الزيارة والتوسّل

الدكتور صائب عبد الحميد

الزيارة والتوسّل

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ابن الحجاج ، عن وهب ، عن أيوب ، عن نافع مرسلاً (١).

هذا من حيث إسناد الحديث وتوابعه وشواهده.

والكلام ثانياً في دلالة الحديث :

ولا غموض في دلالة هذا الحديث وشواهده ، ولا غبار عليها ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وجبت » أو « حلّت » معناه ثبتت وحقّت ولزمت ، وأنه لابدّ منها.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وجبت له شفاعتي » أو ما جاء في نحو هذا اللفظ يعني أن الزائرين سيدخلون لزوماً في من تناله شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ، وهذا المعنىٰ يتضمن البشرىٰ بأنّ زائر قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان صادقاً في قصده لن يموت إلّا علىٰ الإسلام. ونعمت البشرىٰ...

أو أن يراد به الزائر لقبره قربة واحتساباً تناله شفاعة خاصة ، غير تلك الشفاعة العامة التي تنال عموم المسلمين ، بسبب الزيارة وبفضلها.

وفي كلا الدلالتين من الفوز والفضل الكبير ما هو جدير في احتلال مكانة مهمة في اهتمامات المؤمن ، وهو يتحرىٰ القربة عند الله والزلفىٰ لديه ، انّه لفوز حقيق أن يتنافس فيه المتنافسون.

الحديث الثاني :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زارني بعد موتي كان كمن هاجر إليّ في حياتي ، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليّ بالسلام ، فإنه يبلغني ».

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٢٩.

٤١

من حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، رواه الإمام جعفر الصادق عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الشيخ الطوسي : محمد ابن أحمد بن داود (١) عن أبي أحمد إسماعيل بن عيسى بن محمد المؤدب (٢) ، قال : حدَّثنا إبراهيم بن محمد بن عبدالله القرشي (٣) ، قال : حدَّثنا محمد بن محمد بن الأشعث بن هيثم بمصر (٤) ، قال : حدَّثنا أبو الحسن موسىٰ (٥) بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : حدَّثني أبي ، عن أبيه ، عن جده جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليّ في حياتي ، فإن لم تستطيعوا ، فابعثوا إليّ بالسلام فإنه يبلغني » (٦).

وهذا حديث إسناده جيد ، فهو حديث حسن إن لم يكن صحيحاً ، لعدم التصريح بوثاقة إسماعيل المؤدّب وإبراهيم القرشي ، فهو حديث قائم بنفسه صالح للاحتجاج علىٰ ما تضمنه من استحباب زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وله شواهد

الأول : شاهد قوي من حديث حاطب بن أبي بلتعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

_________________________________

(١) شيخ القميين في وقته ، ولم يُرَ أحد أحفظ ولا أفقه ولا أعرف بالحديث منه. رجال النجاشي : ٣٨٤ رقم ١٠٤٥.

(٢) لم يذكر بتضعيف ولا توثيق. معجم رجال الحديث ٣ : ١٦٤.

(٣) لم يذكر بتضعيف ولا توثيق. معجم رجال الحديث ١ : ٢٨٥ رقم ٢٦٩.

(٤) ثقة سكن مصر. رجال النجاشي : ٣٧٩ رقم ١٠١٣.

(٥) من أصحاب التصانيف ، له كتاب ( جامع التفاسير ) وكتاب ( الوضوء ). رجال النجاشي ٤١٠ / ١٠١٩.

(٦) تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٦ : ٣ / ١.

٤٢

« من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ».

رواه الدارقطني عن أبي عبيد ، والقاضي أبي عبدالله ، وابن مخلّد ، قالوا : ثنا محمد بن الوليد البسري ، ثنا وكيع ، ثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون ، عن الشعبي والأسود بن ميمون ، عن هارون بن قزعة ، عن رجل من آل حاطب ، عن حاطب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن مات بأحد الحرمين بُعثَ من الآمنين يوم القيامة » (١).

وهكذا رواه البيهقي في ( السنن ) و ( شعب الإيمان ) والشوكاني في ( نيل الأوطار ) (٢).

وقد جاء الحديث بهذا الإسناد المضاعف في كثير من مراتبه ، معرّفاً بالرجل من آل حاطب ، أخرجه ابن عساكر بالإسناد نفسه : ثنا وكيع بن الجراح ، عن خالد وابن عون ، عن هارون بن قزعة مولىٰ حاطب ، عن حاطب (٣).

وعن هذا الحديث قال الذهبي : إنّه أجود أحاديث الزيارة إسناداً. وأقرّه السخاوي في « المقاصد الحسنة » والسيوطي في « الدرر المُنتثرة » (٤).

والثاني : حديث الإمام علي عليه‌السلام أيضاً : أخرجه أبو الحسين يحيىٰ بن الحسن ابن جعفر الحسيني في كتاب « أخبار المدينة » قال : ثنا محمد بن إسماعيل ، حدَّثني أبو أحمد الهمداني ، ثنا النعمان بن شبل ، ثنا محمد بن الفضل سنة ست وسبعين ، عن جابر ، عن محمد بن علي ، عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار

_________________________________

(١) سنن الدارقطني ٢ : ٢٨٧ / ١٩٣.

(٢) السنن الكبرىٰ ٥ : ٢٤٥ ، شعب الإيمان ٣ : ٤٨٨ ، نيل الأوطار ٥ : ١٠٨.

(٣) مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ٢ : ٤٠٦.

(٤) المقاصد الحسنة : ٤١٣ ، الدرر المُنتثرة : ١٧٣ ، شفاء السقام الطبعة الرابعة المحقّقة : ١٠٣ هامش ٣.

٤٣

قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن لم يزرني فكأنّما جفاني » (١).

فالحديث شاهد قوي للأول ، وإنّما جاءه ضعف الإسناد من النعمان ابن شبل.

الثالث : حديث أبي هريرة : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حي ، ومن زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة » (٢).

وفي الباب ما أخرجه أبو داود بإسناده عن سوار بن ميمون ، عن رجل من آل عمر ، عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من زار قبري » أو قال : « من زارني كنت له شفيعاً » أو قال : « شهيداً » الحديث (٣).

وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضاً (٤).

وسوار بن ميمون روىٰ عنه شعبة ، ورواية شعبة عنه دليل علىٰ وثاقته عنده ، كما هو الأصل عند شعبة.

بقي الكلام في جهالة « رجل من آل عمر » والأمر فيه ـ كما يقول السبكي ـ قريب ، لا سيما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين (٥).

ومن طريق آخر : ثنا هارون بن قزعة ، عن رجل من آل الخطاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة ».

أخرجه البيهقي في « شعب الإيمان » والعقيلي في « الضعفاء الكبير ».

_________________________________

(١) عن شفاء السقام : ٣٩ الحديث الرابع عشر ، وأخرجه عبدالملك النيسابوري الخركوشي في شرف المصطفىٰ : ٤٢١ و ٤٦٦.

(٢) شفاء السقام : ٣٥ ـ ٣٦ الحديث العاشر.

(٣) سنن أبي داود ١ : ١٢.

(٤) سنن الدارقطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٣ ، السنن الكبرىٰ / البيهقي ٥ : ٢٤٥.

(٥) شفاء السقام : ٣٠.

٤٤

وهارون بن قزعة ذكره ابن حبان في الثقات (١). وحين ذكره العقيلي في الضعفاء لم يزد عن أن نقل فيه قول البخاري : لا يتابع عليه (٢).

وقد قيل إنّ في هذا الإسناد تصحيفاً ، فهو « رجل من آل حاطب » (٣). كالذي أوردناه أولاً عن الدارقطني من رواية هارون بن قزعة نفسه عن رجل من آل حاطب ، عن حاطب.

الحديث الثالث :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً ».

من حديث أنس بن مالك ، أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي وابن الجوزي والشوكاني وغيرهم.

قال ابن أبي الدنيا : حدّثني سعيد بن عثمان الجرجاني ، ثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك ، أخبرني أبو المثنىٰ سليمان بن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة » وفي رواية : « كنت له شهيداً » أو قال : « شفيعاً ».

نقل ابن الجوزي حديث ابن أبي الدنيا هذا في كتابه « مثير العزم الساكن إلىٰ أشرف الأماكن » ومن خطه نقله السبكي (٤).

_________________________________

(١) الثقات / ابن حبان ٧ : ٥٨٠.

(٢) الضعفاء الكبير ٤ : ٣٦١ رقم ١٩٧٣.

(٣) انظر : شفاء السقام : ٣٢.

(٤) شفاء السقام : ٣٦ ـ ٣٧ ـ الحديث الحادي عشر.

٤٥

وأخرجه البيهقي بإسناده ويلتقي مع الأول في إسماعيل بن أبي فديك ، عن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات في أحد الحرمين بُعثَ من الآمنين يوم القيامة ، ومن زارني محتسباً إلىٰ المدينة كان في جواري يوم القيامة » (١).

وللحديث إسناد آخر ، فيه : أبو عوانة موسىٰ بن يوسف القطّان ، ثنا عباد بن موسىٰ الختلي ، ثنا ابن أبي فديك ، عن سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك ، مطابقاً للنصّ الأول.

فدارت الطرق الثلاثة علىٰ ابن أبي فديك ، وسليمان بن يزيد الكعبي ، فأمّا سليمان الكعبي ، وهو التابعي الراوي عن أنس ، فقد طعن عليه أبو حاتم الرازي ، فقال : منكر الحديث ، ليس بقويّ ، غير أن ابن حبان ذكره في الثقات (٢).

وأمّا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فهو مجمع علىٰ وثاقته (٣).

ومن هنا فإنّ هذا الحديث لا يهبط عن درجة الحسن الغريب.

وله بعد ذلك شواهد ، منها :

١ ـ حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام بإسناده ، قال : قال رسول الله عليه‌السلام : « من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة » (٤).

٢ ـ حديث ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من زارني في مماتي كان كمن زارني

_________________________________

(١) شعب الإيمان ٣ : ٤٩٠ / ٤١٥٨. ونيل الأوطار / الشوكاني ٥ : ١٠٩ ، والتاج الجامع للاَصول ٢ : ١٩٠.

(٢) الثقات / ابن حبّان ٦ / ٣٩٥.

(٣) روىٰ عنه الشافعي وأحمد والحميدي وغيرهم من هذه الطبقة ، وأخرج حديثه الستة. ( تهذيب التهذيب ٩ : ٥٢ / ٦٢ ).

(٤) الكافي / الكليني ٤ : ٥٤٨ / ٣ كتاب الحج ، أبواب الزيارات ، باب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٦

في حياتي ، ومن زارني حتىٰ ينتهي إلىٰ قبري كنت له يوم القيامة شهيداً ـ أو قال ـ شفيعاً » ، أخرجه العقيلي (١).

٣ ـ حديث ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من زارني إلىٰ المدينة كنت له شهيداً ـ أو ـ شفيعاً ». أخرجه الدارقطني في السنن (٢).

الحديث الرابع :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حجّ فزار قبري بعد وفاتي ، فكأنّما زارني في حياتي ». أخرجه الدارقطني في « السنن » من حديث مجاهد عن ابن عمر (٣) ، وبالإسناد نفسه أخرجه : البيهقي والطبراني ، وأبو يعلىٰ ، وابن عساكر ، والشوكاني (٤) ، كلُّهم بالإسناد عن : أبي الربيع الزهراني ، عن حفص بن أبي داود ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وليس في أحد من رجال إسناد هذا الحديث من كلام ، فأمّا حفص بن أبي داود ، وهو حفص بن سليمان القارىء صاحب القراءة المعتمدة عند سائر المسلمين ، والمعروفة بـ « قراءة حفص عن عاصم » فهو أخص الناس بعاصم بن أبي النجود شيخ أصحاب القراءات.

وقد مال بعض أهل الجرح والتعديل إلىٰ تضعيف عاصم في الرواية ، وهو أمر

_________________________________

(١) الضعفاء الكبير / العقيلي ٣ : ٤٥٧.

(٢) سنن الدارقطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٤.

(٣) سنن الدارقطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٢.

(٤) السنن الكبرىٰ / البيهقي ٥ : ٢٤٦ ، المعجم الكبير ١٢ : ٣١٠ / ١٣٤٩٧ ، مختصر تاريخ دمشق ٢ : ٤٠٦ ، نيل الأوطار ٥ : ١٠٨.

٤٧

مستغرب ، إذ كيف اعتمدوا بكل اطمئنان وبالإجماع ، راويته لقراءة القرآن كلّه عن عاصم ، ثمَّ يعدّونه في الضعفاء في رواية الحديث ؟!

فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء ، قال البيهقي بعد أن أخرج الحديث : تفرّد به عاصم ، وهو ضعيف.

وضعّفه ابن حبّان أيضاً (١).

وهنا مسألتان :

الأولىٰ : إنّ الضعف المنسوب إلىٰ حفص بن سليمان لا يتجاوز حدود الضبط ، أو الرواية عن الضعفاء ، لكنه قد أسند هذا الحديث إلىٰ ثقات مجمع علىٰ وثاقتهم عند أهل الجرح والتعديل : ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر. وبه تزول الشبهة الثانية ، أمّا الأولىٰ فإنّها مهما بلغت فلا تصل إلىٰ درجة الكذب والوضع ، كيف وقد أجمعوا علىٰ قبول روايته قراءة عاصم وأطبقت عليه الأمّة ؟

والمسألة الثانية : إنّ ابن حبّان ذكر رجلين باسم حفص بن سليمان ، أحدهما المقرىء وهو هذا ، والآخر حفص بن سليمان ، وهو ابن أبي داود المذكور في الأسناد ، وهو ثقة ثبت.

قال السبكي : فإن صحّ مقتضىٰ كلام ابن حبّان زال الضعف المذكور (٢).

ثمَّ إنّ هذا التضعيف الوارد في حفص المقرىء مردود مرّةً أخرىٰ ، بغير الإجماع علىٰ أخذ قراءته ، فقد دفع عنه الضعف أحمد بن حنبل في روايتين عنه :

ـ قال عبدالله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن حفص بن سليمان المنقري ـ وهو

_________________________________

(١) الكامل في الضعفاء ٣ : ٧٨٩ ـ ٧٩٠ ، السنن الكبرىٰ ٥ : ٢٤٦ ، المجروحين / ابن حبّان ٢ : ٢٥٠.

(٢) شفاء السقام : ٢٤ ـ ٢٥.

٤٨

المقرىء ـ فقال : هو صالح.

ـ وقال حنبل بن إسحاق : قال أبو عبدالله ( أحمد بن حنبل ) : ما كان بحفص بن سليمان المنقري بأس (١).

وللحديث متابعات :

لم يتفرّد حفص بهذا الحديث كما وهمه البيهقي ، فقد ورد الحديث عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد عن ابن عمر من طريق آخر عن سبط ليث بن أبي سليم وزوجته : قال سبطه الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم : حدّثتني جدّتي عائشة بنت يونس امرأة الليث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي » (٢).

وبهذه الرواية يزول كل ضعف ينسب إلىٰ الحديث ، والاختلاف الوارد في اللفظ بين : « من حجّ فزار قبري » كما في رواية حفص ، وبين « من زار قبري » لا تمس في دلالة الحديث علىٰ استحباب زيارة قبره الشريف وفضيلتها ، والنص بعدها متطابق تماماً.

وللحديث شواهد ، منها :

١ ـ حديث النعمان بن شبل ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني » ، ذكره ابن عدي وقال : لا

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٢٥.

(٢) أخرجه : الطبراني في المعجم الكبير ١٢ : ٤٠٦ / ١٣٤٩٦ ، وفي حاشية أخرجه المحقق عن المعجم الأوسط أيضاً : ١ : ٢٠١ / ١٥٧.

٤٩

أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل ، ولم أرَ في أحاديثه ( يعني عن مالك ) حديثاً غريباً قد جاوز الحد فأذكره (١).

وأخرجه الدارقطني في ( أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في الموطّأ ) وهو كتاب ضخم (٢).

وهكذا تتعاضد الأحاديث ، وفيها صحاح وحسان بملاحظة المتابعات والشواهد ، في الدلالة علىٰ استحباب زيارة قبر سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلىٰ ما فيها من فضل كبير.

٢ ـ حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : رواه الكليني ، عن علي بن محمد بن بندار ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن أبي حجر الأسلمي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أتىٰ مكة حاجّاً ولم يزرني إلىٰ المدينة جفوته يوم القيامة ، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي ، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة ، ومن مات في أحد الحرمين ، مكة والمدينة (٣) ، لم يعرض ولم يحاسَب ، ومن مات مهاجراً إلىٰ الله عزّوجل حُشر يوم القيامة مع أصحاب بدر » (٤).

وعنه روىٰ الشيخ الطوسي في ( التهذيب ) شطر الحديث ، بالإسناد نفسه عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أتىٰ مكة حاجّاً ولم يزرني في المدينة جفوته يوم القيامة ، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي ، ومن وجبت

_________________________________

(١) الكامل لابن عدي : ٧ رقم ٢٤٨٠ ترجمة النعمان بن شبل.

(٢) شفاء السقام : ٢٧ ـ ٢٨ الحديث الخامس.

(٣) أي وهو يؤدّي مناسك الحجّ قربة إلىٰ الله تعالىٰ.

(٤) الكافي / الكليني ٤ : ٣٤٨ / ٥.

٥٠

له شفاعتي وجبت له الجنّة » (١).

وروىٰ الطوسي متابعاً له : عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن محمد بن الحسين ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبان ، عن السندي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله عليه‌السلام : « من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة » (٢).

في حديث أهل البيت عليهم‌السلام

بعد أن قرأنا جملةً من الحديث النبوي الشريف في زيارة القبر الشريف ، نقرأ في حديث أهل البيت عليهم‌السلام بعض ما جاء في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ بعض ما جاء في زيارتهم عليهم‌السلام.

أوّلاً : في زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة :

١ ـ حديث الإمام عليٍّ عليه‌السلام :

قال الإمام علي عليه‌السلام : « من زار قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في جواره » (٣).

ـ وفي حديث مرفوع إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يشهد لهذا الحديث ويوافقه :

رواه الشيخ الطوسي ، عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيىٰ ، عن سلمة ، عن علي بن سيف بن عميرة ، عن طفيل بن مالك النخعي ، عن إبراهيم بن أبي يحيىٰ ، عن صفوان بن سليمان ، عن أبيه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من زارني في حياتي

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٤ / ٥.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٤ / ٤.

(٣) نيل الأوطار / الشوكاني ٥ : ١٠٩ ، مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور ٢ : ٤٠٦.

٥١

وبعد موتي ، كان في جواري يوم القيامة » (١).

٢ ـ حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام :

رواه الشيخ الطوسي بالإسناد عن الحسن بن الجهم ، عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام قال : « جاء الإمام الصادق عليه‌السلام يوم عيد الفطر إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسلم عليه ، ثمَّ قال : قد فَضَلْنا الناس اليوم بسلامنا علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢).

٣ ـ وحديثه عليه‌السلام : « مرّوا بالمدينة فسلِّموا علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريب ، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد » (٣).

٤ ـ وحديثه عليه‌السلام : « صلّوا إلىٰ جانب قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين تبلغه أينما كانوا » (٤).

وقوله عليه‌السلام في أول الحديث : « صلّوا » يريد الصلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بقرينة ما بعدها.

٥ ـ حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام :

رواه الشيخ الطوسي مسنداً ، قال : أتىٰ هارون المدينة المنورة ومعه عيسى بن

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣ / ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ١٧ ـ ١٨ / ١٩.

(٣) الكافي ٤ : ٥٥٣ / ٧ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٧ / ٤.

(٤) الكافي ٤ : ٥٥٢ / ٥.

٥٢

جعفر ، فاستدعىٰ الإمام موسىٰ الكاظم لصحبته ، فقصدوا قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقدم هارون فسلّم عليه وقال : « السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا ابن عمّ » فتقدم الإمام الكاظم فقال : « السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبه ، أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدىٰ بك أن يصلّي عليك » فقال هارون لعيسىٰ : سمعتَ ما قال ! قال : نعم ، قال هارون : أشهد أنّه أبوه حقّاً (١).

٦ ـ حديث الإمام الجواد عليه‌السلام :

قال الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن بن الوليد ، عن محمد بن يحيىٰ العطار ، عن محمد بن أحمد بن يحيىٰ ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نجران ، قال : سألت أبا جعفر الثاني عليه‌السلام عمن زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاصداً ، قال : « له الجنّة » (٢).

وسيأتي في « آداب الزيارة » عنهم عليهم‌السلام ما يستدل به أيضاً علىٰ استحباب زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحثهم عليها وتذكيرهم بفضيلتها.

ثانياً : في زيارة مراقدهم عليهم‌السلام :

في حديث أهل البيت عليهم‌السلام من الحث علىٰ زيارة مراقدهم والترغيب فيها والتذكير بحكمتها وعوائدها ما يغني المحتاج ، وهذه طائفة منتخبة منها :

١ ـ من حديث الإمام علي عليه‌السلام : رواه الشيخ الطوسي عن محمد بن أحمد بن داود ،

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٦ / ٣ ، تاريخ بغداد ١٣ : ٣١ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٠٩ ، سير أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٣.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ١٤ / ٩.

٥٣

عن محمد بن علي بن الفضل ، قال : أخبرني الحسين بن محمد الفرزدق ، قال : حدَّثنا علي بن موسىٰ بن الأحول ، قال : حدَّثنا محمد بن أبي السري إملاءً ، قال : حدَّثني عبدالله بن محمد البلوي ، قال : حدَّثني عمارة بن زيد ، عن أبي عامر الساجي واعظ أهل الحجاز ، قال : أتيت أبا عبدالله جعفر بن محمد عليه‌السلام فقلت له : يا ابن رسول الله ما لمن زار قبر أمير المؤمنين وعمَّر تربته ؟

قال : « يا أبا عامر ، حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه الحسين بن علي عليه‌السلام : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : والله لتقتلنّ بأرض العراق وتدفن بها ، فقلت : يا رسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها ؟ فقال لي : يا أبا الحسن ، إنّ الله جعل قبرك وقبر وُلدِك بقاعاً من بقاع الجنّة ، وعرصة من عرصاتها ، وانّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوته من عباده تحنّ إليكم ، وتحتمل المذلّة والأذىٰ فيكم ، فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلىٰ الله ، [ و ] مودّةً منهم لرسوله ، أولئك ـ يا علي ـ المخصوصون بشفاعتي ، والواردون حوضي ، وهم زواري غداً في الجنّة... » الحديث (١).

ولعل في هذا الإسناد ضعف من جهة البلوي وعمارة بن زيد ، ولكن في الأحاديث التالية ما يعضده ويقويه..

٢ ـ من حديث الإمام الحسن السبط عليه‌السلام : عن سعد بن عبدالله الأشعري ، عن أحمد ابن محمد بن عيسىٰ ، عن محمد بن خالد البرقي ، عن القاسم بن يحيىٰ ، عن جدّه الحسن بن راشد ، عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام ، قال : « بينا الحسن بن علي عليه‌السلام في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ رفع رأسه فقال : يا

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢ / ٧.

٥٤

أبه ، ما لمن زارك بعد موتك ؟ فقال : يا بني ، من أتاني زائراً بعد موتي فله الجنّة ، ومن أتىٰ أباك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن أتىٰ أخاك زائراً بعد موته فله الجنّة ، ومن أتاك زائراً بعد موتك فله الجنّة » (١).

وفي إسناد هذا الحديث ثلاثة هم من كبار أئمة الحديث وحفاظه ونقاده : الأول طرف الإسناد الأقصى ، عبدالله بن سنان ، والثاني والثالث ، هما طرفه الأدنى ، سعد ابن عبدالله الأشعري ، وأحمد بن محمد بن عيسىٰ.

وأمّا ما جاء في تضعيف محمد بن خالد البرقي ، فليس بقادح فيه بعد العلم بما أقرّوا به من منزلة البرقي في العلم والأدب والمعرفة بالأخبار وعلوم العرب (٢) ، هذا أولاً ، وثانياً بعد معرفة أنّ أحمد بن محمد بن عيسىٰ لا يروي عن رجل متهم ، ولا يتساهل في الرواية عن الضعفاء والمتهمين ، فكان لا يروي إلّا عمّن يعتقد وثاقته. وهو يعدّ شيخ القميين ووجههم وفقيههم ، غير مدافع (٣).

ومن أجل هذا أيضاً يشفع الضعف المروي في الحسن بن راشد (٤).

وبعد هذا فالحديث مشفوع بالحديث الآتي أيضاً ، وهو مطابق له متناً.

٣ ـ من حديث الإمام الحسين السبط عليه‌السلام : محمد بن أحمد بن داود ، عن محمد بن الحسن الكوفي ، قال : حدَّثنا محمد بن علي بن معمر ، قال : حدّثنا محمد بن مسعدة ، قال : حدّثني عبدالرحمن بن أبي نجران ، عن علي بن شعيب ، عن أبي عبدالله الصادق عليه‌السلام ، قال : « بينا الحسين عليه‌السلام قاعدٌ في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٠ / ١ ، و ٤٠ / ١.

(٢) انظر : رجال النجاشي : ٣٣٥ / رقم ٨٩٨.

(٣) انظر : رجال النجاشي : ٨١ ـ ٨٢ رقم ١٩٨.

(٤) رجال النجاشي : ٣٨ رقم ٧٦.

٥٥

ذات يوم ، إذ رفع رأسه إليه فقال : يا أبه ، قال : لبيك يا بني ، قال : ما لمن أتاك بعد وفاتك زائراً لا يريد إلّا زيارتك ؟ قال : يا بني ، من أتاني بعد وفاتي زائراً لا يريد إلّا زيارتي فله الجنّة ، ومن أتىٰ أباك بعد وفاته زائراً لا يريد إلّا زيارته فله الجنّة ، ومن أتىٰ أخاك بعد وفاته زائراً لا يريد إلّا زيارته فله الجنّة ، ومن أتاك بعد وفاتك زائراً لا يريد إلّا زيارتك فله الجنّة » (١).

٤ ـ من حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : محمد بن أحمد بن داود ، عن الحسن بن محمد بن أحمد بن الوليد ، قال : حدّثنا الحسن بن متيل الدقاق وغيره من الشيوخ ، عن أحمد بن أبي عبدالله البرقي ، قال : حدّثني الحسن بن علي بن فضّال ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه‌السلام ، فإنّ إتيانه يزيد في الرزق ، ويمد في العمر ، ويدفع مدافع السوء. وإتيانه مفترض علىٰ كل مؤمن يقرّ له بالإمامة من الله » (٢).

٥ ـ من حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : محمد بن أحمد بن داود ، عن الحسن بن محمد ابن علان ، عن حميد بن زياد ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن يزيد ، عن علي ابن الحسن ، عن عبدالرحمن بن كثير ، قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « لو أن أحدكم حجّ دهره ثمَّ لم يزر الحسين بن علي عليهما‌السلام لكان تاركاً حقّاً من حقوق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ حق الحسين عليه‌السلام فريضة من الله تعالىٰ واجبة علىٰ

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٢١ / ٥ ، و ٤٠ / ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٤٢ / ١.

٥٦

كل مسلم » (١).

ولا ريب في أن تكون لزيارة الإمام الحسين عليه‌السلام مثل هذه المزية ، ذلك أنّ للحسين عليه‌السلام خصوصية فريدة ، في دوره الفريد في تاريخ الإسلام ، فلقد كان في حركته العظمىٰ من أجل إحياء الدين وكشف أسطورة السلاطين العابثين ، تجسيداً حياً للفاروق الأعظم الذي لم يدع برزخاً بين الولاء الحق لرسالة السماء الصافية ، وبين التحايل علىٰ الدين لدىٰ طائفة الحكام وحواشيهم ، والذل والخنوع والرضا بالدون لدى سائر الناس.. لذا فإنّ زيارته التي تستحضر هذا البعد الأساس ، هي مصداق الولاء لله ولرسوله ولأوليائه ولدينه الحنيف ، من ناحية ، ومصداق البراءة من سلاطين الجور وشياطين الأنس من ناحية أخرىٰ.

ومن هنا أكثر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من الحث علىٰ زيارته ، وافرادها بفضائل خاصة قد لا نجد نظيرها في ما ورد في زيارة غيره من الأئمة عليهم‌السلام (٢).

ونجد البعد الأساس في الزيارة المتمثل في الاعتراف بالحق وتجديد العهد وأداء الأمانة ، صريحاً في حديث الإمام الرضا عليه‌السلام الآتي :

٦ ـ من حديث الإمام علي بن موسىٰ الرضا عليه‌السلام : محمد بن أحمد بن داود ، عن أبيه ، قال : حدّثنا محمد بن السندي ، عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن الحسين النيسابوري ، عن عبدالله بن موسىٰ ، عن الحسن بن علي الوشاء ، قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : « إنّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم ، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء ، زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٤٢ / ٢.

(٢) انظر : تهذيب الأحكام ٦ : ٤٢ ـ ٥٢ باب ١٦.

٥٧

في زيارتهم وتصديقاً لما رغبوا فيه ، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة » (١).

هذه هي فلسفة الزيارة في أوجز عبارة.

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٧٨ ـ ٧٩.

٥٨



الفصل الثالث

الزيارة في تراث السلف

إذا كانت مفردة « السلف » تتسع لأجيال عديدة ، بل هي لغوياً تمتد منذ جيل الآباء صعوداً حتىٰ عهد الرسالة ، فإنّنا نقتصر منها هنا علىٰ الطبقات العليا ، وتحديداً حتىٰ منتصف القرن الثالث ، لتشمل عهد الرسالة وعهود الصحابة وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام والتابعين وأئمة الحديث والفقه انتهاءً بأئمة المذاهب الأربعة. هذه الطبقات التي عاصرت السنن رواية وتدويناً وأسست للفقه وسائر علوم الدين ، وإليها ينتهي احتجاج المسلمين بطوائفهم كافة ، لنرىٰ كيف كانت زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأولياء والصالحين تمثل جزءاً من ثقافة الأمّة الأصيلة علىٰ امتداد تلك الطبقات. وليس غرضنا فيه الاستقصاء ، بل الاكتفاء بما فيه إثبات المطلوب.

وقبر حمزة كان مزاراً للصالحين من الصحابة والتابعين.. وقبر الكاظم موسىٰ مقصداً لمن أدرك وفاته وعاش بعده.. وقبر الرضا علي بن موسىٰ كان ملاذاً لأهل العلم والصالحين مذ كان القبر.. كل ذلك سنقرأه لاحقاً.. ونقرأ أنّ قبر أبي حنيفة كان ملاذاً للشافعي ، يأتيه كل يوم ، داعياً ومستشفعاً ومتوسّلاً.. وأنّ

٥٩

قبر معروف الكرخي ( المتوفى ٢٠٠ هـ ) كان عندهم ( الترياق المجرّب ) يقصده المحتاج والمكروب من كل مكان.

ونقرأ عند الغزالي والنووي والفاخوري وآخرين : أنّ الزائر حين يودّع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفرغ من زيارته ، يستحب له أن يخرج كل يوم إلىٰ البقيع ، ويخصّ يوم الجمعة ، يأتي المشاهد والمزارات ، فيزور العباس ، ومعه الحسن بن علي ، وزين العابدين ، وابنه محمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق ، ويزور أمير المؤمنين عثمان ، وقبر إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجماعة من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمته صفية ، وكثيراً من الصحابة والتابعين..

ويقول : سلام عليكم بما صبرتم ، فنعمىٰ عقبىٰ الدار ، سلام عليكم ، دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون.

ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص.

أو يقول : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون.. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ، ولا تفتنَّا بعدهم ، واغفر لنا ولهم (١).

والآن إلىٰ نماذج من فعل السلف في طبقاتهم الأولىٰ :

أولاً ـ في عهد الصحابة :

١ ـ الزهراء البتول عليها‌السلام تزور قبر أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من حديث الإمام علي عليه‌السلام : « لمّا رُمِس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاءت فاطمة ،

_________________________________

(١) الغدير / الأميني ٥ : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ـ تحقيق مركز الغدير ـ عن ( وفاء الوفاء ) للسمهودي ٤ : ١٤١٠.

٦٠