ـ أبو أيوب الأنصاري يزور قبر المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

اتفق الحاكم والذهبي علىٰ صحة الخبر المروي في زيارة أبي أيوب الأنصاري قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام ولاية مروان علىٰ المدينة ، أي قبل سنة ٦٤ هـ ، إذ أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه علىٰ القبر ، فأخذ مروان برقبته ، ثمَّ قال : هل تدري ما تصنع ؟

فأقبل عليه ، فإذا أبو أيوب الأنصاري ، فقال : نعم ، إنّي لم آتِ الحَجَر ، إنّما جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم آتِ الحَجَر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا تبكوا علىٰ الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا علىٰ الدين إذا وليه غير أهله » (٢).

وفيه أكثر من دلالة :

الأولىٰ : إنّ علماء الصحابة وأجلّائهم كانوا يعرفون صحة الزيارة ، ويستحبونها ، وهو ما صرّح به الترمذي في تعليقته المشار إليها ، وستأتي بنصها الكامل لاحقاً.

_________________________________

(١) العقد الفريد ٣ : ١٣ ، الغدير ٥ : ٢٥ / ٩.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٤ : ٥٦٠ / ٨٥٧١ ، وتلخيص الذهبي في ذيل الصفحة.

٦٥

والثانية : إنّ رجالات بني أمية كانوا ينهون عن ذلك ويستنكرونه.

والثالثة : إنّها إشارة مفيدة إلىٰ تاريخ النهي عن الزيارة وجذوره الأولىٰ ، ولعل هذا الخبر الثابت يكشف لنا عن أقدم ما ورد في النهي عن الزيارة وورود القبر الشريف ، وهي ممارسة سياسية ، مارسها هذا الوالي الأموي أيام حكومتهم.

يؤكد هذا جواب أبي أيوب الأنصاري لمروان ، وفيه التصريح الواضح بأنّ بني أمية ليسوا من أهل الدين الأمناء عليه ، بل إنّما يُخشىٰ علىٰ الدين منهم ، وهذا الذي يصنعه مروان واحدة فقط من الأحدوثات التي أحدثها وسيحدثها الأمويون في الدين.

الفائدة

هذه الأخبار ونظائرها لا تمثل أحداثاً منفردة في تاريخ الصحابة ، وإنّما هي أخبار دونت دون سواها لما وافقها من خصوصية ، ساعدت علىٰ انتشارها ، وما هي إلّا شواهد علىٰ واقع الحال الذي كان يعيشه جيل الصحابة والذي لم نعرف عنه في مصدر واحد ، ولا في حديث واحد ـ ولو موضوع ـ نهياً عن زيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحدٍ من الصحابة بعد وفاتهم. وعدم وجود النهي وحده قاطع بالإثبات ، تؤكِّده هذه الاَحداث المروية لما فيها من خصوصيات أفردتها عن العرف السائد.

وتؤيده السيرة الثابتة للصحابة والتابعين أنّهم إذا أرادوا الخروج من المدينة أتوا قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للوداع ، وإذا دخلوا المدينة ابتدأوا بزيارته والسلام عليه. وهذا أمر ثابت أشهر من أن يحتاج إلىٰ برهان ، ولم ينكره أحد ممّن له خلاف في

٦٦

بعض شؤون الزيارة وأحوالها.

ثانياً : بعد الصحابة :

١ ـ عمر بن عبدالعزيز

استفاض عن عمر بن العزيز أنّه كان يبرد البريد من الشام ليسلّم له علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. نقل ذلك أبو بكر أحمد بن عمر بن أبي عاصم النبيل ، المتوفىٰ سنة ٢٨٠هـ في كتابه « المناسك » وقد جرّده من الأسانيد ملتزماً فيه الثبوت ، قال : كان عمر بن عبدالعزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلىٰ المدينة ليقرىء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام ، ثمَّ يرجع.

وذكره ابن الجوزي أيضاً في كتابه الذي أفرده لمثل هذه الأخبار ، وأسماه « مثير العزم الساكن إلىٰ أشرف الأماكن » ، قال السبكي : نقلته من خطه (١).

ودلالته واضحة ليس علىٰ استحباب الزيارة وحسب ، بل علىٰ شد الرحال لأجلها أيضاً. ومثله في الدلالة ما ثبت عن بلال رضي الله عنه.

٢ ـ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام :

وقد سأله أحد أصحابه : إنا نأتي المساجد التي حول المدينة ، فبأيها أبدأ ؟

قال عليه‌السلام : « أبدأ بِقُبا ، فصلّ فيه ، وأكثِر ، فإنّه أول مسجد صلّىٰ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه العرصة ، ثمَّ ائت مشربة أم إبراهيم فصلّ فيها ، فهو مسكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومصلّاه ، ثمَّ تأتي مسجد الفضيخ فتصلّي فيه ، فقد صلّىٰ فيه

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٥٥.

٦٧

نبيك ، فإذا قضيت هذا الجانب أتيت جانب أحد فبدأت بالمسجد الذي دون الحرة فصلّيت فيه ، ثمَّ مررت بقبر حمز بن عبدالمطلب عليه‌السلام فسلمت عليه ، مررت بقبور الشهداء... » الحديث (١).

وفيه أمر صريح بزيارة قبر سيد الشهداء حمزة خاصة ثمَّ قبور سائر الشهداء رضوان الله عليهم أجمعين.

٣ ـ الشافعي يزور قبر أبي حنيفة

أخرج الخطيب البغدادي وغيره ، عن علي بن ميمون صاحب الشافعي ، قال : سمعت الشافعي يقول : إنّي لأتبرك بأبي حنيفة ، وأجيء إلىٰ قبره في كل يوم ، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلىٰ قبره وسألت الله تعالىٰ الحاجة عنده ، فما تبعد حتىٰ تُقضىٰ (٢).

وفيه زيادة علىٰ الزيارة ، العمل بالتوسل والاستشفاع.

٤ ـ أبو علي الخلّال شيخ الحنابلة وقبر موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام :

الحسن بن إبراهيم ، أبو علي الخلّال ، شيخ الحنابلة في وقته ، كان يقول : ما همّني أمر فقصدت قبر موسىٰ بن جعفر فتوسلت به إلّا سهّل الله تعالىٰ لي ما أحب (٣).

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢ / ٧.

(٢) تاريخ بغداد ١ : ١٢٣ ، مناقب أبي حنيفة / الخوارزمي ٢ : ١٩٩.

(٣) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ١ : ١٢٠.

٦٨

٥ ـ أبو بكر بن خزيمة وقبر الرضا عليه‌السلام :

قال أبو بكر محمد بن المؤمّل : خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة (٢٢٣ ـ ٣١١ هـ) ، وعديله أبي علي الثقفي (٢٤٤ ـ ٣٢٨) ، مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاك متوافرون إلىٰ زيارة علي بن موسىٰ الرضا بطوس. قال : فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا (١).

وكل ذلك شاهد علىٰ التوسل والاستشفاع ، بعد القصد إلىٰ الزيارة.

٦ ـ أئمة المذاهب الاَربعة وسائر أهل العلم :

عند ذكر الحديث الذي أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحاكم من حديث بُريدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فقد أُذن لمحمّدٍ في زيارة قبر أمّه ، فزوروها فإنّها تذكر الآخرة » أشرنا إلىٰ أن للترمذي تعقيباً علىٰ الحديث ، وهذا هو نصّه :

قال الترمذي : حديث بُريدة حديث حسن صحيح ، والعمل علىٰ هذا عند أهل العلم ، لا يرون بزيارة القبور بأساً ، وهو قول : ابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق (٢).

وابن المبارك : هو عبدالله بن المبارك بن واضح ، وصفه الذهبي بالإمام ، شيخ الإسلام ، عالم زمانه ، وأمير الأتقياء في وقته.. سمع من هشام بن عروة ،

_________________________________

(١) تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني ٧ : ٣٣٩.

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ / ١٠٥٤ ( كتاب الجنائز ـ باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور ).

٦٩

والأعمش ، وموسىٰ بن عقبة ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وابن جريج ، وهذه الطبقة ، وحدَّث عنه : مَعمر ، والثوري ، وعبدالرزاق الصنعاني ، وابن أبي شيبة وهذه الطبقة ، ولد سنة ١١٨ ، وتوفي سنة ١٨١هـ في مدينة هيت ـ من مدن غرب العراق ـ ودفن فيها.. ونقل الذهبي لبعض الأفاضل في زيارة قبره :

مررتُ بقبر ابن المبارك غَدوةً

فأوسعني وعظاً وليس بناطقِ (١)

وإسحاق : هو إسحاق بن راهويه قرين أحمد بن حنبل ، وكان أحمد يسميه الإمام ، ويقول : لا أعرف له في الدنيا نظيراً ، ولقّبه الذهبي بشيخ المشرق ، سيد الحفّاظ ولد سنة ١٦١ هـ ، وتوفي سنة ٢٣٨ هـ ، وله في سير أعلام النبلاء ترجمة واسعة (٢).

ـ وقد تقدّم عن الشافعي زيارته قبر أبي حنيفة ، وتوسله به ، ومداومته علىٰ ذلك ، ويأتي في ( التوسل ) توسل أحمد بالشافعي.

ـ وقال مالك بن أنس : لا بأس بمن قدم من سفر ، أو خرج إلىٰ سفر أن يقف علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصلّي عليه ويدعو له ، ولأبي بكر وعمر. فقيل له : فإنّ ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربّما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرّة والمرّتين أو أكثر عند القبور فيسلّمون ويدعون ساعة.

فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمّة إلّا بما صلح به أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنّهم كانوا

_________________________________

(١) سير أعلام النبلاء ٨ : ٣٧٨ ـ ٤٢١.

(٢) سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٥٨ ـ ٣٨٣.

٧٠

يفعلون ذلك ، ويكره إلّا لمن جاء من سفر ، أو أراده.

قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلّموا ، قال : وذلك رأيي.

قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم (١).

وفيه فائدتان :

الأولىٰ : أنّ جمهور الناس في القرن الثاني للهجرة ، حيث عاش مالك ، كانوا متفقين علىٰ المداومة علىٰ زيارة قبر المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يصنعون ذلك مراراً ، ويدعون عند قبره علىٰ الدوام ، وهم جيل اتباع التابعين ، الذين ورثوا عن التابعين عاداتهم وعباداتهم.

والثانية : أنّ مالكاً ، كان يجيز القصد إلىٰ الزيارة ، ويحبّذه ، فيدعو المسافر أو القادم إلىٰ التوجه لزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصداً لذلك.

وهذا ما قاله الباجي في شرح كلام مالك ، مؤكداً أنّ قصد الزيارة هو المبرر الذي اعتمده مالك في جوازها ، بل استحبابها ، قائلاً : لأنّ الغرباء قصدوا ذلك.

أمّا عن رأي مالك ، كما قال السبكي ، فهو أنّ الزيارة قربة ، ولكنه علىٰ عادته في سدّ الذرائع يكره منها الاكثار الذي قد يفضي إلىٰ محذور. وهذا واضح في كلام مالك الآنف الذكر ، وهو يحبّذها للغرباء والمسافرين.

وأمّا أئمة المذاهب الثلاثة الأخرىٰ ، فهم يقولون باستحبابها واستحباب

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٧٠ ـ ٧١.

٧١

الإكثار منها ، لأنّ الإكثار من الخير خير ، وكلهم مجمعون علىٰ استحباب الزيارة (١). ونذكِّر ثانيةً بما أسلفناه عن الشافعي ، وما سيأتي عن أحمد.

٧ ـ أحمد بن حنبل وزيارة قبر الحسين عليه‌السلام :

في ما ذكره ابن تيمية حول جسد الحسين عليه‌السلام ، قال : ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء ، حتىٰ كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره ، حتىٰ أنّه في مسائله : ( مسائل في ما يُفعل عند قبره ) أي قبر الحسين عليه‌السلام ، ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير ، في زيارة المشاهد (٢).

فهو يثبت زيارة الناس قبر الإمام الحسين عليه‌السلام زمن أحمد وغيره ، ويثبت أن أحمد لم ينكر عليهم الزيارة ، بل يثبت أنّه قد كتب في ما ينبغي أن يفعله الزائر لقبر الحسين عليه‌السلام ، مراعاةً للسنة في الزيارة.

هذا مع أن ابن تيمية هو أشدّ المنكرين للسفر بقصد الزيارة ، وهذه واحدة فقط من هفواته ، ولأجل هذا أفردنا هذا برقم خاص ، مع أنّه داخل في الفقرة السابقة.

٨ ـ رواية العتبي المتوفى ٢٢٨ هـ في زيارة الأعرابي

من جميل الأثر في زيارة سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رواه محمد بن عبيدالله بن عمرو ابن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان الأموي ، وكان صاحب أخبار وراويةً للآداب ، وقد حدّث عن سفيان بن عيينة. وقد أخرج هذه الرواية ابن الجوزي في

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٧١.

(٢) رأس الحسين / ابن تيمية : ٢٠٩ مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.

٧٢

( مثير العزم الساكن إلىٰ أشرف الأماكن ) وابن عساكر في ( تاريخ دمشق ) والقسطلاني بأسانيدهم عن : محمد بن حرب الهلالي ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمَّ قال : يا خير الرسل ، إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي مستشفعاً فيها بك. ثمَّ بكى وأنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطـاب من طيبهنّ القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنـت ساكـنه

فيه الـعفاف وفيه الجود والكرمُ

ثمَّ استغفر وانصرف.

وقد نظم أبو الطيب أحمد بن عبدالعزيز بن محمد المقدسي فيها أبياتاً وضمّنها البيتين ، فقال :

أقول والدمـع من عـينيّ منسجمُ

لمّا رأيــت جــدار الـقبرِ يُستَلمُ

والناسُ يغشـونه باكٍ ومـنقـطعٌ

مـن الـمهـابـة أو داعٍ فـملتـزمُ

فما تمالـكت أن ناديتُ من حَرَقٍ

في الصدر كادت له الأحشاء تضطرمُ

( يا خير من دُفنت في القاع أعظمه

فـطـاب من طيـبهـن القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبــرٍ أنـت ساكنه

فيـه العـفاف وفيـه الجود والكرمُ )

وفيه شمس التقىٰ والدين قد غربت

من بعـد ما أشرقت من نورها الظُلُم

حاشا لوجهك أن يبلىٰ وقـد هُدِيَتْ

في الشـرق والغرب من أنواره الأممُ

وأن تمـسّك أيدي الـترب لامسةً

وأنـت بيـن السمـاوات العلىٰ علمُ

إلىٰ قوله :

٧٣

لئـن رأينـاه قبـراً إنّ باطـنـه

لروضة من رياض الخـلد تبـتسمُ

طافه به مـن نواحيــه ملائكـةٌ

تغشـاه في كل يوم ما يـوم تزدحمُ

لو كنـت أبصرته حيـاً لقــلت له

لا تمشي إلّا علىٰ خدي لك القدمُ (١)

خاتمة في كلمات أئمة الحنابلة خاصةً في الزيارة :

أفردنا أئمة الحنابلة خاصة في هذا الموضع لأنّه أوقع في الرد علىٰ متأخريهم ، ابتداءً بابن تيمية ، الذين ذهبوا إلىٰ تحريم السفر بقصد الزيارة وعدّه من مصاديق الشرك ، أو الكفر.

١ ـ أبو الفرج ابن الجوزي ( ٥٩٧هـ ) صنّف كتاباً بعنوان ( مثير العزم الساكن إلىٰ أشرف الأماكن ) وعقد فيه باباً في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد تقدمت عنه نقول كثيرة.

وفي كتابه الآخر « مناقب الإمام أحمد بن حنبل » ذكر أخباراً عديدةً في زيارة قبر أحمد بن حنبل ، يفيد مجموعها أنّها عادة الحنابلة ، وأنّها لديهم من القربات المهمة التي لا يفرطون بها (٢). وذكر في كتابه ( المنتظم ) أنّه قد قصد زيارته في سنة ٥٧٤ هـ وتبعه خلق كثير يقدرون بخمسة آلاف إنسان (٣).

وهذه بعض نصوص ابن الجوزي ، تعكس صورةً واضحةً عن ثقافة الزيارة عند الحنابلة :

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٦٢ ـ ٦٣ ، مختصر تاريخ دمشق ٢ : ٤٠٨ ، القسطلاني والمواهب اللدنية ٤ : ٥٨٣.

(٢) مناقب أحمد : ٤٠٠ ، ٥٦٣ ، ٦٣٩ ، ٦٤٢ ، ٦٤٣ ، ٦٧٧ وغيرها.

(٣) المنتظم في أخبار الملوك والأمم ١٨ : ٢٤٨.

٧٤

ـ عن أبي الفرج الهندبائي ، قال : كنت أزور قبر أحمد بن حنبل ، فتركته مدَّةً ، فرأيت في المنام قائلاً يقول لي : تركت زيارة إمام السنّة ؟! (١).

ـ عن أبي طاهر ميمون ، قال : رأيت رجلاً بجامع الرصافة في شهر ربيع الآخرة من سنة ست وستين وأربعمئة ، فسألته ، فقال : قد جئت من ستمئة فرسخ ، فقلت : في أي حاجة ؟

قال : رأيت وأنا ببلدي في ليلة جمعة كأنّي في صحراء أو في فضاء عظيم ، والخلق قيام ، وأبواب السماء فُتحت ، وملائكة تنزل من السماء تُلِبسُ أقواماً ثياباً خضراً ، وتطير بهم في الهواء ، فقلت : من هؤلاء الذين اختصوا بهذا ؟

فقالوا لي : هؤلاء الذين يزورون أحمد بن حنبل..

فانتبهت ، ولم ألبث أن أصلحت أمري وجئت إلىٰ هذا البلد وزرته دفعات ، وأنا عائد إلىٰ بلدي إن شاء الله (٢).

ـ قال ابن الجوزي : وفي صفر سنة ٥٤٢ هـ رأىٰ رجل في المنام قائلاً يقول له : من زار أحمد بن حنبل غُفر له.

قال : فلم يبقَ خاصٌّ ولا عامٌّ إلّا زاره ، وعقدتُ يومئذٍ ثمَّ مجلساً فاجتمع فيه ألوف من الناس (٣).

ـ الله يزور أحمد بن حنبل كل عام !! كما نقل ابن الجوزي عن أبي بكر بن مكارم ابن أبي يعلىٰ الحربي ، قال : وكان شيخاً صالحاً ، أنّه رأىٰ في منامه أنّه أتىٰ قبر

_________________________________

(١) مناقب أحمد : ٦٣٩٠ ، وأخرجه الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد ٤ : ٤٢٣.

(٢) مناقب أحمد : ٦٣٩.

(٣) المنتظم ١٨ : ٥٥.

٧٥

أحمد يزوره علىٰ عادته ، فرأىٰ القبر قد التصق بالاَرض ولم يبقَ منه إلّا القليل ، فقال : هذا من كثرة الغيث.. فسمع أحمد من القبر يقول له : لا ، بل هذا من هيبة الحقّ عزَّ وجلَّ ، لأنّه عزَّ وجلَّ قد زارني ، فسألته عن سرِّ زيارته إيّاي في كل عام ، فقال عزَّ وجلَّ : يا أحمد ، لأنّك نصرت كلامي ، فهو يُنشر ويتلىٰ في المحاريب.

يقول الحربي : فأقبلت علىٰ لحده أُقبِّله ، ثمَّ قلت : يا سيدي ، ما السر في أنّه لا يُقبَّل قبرٌ إلّا قبرك ؟

فقال لي : يا بنيَّ ، ليس هذا كرامة لي ، ولكن هذا كرامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ معي شعرات من شعره.. ثمَّ قال : ألا ومن يحبني لِمَ لا يزورني في شهر رمضان؟ (١).

وليست العبرة في صحَّة هذه الأخبار أو عدم صحَّتها ، إنَّما العبرة في ملاحظة أنّ ثقافة الزيارة عند الحنابلة لا تختلف كثيراً عنها عند الصوفية ، إلّا في ممارسات خارجية قد يصنعها بعض الصوفية دون الحنابلة.. مع ملاحظة أنّ دعاة السلفية من المنتسبين إلىٰ مذهب أحمد بن حنبل حين حاربوا هذا النمط من ثقافة الزيارة قد وجَّهوا حملاتهم علىٰ التراث الصوفي خاصةً ، وتراث الطوائف الإسلامية الأخرىٰ عامة ، وغضّوا الطرف كاملاً عمّا تراكم في تراثهم من ذلك.

ولا ريب في أنّ الأحداث التي دوَّنها ابن الجوزي في ( المنتظم ) في هذا الموضوع كانت صحيحة ، وفيها حدثان كان فيهما شاهداً ومعايشاً ، وثمَّة حقيقة أُخرىٰ يثبتها ، ويشاركه فيها ابن كثير ، قد تفوق كلَّ ما تقدَّم ذكره في ما تعارف عليه الحنابلة في الزيارة..

_________________________________

(١) مناقب أحمد : ٦٠٧.

٧٦

ففي ترجمة أبي جعفر بن أبي موسىٰ ( ت ٤٧٠ هـ ) إمام الحنابلة في وقته ، وقد دفن عند قبر أحمد ، قال ابن الجوزي : كان الناس يبيتون هناك كل ليلة أربعاء ، ويختمون الختمات ، ويخرج المتعيِّشون فيبيعون المأكولات ، وصار ذلك فرجةً للناس ـ أي فَرَجاً ـ ولم يزالوا كذلك إلىٰ أن جاء الشتاء فامتنعوا.. وقال ابن كثير : دفن إلىٰ جانب الإمام أحمد ، فاتخذت العامَّة قبره سوقاً كلَّ ليلة أربعاء ، يتردَّدون إليه (١).

وكلُّ ما تقدَّم يكشف بوضوح عن عقيدة شيخ الحنابلة في وقته أبي الفرج بن الجوزي في الزيارة ، بل في شدِّ الرحال إليها ، الذي سيأتي بحثه لاحقاً..

ولنتابع مع آخرين من أقطاب الحنابلة..

٢ ـ موفق الدين ابن قدامة المقدسي ( ٦٢٠ هـ ) : يصرِّح باستحباب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستدلُّ لذلك بما رواه الدارقطني وأحمد من حديث ابن عمر وأبي هريرة (٢).

٣ ـ نجم الدين بن حمدان الحنبلي ( ٦٩٥ هـ ) : ويسنّ لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر صاحبيه ، وله ذلك بعد فراغ حجه ، وإن شاء قبل فراغه (٣).

٤ ـ ابن تيمية ( ٧٢٨ هـ ) : وابن تيمية الذي أنكر السفر بقصد الزيارة ، لم ينكر أصل الزيارة ، فأثبتها للحاج وأدخلها في المناسك ، فقال في مناسكه : « باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أشرف علىٰ مدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الحج أو بعده... فإذا

_________________________________

(١) المنتظم ، والبداية والنهاية : أحداث سنة ٤٧٠ هـ.

(٢) المغني / ابن قدامة ٣ : ٧٨٨.

(٣) نقله السبكي في شفاء السقام : ٦٧ عن ( الرعاية الكبرىٰ في الفروع الحنبلية ).

٧٧

دخل المسجد بدأ برجله اليمنىٰ... ثمَّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء ، ثمَّ يأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيستقبل الجدار ، ولا يمسّه ولا يقبّله ، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر علىٰ رأسه ليكون قائماً وِجاه النبي ، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون.. (١).

ويأتي في الفقرة اللاحقة ما يثبت خطأ ما ذهب إليه ابن تيمية في تجنُّب مسِّ القبر والمنبر.

التبرُّك

زيادة في تقرير صحة الزيارة وكونها قربة ، فقد ثبت في الكثير من سير الصحابة والتابعين وكبار السلف أنّهم كانوا يتبرّكون بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقبره ومنبره. والأثر في هذا كثير ، نكتفي منه بالنزر اليسير الشاهد علىٰ المطلوب :

١ ـ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبرك بمسّه ويقبّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى.

قال : لا بأس به (٢).

ويؤيد ذلك عن أحمد الرواية الآتية :

٢ ـ عن الحافظ أبي سعيد بن العلا ، وهو معاصر لابن تيمية ، قال : رأيت في كلام

_________________________________

(١) ذكره ابن عبدالهادي في الصارم المنكي في الرد علىٰ السبكي : ٧ المطبعة الخيرية ، القاهرة. ط ١ ، بواسطة الزيارة في الكتاب والسنّة / جعفر سبحاني : ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) أخرجه العز بن جماعة ، كما في / وفاء الوفا ٢ : ٤٢٤.

٧٨

الإمام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر (١) وغيره من الحفّاظ : أنّ الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقبيل منبره ، فقال : لا بأس بذلك.

قال : فأريناه التقيّ ابن تيمية ، فصار يتعجب من ذلك ، ويقول : عجبت من أحمد ، عندي جليل !!

قال ابن العلا : وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به !

أخرج هذا ابن الجوزي وابن كثير (٢) ، وهما من أشد الناس اتباعاً لأحمد وتعظيماً له ، وان ابن كثير خاصة من أشد الناس متابعة لابن تيمية.

٣ ـ وروىٰ ابن حجر العسقلاني عن أحمد أنّه لا يرىٰ بأساً في تقبيل منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبره (٣).

٤ ـ محمد ابن المنكدر ، وهو من أعلام التابعين ، توفي سنة ١٣٠ هـ ، كان يجلس مع أصحابه في المسجد النبوي الشريف ، فكان يقوم ويضع خدّه علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ يرجع ، فعوتب في ذلك ، فقال : إنّه ليصيبني خطرة ، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يأتي موضعاً من المسجد في الصحن فيتمرّغ فيه ويضطجع ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا

_________________________________

(١) أبو الفضل ، محمد بن ناصر السلامي البغدادي ، من أئمة الحنابلة في القرن السادس ، وعنه أخذ أبو الفرج ابن الجوزي علم الحديث وعليه قرأ المسانيد ، وكان مقدّم أصحاب الحديث في وقته ببغداد. ولد سنة ٤٦٧ وتوفي سنة ٥٥٠ هـ. سير أعلام النبلاء : ٢٠ : ٢٦٥ ـ ٢٧٠.

(٢) مناقب أحمد / ابن الجوزي : ٦٠٩ ، البداية والنهاية / ابن كثير : ١٠ : ٣٦٥ حوادث سنة ٢٤١ هـ.

(٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٣ : ٤٧٥ / ١٦٠٩.

٧٩

الموضع ، يعني في النوم.

ذكرهما عنه الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) (١) وقد ترجم له ترجمة وافية ، وأثنىٰ عليه ثناءً بالغاً ، وعدّه ، نقلاً عن نقّاد الرجال ، من أجدر التابعين من طبقته ممّن يؤخذ منه حتىٰ مراسيله إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرّخ مولده ببضع وثلاثين للهجرة ، وهو خال عائشة ، وكان خصيصاً بها ، وحين توفيت كان هو ابن نيف وعشرين سنة (٢).

٥ ـ وأمّا التبرك بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أمر شائع ، وشواهده يطول ذكرها ، نكتفي منها بواحد ، عالي الإسناد ، صريح الدلالة :

أخرج الذهبي من حديث التابعي الكبير عبيدة السلماني المتوفى سنة ٧٢ هـ ، وهو من أجلّ التابعين وأفاضل أصحاب الإمام علي عليه‌السلام ، ومن أئمة الحديث والقضاء ، وكانوا لا يختلفون في أنّه أقضىٰ من شُريح (٣).

قال الذهبي : قيل لعَبِيدة السلماني : إنّ عندنا من شَعْر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً من قِبَل أنس بن مالك.

فقال عَبيدة : لأن يكون عندي منه شعرة أحب إليّ من كل صفراء وبيضاء علىٰ ظهر الأرض.

وعقّب الذهبي قائلاً : هذا القول من عَبيدة هو معيار كمال الحب ، وهو أن يؤثر شَعرة نبوية علىٰ كل ذهب وفضة بأيدي الناس ، ومثل هذا ما يقوله هذا الإمام بعد

_________________________________

(١) سير أعلام النبلاء / الذهبي ٥ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٥٣ ـ ٣٦١.

(٣) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ٤ : ٤٠ ـ ٤٤.

٨٠