الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-116-8
الصفحات: ١٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وقد أُختلف في الصحابة الذين نزلت فيهم الآية ، فذهب ابن الصلاح وابن النجّار إلى أنّ الآية شاملة لكلِّ الصحابة (١).

وذهب آخرون إلى أنّ الآية خاصة بالذين آمنوا وعملوا الصالحات من الصحابة ، وإلى هذا الرأي أشار العلاّمة الطباطبائي بالقول : ( ... ضمير « منهم » للذين معه ، و « من » للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر ... ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والأجر العظيم بالإيمان حدوثاً وبقاءً ، وعمل الصالحات ، فلو كان منهم من لم يؤمن أصلاً كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق ... أو آمن أولاً ثم أشرك وكفر ... أو آمن ولم يعمل الصالحات ، لم يشمله وعد المغفرة والأجر العظيم.

وقيل : إنَّ « من » في الآية بيانية لا تبعيضية ، فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه ، وهو مدفوع ... بأنّ « من » البيانية لا تدخل على الضمير مطلقاً ... ) (٢).

والآية الكريمة نزلت في أصحاب بيعة الرضوان ومن شهد الحديبية (٣) وتعميمها على الصحابة جميعاً ـ حتى الذين أسلموا بعد صلح الحديبية ـ بحاجة إلى دليل.

وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا معه والرحماء بينهم والأشدّاء على الكفّار هم الذين شهدوا الحديبية ، أمّا غيرهم فكان باقياً على كفره

__________________

(١) مقدمة ابن الصلاح : ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير : ٤٧٤.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ١٨ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٣) تفسير الماوردي ٥ : ٣٠٩. وأسباب نزول القرآن ، للواحدي ٣٩٧. وأسباب النزول ، للسيوطي: ٣٤١.

٤١

ولم يسلم إلاّ بعد فتح مكة ، فكيف يصح التعميم ؟!

وصفات الرحمة بينهم والشدة على الكفّار ، هي التي أوجبت لهم المغفرة والأجر من الله تعالى ، ومن لا يتصف بهذه الصفات فخارج موضوعاً عنهم ، وقد حذّرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاقتتال الداخلي فقال : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (١).

فقد قتل عبدالرحمن بن عديس البلويّ عثمان بن عفان ، وعبدالرحمن من الذين بايعوا بيعة الرضوان (٢) ، وحارب معاوية الإمام عليّاً عليه‌السلام ، بعد أن أهدى إلى قيصر الروم ذهباً وفضة ليتفرغ إلى حرب الإمام عليّ عليه‌السلام (٣) ، فكان مخالفاً لصفة الذين آمنوا وهي الرحمة بينهم والشدة على أعدائهم ، فقد وادع عدوّه ، وحارب وليّه. وقتل في معركة صفيّن خيار الصحابة ومن المهاجرين الأوائل ، كعمّار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين.

وقتل معاوية الصحابي حُجر بن عديّ ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقه وحق من قتل معه: « يقتل بمرج عذراء نفر يغضب لهم أهل السماوات » (٤).

وإذا برّر البعض ما فعله معاوية بأنّه كان مجتهداً ـ كما سيأتي ـ فلا اجتهاد لبسر بن أرطأة حينما قتل طفلين لعبيدالله بن العبّاس بن

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ١٩. وصحيح البخاري ١ : ٣٩. وصحيح مسلم ١ : ٨٢.

(٢) تاريخ المدينة المنوّرة ٤ : ١٥٥.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٩٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣١.

٤٢

عبدالمطلب (١).

وهذه الأحداث تدل على انتزاع صفة الرحمة من بعض الصحابة ، فكيف يدخلون في عموم الآية ؟!

الآية التاسعة : قال تعالى : ( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٢).

ويلحق بها قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (٣).

وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٤).

أثنى الله تعالى على الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين آمنوا فيما بعد ، والظاهر من الثناء اختصاصه بالمجموع لا بالأفراد فرداً فرداً ، لأنّ الثناء انصبَّ على خصائصهم المشرقة النبيلة المتمثلة بنصرهم لله ورسوله والإيثار على النفس ، والدعاء للسابقين بالمغفرة ، ونزع الغل ـ أي العداوة ـ من قلوب الذين آمنوا بعد الهجرة ، فَمَن يتَّصف بهذه الصفات

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨٤. وشرح نهج البلاغة ١ : ٣٤٠.

(٢) سورة الحشر ٥٩ : ٨.

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٩.

(٤) سورة الحشر ٥٩ : ١٠.

٤٣

يستحق الثناء.

وقد وردت تفاسير عديدة تؤكد أنّ المراد بالصادقين بعض المؤمنين وليس جميعهم (١).

ولا ريب في أنّ المراد من هذا البعض هم المؤمنون الصادقون في إيمانهم والمخلصون لله سبحانه في جميع حالاتهم ، فالآية لا تعم الذين في قلوبهم مرض ، والذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.

بينما ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الثناء يشمل جميع أفراد المؤمنين ، أي الصحابة فرداً فرداً (٢) ، فهم الصادقون والمفلحون.

لكنَّ هذا القول يدفعه الثابت من سير بعض الصحابة وتاريخهم ، فإذا تتبّعنا سيرة بعض الصحابة نجدهم قد بدّلوا الدعاء بالغفران للسابقين إلى اللعن والشتم ، والدعاء برفع الغلّ والعداوة إلى العداء الحقيقي الذي وصل إلى حدِّ استحلال قتل من تقدّمهم بالإيمان والهجرة ، فكيف تشملهم الآية ؟!

وكان معاوية وولاته يسبونَّ الإمام عليّاً عليه‌السلام من على منابر المسلمين (٣).

ووضع معاوية قوماً من الصحابة على رواية أخبار قبيحة في الإمام عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، ويجعل لهم هدايا من بيت المال

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١٨ : ١٠. وشواهد التنزيل : ٣٥١. والدر المنثور ٤ : ٣١٦.

(٢) الكفاية في علم الرواية : ٤٦. والإصابة ١ : ٦ ـ ٧.

(٣) مسند أحمد ٧ : ٤٥٥. والمعجم الكبير ٢٣ : ٣٢٣. والعقد الفريد ٥ : ١١٥.

٤٤

مقابل ذلك (١).

فأين الدعاء بالمغفرة ، والدعاء برفع الغلّ والعداوة ؟ وهل يصح الاجتهاد في سبّ المهاجرين الأوائل المنزّهة قلوبهم من أيّ مرض ؟!

وقد اعترف مروان بن الحكم بأنّ سبّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لا مبرّر له إلاّ الحفاظ على كرسي الحكم بعد أن أثبت براءته من دم عثمان ، حيثُ جاء في قوله للإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام : (ما كان أحد أكفّ عن صاحبنا من صاحبكم) فقال عليه‌السلام : « فَلِمَ تشتمونه على المنابر ؟ » قال مروان : ( لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك ) (٢).

فمن بدّل الدعاء بالغفران ورفع الغلّ بالشتم والقتال ، لا يكون مصداقاً للآيات المتقدّمة.

وخلاصة ما تقدَّم أنّ الآيات النازلة بحق الصحابة والثناء عليهم ، لم تكن شاملة لجميع الأفراد ، فبعضها ناظر إلى المجموع بما هو مجموع دون السراية إلى الأفراد ، وبعضها مختصّ بطائفة منهم وضمن مواصفات خاصّة ، وبعضها مشروط بشروط معينة ، وبعضها مشروط بحسن العاقبة.

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٦٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٢٠. وبنحوه في أنساب الاشراف ٢ : ١٨٤.

٤٥

آيات الذم والتقريع

ابتعد كثير من الصحابة في مواقفهم وسلوكهم عن المنهج الإلهي المرسوم لهم ، وخالفوا القواعد الأساسية للسلوك الإسلامي ، فنزلت الآيات في ذمّهم وتقريعهم ، وسنذكر بعض هذه الآيات حسب ترتيبها في القرآن الكريم.

الآية الأولى : قال تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (١).

النفاق قسمان : قسم واضح وظاهر للعيان ، وقسم خفي لا يعلمه إلاّ الله ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً (٢).

أو كما وصفهم الفخر الرازي : ( إنّهم تمرّنوا في حرفة النفاق ، فصاروا فيها استاذين ، وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك ) (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعامل مع المسلمين حسب ظواهرهم ولا يتابعهم أو يعلن عن أسماء المنافقين الذين يعرفهم ، فعن أبي الدرداء أنَّ رجلاً يقال له حرملة .. قال : يا رسول الله : إنّه كان لي أصحاب من المنافقين ، وكنت رأساً فيهم ، أفلا آتيك بهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أتانا

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠١.

(٢) راجع الكشّاف ٢ : ٢١١.

(٣) التفسير الكبير ١٦ : ١٧٣.

٤٦

استغفرنا له ، ومن أصرَّ فالله أولى به ، ولا تخرقنَّ على أحد ستراً » (١).

فوجود منافقين بين الصحابة ، يعني أنّنا لا نستطيع أن نحكم على أفراد الصحابة بالخيرية والعدالة ، وإنّما ننظر إلى سلوكهم ومواقفهم العملية ، فمن كان سلوكه وموقفه مطابقاً لقواعد الإسلام الثابتة فهو من الاَخيار والعدول ، ومن لم يكن كذلك ، فلا نحكم عليه بالخيرية والعدالة ، وإنّما نصفه بالوصف الذي يستحقّه دون الحاجة إلى تبرير سلوكه وموقفه تارة بالتأويل وأُخرى بالاجتهاد ، فما دام النفاق موجوداً لدى بعضهم في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه مستمر بالوجود بعد وفاته ، وخصوصاً أنّ المنافقين أصبحوا في مأمنٍ من كشف الوحي أسرارهم.

الآية الثانية : قال الله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ... ) (٢).

نزلت الآية في الذين أسلموا إسلاماً غير مستقر ، قال الزمخشري : ( على حرف : على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة ... قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، وكان أحدهم إذا صحّ بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً ، وولدت امرأته غلاماً سوياً ، وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلاّ خيراً ... وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلاّ

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ٢ : ٣٩٩.

(٢) سورة الحج ٢٢ : ١١.

٤٧

شرّاً ) (١). ونحو ذلك قال ابن كثير (٢).

والأعراب هم قوم من الصحابة ، لأنّهم صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو ساعة من نهار حسب تعريف المشهور ، وإنَّ درجات إيمانهم تتناسب طردياً مع ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية ، فهم بين اندفاع وانكماش وبين تقدّم وتراجع تبعاً للظروف ، وهؤلاء وإن أسلموا ورافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الوقت ، إلاّ أنّ الإيمان لم يدخل قلوبهم ، كما عبّر عنهم القرآن الكريم : ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ... إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٣).

ويلحق بهم المؤلفة قلوبهم من الصحابة ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطيهم الأموال ليتألفهم على الإسلام ، ومنهم أبو سفيان وأولاده (٤).

ومثل هؤلاء الذين يكون ارتباطهم بالإسلام قائماً على أساس مقدار العطاء ، لا نتوقع أن يكونوا بمستوى المجاهدين الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، ثم لم يرتابوا.

الآية الثالثة : قال الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ... لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥).

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٧.

(٢) تفسير القرآن العظيم ٣ : ٢١٩.

(٣) سورة الحجرات ٤٩ : ١٤ ـ ١٥.

(٤) ربيع الأبرار ١ : ٧٨٨. ومختصر تاريخ دمشق ١١ : ٦٤. وسير أعلام النبلاء ٢ : ١٠٦.

(٥) سورة النور ٢٤ : ١١.

٤٨

نزلت هذه الآية وآيات اُخرى في الصحابة الذي اتهموا إحدى زوجات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفاحشة ، فكان بعضهم من المنافقين ، وكان البعض الآخر من الصحابة غير المنافقين ، قال ابن كثير : ( جماعة منكم يعني ماهو واحد ولا اثنان ، بل جماعة .. فكان المقدّم في هذه اللعنة عبدالله بن أبَي بن سلول رأس المنافقين ، فإنّه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به ، وجوزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن ) (١).

فقد ارتكب جماعة من الصحابة ذنباً عُدّ من كبائر الذنوب ، فاتهام المسلمة وقذفها من الكبائر ، فكيف والمتّهمة زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ولم يحاول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبرئة زوجته محتجاً بأنّ شرف الصحبة له يمنعها من ممارسة ما اتهمت فيه ، وإنّما انتظر الوحي واكتفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجلٍ قد بلغني أذاه في أهل بيتي ... ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ».

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ( يا رسول الله ، أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ) ، فقام سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ، ولكن احتملته الحميّة ، فقال لسعد : ( كذبت ، لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ) ، فقام أُسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعدٍ ، فقال لسعد بن عبادة : ( كذبت ، لعمر الله لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ٣ : ٢٧٩.

٤٩

المنافقين ) (١).

وما جرى بين الصحابة ، من مشادّة واتّهام بالكذب والنفاق يعني تجويز الكذب عليهم ، وتجويز النفاق عليهم ، وإنّ شرف الصحبة لا يحصّنهم من ذلك. هذا ما كان يقوله الصحابة أنفسهم في بعضهم ، فهل للجدال فيه معنىً ؟!

الآية الرابعة : قال الله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) (٢).

نزلت هذه الآية في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام والوليد بن عقبة ، قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط للإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ( أنا أحدّ منك سناناً ، وأبسط منك لساناً ).

فقال له الإمام علي عليه‌السلام : « اسكت ، فإنّما أنت فاسق » ، فنزلت الآية ، قال عبدالله بن عباس : ( يعني بالمؤمن عليّاً ، وبالفاسق الوليد بن عقبة ) (٣).

وقد اتّفق كثير من المفسرين في أنّ المراد بالفاسق هو الوليد بن عقبة (٤).

ونزلت آية اُخرى في الوليد بن عقبة ، وسمّته فاسقاً ، وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ

__________________

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٣٠.

(٢) سورة السجدة ٣٢ : ١٨.

(٣) أسباب نزول القرآن ، للواحدي ٣٦٣.

(٤) الكشّاف ٣ : ٥١٤. وأسباب النزول ، للسيوطي : ٢٩٣. والدر المنثور ٣ : ٥١٤.

٥٠

فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١).

وسبب النزول أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ، فلمّا شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فحسبهم مقاتليه ، فرجع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال له إنّهم قد ارتدّوا ومنعوا الزكاة ، فجاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبروه بعدم صحة قول الوليد ، فنزلت الآية. وهي محل اتّفاق بين المفسرين والمؤرخين في نزولها في الوليد بن عقبة ، وفي تسميته فاسقاً (٢).

والوليد بن عقبة كان مشهوراً بالفسق حتى بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي خلافة عثمان بن عفّان كان الوليد أميراً على الكوفة ، فشرب الخمر ، وصلّى بالناس جماعة وهو سكران (٣).

وقال ابن حجر العسقلاني : ( وقصة صلاته بالناس الصبح أربعاً وهو سكران مشهورة مخرجة ، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضاً مخرجة في الصحيحين ) (٤).

الآية الخامسة : قال الله تعالى : ( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) (٥).

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ : ٦.

(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ٣ : ٣٠٩. وأسباب نزول القرآن ، للواحدي : ٤٠٧. والكشّاف ٣ : ٥٥٩. وتفسير القرآن العظيم ٤ : ٢٢٤. والإصابة ٦ : ٣٢١. وأسباب النزول ، للسيوطي : ٣٤٧.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٣٢. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٤. والكشّاف ٣ : ٥٥٩.

(٤) الإصابة ٦ : ٣٢٢.

(٥) سورة الأحزاب ٣٣ : ١٢.

٥١

وقال تعالى : ( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ ... ) (١).

يذكر الله تعالى صنفين من المسلمين أو من الصحابة : المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض ، فكلاهما يشهد الشهادتين ويعترف ولو بالظاهر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً.

وهنالك ثلاثة آراء في معنى ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) :

فعن محمد بن كعب قال : يعني المنافقين.

وعن عكرمة قال : أصحاب الفواحش.

وعن عطاء قال : كانوا مؤمنين ، وكانوا في أنفسهم أن يزنوا و ... (٢).

وهذه الأقوال كلّها واضحة الضعف.

والظاهر أنّ معنى ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) : ( هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين ، وهم غير المنافقين ) (٣).

نعم ، هم غير المنافقين ، لأنّهم الذين تظاهروا بالإسلام والإيمان لاخوفاً على أنفسهم وأموالهم بل لاغراض غير ذلك.

وضعفاء الإيمان يمكن صدور الذنب والمعصيّة منهم ، وقد صدر بالفعل بقولهم : ( مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) ، وهذا القول من أعظم

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٠.

(٢) الدر المنثور ٦ : ٦٦٢ ـ ٦٦٣.

(٣) الميزان في تفسير القرآن ١٦ : ٢٨٦.

٥٢

الذنوب والمعاصي.

وقد حذّر الله تعالى نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ترقيق القول ، وقال : ( ... فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ... ) (١).

وقال العلاّمة الطباطبائي في تفسيره : ( ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) وهو فقدانه قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء ) (٢).

فالذي في قلبه مرض يميل إلى الذنوب والمعاصي حسب درجة قوة وضعف إيمانه وعاقبته إمّا الاستقامة وإمّا الانحراف.

الآية السادسة : قال الله تعالى : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ... وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) (٣).

إنّه قد تكون المرأة من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر وأطول صحبةً له من الغير ، ولكن لا تأثير لهذه الصحبة في السلوك والموقف العملي ، فهي لا تعصم من الخطأ والزلل إلاّ إذا أعطى الصاحب للصحبة حقّها بالاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا فالله تعالى يحذّر نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إتيان الفاحشة ، ويهدّد بجعل العذاب ضعفين لقربهنَّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال القرطبي : ( لما كان أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه ، قوي الأمر عليهنّ ولزمهنَّ بسبب مكانتهنَّ أكثر ممّا يلزم

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٢.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ١٦ : ٣٠٩.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠ ـ ٣١.

٥٣

غيرهن فضوعف لهنّ الأجر والعذاب ، وقيل : إنّما ذلك لعظم الضرر في جرائمهنَّ بايذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) (١).

فالصحبة بمفردها غير عاصمة من الزلل والخطأ ، ويكون الزلل والخطأ أكثر قبحاً إن صدر ممّن صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ الحجّة عليه تكون آكد وأشدّ.

والأخطاء التي ارتكبت من قبل بعض نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر واقع ، فعن عائشة أنّها قالت : ( إنَّ رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش ... فتواطأت أنا وحفصة أن أينّا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلتقل إني أجدُ منك ريح مغافير ، أكلت مغافير .. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا بل شربتُ عسلاً عند زينب » (٢).

وفي رواية أنّ عمر بن الخطاب قال لحفصة : ( أتغاضبنَّ إحداكنَّ رسول الله يوماً إلى الليل ؟ ) قالت : نعم ، قال : ( أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فيهلكك ؟ ) (٣).

وقد نزلت آيات عديدة في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونساء الأنبياء عليه‌السلام ، منها :

قال الله تعالى : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٤ : ١٧٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢ : ٢١٤. وبنحوه في المعجم الكبير ٢٣ : ٣١٠. والمغافير : جمع المغفار ، وهو صمغ حلو يسيل من بعض الشجر.

(٣) الطبقات الكبرى ، لابن سعد ٨ : ١٨٢. وبنحوه في المعجم الكبير ٢٣ : ٢٠٩.

٥٤

اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ ... ) (١).

وقال الله تعالى : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (٣).

وقال تعالى : ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ) (٣).

الزمخشري للآيات المتقدِّمة قال : ( ... وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين ـ يعني عائشة وحفصة ـ وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر ... وإشارة إلى أنّ من حقهما أن تكونا في الاِخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنّهما زوجا رسول الله ، فإنَّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلاّ مع كونهما مخلصتين ... ) (٤).

فالصحبة الطويلة والكثيرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل وشرف ولكنّها غير عاصمة من الزلل ، فلو كانت عاصمة لعصمت أمرأة نوح وامرأة لوط ، فكان مصيرهما النّار ، ولم تنفعهما صحبتهما للنبي.

__________________

(١) سورة التحريم ٦٦ : ٤ ـ ٥.

(٢) سورة التحريم ٦٦ : ١٠.

(٣) سورة التحريم ٦٦ : ١١ ـ ١٢.

(٤) الكشّاف ٤ : ١٣١.

٥٥

فالميزان هو الاستقامة والاعتدال ، والاستعداد لهما ، ومجاهدة النفس للوصول إلى مراتب الكمال والعدالة.

الآية السابعة : قال الله تعالى : ( ... وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا ) (١).

نزلت هذه الآية في بعض الصحابة الذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روى الطبرسي : ( انّ رجلين قالا : أينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه ، والله لئن مات لنكحنا نساؤه ، وكان أحدهما يريد عائشة ، والآخر يريد أُم سلمة ) (٢).

وعن السدي أنّه قال : ( بلغنا أنّ طلحة بن عبيدالله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمِّنا ويتزوج نساءنا ، لئن حدث به حدث لنتزوجنَّ نساءه من بعد (٣).

وفي رواية أنّ محمد بن عمرو بن حزم ، قال : ( إذا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوجت عائشة ) (٤).

وعن عبدالله بن عباس قال : ( إنَّ رجلاً أتى بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلمّها وهو ابن عمها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقومنَّ هذا المقام بعد يومك هذا ... فمضى ثم قال : يمنعني من كلام ابنة عمّي ، لأتزوجنّها من بعده ، فأنزل الله هذه الآية ... فأعتق ذلك الرجل رقبة ، وحمل على عشرة أبعرة

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

(٢) مجمع البيان ٤ : ٣٦٦.

(٣) أسباب النزول ، للسيوطي : ٣٠٦.

(٤) أسباب النزول ، للسيوطي : ٣٠٦. والدر المنثور ٥ : ٢١٥.

٥٦

في سبيل الله ، وحجَّ ماشياً توبةً من كلمته ) (١).

وفي هذه الرواية أدرك ذلك الصحابي عظم الذنب ، فتاب إلى الله تعالى، وهذا إن دلَّ على شيء إنّما يدل على أنَّ الصحابي معرّض للانحراف والانزلاق ، وهو يستقيم أحياناً وينحرف أخرى وباب التوبة مفتوح للتائبين.

الآية الثامنة : قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) (٢).

عن أبي العالية قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرون أنّه لا يضرّ مع لا إله إلاّ الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت ( الآية ) ، فخافوا أن يبطل الذنب العمل ) (٣).

فهذه الآية نزلت لتصحيح المفاهيم الخاطئة ، وأثبتت أنّ الأعمال الصالحة تبطل بالذنوب.

وقد أكدّ القرآن الكريم على أنّ الذنوب تبطل وتحبط الأعمال وإن كانت غير واضحة عند مرتكبيها قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) (٤).

__________________

(١) أسباب النزول ، للسيوطي : ٣٠٧.

(٢) سورة محمد ٤٧ : ٣٣.

(٣) أسباب النزول ، للسيوطي : ٣٤١.

(٤) سورة الحجرات ٤٩ : ٢.

٥٧

آيات واضحة الدلالة :

وردت آيات عديدة واضحة الدلالة في وصف واقع الصحابة من حيث قربهم وبعدهم عن المنهج الإسلامي الثابت في أُسسه وموازينه ، وفيما يلي نستعرض هذه الآيات.

قال الله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (١).

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ... وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢).

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (٣).

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (٤).

ووردت آيات عديدة تتحدث عن دور الأهواء والمغريات الخارجية ودور الشيطان في منع الإنسان من الاستقامة والاعتدال ، ووردت آيات عديدة تنهى الصحابة عن ممارسات خاطئة وقعوا فيها ، وتحذّرهم من

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٢) سورة الحجرات ٤٩ : ١١.

(٣) سورة الصف ٦١ : ٢ ـ ٣.

(٤) سورة المنافقون ٦٣ : ٩.

٥٨

عذاب الله تعالى ، وتخوفهم من سوء العاقبة بالارتداد والرجوع إلى الكفر ، وكان الترغيب والترهيب هو السائد في أغلب الآيات القرآنية من أجل إصلاح الصحابة وربطهم بالمنهج الإسلامي ليكون حاكماً على تصوراتهم ومشاعرهم ومواقفهم ، بمعنى أنّ الصحابة يجوز عليهم الاشتباه والخطأ والانحراف والفسق ، بل حتى الارتداد عن دين الله تعالى والكفر بالرسالة ، وقد وقع هذا فعلاً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنهم من مات مرتداً ومنهم من عاد إلى الإيمان بعد حروب الردّة كما هو مشهور في كتب التاريخ والسيرة ، وإذا جاز على بعض الارتداد ، وقد حصل بالفعل وبالواقع ، فمن الأولى يجوز عليهم الفسق في السلوك بعد غياب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانقطاع الطاقة الدافعة للإيمان وللتقوى بانقطاع الوحي عن الأرض ، لأنّ عوامل الانحراف والفسق لم تغب عن الواقع ، وهي الأهواء النفسية والمغريات الخارجية ، ودور الشيطان في ربط بعضها بالبعض الآخر.

٥٩
٦٠