الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-116-8
الصفحات: ١٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الفصل الثالث

الصحابة في السُنّة المطهّرة

في السُنّة المطهّرة أيضاً أحاديث كثيرة عن الصحابة يروونها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في بعضها الثناء والمدح لهم والأمر بحبهم على نحو العموم ، وفي بعضها القدح والذم الشديد والاخبار عن سوء العاقبة للاَكثرية الساحقة منهم ، وفي بعضها المدح أو القدح لاشخاصٍ معينين منهم.

وإذا أردنا أن نصل إلى حقيقة الأمر وواقع الحال في هذه الاحاديث كان من الضروري النظر فيها من جهة السند ومن جهة الدلالة ودراسة النسب الموجودة فيما بينها.

لكنّا نستعرض فيما يلي طائفةً من الروايات الواردة في المسألة ، مع غض النظر عن أسانيدها :

روايات المدح والثناء :

فهذه أولاً نصوص روايات وردت في الكتب في مدح الأصحاب عامةً أو المهاجرين والأنصار كلّهم أو الانصار كلّهم فقط ونحو ذلك :

٦١

الرواية الأولى : « اللّهمَّ امضِ لأصحابي هجرتهم ، ولا تردّهم على أعقابهم » (١).

الرواية الثانية : « الأنصار كرشي وعيبتي » (٢).

الرواية الثالثة : « في كلِّ دُور الأنصار خير » (٣).

الرواية الرابعة : « المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة » (٤).

الرواية الخامسة : « اللّهمَّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والأنصار» (٥).

الرواية السادسة : قبل بدء القتال في غزوة بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهمَّ إن تَهْلِكَ هذه العصابة اليوم لا تُعبد » (٦).

الرواية السابعة : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الأرض » (٧).

الرواية الثامنة : « طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ـ يقولها

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) السيرة النبوية ، لابن كثير ٢ : ٢٨٢.

(٣) صحيح مسلم ٤ : ١٧٨٥.

(٤) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١١ ، عن أمالي ابن الشيخ : ١٦٨.

(٥) صحيح البخاري ٥ : ١٣٧. وتفسير القمي ١ : ١٧٧.

(٦) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٢٧٩.

(٧) تفسير القرآن العظيم ١ : ١٩٧.

٦٢

سبع مرات ـ لمن لم يرني وآمن بي » (١).

الرواية التاسعة : قال له رجلان : يا رسول الله ، أرأيت من رآك فآمن بك وصدّقك واتبعك ، ماذا له ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « طوبى له » (٢).

الرواية العاشرة : « لا زال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من رآني » (٣).

الرواية الحادية عشر : « أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي ولأصحابي » (٤).

الرواية الثانية عشر : كان بين خالد بن الوليد وبين أحد المهاجرين الأوائل كلام ، فقال خالد له : « تستطيلون علينا بأيامٍ سبقتمونا بها » ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال : « دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم » (٥).

والظاهر أنّ الروايتين الأخيرتين ليست عامّة في جميع الصحابة السابقين والمتأخرين في الإيمان والجهاد ، وإنّما هي مختصة في بعض منهم.

فقد جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين حبّ أهل بيته : وأصحابه ، فلو كان قصده جميع الصحابة لحدث تناقض لأنّ بعض الصحابة آذى بضعته من

__________________

(١) الخصال ٢ : ٣٤٢.

(٢) بحار الأنوار ٢٢ : ٣٠٦ ، عن أمالي ابن الشيخ : ٣٣٢.

(٣) نوادر الراوندي : ١٥.

(٤) نوادر الراوندي : ٢٣.

(٥) مجمع الزوائد ١٠ : ١٥.

٦٣

بعده ، وبعضهم كان مبغضاً لأهل بيته ، وقد وصل حد البغض إلى قتالهم واستباحة دمائهم ، فقد حارب معاوية وعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة وآخرون الإمام عليّاً عليه‌السلام ومن بعده الإمام الحسن عليه‌السلام ، فكيف يجتمع حب الإمام عليّ عليه‌السلام وحبّ معاوية وأتباعه في قلب واحد ، والكلام موجّه إلى الصحابة ، فكيف يوجّه الصحابة إلى حبّ الصحابة ؟

ورواية « دعوا لي أصحابي » مختصة أيضاً ببعض الصحابة ؛ لأنّ الأمر موجّه إلى خالد بن الوليد وهو من الصحابة ، يأمره بالكّف عن صحابي آخر، ويقارن بين أعمال المتقدمين في الإيمان والهجرة والنصرة وأعمال المتأخرين ، فالرواية واضحة الدلالة باختصاصها ببعض الصحابة.

وما تقدّم من ثناء مشروط بشروط ، منها : الإيمان الحقيقي ، فلا يكون من في قلبه مرض مراداً قطعاً ، والاستقامة على المنهج الإسلامي وحسن العاقبة ؛ لأنّ بعض الصحابة ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام، وبعضهم منافقون اسرّوا نفاقهم ، ولكنّه ظهر من خلال أعمالهم ومواقفهم كما سيأتي بيانه.

وقد أثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بعض الصحابة بأسمائهم ، ووجّه الأنظار إلى عدد محدود منهم ، فكرّر مدحهم والثناء عليهم وجعلهم الصفوة من بين آلاف الصحابة ، ولم يساو بين السابقين في الهجرة والإيمان وبين المتأخرين الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً.

وفي مقابل الثناء على بعض الصحابة ، وردت أحاديث مفتعلة منسوبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحق آخرين من الصحابة.

وقد كثر تزوير الأحاديث في عهد بني أُمية ، قال ابن عرفة ، المعروف

٦٤

بنفطويه : ( إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية ، تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم ) (١).

وقال أبو الحسن المدائني : ( كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله ... أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ) ، ثم كتب : ( ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحب إليَّ وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله ... فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ... فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ... حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لايستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها ) (٢).

روايات الذم والتقريع :

شخصية الإنسان تتحكم فيها عوامل ثلاثة : الفكر ، والعاطفة ، والاِرادة، وهي التي تحدّد موقف الإنسان وسلوكه في الحياة ، فالإيمان بعقيدة معينة وفكرة معينة يجعل الشعور الباطني حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم ومفاهيم وقيم ، إن تطابقت الارادة مع أُسس الإيمان وقواعده ، والاِرادة هي الحد الفاصل بين مرحلة الشعور ومرحلة الواقع ، وبها تتميز

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٤ ـ ٤٦.

٦٥

شخصية الإنسان في الخارج في قرارها النهائي ، وكل هذه العوامل مرتبطة في ظواهرها مع عوامل اُخرى كالوراثة والمحيط الاجتماعي التي تؤثر على تلك العوامل تأثيراً إيجابياً أو سلبياً ، وبالتالي تؤثر على تحديد شخصية الإنسان ، ولذا نرى الصحابة متفاوتين في شخصياتهم ، فمنهم من هو في قمة التكامل والسمو ، ومنهم من هو في مراتب أدون فأدون ، تبعاً لتفاوت درجات الإيمان ودرجات الاُنس بالعقيدة والفكر ، ودرجات الارتباط بالقدوة الصالحة المجسدة للعقيدة والشريعة في واقعها السلوكي ، والتفاعل مع المغريات والمثيرات الخارجية إندفاعاً وإنكماشاً ، فبعض الصحابة الذين بقي إيمانهم متزعزاً قد نكصوا على أعقابهم وارتدّوا عن الإسلام ، وبعضهم عاد إلى الإيمان بعد ردته خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع أو قناعة بصحة الرسالة ، وبعضهم لم يقاوم جبهة التصدّع في شخصيته ، فاستسلم للاَهواء واستجاب للمغريات الخارجية كحب الرئاسة وحب المال ، فانحرف عن الاستقامة في موقفه وسلوكه العملي ، ولذا جاءت الروايات في مقام التحذير من الانحراف والنكوص والتردّد ، وجاء بعضها في مقام الذم والتقريع لمواقف سلوكية اتّخذها بعض الصحابة في مراحل حياتهم.

من آثار الجاهلية :

في أحد الأيام قام أحد الكفّار بتذكير نفر من الصحابة من الأوس والخزرج بقتلاهم في الجاهلية ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار في يوم بعاث ، وهو اليوم الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج ، فهاجتهم تلك الأشعار وتنازعوا وتفاخروا ، وغضبوا جميعاً ، فخرجوا إلى الحرّة ومعهم السلاح ، وقبل بدء القتال خرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

٦٦

« يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألَّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدّوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً (١).

فلولا الاسراع في حل الأزمة لحدث القتال ولبقيت آثاره قائمة ، حدث ذلك ورسول الله بين أظهرهم ، فكيف يكون الوضع لو لم يكن معهم كما حدث بعد رحيله !

وفي أحد الأماكن ازدحم على الماء أحد المهاجرين وأحد الأنصار ، فصرخ أحدهم : يا معشر المهاجرين ، وصرخ الآخر ، يا معشر الأنصار ، وكادت تحدث الفتنة لولا تدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تجاوزها وإشغال المسلمين بالمسير لمدة يومين (٢).

وقد خالف خالد بن الوليد المهمة التي كُلِّف بها ، وهي الدعوة السلمية إلى الإسلام ، وقام بقتل جماعة من بني جذيمة ثأراً لعمّه المقتول في الجاهلية ، وحينما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعمل خالد رفع يديه إلى السماء ثم قال : « اللّهمَّ إنّي أبرأُ إليك ممّا صنع خالد » (٣).

الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كثر الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، وقد حذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحابة

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ٣ : ٣٠٣. والطبقات الكبرى ، لابن سعد ٢ : ٦٥.

(٣) صحيح البخاري ٥ : ٢٠٣. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٦١. وتاريخ الطبري ٣ : ٦٧. والكامل في التاريخ ٢ : ٢٥٦.

٦٧

من الكذب عليه في الحديث والرواية فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا تكذبوا عليَّ فإنَّهُ من كَذَبَ عليَّ فليلج النّار » (١).

« من كذَّب عليَّ فليتبوأ مقعده من النّار » (٢).

« من تعمّدَّ عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النّار » (٣).

« من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النّار » (٤).

ولتفشي الكذب مطلقاً سواءً على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في الشؤون الاُخرى وتتابعه ، كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحذّر من ذلك وينهى عن ممارسته بعد وقوعه ، وكان يكرّر هذا التحذير في أوقات ومناسبات عديدة ليرتدع الكذّابون عن الكذب ، فقد قام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً وقال : « ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب ، كما يتتابع الفراش في النّار ! كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلاّ رجل كذب في خديعة حرب ، أو اصلاح بين اثنين ، أو رجل يحدّث امرأته فيرضيها » (٥).

ووضّح الإمام علي عليه‌السلام أصناف نقلة الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقسمهم إلى أربعة :

الأول : المتعمد للكذب

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٨. وصحيح مسلم ١ : ٩.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٨. وسنن ابن ماجة ١ : ١٣.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٣٨. وصحيح مسلم ١ : ١٠.

(٤) صحيح البخاري ١ : ٣٨. وبنحوه في المستدرك على الصحيحين ١ : ١٠٢.

(٥) الدر المنثور ٤ : ٣١٧.

٦٨

الثاني : المتوهم في نقل الحديث ، إلاّ أنّه غير متعمد.

الثالث : القليل العلم بالناسخ والمنسوخ في الأوامر والنواهي.

الرابع : الصادق الواضع للحديث في موضعه.

وقال في معرض هذا التقسيم : « إنَّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ... ولقد كُذِبَ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده ، حتى قام خطيباً فقال : من كذبَ عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النّار » (١).

فالكذب على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقيقة لا تقبل التأويل ـ وسيأتي ذكر مصاديقها في البحوث القادمة ـ وهو أشدّ أنواع الكذب تأثيراً في بلبلة المفاهيم والتصورات وخلق الاضطراب في المواقف الخاصة والعامّة ، لما فيه من إغراءٍ بالقبيح والمنكر ، وتحريف للمنهج الإسلامي الثابت في مفاهيمه وقيمه وموازينه.

روايات التحذير من سفك الدماء لأجل الدنيا :

حذّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التنافس على الدنيا ، وخصوصاً في بعض محاورها وهي السلطة التي تسفك من أجلها الدماء ، ويستحل الصحابي دم صحابي مثله من أجل الحصول عليها وعلى المكاسب والمغانم التي تكون وسيلة لوجودها.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ... إنّي لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكنّي أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتُقتلوا ، فتهلكوا ، كما هلك

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ الخطبة ٢١٠.

٦٩

من كان قبلكم » (١).

وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بأنّهم سيحرصون على الإمارة فقال : « إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستصير ندامة وحسرة يوم القيامة ، فبئست المرضعة ، ونعمت الفاطمة » (٢).

وحذّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرجوع إلى الكفر من بعده ، وجعل سفك الدماء علةً لهذا الكفر ، وقد يكون مقصوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الكفر الحقيقي ؛ لأنّ المؤمن لايستحلَّ دم أخيه ما دام مؤمناً بالله تعالى وبالعقاب يوم القيامة ، وقد يكون مقصوده هو الانحراف الحقيقي عن الإسلام في الواقع العملي ، وفي صدد ذلك التحذير قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (٣).

وسيأتي في هذا الشأن تفصيل في الفصل الأخير.

روايات الارتداد والرجوع على الأعقاب :

وردت روايات مستفيضة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكدَّ فيها أنّ النكوص والانقلاب على الأعقاب واقع بعده من قبل الصحابة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا فرطكم على الحوض ، وسأنازع رجالاً فأغلب عليهم ، فلأقولنَّ ربِّ أُصيحابي أُصيحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٧٩٦.

(٢) مسند أحمد ٣ : ١٩٩. وبنحوه في تحف العقول : ٢٥.

(٣) مسند أحمد ١ : ٦٦٤ و ٦ : ١٩. وصحيح البخاري ١ : ٤١. وصحيح مسلم ١ : ٨٢. وسنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠.

٧٠

بعدك » (١).

والرواية واضحة الدلالة في أنّ هؤلاء الأصحاب كانوا معروفين في الناس بالاستقامة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّهم انحرفوا من بعده.

وفي رواية أخرى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ليردنَّ على الحوض رجال ممّا صحبني ورآني ، حتى إذا رفعوا إليَّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنَّ : ربِّ أصحابي أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّكم محشورون إلى الله تعالى ... ثم يؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ، فأقول : يا ربِّ أصحابي ! فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) » (٣).

والعذاب المذكور في الآية قرينة على ارتكاب الذنب والاتّصاف بالفسق والخروج عن العدالة والاستقامة ، وإلاّ لا موجب لعذاب العادل النزيه.

ومن خلال تتبع الروايات نجد أنَّ الانحراف عن نهج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والابتعاد عن المفاهيم والقيم الإسلامية المعبّر عنه بالارتداد والرجوع

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ٣٥. وبنحوه في صحيح مسلم ٤ : ١٨٠.

(٢) مسند أحمد ٦ : ٣٣. وبنحوه في صحيح البخاري ٨ : ١٤٨ و ٩ : ٥٨.

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٨٩. وبنحوه في : صحيح البخاري ٦ : ٦٩ ـ ٧٠ ، ١٢٢. والآية من سورة المائدة ٥ : ١١٧ ـ ١١٨.

٧١

على الأعقاب والتقهقر ، قد عمّ عدداً كبيراً من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحبة ليست بالقصيرة ، وقد عبّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثرتهم بالقول : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هَلُمَّ ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلتُ : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم ... قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (١).

والروايات المتقدّمة تنصّ على أنّ المتسائل هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجيب غيره ، وهنالك روايات تنصّ على أنّ المجيب هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة حيثُ يخاطب بعض أصحابه في يوم القيامة بإثبات إنحرافهم عن الاستقامة بعد رحيله من الدنيا ، كما هو في الرواية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « ما بال أقوام يقولون : إنّ رحمي لا ينفع ، بلى والله إنّ رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإنّي أيُّها الناس فرطكم على الحوض ، فإذا جئت قام رجال ، فقال هذا : يا رسول الله ، أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، وقال هذا : يا رسول الله أنا فلان ، فأقول قد عرفتكم ولكنكم أحدثتم بعدي ورجعتم القهقرى » (٢).

وتنص الروايات على أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبرء منهم ولا يتدخل في إنقاذهم ممّا هم فيه عند ورودهم الحوض ، ففي رواية يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « .. فأقول أصحابي أصحابي ! فقيل : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٥١.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ : ٧٤ ـ ٧٥.

٧٢

فأقول : بعداً بعداً ... ـ أو ـ سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي » (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحذّر من الانحراف بعد رحيله ، ويجعل ملاك التقييم هو حسن أو سوء العاقبة ، ففي رواية أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لشهداء أُحد : « هؤلاء أشهد عليهم » فقال أبو بكر : ( ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ؟ أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بلى ، ولكن لاأدري ما تحدثون بعدي » (٢).

وقد أكدّ بعض الصحابة حقيقة الانحراف عن نهج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله ، ومن ذلك قول أُبي بن كعب : ( ما زالت هذه الاُمّة مكبوبةً على وجهها منذ فقدوا نبيّهم ) (٣).

وقوله : ( ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يُضلّون من الناس ) (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٤١٠. وبنحوه في صحيح مسلم ٤ : ١٧٩٣.

(٢) موطأ مالك ٢ : ٤٦٢ دار احياء التراث العربي ـ بيروت ١٣٧٠ ه‍.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٢٤.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٢٤.

٧٣
٧٤

الفصل الرابع

الصحابة في التأريخ

للصحابة الذين آمنوا بالله ورسوله حقّاً دور كبير في انتصار الإسلام واستمرار وجوده ودوره في قيادة البشرية ، فهم الطليعة التي واكبت مسيرة الرسول منذ انطلاقها ، فقد آمن به وصدّقه عدد من الصحابة في مرحلة من أشد المراحل عليه ، حيثُ تكالبت عليه قوى الكفر والشرك والطغيان وطوّقوا دعوته من كلِّ جانب ، فلم يجد له ناصراً إلاّ الصفوة من الصحابة ، حيثُ خرجوا عن المألوف من العقائد والأعراف والتقاليد الجاهلية وانضووا تحت لواء الإسلام وقيادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن ينتظروا جزاءاً دنيوياً أو عرضاً من أعراض الدنيا ، آمنوا بالله وبرسوله إيماناً حقيقياً في وقت كان الإسلام ضعيفاً تحيطه الاَعداء من كلِّ حدب وصوب ، لا يجدون ناصراً لهم ولا معيناً يساندهم ويدفع عنهم إلاّ الله ، ولا يجدون القوة التي يواجهون فيها الطغيان سوى قوة الإيمان بالله ورسوله. فتجاوزوا الواقع الجاهلي ولم يعبئوا بما حولهم من قبائل وشعوب وأمم غارقة في الجهل والانحراف والرذيلة ، وكان الاَمل بالنصر يراود أفكارهم ومشاعرهم ليغيّروا الأرض ومن فيها ، ويجعلوا الإسلام في موقعه الريادي في حياة البشرية ، وتحمّلوا من أجل ذلك أصناف العذاب.

٧٥

وكان من تعذيب المشركين إيّاهم ( يضربون أحدهم حتى لا يقدر أن يستوي جالساً من شدّة الضرّ الذي ويجيعونه ويعطشونه نزل به ) (١).

وكان الصحابة الأوائل يتقاسمون العذاب والأذى بإيمان واطمئنان بلا تضعضع ولا تراجع ولا هزيمة روحية ، ولم يزدهم العذاب إلاّ إصراراً على الإيمان ثباتاً على طريق الهدى ، وكان شعارهم ( أحد أحد ) ، وحينما اشتد الأذى والعذاب أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة إلى الحبشة ، فهاجروا فراراً بدينهم.

واشتدّ الأذى والعذاب على من بقي من الصحابة في مكة إلى أن شاء الله عزَّ وجلَّ أن يأذن لهم بالنصر المؤزر بعد حصارهم في شعب أبي طالب رضي‌الله‌عنه ثلاث سنوات ، ثم امتدت الدعوة الإسلامية ـ بعد ذلك ـ وانضوى تحت لوائها عدد من أهل المدينة ، فبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة على السمع والطاعة وعلى أن يؤمّنوا له الحماية اللازمة كما يحامون عن أبنائهم ونسائهم ، وعلى حرب من يحاربه مهما كان انتماؤه (٢).

وعاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إيواء المهاجرين ونصرتهم ، فأذن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهجرة من بقي معه في مكة إلى المدينة ، وعلى أثر ذلك تعرض الكثير منهم إلى عنت المشركين واضطهادهم (٣) ، وما أن وصلوا إلى يثرب حتى آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فجعل لكلِّ مهاجر أخاً من

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ١ : ٣٤٣. والسيرة النبوية ، لابن كثير ١ : ٤٩٥.

(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٨٤ ـ ٨٨. والسيرة النبوية ، لابن كثير ٢ : ١٩٥. وإعلام الورى بأعلام الهدى : ٧٠.

(٣) السيرة النبوية ، لابن كثير ٢ : ٢١٥.

٧٦

الأنصار ، فآواه وآزره وشاركه في داره(١) ، وقد تحقق الإخاء بأفضل صورةٍ في تاريخ البشرية ، واستجاب له المهاجرون والأنصار عن قناعة وتسليم واطمئنان ، حتى وصل الأخاء إلى قمته ، فكان الأنصاري يطلّق إحدى زوجتيه ( فيخيّر أخاه المهاجر في إحداهما ) (٢).

وكان المهاجرون والأنصار ( يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثاً مقدّماً على القرابة ) (٣).

وقد حقق ذلك الإخاء دوراً في إنجاح المسيرة الإسلامية والتفرّغ إلى العمل الجاد لدعوة الناس إلى الإسلام ، والجهاد في سبيل الله ، فتكاتفوا في حمل أعباء الرسالة ، وتبليغها.

ولم يمض على استقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين إلاّ أشهر معدودة حتى دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجهاد ، فكانت فرصةً جيدة لمعرفة الذين آمنوا حقاً من الذين في قلوبهم مرض ومن المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام خوفاً ، فاستجاب الذين آمنوا وترسّخ الإيمان في قلوبهم فخرجوا في غزوات لملاحقة قوافل المشركين ، وكانوا لايستريحون من أعباء الغزوة حتى يشاركوا في غزوة أُخرى قاطعين المسافات الطويلة استجابة لله ورسوله.

فقاوموا واجتازوا كل الصعوبات والأخطار والمشاكل والمعوقات الواقعة في طريقهم ، واستمروا في المسيرة التكاملية متعالين على هوى

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن كثير ٢ : ٢٠٤.

(٢) تاريخ المدينة المنورة ١ : ٤٨٨.

(٣) الفصول في سيرة الرسول ، لابن كثير : ١٢٠.

٧٧

النفس وميولها واتجاهاتها المادية. وقطعوا أواصر القربى مع المشركين ، فخرجوا إلى بدر يقاتلون آباءهم وأبناءهم ولا يزيدهم ذلك إلاّ ثباتاً على الإيمان والجهاد ، حتى أمدّهم الله تعالى بملائكة مسوّمين (١).

وهكذا استمر الصحابة في الجهاد وأرخصوا دماءهم في سبيل الدعوة والانقياد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يكلّون ولا يملّون ، وكانوا في عمل دؤوب وجهاد مستمر لا يجدون طعم الراحة والهناء إلاّ بإنجاز التكاليف الإلهية ، فشاركوا في غزوة أُحد ، فكانت هذه الواقعة إحدى المواقع الحساسة التي عرف فيها المؤمنون الحقيقيون من غيرهم.

وكذلك غزوة الخندق حيث قعد الذين لاذوا بالفرار في أُحد ، عن المواجهة مع قائد جيوش المشركين.

ولقد تكرّر منهم المخالفة لأوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أخذ منهم البيعة تحت الشجرة على الموت وعدم الفرار (٢).

وهكذا بدأت المفارقات تظهر شيئاً فشيئاً ، وحقائق الاَشخاص تنكشف يوماً فيوماً :

الفواصل السلوكية الكاشفة عن الحقائق الباطنية :

لم يكن الصحابة على مستوىً واحد من الإيمان والاخلاص والاستقامة ، وإنّما هم متفاوتون في كلِّ ذلك ، والصحبة وإن كانت شرفاً لهم جميعاً إلاّ أنها لا تعني التزكية والتطهير مالم يكن الصحابي مؤهلاً لها

__________________

(١) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٢٨٥.

(٢) السيرة النبوية لابن كثير ٣ : ٣٢٨.

٧٨

ومستعداً للارتقاء والسمو والتكامل ، والصحابي بما هو بشر يحمل في جوانحه عناصر الخير والشر ، وإنّ التزكية والتطهير تابعة للاِرادة ، فالإنسان بطبعه مخيرٌ في اختيار موقفه في الحياة ، وتلعب الوراثة ـ متفاعلة مع المحيط التربوي والاجتماعي ـ دوراً أساسياً في تكوين الشخصية الإنسانية من حيثُ درجة الاقتراب والابتعاد عن المنهج الإسلامي في الواقع.

وإذا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأثير في التوجيه والتربية والاصلاح والتغيير ، فإنّ كثيراً من الصحابة لم يصحبوه إلاّ قليلاً بعد ما مرت عليهم السنين العديدة وهم في الصف المعادي له ، وكان بعضهم أحرص الناس على قتله ، والقضاء على رسالته ، وبعضهم أسلم خوفاً أو طمعاً ، وبعضهم بقي منافقاً مستتراً في نفاقه لا يعلمه إلاّ الله تعالى ، أو معلوماً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خافياً على غيره.

فلا غرابة أن نجد بعضهم مبتعداً عن المنهج الإسلامي في تصوراته ومواقفه العملية لعدم انصهاره بالعقيدة والقيم الجديدة ، وعدم تحكيمه لها في التصورات والعواطف والمواقف ، وخصوصاً في العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الصحابة ، فإنّ بعضهم قطع أواصر المودة والأخاء مع البعض الآخر ، وتعامل البعض بالتنابز بالكفر والفسق والنفاق مع البعض الآخر ، ووصلت الفواصل بينهما إلى حدِّ البراءة والاقتتال.

وقد ظهرت بوادر ذلك في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنها كانت في طور الخفاء والمحدودية ثم توسعت وطفحت بارزة للعيان بعد عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا غرابة في ذلك وقد حذّرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التنافس على الدنيا والاقتتال فيما بينهم.

٧٩

ولكنّ المهم أنْ ترى أن الذين فروا في أُحد ، وقعدوا في الخندق ، وخالفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير موضع ، أخذوا يجاهرون بالمخالفة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قراراته المصيرية الحاسمة :

التخلف عن جيش أُسامة والاعتراض على إمرته :

أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغلب المهاجرين والأنصار بالتوجه إلى غزو الروم تحت إمرة أُسامة بن زيد ، وكان على رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون (١) ، فطعنوا في إمارته وتثاقلوا حتى قام بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً وقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة » (٢).

وتثاقل كثير من الصحابة ولم يلتحقوا باُسامة ، وعصوا أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أغضبوه فأمرهم ثانية وثالثة حتى لعن المتخلفين وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جهزوا جيش أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (٣).

وفي رواية أنّه قال : « جهزوا جيش أسامة ، أنفذوا جيش أُسامة ، أرسلوا بعث أسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (٤).

وعند قرب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد أُسامة ومعه الجيش ينتظرون مصيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحينما علم بهم أمر أُسامة بالخروج وتعجيل النفوذ وجعل

__________________

(١) الكامل في التأريخ ٢ : ٣١٧.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٧٩. وآفة أصحاب الحديث : ١٢. والكامل في التأريخ ٢ : ٣١٧. وبنحوه في الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٢ : ١٩٠. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٢.

(٣) الملل والنحل ، للشهرستاني ١ : ٢٩. وشرح نهج البلاغة ٦ : ٥٢.

(٤) آفة أصحاب الحديث : ١٢.

٨٠