الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-116-8
الصفحات: ١٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يقول : « أنفذوا بعث أُسامة » ويكرّر ذلك (١).

ولقد كان اعتراضهم على إمرته ثم اعتذارهم عن الخروج معه بمرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محاولةً منهم للتغطية على المرض الكامن في قلوبهم !!

إتهام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر :

عند قرب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب للصحابة كتاباً يرسم لهم منهجاً لحياتهم كي لا يضلّوا من بعده ، حيثُ ربط صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الكتاب وبين عدم الضلالة ، وهذا يعني إنّ كتابة الكتاب من أهم وصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أساسيات القضايا التي يجب مراعاتها بعد وفاته ، وبدلاً من الاستجابة له ، والعمل على طبق وصيته للوصول إلى تمام الهداية والرشاد ، والحيلولة دون الضلال عصوا أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكتفوا بالعصيان بل اتهموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر كما تنص الرواية أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ائتوني بكتابٍ أكتب كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً » ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ( هجر رسول الله ) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه » (٢).

وفي رواية : قالوا : ما شأنه ؟ أهجر ! إستفهموه ، فذهبوا ( يعيدون عليه ) القول (٣).

وذكر المؤرخون في روايات أُخرى اسم عمر بن الخطاب ، وأنّه هو

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ : ١٦٠.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٨٥. وصحيح مسلم ٣ : ١٢٥٨. وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٣. والكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٠. وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٢٩.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣. وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٢٩. والكامل في التاريخ ٣ : ٣٢٠.

٨١

الرادّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ويرى ابن أبي الحديد أنّ الحديث المذكور : ( اتفق المحدِّثون كافة على روايته ) (٢).

ويفهم من الروايات أنَّ الذين اتهموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر وجهاً لوجه أو الذين أيدوا قول عمر بن الخطّاب هم من كبار الصحابة ومن الذين صاحبوه فترة طويلة ، ومنهم آباء زوجاته والمقربون إليه ، وهذا القول ينسجم مع الأعراف من أنّ الذين يحضرون الميت هم من هذا الصنف دون بقية الصحابة الذين لم يصحبوه إلاّ أياماً أو ساعات معدودة ، إضافة إلى ذلك أنّ موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في المدينة ويستبعد أن يكون الاَعراب أو الذين ارتدوا بعد وفاته كانوا من ضمن الحاضرين.

ويفهم أيضاً من الرواية أنَّ جلّ الصحابة كانوا متخلفين عن بعث أُسامة وخصوصاً الصحابي عمر بن الخطّاب.

ومخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتهامه بالهجر لم يكن في قضية هامشية أو سطحية ، وإنّما كان في أهم القضايا التي فيها النجاة من الضلالة الأبدية.

وهكذا ، فقد تمكنّا من خلال هذه القضايا من معرفة حقيقة أمر أولئك الصحابة الذين رافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدء دعوته وفي قلوبهم مرض كما في القرآن الكريم.

فدراسة التاريخ والنظر في سير الأحداث من أحسن الطرق لمعرفة

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٩. وصحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩. والملل والنحل ١ : ٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥١.

٨٢

حال الصحابة ، وللتوصل إلى معنى الآيات القرآنية ومعنى الحديث المخرج في كتابي البخاري ومسلم وغيرهما الصريح في ارتداد الاصحاب إلاّ مثل « همل النعم » !!

هذا خلاصة ما كان في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

معرفة الصحابة من خلال الحوادث بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وأما ما كان من الصحابة بعد عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتلك أحداث السقيفة وما تلتها من حوادث وما ترتب عليها من آثار ...

لقد ثبت وتحقق في الكتب المؤلّفة في مسألة الإمامة والولاية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإبلاغ الاُمّة بأنّ الخليفة والامام من بعده بلا فصل هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهذا ما كان من أولى اهتمامات النبي منذ بعثته وحتى الساعات الأخيرة من حياته الكريمة ، وقد استدل العلماء في كتب الإمامة بالكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة بل المتواترة عند الفريقين.

فمن ذلك : النصّ الذي بدأ منذ وقت مبكر وبالتحديد في السنة الثالثة للهجرة حيثُ نزول آية الانذار وقصة حديث الدار الذي قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشيراً إلى الإمام علي عليه‌السلام : « إنَّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (١).

وصرّح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من مناسبة قائلاً : « إنّ علياً مني ، وأنا منه ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٨ ـ ٢١٩. وتفسير الخازن ٣ : ٣٧١.

٨٣

وهو ولي كلّ مؤمن بعدي » (١). وجاء قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) يؤكد ويرسخ ولاية وخلافة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقطع الطريق أمام المشككين بهذه المنزلة الرفيعة.

وعند قصة الغدير ونزول آية التبليغ (٣) وآية إكمال الدين (٤) في حجة الوداع لم يعد ثمة عذر لمعتذر في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيثُ جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس في منتصف النهار والحر شديد وخطب خطبة طويلة جاء فيها : « من كنت مولاه فهذا مولاه (٥) ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله، وانصر من نصره » (٦).

لكن القوم تجاوزوا كلّ تلكم النصوص ، حتى تركوا جنازة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأرض وراحوا الى سقيفة بني ساعدة يتنازعون الأمر من

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٥٩٤. والتاج الجامع للاُصول ٣ : ٣٣٥.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٥ وقد نزلت هذه الآية في الإمام علي عليه‌السلام. راجع الكشاف ١ : ٦٤٩. وأسباب النزول ، للواحدي : ١٣٤.

(٣) الآية ٦٧ من سورة المائدة ، قال الواحدي في أسباب النزول : ١٣٥ نزلت في غدير خم.

(٤) الآية ٣ من سورة المائدة ، وقد نزلت في غدير خم يوم الثامن عشر من ذي الحجة ، راجع الاتقان للسيوطي ١ : ٧٥. وأسباب النزول للواحدي : ١٣٥ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزولها : « الحمدُ لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي بعدي » راجع مناقب أميراالمؤمنين عليه‌السلام للحافظ محمد بن سليمان القاضي الكوفي ١ : ١١٩.

(٥) سنن الترمذي ٥ : ٥٩١. والتاج الجامع للاُصول ٣ : ٣٣٣.

(٦) مسند أحمد ٤ : ٢٨١ و ٣٦٨. وسنن ابن ماجة المقدمة ١ : باب ١١. وتفسير ابن كثير ١ : ٢٣٣. والبداية والنهاية ٧ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٨٤

بعده ، فكان ما كان مما لسنا الآن بصدد ذكره ، وتمخضّت الاحداث عن البيعة لأبي بكر بن أبي قحافة ، ثم أُكره الممتنعون عن البيعة ـ وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأعلام بني هاشم ورجال من المهاجرين والأنصار ـ على أن يبايعوه ، في قضايا يطول شرحها.

أمّا الزهراء الطاهرة بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم تبايعه أبداً ، ولمّا استولى أبو بكر على فدك وغير فدك ممّا كان يتعلّق بها ، ذهبت إلى أبي بكر وطالبته بحقوقها ، فلم يعطها شيئاً ، فعادت وهي غضبى عليه وعلى عمر ابن الخطاب.

وقال عمر لأبي بكر انطلق بنا إلى فاطمة عليها‌السلام ( فانّا قد أغضبناها ) وحينما دخلا عليها قالت : « ... ألم تسمعا رسول الله يقول : « رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي .. فإنّي أُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونكما إليه » وكانت فاطمة عليها‌السلام تقول : « والله لأدعون الله عليك في كلِّ صلاة أصليها » (١).

وبقيت سلام الله عليها مهاجرة لأبي بكر حتى فارقت الدنيا ( فهجرته فاطمة فلم تكلمه ... حتى ماتت ، فدفنها عليّ ليلاً ، ولم يؤذن بها أبابكر ) (٢).

ولقد كان من المتخلّفين عن بيعة أبي بكر : مالك بن نويرة وعشيرته ، فسيّر أبو بكر إليهم خالد بن الوليد ، فأغار عليهم وقتل مالكاً وجماعة من

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨. وتاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين ، للذهبي : ٢١. وبنحوه في : شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٠.

٨٥

قومه وسبى نساءهم ، وتزوّج بامرأة مالك من ليلة قتله ، في قضية معروفة مفصّلة في كتب التاريخ ، تعدّ من أكبر ما طعن به أبو بكر بعد تصدّيه للأمر.

وحينما قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وتزوج امرأته ، بلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فتكلم في خالد عند أبي بكر فأكثر وقال : ( عدو الله عدا على أمرئ مسلم فقتله ، ثم نزا على امرأته ) ! وحينما عاد خالد قام إليه عمر وقال : ( قتلت أمرءاً مسلماً ، ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك ) (١).

وفي معركة اليرموك كان أبو سفيان ومشيخة من قريش على تلٍّ لايقاتلون ، فإذا كانت الكرّة للروم ، قالوا : ( إيهٍ بني الأصفر ) ! وإذا كانت الكرّة للمسلمين ، قالوا : ( ويح بني الأصفر ) ! فلما هزم الله تعالى الروم سمع الزبير بما كانوا يقولون ، فقال : ( أبوا إلاّ ضغناً ، لنحن خير لهم من الروم ) (٢).

وعند قرب وفاة أبي بكر دخل عليه عبدالرحمن بن عوف ، فقال له أبوبكر : ( إنّي وليت أمركم خيرّكم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت .. وأنتم أول ضالّ بالناس غداً ، فتصدوهم عن الطريق يميناً وشمالاً ... ) (٣).

وقال أبو بكر أيضاً : ( فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنَّ ، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد غلّقوه على الحرب ...

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٨٠. والكامل في التاريخ ٢ : ٣٥٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٤١٤.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠. وبنحوها في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٧.

٨٦

وأمّا اللاتي تركتهنَّ ، فوددت أني يوم أتيتُ بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيَّل إليَّ أنه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه ... ) (١).

وأوصى أبو بكر بالأمر إلى عمر بن الخطّاب بالرغم من اعتراض أعلام الصحابة ، محتجاً بكونه خير النّاس ، فدلَّ ذلك على أن ولايته لم تكن بنصٍّ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا برضاً من المسلمين.

وقد كان في عهده من تعطيل الحدود الشرعية وتغيير الأحكام الالهية ما ليس هنا موضع ذكره ، ومن شاء فليراجع الكتب المؤلفة في ذلك ، ويكفينا أن نعلم أن عمر هو الذي رمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجر وحال دون كتابته الوصيّة كما تقدّم.

وكان عمر هو الذي طرح فكرة تعيين الخليفة بالشورى ، وقد جاء ذلك تفادياً لاَنْ يبايع المسلمون الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، إذ بلغه أن جماعةً من أكابر الصحابة يقولون : لو مات عمر لبايعنا علي بن أبي طالب (٢).

ولكنّه ـ حيث كان يريد عثمان بن عفان وبني أُميّة للخلافة ـ عيّن ستّة أشخاصٍ للشورى ، ومن غير مشورة من المسلمين في تعيينهم ، وحدّد لهم حدوداً لا ينتهي الأمر بمقتضاها إلاّ إلى عثمان.

وبعد تعيين عمر للستة من أهل الشورى أخبرهم عن أنفسهم فقال : ( أما أنت يا زبير فوعق لقس (٣) ، مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ،

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠ ـ ٤٣١. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٧. والعقد الفريد ٥ : ٢١.

(٢) مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني ، ارشاد الساري في شرح البخاري / للقسطلاني.

(٣) الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس : من لا يستقيم على وجه.

٨٧

ويوماً شيطان .. من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ؟ ومن يكون يوم تغضب ؟ ) ثم أقبل على طلحة ـ وكان له مبغضاً ـ فقال له : أقول أم أسكت ؟ قال : ( قل ، فإنَّك لا تقول من الخير شيئاً ) فقال عمر : ( أما إنَّي أعرفك منذ أصيبت أصبعك يوم أحد والبأو ـ أي الكبر ـ الذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أُنزلت آية الحجاب ) (١).

وأوصى عمر صهيب الرومي بقتل كل من يصرّ على مخالفة الاجماع في الشورى المتكونة من الستة ، وقال له : ( .. فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه ـ أو اضرب رأسه بالسيف ـ وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان ، فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم .. فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس ) (٢).

وفي اجتماع الشورى قال عليّ بن أبي طالب لعبدالرحمن بن عوف : ( أعطني موثقاً لتؤثرن الحقّ ولا تتبع الهوى ، ولا تخصّ ذا رحم .. ) ، لكن عبدالرحمن اتّبع الهوى ومال إلى عثمان ، ففي أمر الشورى يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة الشقشقية : « فصبرتُ على طول المدة ، وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعةٍ زعم أني أحدهم ، فيالله وللشورى متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأول منهم ، حتى صرتُ أُقرن إلى هذه النظائر ! لكنّي أسففتُ إذ أسفّوا ، وطِرتُ إذ طاروا ، فصغا رجلٌ منهم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٢٩.

٨٨

لضغنه ، ومال الآخر لصهره ، مع هنٍ وهنٍ ... » (١). فالذي صغا لضغنه هو طلحة ، إذ وهب حقّه لعثمان لانحرافه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والذي مال لصهره هو عبدالرحمن ، مال إلى عثمان ، لأن زوجة عبدالرحمن ـ وهي أم كلثوم بنت عقبة ـ كانت أُخت عثمان من أُمّه.

واشترط عبد الرحمن على الإمام عليّ عليه‌السلام إن رشّحه للخلافة أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر ، فلم يوافق الإمام عليّ عليه‌السلام على الشرط الاَخير ، ووافق عثمان على ذلك فرشحه عبدالرحمن للخلافة فقال الإمام علي عليه‌السلام : « ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا » (٢).

وبعد تمام البيعة قال المغيرة بن شعبة لعبدالرحمن : ( يا أبا محمد ، قد أصبت إذ بايعت عثمان ! ) وقال لعثمان : ( لو بايع عبدالرحمن غيرك مارضينا ) ، فقال عبدالرحمن : ( كذبت يا أعور ، لو بايعتُ غيره لبايعته ، ولقلت هذه المقالة ) (٣).

ودخل أبو سفيان على عثمان وقال : ( يا بني أُمية ، تلقّفوها تلقّف الكرة ، فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة ) (٤).

وحينما بدّل كثيراً من الأحكام ، وتصرّف في أموال المسلمين في غير حلّها ، وقرّب إليه الفجرة الفسقة وخاصةً من بني أُمية وجعلهم خواصاً

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٧١. وشرح نهج البلاغة ٩ : ٥٣.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٢٣٤. وبنحوه في : شرح نهج البلاغة ٩ : ٥٣.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ : ٥٣ ـ ٥٤. وأنساب الأشراف ١ : ١٢ ـ ١٣.

٨٩

وولاة له ، كمروان بن الحكم والوليد بن عقبة ، كثر الطعن عليه من قبل الصحابة والتابعين (١).

وكان الوليد بن عقبة من ولاة عثمان وقد اشتهر بالفسق وشربه للخمر فقد شرب الخمر وهو على رأس جيش متوجه إلى الروم ، فأراد بعض المسلمين إقامة الحدّ عليه ، فقال حذيفة : ( أتحدّون أميركم وقد دنوتم من عدوّكم ... ) (٢).

وقال ابن حجر العسقلاني عنه ( وقصة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة ومخرجة ، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرجة في الصحيحين ) (٣).

فحينما أكثر المسلمون في الوليد عزله عثمان وجلده الحدّ (٤).

وطعن جماعة من الصحابة على عثمان ، لأنّه آثر أقاربه الأموال والهدايا ، فكان أبو ذر الغفاري يقول : ( والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سُنّة نبيّه ، والله إني لأرى حقاً يُطفأ وباطلاً يحيا ، وصادقاً مكذّباً ، وأثرة بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً عليه ) (٥).

وقال عثمان ذات مرّة لأبي ذر : ( لا أنعم الله بك عيناً يا جنيدب ... أنت

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٥ : ٣٦.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٦ : ٣٤١.

(٣) الإصابة ٦ : ٣٢٢.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٢٧٧. ومختصر تاريخ دمشق ٢٦ : ٣٣٦. وبنحوه في : شرح نهج البلاغة ٨ : ١٢٠.

(٥) شرح نهج البلاغة ٣ : ٥٥.

٩٠

الذي تزعم أنّا نقول : إنّ يد الله مغلولة ... ) فقال أبو ذر : ( لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهدُ لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ودين الله دخلاً » فقال عثمان : ( ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ) .. فقال أبو ذر : ( أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تتهمونني ! ما كنت أظنَّ أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١).

هذا وقد قال الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ أبي ذر : « ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ». والأدهى من ذلك هو طرد أبي ذرّ من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يد طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن طريده مروان بن الحكم (٢).

واشتد الطعن على عثمان ، ففي ذات مرّة صلّى عثمان بالناس ، فلما كبَّر قالت عائشة : ( يا أيُّها الناس ... تركتم أمر الله وخالفتم عهده ) ، ثم صمتت وتكلمت حفصة بمثل ذلك ، فلما أتم عثمان الصلاة أقبل على الناس ، وقال : ( إنَّ هاتين لفتّانتان ، يحلّ لي سبُّهما ، وأنا بأصلهما عالم ) (٣).

وتجاوز الطعن إلى التصريح بكفر عثمان من قبل إحدى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي عائشة حيثُ كانت تفتي بقتله وتقول : ( اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ ـ ١٧٣. وتاريخ المدينة ٣ : ١٠٣٤. والرياض النضرة ٣ : ٨٣.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ : ٥.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٤٥٩. والكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٦.

٩١

وكثر الطعن عليه ( ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ) (١) ، وكان طلحة بن عبيدالله من ضمن الطاعنين على عثمان حتى اجتمع عليه بعض الطاعنين ، فأمسك بمفاتيح بيت المال والناس حوله ، فلما سمع الإمام عليّ عليه‌السلام بالخبر قام بكسر باب بيت المال وتوزيع مافيه ، فتفرق الجمع عن طلحة وانصرفوا عنه ، وسمع عثمان بذلك فأبدى رضاه وسروره ، وجاء طلحة ودخل على عثمان ، فقال عثمان : ( والله ما جئت تائباً ، ولكن جئتَ مغلوباً ، الله حسيبك يا طلحة ) (٢).

وكتب جمع من أهل المدينة من ( الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم : إن أردتم الجهاد فهلمّوا إليه ، فإنّ دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أفسده خليفتكم فأقيموه ) (٣).

وحينما اشتدت الأزمة بين عثمان والطاعنين عليه دخل عليه الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال له : « أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك مثل الظعينة يقاد حيثُ يُسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه ! وأيم الله إنّي لأراه يوردك ولايصدرك ... » (٤).

وتدخّل الإمام عليّ عليه‌السلام لتهدئة الأزمة وقال لطلحة : « أنشدك الله إلاّ رددت الناس عن عثمان ! » ، فرفض طلحة نصيحة الإمام عليّ عليه‌السلام وقال :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٣٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٨.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٣٦٢. والكامل في التاريخ ٣ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٩٢

( لا والله حتى تعطيني بنو أُمية الحقّ من أنفسها ) (١).

وكلّم الإمام عليّ عليه‌السلام القادمين من الأمصار ووعدهم بإصلاح الأوضاع من قبل عثمان ، فخرجوا من المدينة ، وفي طريقهم إلى مصر أمسكوا بغلام عثمان وعنده كتاب مختوم بختم عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم ، فجاءوا بالكتاب إلى عثمان فأنكر كتابته له ، وقيل : إنَّ مروان قد كتبه باسم عثمان ، فقالوا له : ( ما أنت إلاّ صادق أو كاذب ، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق ، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك .. فاخلع نفسك منه كما خلعك الله ) فقال : ( لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله ، ولكني أتوب وأنزع ) ، فقالوا : ( لو كان هذا أوّل ذنب تبت منه قبلنا ، ولكنّا رأيناك تتوب ثم تعود ، ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى ) (٢).

فحوصر عثمان من قبل المسلمين أربعين يوماً ثم قتلوه ، وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم من حرَّض على المعارضة له ، وعلى رأسهم عائشة وحفصة وعمّار بن ياسر وعبدالله بن مسعود وطلحة والزبير وعمرو بن العاص. ومنهم من حاصره ولم يقدم على قتله. ومنهم من اشترك في قتله أيضاً كعبدالرحمن بن عديس ، وكان أمير القادمين لقتله ، وهو ممّن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة (٣). ومنهم من كان هواه في

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٣.

(٢) المصدر السابق ٣ : ١٩٦.

(٣) الكامل في التأريخ ٣ : ٢٨٧. وتاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٥٥.

٩٣

قتل عثمان ، كمعاوية بن أبي سفيان (١) ليتخذ قتله ذريعة للوصول إلى الخلافة ، حيثُ تربّص به وأقرّ الجيش الذي بعثه لنصرته (٢).

وكان ابن عباس يرى أن مروان هو المسؤول عن قتل عثمان ، فكان يخاطبه بالقول : ( يا عدوّ الله وطريد رسول الله والمباح دمه ، والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه .. ) (٣).

هذا ، وقد اتُخذ دمه ذريعة للتمرد على خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سواء من قبل المحرضين على عثمان أو من المتربصين بقتله ، في ظرف مضطرب لا استقرار فيه ، وبدلاً من انتظار استقامة الظروف وهدوء الأوضاع الصاخبة ، خرج بعض الصحابة ، وأحدثوا فتنة بين المسلمين متمردين فيها على الخلافة الشرعية (٤).

حرب الجمل :

فخرجت عائشة ـ ومعها طلحة والزبير ومروان بن الحكم ، والوليد بن عقبة وسائر بني أُمية ـ الى البصرة وأعلنوا الطلب بدم عثمان.

وفي أول المسير لقي عبد بن أم كلاب عائشة فأخبرته بالطلب بدم عثمان فأجابها : ( فو الله أول من أمال حرفه لاَنت ! ولقد كنت تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر ) ، فقالت : ( إنّهم استتابوه ثم قتلوه ، وقد قلت وقالوا ،

__________________

(١) تاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ١٧٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ :٢٩٩.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٤٣٦.

٩٤

وقولي الأخير خير من قولي الأول ) (١).

وفي البصرة تصالح طلحة والزبير مع عثمان بن حنيف على عدم الاقتتال ، إلاّ أنهم هجموا عليه ليلاً واقتادوه أسيراً ، وحينما سألوا عائشة عن أمره قالت : ( اقتلوه ) فقالت لها أمرأة : ( نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فأمرت بحبسه بعد أن ضربوه أربعين سوطاً ونتفوا شعر لحيته (٢).

وقبل بدء القتال قال الزبير : ( ألا ألف فارس أسير بهم إلى عليّ أقتله ، فلم يجبه أحد ) ، فقال : ( إنّ هذه للفتنة التي كنّا نُحدَّث عنها ) فقال له مولاه : ( أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟! ) قال : ( ويلك ! إنّا نُبصَّر ولا نُبْصِر ، ما كان أمر قط إلاّ وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر ، فإنّي لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر ) (٣).

وكتب الإمام عليّ عليه‌السلام إلى طلحة والزبير : « ... فإن كنتما بايعتماني طائعين ، فارجعا وتوبا إلى الله من قريب ... فارجعا أيُّها الشيخان عن رأيكما ، فإنَّ الآن أعظم أمركما العار من قبل أن يتجمع العار والنار » (٤).

وفي بداية المعركة قال الإمام علي عليه‌السلام للزبير : « أنشدك الله ، أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّك تقاتلني وأنت ظالم لي » ، قال : ( نعم ، ولم أذكر إلاّ في موقفي هذا ) ثم اعتزل القتال ، ولكنه رجع إليه بعدما هاجه ابنه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٥٩. والكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٦.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٩. والكامل في التاريخ ٣ : ٢١٦.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٧٦. والكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٠.

(٤) نهج البلاغة : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ الكتاب ٥٤.

٩٥

عبدالله ، فأعتق مولاه كفارة عن يمينه ، ثم قاتل (١).

وكان الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : « ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبدالله » (٢).

وفي أثناء المعركة قام مروان بن الحكم بقتل طلحة بن عبيدالله مبرراً قتله بالثأر من قتلة عثمان (٣) على الرغم من خروجهما معاً للطلب بدم عثمان بقتالهم للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وانتهت المعركة بمقتل عشرة آلاف من الطرفين (٤)وقد تنبأ الإمام عليّ عليه‌السلام بمصير أهل الجمل ، فقال قبل بدء القتال : « والله إنّ راكبة الجمل لا تصعد عقبة ولا تنزل منزلاً إلاّ إلى معصية الله وسخطه ، حتى تورد نفسها ومن معها متالف الهلكة » (٥).

وكان عدد المشاركين من الصحابة إلى جنب الإمام عليّ عليه‌السلام هو العدد الراجح حيثُ كان معه ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممّن شهد بيعة الرضوان (٦) إيمانهم بوجوب القتال معه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٠. والكامل في التاريخ ٣ : ٢٣٩. وتهذيب تاريخ دمشق ٥ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ١٠٢.

(٣) تاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٧٠. وتاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين ، للذهبي : ٤٨٦. وشرح نهج البلاغة ٩ : ٣٦.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٥٣٩. وقيل : عشرون ألفاً. والعقد الفريد ٥ : ٧٤.

(٥) المعيار والموازنة : ٥٣.

(٦) تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين : ٤٨٤.

٩٦

حرب صفين :

عزل الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام أغلب ولاة عثمان بن عفان ، وحينما أشار عليه المغيرة بن شعبة بإبقاء معاوية قال عليه‌السلام : « لا أُداهن في ديني ، ولا أعطي الدنيَّة في أمري » (١) ، فكان يرى إبقاء معاوية في ولايته مداهنة في الدين ، ولذا عزله بعد أن يئس من رجوعه إلى الطاعة.

وقد كتب إليه عدة كتب يدعوه فيها إلى الطاعة ، ويبيّن له غيّه ومساوءه ، جاء في أحدها قوله عليه‌السلام : « وأرديت جيلاً من النّاس كثيراً ، خدعتهم بغيِّك ، وألقيتهم في موج بحرك ، تغشاهم الظلمات ، وتتلاطم بهم الشبهات ، فجاوزوا عن وجهتهم ، ونكصوا على أعقابهم .. فاتق الله يا معاوية في نفسك ، وجاذب الشيطان قيادك .. » (٢).

وكتب عليه‌السلام إليه أيضاً : « فسبحان الله ! ما أشدَّ لزومك للأهواء المبتدعة ... فإمّا إكثارك الحِجاجَ على عثمان وقتلته ، فإنّك إنّما نصرت عثمان حيثُ كان النصر لك ، وخذلته حيثُ كان النّصر له » (٣) ، فقد بيّن له أنّه اتخذ دم عثمان وسيلة لينتصر بها ، حيثُ إنّه لم ينصره في حياته.

وحينما أراد معاوية استمالة عمرو بن العاص إلى جانبه استشار الأخير ابنيه عبدالله ومحمداً ، فقال له عبدالله : ( .. فإنّك إنّما تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية فتضجعان غداً في النار ) ، وقال ابنه محمد : ( بادر هذا الأمر ) وقال له مولاه وردان : ( اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : عليّ معه آخرة بلا دنيا ، ومعاوية معه دنيا بلا آخرة ، وليس في

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ١٩٧.

(٢) نهج البلاغة : ٤٠٦ الكتاب ٣١.

(٣) نهج البلاغة : ٤١٠ الكتاب ٣٧.

٩٧

الدنيا عوض من الآخرة ).

وقال ابنه عبدالله أيضاً : ( بال الشيخ على عقبيه ، وباع دينه بدنياه ) (١).

وكتب الإمام علي عليه‌السلام إلى ابن العاص كتاباً جاء فيه : « فإنّك قد جعلتَ دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيُّه ، مهتوكٍ ستره ... فأذهبت دنياك وآخرتك ... » (٢).

وبعد خدعة رفع المصاحف خطب الإمام علي عليه‌السلام أصحابه قائلاً : « عباد الله ، امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوّكم ، فإنّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، أنا أعرف بهم منكم ، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلاّ خديعة ووهناً ومكيدةً ... فإنّي إنّما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب ، فإنّهم قد عصوا الله فيما أمرهم ، ونسوا عهده ، ونبذوا كتابه » (٣).

وكتب الإمام عليّ عليه‌السلام إلى معاوية : « ... فاحذر يوماً يغتبط فيه من أحمد عاقبة عمله ، ويندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه ، وقد دعوتنا إلى حكم القرآن ولست من أهله ، ولسنا إياك أجبنا ، ولكنّا أجبنا القرآن في حكمه » (٤).

وانتهت المعركة بالتحكيم ، وقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام يحذّر معاوية من

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٢) نهج البلاغة : ٤١١ الكتاب ٣٩.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٣١٦ ـ ٣١٧. وبنحوه في المنتظم ٥ : ١٢١.

(٤) نهج البلاغة : ٤٢٣ الكتاب ٤٨.

٩٨

القتال وسفك الدماء فلم يستجب وكان جوابه لسفراء الإمام عليّ عليه‌السلام : ( ... ليس بيني وبينكم إلاّ السيف ) (١).

وكان عدد القتلى من الطرفين سبعين ألفاً (٢) وقتل مع الإمام عليّ عليه‌السلام خمسة وعشرون صحابياً ، منهم عمّار بن ياسر قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي وهو من الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان (٣).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار رضي‌الله‌عنه : « تقتلك الفئة الباغية » (٤) والفئة الباغية التي قتلت عمّار كان يقودها معاوية وعمرو بن العاص.

ما بعد صفين :

انتهت معركة صفين بالتحكيم ، وانتهى التحكيم بخديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري ، فقال الأشعري لابن العاص : ( غدرت وفجرت ، إنّما مثلك كمثل الكلب ) فقال له ابن العاص : ( إنّما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) (٥).

وبما أنّ الحكم كان نابعاً من الهوى والابتعاد عن الهدى تبرَّء الإمام عليّ منهما ونسب إليهما نبذ حكم القرآن ومخالفته فقال عليه‌السلام : « ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٧٧.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٥٢. والمنتظم ٥ : ١٢٠.

(٣) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤ : ١٦١.

(٤) صحيح البخاري ١ : ١٩٤. وصحيح مسلم ٤ : ٢٢٣٥ / ٧٠ و ٧٢ و ٧٣. ومسند أحمد ٢ : ١٦ و ١٦٤.

(٥) نهاية الارب ٢٠ : ١٥٩.

٩٩

ظهورهما ، وأحيا ما أمات القرآن ، واتبع كل منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ولا سُنة ماضية ، واختلفا في حكمهما وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين » (١).

وحول الحكمين قال عبدالله بن عمر : ( انظروا إلى ما صار أمر هذه الاُمّة ، إلى رجل لا يبالي ما صنع ، وآخر ضعيفاً ) (٢).

ولم يكتف معاوية بالبغي على إمام زمانه وقتل في هذا البغي آلاف المسلمين وخيرة الصحابة ، بل استمر في بغيه بالاعتداء على الأبرياء الذين يوالون الإمام عليّ عليه‌السلام باعتباره الخليفة الشرعي ، وكان يبعث الغارات على المدن التابعة للدولة الإسلامية التي يحكمها الإمام علي عليه‌السلام فبعث بسر بن أرطأة ـ وهو من الصحابة ـ في ثلاثة آلاف إلى الحجاز وإلى المدينة فدخلها فخطب في الناس وهدّدهم وقال : ( والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبدالله ) فلما سمع الصحابي جابر ابن عبدالله انطلق إلى أُم المؤمنين أم سلمة وقال لها : ( ماذا ترين ؟ انّي قد خشيت أن أُقتل ، وهذه بيعة ضلالة ) ، وكان ذلك الجيش يقتل ( من أبى أن يقرّ بالحكومة ) (٣).

ثم مضى بسر بن أرطأة إلى اليمن فقتل جماعة من أهلها ، ومنهم طفلان صغيران لعبيد الله بن العباس (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٧٧. والكامل في التأريخ ٣ : ٣٣٨.

(٢) نهاية الأرب ٢٠ : ١٥٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٤) تاريخ الطبري ٥ : ١٤٠.

١٠٠