الزيارة والتوسّل

الدكتور صائب عبد الحميد

الزيارة والتوسّل

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فليزره ، ولا يقول إلّا خيراً ، فإنّ الميت يتأذىٰ مما يتأذىٰ منه الحيّ » (١).

ومن حديث بريدة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم إذا خرجوا إلىٰ المقابر أن يقول قائلهم : « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية » (٢).

وهكذا يؤسس الإسلام لأدب الزيارة ، لاغياً ما كان متعارفاً في عادات الجاهلية.

وبعد ذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزور القبور بنفسه ، ويعلم المسلمين ماذا يقولون عند زيارتها ، فاصلاً بين ما ينبغي وبين ما لا ينبغي من القول.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزور القبور :

١ ـ أخرج مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم ، والبغوي حديث بريدة الأسلمي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فقد أُذِن لمحمّدٍ في زيارة قبر أُمّه ، فزوروها ، فإنّها تذكّر الآخرة » (٣).

قال الترمذي : وفي الباب عن أبي سعيد ، وابن مسعود ، وأنس ، وأبي هريرة ،

_________________________________

(١) الروض الفائق في المواعظ والرقائق : ٢٢ ، وعنه : الغدير ٥ : ٢٤٥.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٤٨٥ / ١٥٤٧.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٣٦٦ / ١٠٧ ـ كتاب الجنائز ـ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ / ١٠٥٤ ، السنن الكبرىٰ / النسائي ١ : ٦٥٣ / ٢١٥٩ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ٥٣٠ / ١٣٨٥ ، مصابيح السنّة / البغوي ١ : ٥٦٨ / ١٢٣٩. ولا يخفىٰ أنَّ الغرض من ذكر مثل هذا الحديث هو الاستدلال علىٰ مشروعية زيارة القبور بفعل النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله ، وقد ذهب أصحابنا وجمع من علماء الجمهور إلىٰ أنَّ والديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانا مؤمنين وهما من أهل الجنَّة.

٢١

وأم سلمة. وحديث بريدة حديث حسن صحيح (١). ولكلام الترمذي تتمة تأتي في محلّها.

وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أُذِن لمحمّدٍ في زيارة قبر أمّه » ثمَّ حثه علىٰ زيارة القبور ، دليل صريح علىٰ جواز قصد قبر معين بالزيارة.

٢ ـ أخرج الحاكم عن بريدة ، قال : زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر أمّه في ألف مقنّع ، فلم يُرَ باكياً أكثر من يومئذ (٢).

قال الذهبي : صحيح علىٰ شرطهما ـ أي البخاري ومسلم ـ.

ومثله عن أبي هريرة : زار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر أمّه فبكىٰ وأبكىٰ من حوله (٣).

٣ ـ من حديث طلحة بن عبيدالله ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد قبور الشهداء حتىٰ إذا أشرفنا على حرّة واقم ، فلمّا تدلينا منها وإذا قبور ممحية ، قلنا : يا رسول الله ، أقبور إخواننا هذه ؟ قال : « قبور أصحابنا » فلما جئنا قبور الشهداء ، قال : « هذه قبور إخواننا ».

الحديث رواه أبو داود في ( السنن ) (٤) وفيه دلالة صريحة علىٰ الخروج بقصد زيارة قبور بعينها ، لمنزلة اختصت بها ، وليس لأجل التذكير بالآخرة فقط ، وإلّا لكانت الزيارة لأقرب المقابر في المدينة وافية بالغرض ، أو لوقف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القبور الأولىٰ التي قال فيها « قبور أصحابنا » ، والحديث كله صريح بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قاصداً زيارة قبور الشهداء ، وراء حرّة واقم ، وهي في طرف

_________________________________

(١) سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ / ١٠٥٤.

(٢) المستدرك ١ : ٥٣١ / ١٣٨٩.

(٣) المستدرك ١ : ٥٣١ / ١٣٩٠.

(٤) سنن أبي داود ٢ : ٢١٨ / ٣٥٧ ـ كتاب المناسك ـ باب زيارة القبور.

٢٢

المدينة الشرقي.

وحرّة واقم هذه هي التي حصلت فيها وقعة الحرّة سنة ٦٢ هـ ، بين أهل المدينة المنورة وكلهم من الصحابة وأبنائهم ، وبين جيش الحاكم الفاجر يزيد بن معاوية.

٤ ـ ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يخرج مراراً إلىٰ البقيع لزيارة قبور المؤمنين المدفونين هناك ، أخرج مسلم من حديث عائشة ، أنّها قالت : كلما كان ليلتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من آخر الليل إلىٰ البقيع ، فيقول : « السلام عليكم دار قوم مؤمنين.. » الحديث (١).

٥ ـ أخرج ابن أبي شيبة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأُحد علىٰ رأس كل حول ، فيقول : « السلام عليكم بما صبرتم ، فَنِعْمَ عقبىٰ الدار » (٢).

٦ ـ وفاطمة في حياة أبيها : ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء البتول عليها‌السلام انّها كانت في حياة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تخرج في كل جمعة لزيارة قبر عمها حمزة بن عبد المطلب ، فتصلّي وتبكي عنده.

أخرجه البيهقي ، والحاكم (٣) ، وقال الحاكم معقباً علىٰ الحديث : هذا الحديث رواته عن آخرهم ثقات ، وقد استقصيت في الحث علىٰ زيارة القبور تحرياً للمشاركة في الترغيب ، وليعلم الشحيح بذنبه أنها سنّة مسنونة ، وصلىٰ الله علىٰ محمد وآله أجمعين (٤).

_________________________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٣٦٣ / ١٠٢ ـ كتاب الجنائز ـ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٤٨٥ / ١٥٤٦.

(٢) أخرجه الأميني في الغدير ٥ : ٢٥٨ عن ابن عابدين في ردّ المختار علىٰ الدر المختار ١ : ٦٠٤ ـ ٦٠٥.

(٣) السنن الكبرىٰ للبيهقي ٤ : ٧٨ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ٥٣٣ / ١٣٩٦.

(٤) المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ٥٣٣ / ١٣٩٦.

٢٣

أهداف الزيارة :

ماذا يجد الزائر في سريرته وهو يزور القبور ، أو يتوجه لزيارتها ؟! ما هي الدوافع التي تحركه صوب هذا الفعل ؟ وعلىٰ نحوٍ أكثر تحديداً ، هل عرّف التشريع شيئاً من الأهداف التي يرجىٰ تحققها من خلال زيارة القبور ، أو زيارة قبر بعينه ؟

هذا بدوره إن وجد سيكشف عن فضائل الزيارة وما يرتجىٰ منها من ثمرات في دنيا المرء وأُخراه.

إنّ كل الأهداف المتعلقة بالزيارة هي مستفادة بشكل مباشر من السنّة النبوية المطهرة ، ومن ذلك يمكن أن نجمل هذه الاهداف بما يلي :

١ ـ الخشوع وتذكّر الموت والآخرة ، وهذه أهداف لا غنىٰ لمؤمن عنها ، ومهما كان عليه أن يستحضرها في كثير من أوقاته ، غير أنّ أشياء بعينها ذات أثر مباشر في استحضار هذه المعاني ، ستكون لها أهميتها الكبيرة بحسب مقدار ما تحققه من ذلك.. ولا شك في أن الوقوف بين القبور بتأمّل ، أو عند قبر خاص ، له أكبر الأثر في إحياء تلك المعاني في القلوب ، وعلىٰ نحو ربّما لا يضاهيه فيه فعل آخر ، إلّا تشييع جنازة ميت والوقوف عنده ساعة دفنه.

وفي تحقق هذه المعاني من وراء الزيارة جاء حديث نبوي كثير ، منه :

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي نهيتكم عن زيارة القبور ، فمن شاء أن يزور قبراً فليزره ، فإنّه يُرقُّ القلب ، ويُدمع العين ، ويذكّر الآخرة.. ولا تقولوا هُجراً ».

أخرجه أحمد والبيهقي ، وصححه الحاكم والذهبي (١).

_________________________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١١٩ / ١٣٠٧٥ ، ١٤٠ / ١٣٢٠٣ ، السنن الكبرىٰ ٤ : ٧٧ ،

٢٤

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فزوروا القبور فإنّها تذكّر ـ أو تذكركم ـ الموت ».

أخرجه مسلم وأحمد وابن ماجة وأبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم (١).

ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « زُر القبور تذكر بها الآخرة ».

صححه الحاكم في المستدرك (٢).

ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن فيها عبرة ».

أخرجه أحمد والبيهقي ، وصحَّحه الحاكم والذهبي (٣).

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنّها تزهّد في الدنيا ، وتذكّر الآخرة ».

أخرجه ابن ماجة (٤).

٢ ـ الدعاء للميت : هذا السلوك الأخلاقي الرفيع ، الذي يحفظ كرامة المسلم في مجتمعه حتىٰ بعد موته ، ويربّي في المسلمين روح الاخاء والحب والمودة وأداء حقوق الآخرين التي لا تنقطع برحيلهم من الدنيا ، لهو واحد من الجوانب التربوية والاجتماعية الراقية التي تميز بها نظام الأخلاق في الإسلام.

ويشغل الدعاء للموتىٰ عند زيارتهم المساحة الأكبر في أدب الزيارة ،

_________________________________

المستدرك ١ : ٥٣٢ / ١٣٩٣.

(١) صحيح مسلم ٢ : ٣٦٥ / ١٠٦ ـ كتاب الجنائز ـ ، مسند أحمد ٣ : ١٨٦ / ٩٣٩٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠١ / ١٥٧٢ ، سنن أبي داود ٣ : ٢١٨ / ٣٢٣٤ ، سنن النسائي ١ : ٦٥٤ / ٢١٦١ ، المستدرك ١ : ٥٣١ / ١٣٨٨.

(٢) المستدرك ١ : ٥٣٣ / ١٣٩٥.

(٣) مسند أحمد ٣ : ٤٢٧ / ١٠٩٣٦ ، السنن الكبرىٰ ٤ : ٧٧ ، المستدرك ١ : ٥٣٠ / ١٣٦٨.

(٤) سنن ابن ماجة ١ : ٤٩٢ / ١٥٧١.

٢٥

كما هو ملاحظ في النصوص المأثورة في زيارة القبور.

ـ فكثيراً ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقف عند قبور المسلمين فيقول : « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون » ويأمر أصحابه بذلك متىٰ مرّوا بالقبور أو قصدوها بالزيارة (١).

ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤكداً هذا المعنىٰ : « نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ، واجعلوا زيارتكم لها صلاةً عليهم واستغفاراً لهم » (٢).

ـ وكثيراً ما جمع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الهدفين : السلام علىٰ الميت ، والعبرة ، ومنه قوله المشهور والوجيز المذكور أولاً في هذه الفقرة : « السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ».

ـ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا فزوروا إخوانكم ، وسلّموا عليهم ، فإنّ فيها عبرة » (٣).

ـ وفي المأثور عن أمير المؤمنين عليه‌السلام الجمع بين الغرضين ، فقد كان عليه‌السلام إذا دخل المقبرة قال : « السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، من المؤمنين والمؤمنات.. اللّهم اغفر لنا ولهم ، وتجاوز بعفوك عنّا وعنهم.. الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً ، أحياءً وأمواتاً ، والحمد لله الذي منها خلقنا.. وإليها معادنا ، وعليها يحشرنا.. طوبىٰ لمن ذكر المعاد ، وعمل

_________________________________

(١) انظر : صحيح مسلم / ١٠٢ و ١٠٣ ـ كتاب الجنائز ـ ، مسند أحمد / ٨٦٦١ ، سنن الترمذي ٣ : ٣٧٠ / ١٠٥٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٧٩.

(٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢ : ٩٤ / ١٤١٩ ، مجمع الزوائد ٣ : ٥٨.

(٣) مجمع الزوائد ٣ : ٥٨.

٢٦

الحسنات ، وقنع بالكفاف ، ورضي عن الله عزّوجلّ » (١).

٣ ـ أداء حقوق الموتىٰ : وهذا ما نلحظه بوضوح في فحوىٰ الخطاب في الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر : « ألا فزوروا إخوانكم ، وسلّموا عليهم » ففيه إشارة في غاية الوضوح إلىٰ أن لاخواننا الموتىٰ حقوقاً علينا ، ينبغي علينا أداؤها بزيارتهم والتسليم عليهم ، ولمزيد من الترغيب في ذلك يذكّرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن ذلك سيعود علينا أيضاً بالنفع الكبير : « فإنّ فيها عبرة ».

ولاشك في أنّ لبعض الموتىٰ حقوقاً خاصةً علىٰ البعض ، تتأكد معها الزيارة ، وكلّما تعاظمت الحقوق أصبح لهذه الزيارة شأن أكبر ومرتبة أرفع.. ولاشك في أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أبناء أمّته أثبت الحقوق وأعظمها ، الأمر الذي يجعل قصد أحدهم زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القربات المهمّة في حياته.

وهذا ما أكّده حديث أهل البيت عليهم‌السلام في هذا الشأن :

فعن الإمام الرضا عليه‌السلام : « إنّ لكلِّ إمام عهداً في عنق أوليائهم وشيعتهم ، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء ، زيارة قبورهم.. » الحديث (٢).

٤ ـ قصد القربىٰ والثواب : القربىٰ والثواب ، المترتبان قطعاً ، مع خلوص النية وصحة الفعل ، علىٰ الزيارة التي يؤدّيها المسلم تحت أي واحد من العناوين المتقدمة ، قد يكون هو الآخر بنفسه غرضاً للزيارة وعنواناً لها ، فيقصد المسلم التقرب إلىٰ الله تعالىٰ ونيل الثواب بزيارة قبور المؤمنين ، أو قبر واحد بعينه. وذلك لما انطوت عليه الزيارة من فضائل ومستحبات لا تنفصل عنها.

_________________________________

(١) العقد الفريد ٣ : ١١ ، الغدير ٥ : ٢٤٩.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٧٨ ـ ٧٩ / ٣.

٢٧

فالزيارة وإن كانت بقصد القربىٰ فإنّ مقاصدها الرئيسية الثلاثة متحققة فيها علىٰ أي حال ؛ من العبرة ، والدعاء للميت ، وأداء حقّه.

أمّا زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين فهي من القربات الأكيدة ، كما ستأتي في ذلك الأحاديث الشريفة وكلمات الأعلام من علماء المسلمين.

وفي ( شفاء السقام ) جعل الزيارة من حيث مقاصد الزائرين أربعة أقسام ، فذكر الثلاثة الأولىٰ التي استفدناها نحن من الحديث الشريف مباشرةً ، ثمَّ جعل الرابع : التبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.. وقال : مقصودنا أنّ زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة ، وقد صرّح به (١).

فضل الزيارة وعوائدها علىٰ الزائر والمَزور :

هكذا تعود الزيارة بفضائل جمّة علىٰ الفرد الزائر ، وعلىٰ المجتمع الذي تسود فيه هذه القربة ، من خلال تحقيق فرصة لا غنىٰ عنها في احياء القلوب بذكر الله تعالىٰ ، وبذكر الموت والآخرة ، وعلىٰ مستوىٰ قد لا يحققه شيء آخر إلّا نادراً.. وفي هذا المعنىٰ جاء حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما رأيت منظراً إلّا والقبر أفظع منه » (٢).

وتحقق ، من ناحية أخرىٰ ، روح احترام حقوق المؤمنين ، بعضهم لبعض ،

_________________________________

(١) شفاء السقام ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ٥٢٦ / ١٣٧٣.

٢٨

أحياءً وأمواتاً ، وأدائها. ولهذا ما لا يخفىٰ من الآثار الايجابية علىٰ الفرد والمجتمع.

ومن ناحية ثالثة فإنّ زيارة الأنبياء والأئمة والصالحين تزيد وتعمّق أواصر الارتباط بهم ، وتجدد في النفوس روح الاقتداء بهم ، وإحياء آثارهم الجليلة علىٰ الانسانية ، وأعمالهم الصالحة ، ومكارم أخلاقهم.. وقد لا ينهض أي عمل آخر بما تنهض به الزيارة من تقوية شعور الزائر بقربه من المزور ، وما يوفره ذلك من مقدمات الاقتداء التام ، وإحياء الذكر علىٰ الدوام.

ومن ناحية رابعة فإنّ تعهد أضرحة الانبياء والصالحين بالزيارة سيضمن الاعتناء بهذه الأضرحة وعمارتها ، وبالإضافة إلىٰ ما يحققه ذلك من ذكرىٰ في القلوب ، فإنّه يعد علامة واضحة علىٰ حياة الأمّة وعمق اتصالها بقادتها الذين بذلوا حياتهم في صناعة مجدها وماضيها ، وهذه من المعالم الحضارية المهمة التي تعنىٰ بها سائر الأمم.

هذا غير الثواب الجزيل الذي يعود علىٰ الزائر من زيارته التي يرعىٰ فيها السنن والآداب التي وضعها الإسلام لهذه القربة :

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « مَنْ مرَّ علىٰ المقابر فقرأ قل هو الله أحد إحدىٰ عشر مرّة ، ثمَّ وهب أجرها للأموات ، أُعطي من الأجر بعدد الأموات » (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَنْ زار قبر أبويه أو أحدهما كلَّ جمعةٍ غُفِر له » (٢).

وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنّه قال : من دخل المقابر ، فقال : « اللهم ربّ هذه الأجساد البالية ، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك

_________________________________

(١) كنز العمال / ٤٢٥٩٦ رواه الدارقطني ، إتحاف السادة المتقين ١٠ : ٣٧١.

(٢) مجمع الزوائد ٣ : ٥٩ ، كنز العمال / ٤٥٤٨٦ ، ٤٥٤٨٧.

٢٩

مؤمنة ، أدخل بها رَوحاً من عندك وسلاماً منّي » استغفر له كل مؤمن مات منذ خلق الله آدم.

وعن ابن أبي الدنيا أنّه من قال ذلك كُتب له بعدد من مات من ولد آدم إلىٰ أن تقوم الساعة حسنات (١).

هذه بإيجاز صورة عن فضائل الزيارة وعوائدها علىٰ الزائر ، وسيأتي لاحقاً حديث كثير في فضل زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الأطهار ، والتي من أبرزها نيل شفاعتهم يوم القيامة.. وأكبِر بها من عائدة.

أمّا عوائد الزيارة علىٰ الأموات فهي من أهم ما أوصت به الشريعة أداءً لحقّهم ، لما ينالهم منها من فضل وبركات. وقد تقدم حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يأمر أصحابه بزيارة قبور إخوانهم وأن يجعلوا زيارتهم دعاءً للأموات واستغفاراً لهم ، وقد كان هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل ذلك.

وفي حديث أنس بن مالك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذٍ العذاب ، ورفعه ».

وعن أنس أيضاً أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّا نتصدّق عن موتانا ، ونحجّ عنهم ، وندعو لهم ، فهل يصل ذلك إليهم ؟ فقال : « نعم ، لَيَصِل ذلك إليهم ، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه » (٢).

ومن حديث عثمان بن عفان : مرَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت ، فإنّه الآن يُسأل »

_________________________________

(١) الغدير ٥ : ٢٥٧.

(٢) أخرجها الأميني في الغدير ٥ : ٢٥٧ عن مراقي الفلاح : ١٢١.

٣٠

صحّحه الحاكم والذهبي (١).

والحديث في هذا الشأن كثير وكثير ، وهو يعطف بنا علىٰ موضوع مهم ، موضوع ليس فيه خلاف بين أهل الأديان قاطبة ، ألا وهو موضوع الحياة بعد الموت ، وما اصطلح عليه بالبرزخ.

والذي عليه اتفاق كلمة المسلمين أنّ الروح في البرزخ تعيش نصيبها من الآخرة ، إمّا في نعيم ، وإمّا في شقاء ، وذلك منذ المساءلة بعد الموت ، وحتىٰ يوم البعث والنشور.

وقد تحدّث القرآن الكريم عن حقيقة حياة الشهداء بعد موتهم ، فقال : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٢).

وقال تعالىٰ : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ) (٣).

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « ما من أحد منكم يُسلّم عليَّ إلّا ردَّ الله عليَّ روحي حتىٰ أردَّ عليه‌السلام » (٤).

وليس الأمر خاصّاً بالأنبياء والشهداء ، فالأرواح من حيث هي أرواح سواء في ما تتعرض له من أسباب البقاء ، والأخبار متواترة في تعرضها للنعيم أو الشقاء

_________________________________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ٥٢٦ / ١٣٧٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٥٤.

(٤) مسند أحمد ٢ : ٥٢٧ ، السنن الكبرىٰ للبيهقي ٥ : ٢٤٥.

٣١

بعد الموت ، تأنس إذا ذكرت بخير ، ويعود عليها ما يهدىٰ إليها من الأعمال الصالحة بالنفع والبركة ـ والحديث في هذا كثير وكثير ـ نذكر غير ما تقدّم :

ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما مِنْ رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به » (١).

ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما مِنْ أحد يمرُّ بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليها إلّا عرفه وردّ عليه‌السلام » (٢).

ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جاءه رجل فسأله : إنّ أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحجُّ عنه ؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أرأيت لو أنّ أباك ترك دَيناً عليه ، أقضيته عنه ؟ » قال : نعم. قال : « فاحجج عن أبيك » (٣).

هكذا ينتفع موتانا بدعائنا واستغفارنا لهم ، وما نهديه إليهم من ثواب الأعمال الصالحة ، ويستأنسون بالتسليم عليهم ، وبقراءة القرآن عندهم ، فما أحرىٰ أن نذكرهم بذلك كله ، ونحن المحتاجون إلىٰ مثله في غد ، ولا ندري لعله منّا قريب ، ومهما بعُد عنّا فإنّنا سائرون إليه وإنّه لبالغنا ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

_________________________________

(١) إتحاف السادة المتقين ١٠ : ٣٦٥ ، كنز العمال / ٤٢٦٠١.

(٢) إتحاف السادة المتقين ١٠ : ٣٦٥ ، الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٣٠٢.

(٣) سنن الدارقطني ٢ : ٢٦٠ ، السنن الكبرىٰ / البيهقي ٤ : ٢٥٦.

٣٢



الفصل الثاني

زيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام في الحديث الشريف

زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إذا كان في زيارة الميِّت من تجديد العهد معه والإحساس بالقرب منه ما لا يخفىٰ من الأثر ، وإذا كان في زيارة العظماء إحياءً لروح التأسِّي والاقتداء.. فإنّ ذلك كلُّه أولىٰ أن يكون مع سيِّد البشر وخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الهداة من أهل بيته الذين أمر بحبِّهم والاقتداء بهم..

وإذا كان في زيارة القبور عائدة ثوابٍ علىٰ الزائر ، فإنّها في زيارة النبي وآله أكبر وأكبر.

وفي كلِّ هذه الأبعاد جاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنهم عليهم‌السلام حديث كثير ، يعلِّمون الأمّة فيه شيئاً من آداب الإسلام ومن مفاتح أبواب الخير.

وربَّما وقع الكلام في أسانيد بعض هذه الأحاديث ، ممّا اضطرنا إلىٰ الإطالة

٣٣

نسبياً في مناقشة أسانيد وطرق ما اعتمدناه هنا ، حتىٰ إذا حقَّقنا القدر الكافي من الدلالة علىٰ صحّة الاحتجاج بهذه الأحاديث ، مِلنا إلىٰ الاختصار والتركيز.

ونبدأ هنا بما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارة قبره الشريف :

الحديث الأول :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » (١).

والكلام أولاً في سند الحديث :

قال الدارقطني : حدّثنا القاضي المحاملي ، ثنا عبيد بن محمد الوراق ، ثنا موسىٰ بن هلال العبدي ، عن عبيدالله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحديث..

وهذا الإسناد صحيح ، رجاله ثقات ، بلا خلاف ، وإنّما وقع الكلام في عبيدالله بن عمر ، وهو ثقة أيضاً ، غير أنّ بعضهم رواه عن عبدالله ، أخي عبيدالله ، وهو دون أخيه (٢) ، وبهذا تمسّك من ذهب إلىٰ تضعيف الحديث.

غير أنّ الثابت في جميع نسخ سنن الدارقطني « عبيدالله » مصغّراً ، وهكذا رواه الدارقطني في غير السنن أيضاً ، وكذلك أورده أبو اليمن زيد ابن الحسن في كتابه ( إتحاف الزائر وإطراف المقيم المسافر في زيارة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ). وهكذا

_________________________________

(١) سنن الدارقطني ٢ : ٢٧٨ / ١٩٤ ، السنن الكبرىٰ / البيهقي ٥ : ٢٤٥ ، شعب الإيمان / البيهقي ٣ : ٤٩ ، الأحكام السلطانية / الماوردي : ١٠٩ ، نيل الأوطار / الشوكاني ٥ : ١٠٨.

(٢) هو عبد الله بن عمر بن حفص ، بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، أبو عبد الرحمن العمري ، خرج مع محمد ذي النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن المثنىٰ في ثورته علىٰ المنصور ، فحبسه المنصور أخرجه عنه ، توفي سنة ١٧١ وقبل ١٧٣هـ. ويأتي الكلام في أقوال أهل الجرح والتعديل فيه لاحقاً.. تهذيب التهذيب ٥ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

٣٤

رواه أيضاً الحافظ أبو الحسين القرشي في كتابه ( الدلائل المبينة في فضائل المدينة ). وهكذا أيضاً رواه الخلعيّ عن الدارقطني ، وأورده ابن عساكر عن الخلعيّ ، كلهم يذكرون « عبيدالله » مصغّراً. فاتفقت الرواية بهذا الاسناد عن « عبيدالله » (١).

وهكذا في رواية البيهقي بإسناده الذي يلتقي مع إسناد الدارقطني في عبيد بن محمد الوراق ، وفيه « عبيدالله » المصغّر (٢).

وعبيدالله هو عبيدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، من صغار التابعين ، ولد بعد سنة ٧٠ هـ ، سمع الحديث من سالم بن عبدالله بن عمر ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، ونافع مولى عمر ، وكان ملازماً له ، وقد سئل أحمد ابن حنبل عن مالك بن أنس ، وأيوب السختياني ، وعبيدالله بن عمر ، أيّهم أثبت في نافع ؟ قال : عبيدالله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية (٣).

وقد ورد الحديث بنحو هذا اللفظ عن عبدالله بن عمر بن الخطاب من طريق آخر ، أخرجه البزار في مسنده ، قال : حدَّثنا قتيبة ، ثنا عبدالله بن إبراهيم الغفاري ، ثنا عبدالرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري حلّت له شفاعتي ».

قال الهيثمي : وفيه عبدالله بن إبراهيم الغفاري ، وهو ضعيف (٤).

والغريب من الحافظ ابن كثير وهو يتصدىٰ لجمع المسانيد والسنن أنه لا

_________________________________

(١) انظر : شفاء السقام / السبكي : ٢ ـ الطبعة الثانية / حيدر آباد الدكن ـ ١٤٠٢ / ١٩٨٢.

(٢) شعب الإيمان / البيهقي ٣ : ٤٩٠.

(٣) سير أعلام النبلاء ٦ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٤) مجمع الزوائد ٤ : ٢.

٣٥

يروي هذا الحديث في مسند ابن عمر إلّا من هذا الطريق ، طريق عبدالله بن إبراهيم الغفاري ، ويترك الطريق الذي اعتمده الدارقطني ، والآخر الذي اعتمده البيهقي (١) ، أما محقق كتاب ابن كثير ، هذا ، فلم يزد علىٰ أن أورد تعليقة الهيثمي في تضعيف الغفاري ، دون أن يذكر طريقاً آخر للحديث (٢).

وأما صاحب ( موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف ) فقد أخرج الحديث بلفظه عن سنن الدارقطني ، و ( الكنىٰ والاسماء ) للدولابي ، و ( مجمع الزوائد ) للهيثمي ، و ( تلخيص الحبير ) لابن حجر ، و ( الدر المنثور ) للسيوطي ، و ( إتحاف السادة المتقين ) للزبيدي ، و ( كنز العمال ) للمتقي الهندي ، و ( تذكرة الموضوعات ) للفتني ، و ( الدرر المُنتثرة في الأحاديث المشتهرة ) للسيوطي ، و ( الكامل في الضعفاء ) لابن عدي (٣). ولم يشر إلىٰ رواية البيهقي في ( السنن الكبرىٰ ) ولا في ( شعب الإيمان ) المؤيدة لرواية الدارقطني ، وهما من مصادر كتابه (٤).

الحديث بلفظ آخر

وقد جاء بإسناد آخر ، وبلفظ مقارب جداً للأول ، وفيه « عبيدالله » المصغر أيضاً :

قال السبكي : ورواه عن موسىٰ بن هلال جماعة ، منهم : جعفر بن محمد البزوري :

قال العقيلي في كتابه : ثنا محمد بن عبدالله الحضرمي ، ثنا جعفر بن محمد

_________________________________

(١) انظر : جامع المسانيد والسنن ٢٨ : ١٣٠ / ٢٤٤.

(٢) جامع المسانيد والسنن ٢٨ : ١٣٠.

(٣) موسوعة أطراف الحديث ٨ : ٢٨٦.

(٤) انظر : المصدر نفسه ١ : ٢١ رقم ١٤٥ و ١٤٦.

٣٦

البزوري ، ثنا موسىٰ بن هلال البصري ، عن عبيدالله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي » قال السبكي : هكذا رأيته في نسخة « عبيدالله » (١).

غير أنّ الطبعة المحقَّقة من كتاب العقيلي ( الضعفاء الكبير ) قد جاء فيها « عبدالله » مكبّراً ، دون أن يشار إلىٰ النسخة التي فيها « عبيدالله » (٢).

وقد روىٰ بعضهم هذا النصّ عن « عبدالله » ، وفيها : « محمد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحمسي ، ثنا موسىٰ بن هلال العبدي ، عن عبدالله ابن عمر » بالتكبير ، فردّه جماعة ، منهم الحافظ يحيىٰ بن علي القرشي ، وذكر أن الصواب « عبيدالله ». ومنهم : الحافظ ابن عساكر ، قال : المحفوظ عن ابن سَمُرة « عبيدالله » (٣).

ويشهد لذلك كله رواية مسلمة الجهني عن عبيدالله العمري « المصغّر » :

أخرج الطبراني عن مسلمة بن سالم الجهني : حدّثني عبيدالله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من جاءني زائراً ، لا تُعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة » (٤).

وذكره آخرون بهذا الإسناد ، منهم : يحيىٰ بن علي القرشي ، عن الخلعيّ. وصححه سعيد بن السكن (٥). وحديث مسلمة الجهني أخرجه ابن كثير وذكر فيه « عبدالله » بدل عبيدالله (٦).

_________________________________

(١) شفاء السقام : ٦.

(٢) الضعفاء الكبير ٤ : ١٧٠ ترجمة موسىٰ بن هلال ، وشفاء السقام ـ الطبعة الرابعة ( محققة ) : ٧٠.

(٣) شفاء السقام : ٨.

(٤) المعجم الكبير / الطبراني ١٢ : ٢٥٥ / ١٣١٤٩.

(٥) انظر : شفاء السقام : ١٦ ـ ٢٠ الحديث الثالث.

(٦) جامع المسانيد والسنن ٢٨ : ٢٥٩ / ٥١٣.

٣٧

وأخرجه الهيثمي أيضاً ، واكتفى في التعليق عليه بالقول : فيه مسلمة بن سالم وهو ضعيف. ومنه يظهر أنّ الذي عند الهيثمي « عبيدالله » الثقة ، ولذا اكتفىٰ بتضعيف مسلمة ولم يذكر عبدالله ، ولو كان قد وقع في إسناده لما ترك ذكره ، ولما اكتفىٰ في تضعيف الحديث بتضعيف أحد رواته دون الآخر.

وضعف مسلمة لا يقدح في كونه قد رواه عن عبيدالله ، فلم يكن مسلمة مدلساً ، ولا وضّاعاً ، غاية ما في الأمر أنه لم يتقن الحفظ ، أو نحو ذلك من أسباب التضعيف.

من كل هذا تصبح الرواية عن « عبيدالله » هي الراجحة ، وبعد هذا فإنّ الجمع بين الروايتين ممكن جداً ، فلا مانع من أن يكون بعضهم قد روىٰ الحديث عن عبدالله مرّة ، وعن عبيدالله مرّة أخرىٰ ، فهما أخوان عاشا في طبقة واحدة ، وكلاهما حدّث عن نافع ، غاية ما في الأمر أن عبيدالله أرفع درجة وأثبت في الحديث من أخيه.

ومع هذا فلم يكن « عبدالله » عندهم ساقط الحديث أو متروكاً ، بل فيهم من مدحه وأثنىٰ عليه :

فقد قال فيه أحمد بن حنبل : صالح. وقال أبو حاتم : رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه.

وقال ابن عدي : لا بأس به ، صدوق. وقال يحيىٰ بن معين : ليس به بأس ، يكتب حديثه ، وقال : إنه في نافع صالح.

وفي القول الاَخير تزكية خاصة لأحاديثه عن نافع ، وهذا الحديث منها.

وقال ابن عمّار الموصلي : لم يزكِّه أحد إلّا يحيىٰ بن سعيد.. وقال أحمد بن يونس : لو رأيت هيأته لعرفت أنّه ثقة.. وقال الخليلي : ثقة ، غير أنّ الحفّاظ لم يرضوا

٣٨

حفظه ، وقول ابن معين فيه إنّه صُويلح ، إنّما حكاه عن إسحاق الكوسج ، وأمّا عثمان الدارمي فقال عن ابن معين : صالح ثقة.

وقال ابن حبان : كان ممن غلب عليه الصلاح حتىٰ غلب علىٰ ضبط الأخبار والحفظ للآثار ، تقع المناكير في روايته ، فلما فحش خطؤه استحق الترك (١).

وهذا غاية ما قيل فيه من التضعيف ، غير أنه معارض بما سبق أولاً ، وبالخصوص في أحاديثه عن نافع ، ومرودود ثانياً بإخراج مسلم له مقروناً بغيره ، في المتابعات (٢) ، كما أخرج حديثه أصحاب السنن الأربعة. وقد أورد له ابن أبي شيبة في مسنده حديثاً ، فقال : هذا حديث حسن الإسناد (٣).

وعلىٰ هذا فالحديث في درجة الصحيح ، وإذا انحصرت روايته في « عبدالله » وحده فهو حديث حسن ، لا ينزل عن هذه الدرجة ، والعمل بالحديث الحسن مما لا خلاف فيه.

ويشهد لذلك أيضاً ما نقله السبكي عن عبدالحق (٤) ، قال : رواه عبدالحق رحمه الله في « الأحكام الوسطىٰ والصغرىٰ » وسكت عنه ، وقد قال في خطبة « الأحكام الصغرىٰ » إنه تخيرها صحيحة الإسناد ، معروفة عند النقاد ، قد نقلها الأثبات ، وتداولها الثقات.

وقال في خطبة « الوسطىٰ » وهي المشهورة اليوم بـ « الكبرىٰ » : إن سكوته عن

_________________________________

(١) تهذيب التهذيب ، ٥ : ٢٨٥ / ٥٦٤.

(٢) شفاء السقام : ٩.

(٣) تهذيب التهذيب ٥ : ٢٨٥ / ٥٦٤.

(٤) وهو عبدالحق بن عبدالرحمن الأندلسي الإشبيلي ، ابن الخرّاط. وصفه الذهبي بالإمام الحافظ البارع المجوّد العلّامة ، كان فقيهاً حافظاً ، عالماً بالحديث وعِلله ، عارفاً بالرجال. له مصنّفات متقنة في الأحكام والحديث وغيرها. توفي سنة ٥٨٠هـ ( سير أعلام النبلاء ٢١ : ١٨٩ ـ ١٩٩ ).

٣٩

الحديث دليل علىٰ صحته (١).

تلخّص لدينا من هذا البحث أربعة أحاديث يقوّي بعضها بعضاً ، وهي :

١ ـ « من زار قبري وجبت له شفاعتي » وهو حديث صحيح ، أو حسن.

٢ ـ « من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي ».

٣ ـ « من جاءني زائراً ، لا تُعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ».

والأحاديث الثلاثة مروية عن « عبيدالله » المصغّر بطرق عديدة ، ومثلها عن « عبدالله ».

٤ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زار قبري حلّت له شفاعتي » وهو المحفوظ من رواية عبدالله بن إبراهيم الغفاري.

وفي الباب حديث خامس عن ابن عمر أيضاً ، رواه الدارقطني في سننه وفي « العلل » ، وأحمد في مسنده :

٥ ـ عن جعفر بن محمد الواسطي ، ثنا موسىٰ بن هارون ، ثنا محمد بن حسن الختلي ، ثنا عبدالرحمن بن المبارك ، ثنا عون بن موسىٰ ، عن أيّوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زارني إلىٰ المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً » (٢).

وقال موسىٰ بن هارون ، وهو الرجل الثاني في سند الحديث : ورواه إبراهيم

_________________________________

(١) شفاء السقام : ١٠ ـ ١١.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٧٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٢٨٧ / ١٩٤ ، وشفاء السقام : ٢٩ عن « العلل » للدارقطني.

٤٠