الزيارة والتوسّل

الدكتور صائب عبد الحميد

الزيارة والتوسّل

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-238-5
الصفحات: ١٦٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك » (١).

فهو عليه‌السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه ، وينحّي كل وسيلة ، رغم إمكان الاستشفاع والتوسل ، كما هو واضح في قوله : « ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من وظائف فروضك » فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدّم طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرّط في أداء شيء من وظائف الفروض.

إنّه يجعل الله تعالىٰ هو شفيعه وهو وسيلته إلىٰ القرب منه ونيل رضاه.

ـ ومن دعائه عليه‌السلام : « وأشبه الأشياء بمشيّتك ، وأولىٰ الأمور بك في عظمتك ، رحمة من استرحمك ، وغوث من استغاث بك » (٢).

ـ وله عليه‌السلام أيضاً : « وياغوثَ كل مخذول فريد ، ويا عضد كل محتاج طريد » (٣).

ـ وقوله عليه‌السلام أيضاً : « وبك استغاثتي إن كَرِثْتُ » (٤).

ـ وقوله عليه‌السلام : « واستجير بك اليوم من سخطك ، فصلِّ علىٰ محمّدٍ وآله وأجرني » (٥).

ـ وقوله الذي يحقّق هذه المعاني كلها : « فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك ، واثقاً بسرعة إجابتك ، عالماً أنّه لا يُضطَهَدُ من آوى إلىٰ ظلِّ كنفِك ، ولا يفزع من لجأ إلىٰ معقِل انتصارك » (٦).

_________________________________

(١) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٣٢.

(٢) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٠.

(٣) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٦.

(٤) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٢٠.

(٥) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٨.

(٦) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٩.

١٢١

٢) التوسُّل بأسماء الله الحسنىٰ وصفاته جلّ جلاله

قال تعالىٰ : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (١).

وهو أمر صريح بدعاء الله تعالىٰ بأسمائه الحسنىٰ ، وغالباً ما يأتي الدعاء بالأسماء الحسنىٰ علىٰ صيغة التوسُّل والاستغاثة ، وهو إذ يؤكّد أنّ الدعاء هو توسُّل واستغاثة بالله تعالىٰ إليه ولنيل المطلوب لديه ، يضيف أُسلوباً جديداً من أساليب التوسُّل والاستغاثة.. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لله تسعة وتسعون اسماً ، من دعا الله بها استجيب له » (٢).

ـ وقد جاء في دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا حيُّ يا قيّوم ، برحمتك أستغيث ».

ـ وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم ابنته فاطمة عليها‌السلام أن تقول : « يا حي يا قيّوم ، يا بديع السماوات والاَرض ، لا إله إلّا أنت ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كلَّه ، ولا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين ، ولا إلىٰ أحدٍ من خلقك » (٣).

ـ ومن حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أصاب عبداً قطّ همٌّ ولا حزن ، فقال : اللهم إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ في حكمك ، عدل في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني وذهاب همّي وغمّي؛ إلّا أذهب الله

_________________________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٠.

(٢) الشيخ الصدوق / التوحيد : ١٩٥ / ٩.

(٣) أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور : ٤٧ ـ ٤٨.

١٢٢

همّه وغمّه ، وأبدله مكانه فرحاً ».

قالوا : يا رسول الله ، أفلا نتعلّمها ؟ يريدون هذه الكلمات.

قال : « ينبغي لمن سمعها أن يتعلّمها » (١).

ـ وأخرج الترمذي من حديث بريدة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع رجلاً يقول : ( اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلّا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سُئل به أعطىٰ » (٢).

ـ وأخرج الترمذي أيضاً من حديث أنس بن مالك أنّه كان جالساً مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجل يصلّي ، فدعا الرجل : ( اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنّان ، بديع السماوات والاَرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حيّ يا قيّوم ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تدرون بمَ دعا الله ؟ دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطىٰ » (٣).

ـ ومن حديث محجم بن الادرع ، أخرجه الحاكم : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد ، فإذا هو برجل قد صلّىٰ صلاته وهو يتشهَّد ويقول : اللَّهم إنِّي أسألك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، أن تغفر لي ذنوبي ، إنَّك أنت الغفور الرحيم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد غُفر له ، قد غُفر ، قد غُفر له » قال الحاكم : صحيح علىٰ شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي (٤).

_________________________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٩١ ، وابن تيمية / المصدر السابق : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) الجامع الصحيح للترمذي ٥ : ٥١٥ / ٣٤٧٥.

(٣) المصدر السابق / ٣٥٤٤.

(٤) المستدرك ١ : ٤٠٠ / ٩٨٥.

١٢٣

والحديث في مثل هذا وأشباهه كثير جداً.

وفي الدعاء النبوي الشريف : « اللَّهم إنِّي أسألك باسمك الأعظم » (١) ، « اللَّهم إنِّي أسألك باسمك المخزون المكنون » (٢) ، « اللَّهم إنِّي أسألك بأسمائك الحسنىٰ » (٣).

ـ وفي دعاء الإمام السجّاد عليه‌السلام : « فأسألك اللَّهم بالمخزون من أسمائك » (٤).

ـ وفي دعاء الإمام الباقر عليه‌السلام : « اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم ، الأعزّ الأجل الأكرم ، الذي إذا دُعيت به علىٰ مغاليق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت ، وإذا دُعيت به علىٰ مضايق أبواب الاَرض للفرج انفرجت... » الدعاء (٥).

والتوسُّل بأسماء الله الحسنىٰ كثير جدّاً في الدعاء المأثور ، وعليه إجماع المسلمين ، لا يخالف فيه أحد.

ـ ومن صريح التوسُّل بصفاته : دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون » (٦).

ـ ودعاؤه أيضاً : « اللهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وآله ، وشفّع في خطاياي كرمك.. اللهم ولا شفيع لي إليك فليشفع لي فضلك » (٧).

_________________________________

(١) كنز العمال / ٣٢١٧ و ٣٨٧٧.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٩.

(٣) كنز العمال / ٣٧٨٢.

(٤) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٥٠.

(٥) مصباح المتهجّد / للشيخ الطوسي : ٣٧٤.

(٦) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٦.

(٧) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٣١.

١٢٤

ـ وفي الدعاء النبوي الشريف : « اللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك » (١).

« اللهم إنّي أعوذ بنور وجهك الكريم وكلماتك التامّة » (٢).

٣) التوسُّل بالثناء علىٰ الله والصلاة علىٰ النبيِّ وآله :

وهو أن يستفتح الداعي دعاءه بحمد الله تعالىٰ بما هو أهل له من الحمد ، والثناء عليه ، وأن يصلّي علىٰ النبي محمّدٍ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ذلك أقرب في استجابة الدعاء ونيل المطلوب.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربِّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتىٰ يبدأ بالثناء علىٰ الله عزّ وجلّ والمدح له ، والصلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ يسأل الله حاجته » (٣).

وقال : « إنّ العبد لتكون له الحاجة إلىٰ الله تعالىٰ فيبدأ بالثناء علىٰ الله والصلاة علىٰ محمّد وآله حتىٰ ينسىٰ حاجته ، فيقضيها من غير أن يسأله إيّاها » (٤).

وفي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « لا يزال الدعاء محجوباً حتىٰ يُصلّىٰ عليَّ وعلىٰ أهل بيتي » (٥).

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام : « كلُّ دعاءٍ محجوب حتىٰ يُصلّىٰ علىٰ محمد وآل

_________________________________

(١) مسند أحمد ١ : ٩٦ ، ٦ : ٢٠١.

(٢) سنن أبي داود / ٥٠٥٢.

(٣) الكافي ٢ : ٣٥١ / ١.

(٤) بحار الأنوار ٩٣ : ٣١٢.

(٥) كفاية الأثر : ٢٩.

١٢٥

محمّد » (١).

من هنا تجد الحمد لله والثناء عليه والصلاة علىٰ النبي وآله تتصدّر الكثير من الأدعية المأثورة ، ولعلّ أوضح ما تكتشف فيه هذه الظاهرة هي أدعية الإمام السجّاد عليه‌السلام في الصحيفة السجّادية التي تكاد كلّها تستهل بالحمد والصلاة ، بل إنّ الصلاة علىٰ النبي وآله تتصدّر الغالبية العظمىٰ في فقراتها.

ومن صريح دعائه متوسّلا بالصلاة ، قوله عليه‌السلام : « وصلِّ علىٰ محمّدٍ وآله صلاةً دائمةً ناميةً ، لا انقطاع لأبدها ، ولا منتهىٰ لأمدها ، واجعل ذلك عوناً لي ، وسبباً لنجاح طلبتي ، إنّك واسع كريم » (٢).

٤) التوسُّل بالقرآن الكريم

كما ورد سؤال الله تعالىٰ بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ورد أيضاً سؤاله جلّ شأنه بالقرآن الكريم ، وهو كتابه المنزل وكلامه المحكم.

عن عمران بن الحصين : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « اقرأوا القرآن ، واسألوا الله تبارك وتعالىٰ به ، قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس » (٣).

فكما يفيده عموم اللفظ من إرادة القربة ونيل الثواب والمنزلة بقراءة القرآن ، فإنّه يفيد أيضاً جواز سؤال الله تعالىٰ به ، وتقديمه بين يدي الدعاء.

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام ما يبيِّن ذلك ، قال عليه‌السلام : « واعلموا أنّ هذا القرآن هو

_________________________________

(١) مجمع الزوائد ١٠ : ١٦٠ وقال : رواه الطبراني في ( الأوسط ) ورجاله ثقات.

(٢) الصحيفة السجّادية / الدعاء ١٣.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٤٤٥.

١٢٦

الناصح الذي لا يغشّ... فاسألوا الله به ، وتوجّهوا إليه بحبِّه ، ولا تسألوا به خلقه ، إنّه ما توجّه العباد إلىٰ الله تعالىٰ بمثله » (١).

وفي دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « واجعل القرآن وسيلةً لنا أشرف منازل الكرامة...

« اللهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وآل محمّدٍ واحطط بالقرآن عنّا ثقل الأوزار...

« وهوّن بالقرآن عند الموت علىٰ أنفسنا كرب السياق وجهد الأنين.. » (٢).

وفي حديث أهل البيت عليهم‌السلام : « اللهم إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنىٰ ، وما يخاف ويرجىٰ ، أن تجعلني من عتقائك من النار » (٣).

وممّا لا نزاع فيه أنّ القرآن يشفع لصاحبه يوم القيامة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تعلّموا القرآن فإنّه شافع يوم القيامة » (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة » (٥).

وفي حديث الإمام علي عليه‌السلام في القرآن ، وقد تقدّم طرف منه ، يقول : « واعلموا أنّه شافعٌ مشفَّع ، وقائلٌ مصدَّق ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه » (٦).

_________________________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦ ، ص٢٦٠ ـ تحقيق صبحي الصالح.

(٢) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٢.

(٣) الإقبال / لابن طاووس : ٤١.

(٤) مسند أحمد / ٢٢٢١٩.

(٥) مسند أحمد / ٦٦٣٧.

(٦) نهج البلاغة / الخطبة ١٧٦.

١٢٧

٥ ) التوسُّل بالأيّام المباركة

الأيام التي جعل الله تعالىٰ لها شأناً خاصّاً هي الأُخرىٰ باب من أبواب التوسُّل والاستشفاع.

فقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام في شهر رمضان المبارك : « اللهم إنّي أسألك بحقِّ هذا الشهر » (١).

٦) التوسُّل بالأعمال الصالحة

إذا كان المراد بقوله تعالىٰ : ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) هو إتيان الطاعات المقرِّبة إلىٰ الله تعالىٰ ، كما تقدّم عن المفسّرين ، فالطاعات إذن هي الوسيلة إليه تعالىٰ هنا ، وبها يتوسَّل العبد لنيل القربة والمنزلة عند بارئه.

ولم يقتصر التوسُّل بالأعمال الصالحة علىٰ أدائها فقط ، بل تضمّن أيضاً التوسُّل بها إلىٰ الله تعالىٰ بالدعاء رجاءً لنيل المطلوب ، من كشف الغم والهم ، أو رفع الدرجة ، ونيل الرضوان.

وهذا المعنىٰ منطوٍ في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام بعد أن بنيا البيت العتيق ، إذ قدَّما عملهما المبارك بين يدي الدعاءِ ، قال تعالىٰ : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (٢).

_________________________________

(١) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٤ ، وله تتمة تأتي في محلِّها.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨.

١٢٨

وروىٰ البخاري وغيره حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصُّ علىٰ أصحابه قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار ، فتوسّلوا بأعمالهم الصالحات ففرج عنهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم المطر ، فآووا إلىٰ غار ، فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلّا الصدق ، فليدعُ كلّ رجلٍ منكم بما يعلم أنّه صدق فيه.

فقال واحد منهم : اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي علىٰ فِرْقٍ (١) من أرز ، فذهب وتركه ، وإنّي عمدتُ إلىٰ ذلك الفِرْق فزرعته ، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً ، وأنّه أتاني يطلب أجره ، فقلت : اعمد إلىٰ تلك البقر فَسُقها ، فقال لي : إنّما لي عندك فِرْق من أرُز! فقلت له : اعمد إلىٰ تلك البقر ، فإنّها من ذلك الفِرْق.. فساقها.. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ، ففرّج عنّا... فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران ، فكنت آتيهما كلَّ ليلةٍ بلبن غنم لي ، فأبطأتُ عنهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون (٢) من الجوع فكنت لا أسقيهم حتىٰ يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن أدعهما ، فلم أزل أنتظر حتىٰ طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا.. فانساحت عنهم الصخرة حتىٰ نظروا إلىٰ السماء.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبِّ الناس إليَّ ،

_________________________________

(١) الفِرْق : القسم من الشيء إذا انفصل عنه.

(٢) أي يتصايحون من الجوع.

١٢٩

وأنّي راودتها عن نفسها ، فأبت ، إلّا أن آتيها بمئة دينار ، فطلبتها حتىٰ قدرت ، فأتيتها بها ، فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها ، فلمّا قعت بين رجليها قالت : اتقِ الله ، ولا تفضّ الخاتم إلّا بحقِّه ! فقمت وتركت المئة دينار.. فإن كنت تعلم انّي فعلت ذلك من خشيتك ، ففرّج عنّا... ففرّج الله عنهم فخرجوا » (١).

ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بهذا الحديث أن يمتّع أصحابه بقصةٍ من قصص الغابرين ، إنّما كان يريد ما فيها من دروس وعبر ، فهي بعد ما تتركه من أثر وثيق في شحذ الأرواح وزيادة اليقين ، تؤدّي دور التعليم لواحد من سبل الخلاص من الشدائد ، ألا وهو التوسُّل بالأعمال الصالحات.

وفي بعض التفاسير أنّ المراد بأصحاب الرقيم في قوله تعالىٰ : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) (٢) هم هؤلاء النفر الثلاثة.

قال الطبرسي ، في ذكر الوجوه الواردة في معنىٰ الرقيم : وقيل أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار ، فانسدّ عليهم ، فقالوا : ليدعُ الله تعالىٰ كل واحد منّا بعمله حتىٰ يفرّج الله عنّا ، ففعلوا ، فنجّاهم الله. قال : رواء النعمان بن بشير ، مرفوعاً (٣).

ـ وفي هذا الباب أيضاً التوسُّل بالكشف عن الاعتقاد المرضي عند الله جلّ شأنه ، كالذي يستفاد من قوله تعالىٰ : ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) (٤). فقدّموا الإيمان وسيلةً بين يدي دعائهم.

_________________________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٧٣ ـ كتاب الأنبياء ، الباب ٥٣.

(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٩.

(٣) مجمع البيان ٦ : ٦٩٧ ـ ٦٩٨.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٦.

١٣٠

وفي ذلك من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام شيء كثير :

ـ ففي دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « اللهم إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الأحد.. » (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهم أنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك الله لا إله إلّا أنت » (٢).

ـ وفي دعاء الإمام زين العابدين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ووسيلتي إليك التوحيد ، وذريعتي أنّي لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذ معك إلهاً » (٣).

٧) التوسُّل بدعاء الغير

للمؤمن عند الله تعالىٰ كرامة.. من هنا جعل الله للمؤمن شفاعةً في إخوانه وذويه من المؤمنين يوم القيامة ، بل في الدنيا أيضاً ، ففي الحديث الشريف : « قد أَجَرْنا مَنْ أجَرْتِ أُمَّ هانئ » (٤) لمّا استجار بها قوم من المشركين يوم الفتح ، والجوار معروف في الإسلام ومحفوظ.

ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن في الغيب من الدعوات المجابة ، ومن الدعوات التي يستحب للمؤمن فعلها.

ففي الحديث الشريف : « إنّ دعوة المسلم مستجابة لاَخيه بظهر الغيب » (٥).

_________________________________

(١) سنن الترمذي / ٣٤٧٥.

(٢) الترغيب والترهيب / للمنذري ٢ : ٤٨٥.

(٣) الصحيفة السجّادية / الدعاء ٤٩.

(٤) أخرجه مالك في ( الموطأ ) والبخاري ومسلم في الصحيحين ، أنظر : سير أعلام النبلاء ٢ : ٣١٣ ، ٤ : ٤٢٠.

(٥) مسند أحمد ٥ : ١٩٥.

١٣١

بل قد جاء في الحديث الشريف الحثُّ علىٰ التوسُّل بدعاء بعض المؤمنين بأعيانهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ رجلاً من أهل اليمن يقدم عليكم.. يقال له أُوَيس ، فمن لقيه منكم فليأمره فليستغفر لكم » (١).

وقصة عمر بن الخطاب في طلب أُوَيس القرني والتماس دعوته مشهورة (٢).

في ترجمة أُوَيس ، قال الذهبي بعد أن ذكر عدّة أحاديث في التماس عمر دعاءه ، قال : نادىٰ عمر بمنىً علىٰ المنبر : يا أهل قَرَن.. فقام مشايخ ، فقال لهم عمر : أفيكم من اسمه أُوَيس ؟

فقال شيخ : يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار ، لا يألَف ، ولا يؤلَف.

قال : ذاك الذي أعنيه ، فإذا عدتم فاطلبوه ، وبلّغوه سلامي وسلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فقال أُوَيس ـ لمّا بلغه ذلك ـ : عَرَّفني ، وشهَّر باسمي ؟! اللّهم صلِّ علىٰ محمّدٍ وعلىٰ آله ، السلام علىٰ رسول الله ، ثم هام علىٰ وجهه ، فلم يُوقَف له بعد ذلك علىٰ أثر دهراً ، ثمَّ عاد في أيّام علي عليه‌السلام ، فاستشهد معه بصفّين ، فنظروا فإذا عليه نيّف وأربعون جراحة (٣).

وكل هذا صريح في التوسُّل بدعاء المؤمن ، فهو مرتبة من مراتب التوسُّل.

وأشرف المؤمنين علىٰ الإطلاق هو سيد البشر أجمعين محمّد المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمر الله تعالىٰ بالتماس دعوته وإتيانه لطلب دعائه

_________________________________

(١) صحيح مسلم / ٢٥٤٢.

(٢) انظر : سير أعلام النبلاء ٤ : ٢٠ ـ ٣٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ٤ : ٣٢ ، تاريخ الإسلام ٢ : ١٧٤ ، ١٧٥.

١٣٢

واستغفاره.

قال تعالىٰ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (١).

وقال تعالىٰ : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) (٢).

والتوسُّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشهور بين الصحابة.

قال ابن تيمية : وذلك التوسُّل به أنّهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم ، فيدعو لهم ، ويدعون معه ، ويتوسّلون بشفاعته ودعائه ، كما في الصحيح عن أنس بن مالك : أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً ، فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادعُ الله لنا أن يُمسكها عنّا.

فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه ، ثمَّ قال : « اللّهم حوالينا ولا علينا ، اللّهم علىٰ الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر » ، قال ، وأقلعت ، فخرجنا نمشي في الشمس (٣).

ذلك كان بعد أن سألوه الاستسقاء ، فاستسقىٰ لهم ، فسقاهم الله مطراً غزيراً.. روىٰ البخاري ومسلم : أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً ، فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال

_________________________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٦٤.

(٢) سورة المنافقون : ٦٣ / ٥.

(٣) زيارة القبور : ٤١ ـ ٤٢.

١٣٣

وانقطعت السبل ، فادعُ لنا الله تعالىٰ يغيثنا ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه ثمَّ قال : « اللّهم أغثنا ، اللّهم أغثنا » ، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلمّا توسّطت السماء انتشرت ، ثمَّ أمطرت ، قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً (١). أي أسبوعاً كاملاً.

وفي سنن أبي داود ، عن جبير بن مطعم ، قال : أتىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرابي ، فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام ، فاستسق لنا ، فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ، ونستشفع بالله عليك.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ويحك ، أتدري ما تقول ؟! إنّه لا يُستشفع بالله علىٰ أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك » (٢).

فقد أنكر عليه قوله « نستشفع بالله عليك » ولم ينكر عليه قوله « نستشفع بك علىٰ الله ».

وفي دلائل النبوة للبيهقي ، عن أنس بن مالك : جاء أعرابي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا من صبي يصطبح ، ولا بعير ينطّ ، وأنشد :

أتـيتك والعــذراء تدمي لبانـها

وقد شُغـلِت أمُّ الصبيِّ عن الطفلِ

وألقـى بكفّيه الفـتىٰ لاستــكانةٍ

من الجوع هوناً ما يمرُّ ولا يحـلي

ولا شيء مـمّا يأكل الناس عندنا

سوىٰ الحنظل العامي والعَلْهَز الفسلِ

ولـيــس لنـا إلّا إليـك فرارنا

وأين فرار الناس إلّا إلىٰ الرســلِ

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجرُّ رداءه حتىٰ صعد المنبر ، فرفع يديه ، ثمَّ قال : « اللّهم

_________________________________

(١) صحيح البخاري / كتاب الإستسقاء ، باب ٦٤٣ ، صحيح مسلم / كتاب صلاة الإستسقاء.

(٢) سنن أبي داود ٤ : ٢٣٢ ـ كتاب السنّة.

١٣٤

اسقنا.. » وذكر الدعاء ، ثمَّ قال فما ردَّ النبي يده حتىٰ ألقت السماء بأرواقها ، وجاء أهل البطانة يضجّون : الغرق الغرق ! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حوالينا ولا علينا » فانجاب السحاب عن المدينة حتىٰ أحدق بها كالأكليل ، وضحك النبي حتىٰ بدت نواجذه ، ثمَّ قال : « لله درُّ أبي طالب ، لو كان حيّاً قرَّت عيناه ، مَن يُنشِدنا قوله ؟ » فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « يا رسول الله كأنّك تريد قوله :

وأبيضُ يُستسقىٰ الغَمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ

يطوف به الهُلّاك من آل هاشمٍ

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

كذبتم وبيت الله نُبزىٰ محمّداً

ولمّـا نُـطاعِن دونه ونُناضِلِ

ونُسْلِمَهُ حتىٰ نُـصرَّع دونه

ونـذهل عـن أبـنائنا والحلائلِ

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أجل » فقام رجل من كنانة ، رضي الله تعالىٰ عنه ، فقال :

لك الحمد والحمد ممّن شكر

سقينا بوجه النبيِّ المطر

إلى قوله :

فكان كما قال عمُّه

أبو طالبٍ أبيض ذو غرر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن يك شاعرٌ أحسن فقد أحسنت » (١).

وقال ابن تيمية : وفي الصحيح أنّ عبدالله بن عمر قال : إنّي لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول :

وأبيض يُستسقىٰ الغمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ(٢)

_________________________________

(١) دلائل النبوة ٦ : ١٤٠ ـ ١٤٢ ، شفاء السقام : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) زيارة القبور : ٤٢.

١٣٥

وهذا ممّا لا خلاف فيه.

٨) التوسُّل بالأنبياء والصالحين

وفي هذا القسم من التوسُّل أقسام ، هي :

أ ـ التوسُّل بدعائهم في حياتهم ؛ وقد تقدّم في الفقرة السابقة.

ب ـ التوسُّل بهم في حياتهم.

ج ـ التوسُّل بهم وبدعائهم بعد موتهم.

والقسمان الأخيران ( ب ، ج ) ممّا وقع فيه الكلام الذي يستدعي مزيداً من النقد والمطارحة ، لذا فقد أفردنا له الفصل الآتي ، مستوعبين خلاله الشبهات المثارة حول هذين القسمين من التوسُّل وردودها.

١٣٦



الفصل الثاني

التوسُّل بالأنبياء والصالحين

تقدّم أنّ هذا القسم من التوسُّل ينقسم إلىٰ ثلاثة أقسام ، كما تقدّم بحث القسم الأول منه وهو التوسُّل بدعائهم في حياتهم ،ويتكفّل هذا الفصل بحث القسمين الآخرين :

القسم الأول : التوسُّل بالأنبياء والصالحين في حياتهم

المراد هنا التوسُّل بالأنبياء والصالحين بأنفسهم وذواتهم ، لما لهم عند الله من شأن ومنزلة ، وأمثلته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته كثيرة.

ـ فقد تقدّم قول الأعرابي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ، ونستشفع بالله عليك ) وردَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه قوله الأخير ( نستشفع بالله عليك ) مقرّاً قوله الأول ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ). وهو صريح في جواز الاستشفاع بالنبي نفسه إلىٰ الله تعالىٰ ، لمنزلته الشريفة عنده ومقامه المحمود لديه.

ـ كما تقدّم ذكر أبيات أبي طالب في الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وليس

١٣٧

بدعائه وحسب ، وإقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الاَبيات واستبشاره بها.

ـ وفي الصحيح الثابت أيضاً توسُّل الأعمى بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعاء علَّمه إيّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه..

عن عثمان بن حنيف : إنّ رجلاً ضريراً أتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ادعُ الله أن يعافيني.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن شئت دعوتُ ، وإن شئت صبرتَ ، وهو خير لك ».

قال : فادعه.

إلىٰ هنا يظهر من الحديث أنّ الرجل كان يتوسَّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، غير أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سينقله إلىٰ أُسلوب آخر من أساليب التوسُّل ، فبدلاً من أن يدعو له بالشفاء ، علَّمه دعاءً يدعو به صاحب الحاجة نفسه..

يقول الحديث : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتِ الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ صلِّ ركعتين ، ثمّ قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمة ، يا محمد ، إنّي أتوجَّه بك إلىٰ ربِّي فيجلِّي لي عن بصري ، اللّهم فشفِّعه فيَّ ».

قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرَّقنا ، وما طال بنا الحديث حتىٰ دخل علينا الرجل كأنَّه لم يكن به ضرٌّ قط (١).

ابن تيمية روىٰ هذا الخبر عن البيهقي ، ثمَّ قال :

( قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد ، عن أبيه ، بطوله. ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر ، عن أبي أمامة بن سهل ، عن عمِّه عثمان بن

_________________________________

(١) مسند أحمد ٤ : ١٣٨. الجامع الصحيح للترمذي ح / ٣٥٧٨ ـ كتاب الدعوات ، سنن ابن ماجة ح / ١٣٨٥.

١٣٨

حنيف ). ثمَّ واصل ابن تيمية قائلاً : ( قلتُ : وقد رواه ابن السُنّي في كتاب عمل اليوم والليلة ، من طريقين ، وشبيب هذا صدوق روىٰ له البخاري ) (١).

وقال أيضاً : ( وقد روىٰ الطبراني هذا الحديث في المعجم ) ثمَّ ذكر الحديث بطوله بإسناد آخر إلىٰ أن قال : ( قال الطبراني : روىٰ هذا الحديث شعبة ، عن أبي جعفر ـ واسمه عُمير بن يزيد ـ وهو ثقة ، تفرَّد به عثمان بن عمير عن شعبة ، قال أبو عبدالله المقدسي : والحديث صحيح ). قال : ( قلتُ : والطبراني ذكر تفرُّده بمبلغ علمه ، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة ، وذلك إسناد صحيح يبيِّن أنّه لم ينفرد به عثمان بن عمير ) (٢).

لكنّه مع هذا كلّه ، ومع وضوح النص النبوي ، يقول : فهذا طلبَ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره أن يسأل الله أن يقبل شفاعة النبي له في توجّهه بنبيِّه إلىٰ الله ، وهو كتوسُّل غيره من الصحابة به إلىٰ الله ، فإنّ هذا التوجّه والتوسُّل هو توجّه وتوسُّل بدعائه وشفاعته ! (٣).

ويستنتج من ذلك وأمثاله ممّا تقدّم ذكره أنّ الصحابة كانوا يطلبون من النبي الدعاء ، وهذا مشروع في الحيّ (٤).

وفي هذا مصادرة علىٰ الحقيقة غير خافية ، ففرق كبير بين أن يطلب أحد الدعاء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيدعو له ، وبين أن يطلب منه الدعاء ، فيعلّمه أن يدعوا بنفسه ويتوسَّل في دعائه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيلةً وشفيعاً. ففي الأول يتولَّىٰ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_________________________________

(١) التوسُّل والوسيلة : ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٣.

(٢) التوسُّل والوسيلة : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٣) التوسُّل والوسيلة : ٩٢ ، وكتاب الزيارة / لابن تيمية أيضاً : ٤٧ ـ المسألة الرابعة.

(٤) التوسُّل والوسيلة : ٢٠ ، كتاب الزيارة : ٨٦ ـ المسألة السابعة.

١٣٩

الدعاء للسائل الذي توسَّل بدعائه له ، وهو مرتبة من مراتب التوسُّل ، وفي الثاني يتولَّىٰ المرء نفسه الدعاء متوسِّلاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

والأمر واضح ، لاسيما وفي الحديث عبارة صريحة تقول : « يا محمّد يا رسول الله ، إنّي أتوجّه بك إلىٰ ربِّي في حاجتي ».

فهو توجّه صريح بمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، وتوسل به نفسه إلىٰ الله تعالىٰ ، ولا يؤثر علىٰ هذا المعنى ما جاء بعده من قوله « اللّهم فشفّعه فيَّ » لأنّ هذه هي غاية التوسُّل والتوجُّه والاستشفاع ، سواء كان توسُّلاً بالدعاء ، أو كان توسُّلاً بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما أنّ قول الأعرابي المتقدّم الذكر ( ادعُ لنا ) الذي يفيد التوسُّل بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلغي دلالة قوله : ( فإنّا نستشفع بك علىٰ الله ) بعد إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا القول الذي هو صريح بالتوسُّل بذاته الشريفة.

ومثله في صراحة التوسُّل بذاته الشريفة قول أبي طالب الذي استبشر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وأبيض يستسقىٰ الغمام بوجهه

ثمالُ اليتامىٰ عصمةٌ للأراملِ

ومثل هذا في الدعاء كثير ، نكتفي منه بما أثبته ابن تيمية نفسه من حديث ابن ماجة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ذكر في دعاء الخارج للصلاة ، أن يقول : « اللّهم إنِّي أسألك بحقِّ السائلين عليك ، وبحقِّ ممشاي هذا ، فإنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا رياءً ولا سمعةً ، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت ».

ثمّ نقل بعض أهل العلم أنّهم قالوا : ففي هذا الحديث أنّه سأل بحقِّ السائلين عليه

١٤٠