الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

الصحابة في القرآن والسنّة والتاريخ

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-116-8
الصفحات: ١٣٣
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الفصل الثاني

الصحابة في القرآن الكريم

وتعرّض القرآن الكريم لأحوال الصحابة وصفاتهم منذ بداية بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى وفاته ... في كثيرٍ من سوره وآياته ...

لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في مقابل الكافرين والذين أُوتوا الكتاب ـ إلى ثلاثة طوائف هم :

١ ـ الذين آمنوا.

٢ ـ الذين في قلوبهم مرض.

٣ ـ المنافقون.

والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان « الذين في قلوبهم مرض » إلى جنب « الذين آمنوا » في بعض السور المكية.

ففي سورة المدثر ، المكية بالاجماع ، وهي من أوليات السور ، جاء قوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا

٢١

أَرَادَ اللهُ بِهَٰذَا مَثَلاً ... ) (١).

دلّت الآية المباركة على وجود أُناس « في قلوبهم مرض » حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ الأيام الأولى من الدعوة الإسلامية ، و « المرض » بأي معنىً فسّر ، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنورة ، قال الله تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ ... ) (٢).

فالذين في قلوبهم مرض لازموا النبي منذ العهد المكي ، حيث كان الإسلام ضعيفاً والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطارداً. أما المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الإسلام ، فتظاهروا بالإسلام حفظاً لأنفسهم وأموالهم وشؤونهم.

وبناءً على هذا ، فكلّ آيةٍ من القرآن الكريم ورد في ظاهرها شيء من الثناء على عموم الصحابة ، فهي ـ لو تمّ الاستدلال بها ـ محفوفة بما يخرجها عن الاطلاق والعموم وتكون مخصّصةً ب‍ « الذين آمنوا » حقيقةً ، فلا يتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرض ، والمنافقين ، الذين وقع التصريح بذمّهم كذلك في كثيرٍ من الآيات (٣).

وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة في مختلف مراحل الدعوة الإسلامية ، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبعد عن الأسس الثابتة في العقيدة والشريعة ، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأوامر والنواهي

__________________

(١) سورة المدثر ٧٤ : ٣١.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١٠١.

(٣) اُنظر تفسير الميزان ٢٠ : ٩٠.

٢٢

آيات المدح والثناء

ذكر غير واحد من المؤلفين آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم :

الآية الأولى : قال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ... ) (١).

قالوا : نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة كما ورد عن عبدالله بن عباس أنّه قال : ( هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة ) (٢).

وعن عكرمة ومقاتل : ( نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم : إنَّ ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله تعالى هذه الآية ... ) (٣).

لكن قول ابن عباس لو ثبت مقيّد بما أشرنا إليه ، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرض قطعاً.

كما أنّ قول عكرمة وأمثاله ليس بحجة.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١١٠.

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ١ : ٣٩٩. والدر المنثور ، للسيوطي ٢ : ٢٩٣. وبنحوه في الجامع لاحكام القرآن ، للقرطبي ٤ : ١٧٠.

(٣) أسباب نزول القرآن ، للواحدي : ١٢١.

٢٣

والآية حتى لو كانت نازلة في مورد خاص إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الاُمّة الإسلامية كما يقول ابن كثير : ( والصحيح أنَّ هذه الآية عامة في جميع الاُمّة كل قرن بحسبه ) (١).

واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية ، هل هو الاُمّة بأفرادها فرداً فرداً ؟ أي أنّ كلّ فرد من الاُمّة الإسلامية هو موصوف بالخيرية ، أو هو الاُمة إجمالاً ، أي بمجموعها دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً.

فذهب جماعة إلى الرأي الأول ومنهم : الخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار الحنبلي (٢).

فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الاُمّة وهم الصحابة آنذاك ، فكل صحابي يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين.

وذهب آخرون إلى الرأي الثاني ، وهو اتصاف مجموع الاُمّة بالخيرية دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً ، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يتصف بالخيرية من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، سواء كان فرداً أو أُمّة.

قال الفخر الرازي : ( ... المعنى أنّكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الاُمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة ... وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجه عليكم من التكاليف ... والألف

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ١ : ٣٩٩.

(٢) الكفاية في علم الرواية : ٤٦. الاصابة ١ : ٦. والاستيعاب ١ : ٢. ومقدمة ابن الصلاح : ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢ : ٢٧٤.

٢٤

واللام في لفظ ( المعروف ) ، ولفظ ( المنكر ) يفيدان الاستغراق ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر ... ( تأمرون ) المقصود به بيان علة تلك الخيرية ) (١).

وقال الفضل الطبرسي : ( كان بمعنى صار ، ومعناه : صرتم خير أُمّة خلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال ... شرطاً في كونهم خيراً ) (٢).

وقال القرطبي : ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر : مدح لهذه الاُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به ، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر ، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم ) (٣).

فالخيرية تزول إن زالت علّتها ، وذهب إلى ذلك ـ أيضاً ـ نظام الدين النيسابوري (٤) ، والشوكاني (٥) ، وآخرون.

وذكر ابن كثير قولين ـ في ذكر الشروط ـ أحدهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآخر لعمر بن الخطّاب :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خيرُ الناس أقرأهم ، وأتقاهم ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم » (٦).

__________________

(١) التفسير الكبير ٨ : ١٨٩ ـ ١٩١.

(٢) مجمع البيان في تفسير القرآن ، للطبرسي ١ : ٤٨٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ٤ : ١٧٣.

(٤) تفسيرغرائب القرآن ، للنيسابوري ٢ : ٢٣٢.

(٥) فتح القديرللشوكاني : ٣٧١.

(٦) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير ١: ٣٩٩.

٢٥

فالآية الكريمة ناظرة إلى مجموع الاُمّة ، أمّا الأفراد فقد وضع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقياساً لاتصافهم بالخيرية كما جاء في قوله.

وفي حجة حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : ( من سرّه أن يكون من هذه الاُمّة فليؤدِ شرط الله فيها ) (١).

وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيرية مختصة بمن نزلت فيهم الآية في حينها ، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : ( ... أنتم خير أُمّة في الوجود الآن ، لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون إيماناً صادقاً يظهر أثره في نفوسكم ... وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولاً ، وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل ... وما فتئت هذه الاُمّة خير الاُمم حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) (٢).

وأضاف محمد رشيد رضا : الاعتصام بحبل الله ، وعدم التفرّق ، إلى شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : ( شهادة من الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنّها خير أمّة أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث ، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة ، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام واتّباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم ، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الإسلام ، إلاّ بعد القيام بالأمر

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ١ : ٤٠٤.

(٢) تفسير المراغي ، لاحمد مصطفى المراغي ٤ : ٢٩.

٢٦

بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين ...

إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل ، لم تكن لكلِّ من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي ) (١).

ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الأقرب للمعنى المراد ، فإنَّ الآية ناظرة إلى مجمل الاُمّة وليس إلى الأفراد فرداً فرداً.

وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال : ( ... لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين ، فالمراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، فلا يراد كل واحد منهم ـ أي من الصحابة ـ ) (٢).

الآية الثانية : قال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ... ) (٣).

جعل الله تعالى المسلمين أُمّة وسطاً بين الاُمم ، لا سيّما اليهود والنصارى ، فالاُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغلو في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الأنبياء ، قال النيسابوري : ( إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط ، والغالي والمقصّر في شأن الأنبياء لا كالنصارى ... ولا كاليهود ) (٤).

ويطلق الوسط أيضاً على الخيار والعدل

__________________

(١) تفسير المنار ٤ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف : ٨٢.

(٣) سورة البقرة ٢ : ١٤٣.

(٤) تفسير غرائب القرآن ١ : ٤٢١.

٢٧

قال الزمخشري : ( ... وقيل للخيار وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار ، والأوساط محمية محوطة .. أو عدولاً لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض ) (١).

وقال القرطبي نحو ذلك (٢).

والوسطية بمعنى الاعتدال بين الافراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسرين (٣).

فهذه الآية كسابقتها في أن المراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، وإنْ حاول جماعة ـ ومنهم : عبدالرحمن ابن أبي حاتم الرازي ، والخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار (٤)ـ تنزيلها على الأفراد فجعلوا كلّ مسلم وسطاً وعدلاً ، فالصحابة جميعهم عدول بشهادة القرآن لهم.

قال الفضل الطبرسي : ( ... إنّه ـ تعالى ـ جعل أُمّة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدلاً وواسطة بين الرسول والناس ، ومتى قيل : إذا كان في الاُمّة من ليس هذه صفته ، فكيف وصف جماعتهم بذلك ؟ فالجواب : إنّ المراد به من كان بتلك الصفة ، ولأن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم ) (٥).

__________________

(١) الكشّاف ١ : ٣١٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢ : ١٥٤.

(٣) مجمع البيان ١ : ٢٤٤. وتفسير المراغي ٢ : ٦. وتفسير المنار ٢ : ٥.

(٤) الجرح والتعديل ١ : ٧. والكفاية في علم الرواية : ٤٦. والإصابة ١ : ٦. والاستيعاب ١ : ٢. ومقدمة ابن الصلاح : ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢ : ٤٧٤.

(٥) مجمع البيان ١ : ٢٢٤.

٢٨

وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطية ، وهو اتّباع سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن لم يتبعها يعتبر خارجاً عن هذه الاُمّة فقال : فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته ، وهو الذي يحكم على من اتّبعها ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى وانحرف عن الجادّة ، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّة عليه بأنّه ليس من أُمتّه .. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين ) (١).

وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار (٢).

وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالأولياء دون غيرهم ، فقال : ( ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الاُمّة ، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم) (٣).

وقال ـ أيضاً ـ : ( فالمراد بكون الاُمّة شهيدة أنّ هذه الشهادة فيهم ، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فضّلوا على العالمين ، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه ) (٤).

ومما يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الاُمّة ، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجية إجماع الاُمّة استندوا إلى هذه الآية ، واعتبروا إجماع الاُمّة هو الحجّة دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً ، كما حكى عنهم الشريف

__________________

(١) تفسير المراغي ٢ : ٦.

(٢) تفسير المنار ٢ : ٥.

(٣) الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٢١.

(٤) الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٢١.

٢٩

المرتضى (١) وأبو حيان الأندلسي (٢).

وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الاُمّة فقال : ( فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الاُمّة موصوفاً بالعدالة ، إذ لا يجوز أن يكون كل واحد موصوفاً بها ، لأنّ الواقع خلافه ) (٣).

وبعد ، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين ، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالأمر واضح ، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها وضمّ بعضها إلى البعض الآخر ، فهي وانْ شملت الأفراد لكن «الذين آمنوا» فقط ، دون « الذين في قلوبهم مرض » و « المنافقين » ، وأمّا على أقوال الجمهور ، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الاُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة ، لأن الواقع خلافه كما نصّ عليه العلاء البخاري.

فالآية الكريمة جعلت المسلمين أمّة وسطاً أو عدلاً ، وهذه الوسطية والعدلية ممتدة مع امتداد الاُمّة الإسلامية في كلِّ عصر وزمان ، فالاُمّة الإسلامية في مراحل لاحقة هي أمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الإسلامي ، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الاُمّة الإسلامية أُمّة وسط أو أمّة عادلة ، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الاُمّة ، أمّا سراية الوسطية والعدلية للأفراد فرداً فرداً فلا تصح ، لأنّ الواقع يخالف ذلك ، فكثير من المسلمين بعيدون عن الإسلام كلّ البعد في تصوراتهم

__________________

(١) الشافي في الإمامة ١ : ٢٣٢ وما قبلها.

(٢) تفسير البحر المحيط ١ : ٤٢١.

(٣) كشف الأسرار ، لعلاء الدين البخاري ، دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٣٩٤ ه‍.

٣٠

ومشاعرهم ومواقفهم ، فكيف نعمّم العدالة على الأفراد ؟ وما نقوله هنا نقوله في حقّ أفراد الاُمّة في زمن النزول ، فالآية مختصة بمجموع الاُمّة بما فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعترة الطاهرة : والمهاجرون والأنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الأوامر الإلهية والنبوية طرفة عين ، واستمروا على ذلك حتى بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الآية الثالثة : قال تعالى : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) (١).

استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة ومنهم عبدالرحمن الرازي (٢).

ووجه الاستدلال : أنّ الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً ، ولا يصح الأمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق.

ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى. ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه :

الأول : ذهب كثير من المفسرِّين والمتكلمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الأمّة ، ومنهم القصّار المالكي والسبكي (٣).

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١١٥.

(٢) الجرح والتعديل ، لعبدالرحمن الرازي ١ : ٧.

(٣) المقدمة في الاُصول ، للقصّار المالكي : ٤٥. والابهاج في شرح المنهاج ، للسبكي ٢ : ٣٥٣.

٣١

الثاني : المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الإيمان وطاعة الله ورسوله ، فإنَّ ذلك هو ( الحافظ لوحدة سبيلهم ) (١).

الثالث : أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الاثم والعدوان ، كما ورد في الآيات الكريمة ، ومنها : قوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ) (٣).

فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالإثم والعدوان ، لإمكان وقوعه من قبل المسلمين.

الرابع : اختلف الصحابة فيما بينهم حتى وصل الحال بهم إلى الاقتتال ، كما حدث في معركة الجمل وصفين ، فيجب على الرأي المتقدم اتّباع الجميع ، اتّباع علي بن أبي طالب عليه‌السلام والخارجين عليه ، وهذا محال ، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني عدم اتّباع الجميع بل البعض منهم ، وهذا هو الوجه الصحيح ، وهو وجوب اتّباع من وافق الحق والشريعة وليس اتّباع كل سبيل.

فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللأسس الثابتة في الشريعة ، وليس هو سبيل كلّ فرد من أفراد المؤمنين.

وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ٥ : ٨٢.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٢.

(٣) سورة المجادلة ٥٨ : ٩.

٣٢

الأفراد فقال : ( إنّ لفظ الاُمّة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الاُمّة وأفراد المؤمنين ) (١).

الآية الرابعة : قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (٢).

في هذه الآية تطييب لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه ، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية ، فقال مجاهد : ( حسبك الله والمؤمنون ) (٣) ، فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى ، فالله تعالى والمؤمنون هم الذين ينصرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤيدوه.

وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم فقال : ( يخبرهم أنّه حسبهم ، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم ) (٤).

وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الأول (٥).

وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الأول ، وهي قوله تعالى : ( ... فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ ) (٦).

والآية تسمّي من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمؤمنين سواء كان الله تعالى

__________________

(١) أعلام الموقعين ٤ : ١٢٧.

(٢) سورة الانفال ٨ : ٦٤.

(٣) الدر المنثور ٤ : ١٠١.

(٤) تفسير القرآن العظيم ٢ : ٣٣٧.

(٥) الميزان في تفسير القرآن ٩ : ١٢١.

(٦) سورة الانفال ٨ : ٦٢.

٣٣

ناصره وناصرهم ، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا دلالة على أكثر من ذلك.

وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم (١). وجعلوا الآية شاملة لجميع الصحابة حتى الذين لم يشتركوا في أي غزوة من الغزوات ، وهذا التعميم بحاجة إلى دليل ، ولا يكفي أن نقول : إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد ، فالآية قد نزلت في مورد خاص وفي معركة بدر بالخصوص ، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتى الذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثم أسلموا فيما بعد ؟

وتسالم المفسرون على نزول الآية في مورد خاص وهو غزوة بدر ، وفي جماعة خاصة من الصحابة ، وهم الصحابة الاَوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا ، لا في مطلق الصحابة.

فقيل : أنّها نزلت في الأنصار (٢).

وقيل : أنّها نزلت في الأربعين الذين أسلموا في بداية البعثة (٣).

وعن الإمام محمد الباقر عليه‌السلام : « أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب » (٤).

والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القتال.

__________________

(١) الكفاية في علم الرواية : ٤٦. والإصابة في تمييز الصحابة ١ : ٦.

(٢) التفسير الكبير ١٥ : ١٩١. والدر المنثور ٤ : ١٠١.

(٣) أسباب النزول ، للسيوطي : ١٨٣. والدر المنثور ٤ : ١٠١.

(٤) شواهد التنزيل ، للحسكاني ١ : ٢٣٠.

٣٤

وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني من شمولها لجميع الصحابة فرداً فرداً ، فالمتسالم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أمّا بقية الصحابة الذين أسلموا فيما بعد وخصوصاً بعد فتح مكة ، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره على أعدائه الذين جمعوا له للقضاء عليه وعلى رسالته ، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد ، كمعاوية ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد وغيرهم !

ومع نزول الآية في الصحابة الأوائل ، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة ، كما سيأتي فيما بعد (١).

وهذا كلّه بحسب الأقوال والآراء في معنى الآية ونزولها.

أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) وهل يعمّ هذا اللسان غير « الذين آمنوا » من « الذين في قلوبهم مرض » ومن « المنافقين » ؟!

الآية الخامسة : قال الله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... ) (٢).

__________________

(١) راجع الآية السابعة من هذا الفصل.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

٣٥

في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله.

واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء (١) :

الرأي الأول : أهل بدر.

الرأي الثاني : الذين صلّوا إلى القبلتين.

الرأي الثالث : الذين شهدوا بيعة الرضوان.

واختلفوا في تفسير التابعين على آراء :

الأول : هم الأنصار ، على قراءة من حذف الواو من قوله ( والّذين ) (٢).

الثاني : هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار (٣).

الثالث : هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة (٤).

الرابع : هم المسلمون في كلِّ زمان إلى أن تقوم الساعة (٥).

واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار حسب رأيهم المعروف بهذه الآية على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٦٤. والجامع لأحكام القرآن ٨ : ٢٣٦. والكشاف ٢ : ٢١٠. وتفسير القرآن العظيم ٢ : ٣٩٨. والدر المنثور ٤ : ٢٦٩.

(٢) التفسير الكبير ١٦ : ١٧١.

(٣) المصدر السابق ١٦ : ١٧٢.

(٤) الجرح والتعديل ١ : ٨.

(٥) الدر المنثور ٤ : ٢٧٢.

٣٦

الذين عاصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أسلموا فيما بعد ، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام ، حسب تعريفهم للصحابة ، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً (١).

وهذا الاستدلال خلاف للواقع ، فالآية مختصّة بالمهاجرين والأنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة ، من غير « الذين في قلوبهم مرض » و « المنافقين » أمّا التبعية لهم فمشروطة بالاِحسان ، سواء فُسِّر باحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي (٢) ، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم ، كما قال المراغي : ( فإذا اتّبعوهم في ظاهر الإسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين ، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض كانوا مذنبين ) (٣).

فمن لم يحسن القول فيهم أو من لا يتبعهم بإحسان لا يكون مستحقاً لرضوان الله تعالى ، فمن أمر بشتم الإمام عليّ عليه‌السلام وذمه لا تشمله الآية ، فقد جاء في وصية معاوية للمغيرة بن شعبة : ( لا تترك شتم عليّ وذمّه ) ، فكان المغيرة ( لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه ) (٤).

فكيف يدّعون رضوان الله عنهم وقد خالفوا شرطه في الاتّباع بإحسان ، وخرجوا على أول المؤمنين ووصي رسول رب العالمين ، أو من استقرت له الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد حسب رأيهم ، وسفكوا في هذا الخروج دماء السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان

__________________

(١) الكفاية في علم الرواية : ٤٦. والاصابة ١ : ٦. وشرح الكوكب المنير ٢ : ٤٧٢.

(٢) التفسير الكبير ١٦ : ١٧٢.

(٣) تفسير المراغي ١١ : ١١.

(٤) الكامل في التاريخ ٣ : ٤٧٢.

٣٧

كعمّار بن ياسر وذي الشهادتين وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص وغيرهم كما هو مشهور ؟!

وإضافة إلى ذلك فرضوان الله تعالى مشروط بحسن العاقبة كما ورد عن البراء بن عازب ، حينما قيل له : (طوبى لك صحبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبايعته تحت الشجرة) ، فقال للقائل : ( ... إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده ) (١).

وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ » (٢).

الآية السادسة : قال تعالى : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (٣).

أثنى الله تعالى على الصحابة « المؤمنين » الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة ، وهي بيعة الرضوان ، ومصداق الثناء هو رضوان الله عنهم وإنزال السكينة على قلوبهم.

وعلى الرغم من نزول الآية في بيعة الرضوان عام الحديبية واختصاصها بالمبايعين فقط ، وعددهم ـ حسب المشهور من الروايات ـ كان ألفاً وأربعمائة (٤) وهي بقرينة الآيات الاُخرى مخصّصة بالذين آمنوا ولم يكن في قلوبهم مرض ، واستقاموا على الإيمان ولم ينحرفوا عن لوازم البيعة ، إلاّ أنّ الخطيب البغدادي أدرج جميع الصحابة في هذه الآية ،

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٦٠.

(٢) مسند أحمد ٦ : ١٩.

(٣) سورة الفتح ٤٨ : ١٨.

(٤) السيرة النبوية ، لابن هشام ٣ : ٣٢٢. والسيرة النبوية ، لابن كثير ٣ : ٣٢٤.

٣٨

وتابعه ابن حجر العسقلاني مستشهداً برأيه (١) ، ولهذا ادّعوا عدالة جميع الصحابة كما هو المشهور في تعريفهم للصحابي.

وهذا الادّعاء غير صحيح ، فرضوان الله وسكينته مختصة بالمبايعين الموصوفين بما ذكرناه فقط ، أمّا غيرهم فخارج عن ذلك ، ولأن سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان من قبل المشركين بعد أن أرسله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبعوثاً عنه إلى قريش، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البيعة على قتال المشركين (٢) ، وهؤلاء المشركون هم الذين أسلموا فيما بعد وأصبحوا من الصحابة ، فكيف يشملهم رضوان الله وسكينته ، وهم السبب الأساسي في الدعوة إلى البيعة ، فكيف يُعقل أن يكون رضوان الله شاملاً للمبايعين وللمراد قتالهم في آن واحد ؟!

وإضافة إلى ذلك فإنّ الأجر المترتب على البيعة موقوف على الوفاء بالعهد ، كما جاء في الآية الكريمة : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) (٣) ، فرضوان الله وسكينته مشروطة بالوفاء بالعهد وعدم نكثه (٤).

وكل ذلك مشروط بحسن العاقبة كما في رواية البراء بن عازب المتقدِّمة ، ولم تمضِ على البيعة إلاّ أيام معدودة حتى عقد رسول

__________________

(١) الكفاية في علم الرواية : ٤٦. والإصابة ١ : ٦ ـ ٧.

(٢) السيرة النبوية ، لابن هشام ٣ : ٣٣٠.

(٣) سورة الفتح ٤٨ : ١٠.

(٤) الكشّاف ٣ : ٥٤٣. ومجمع البيان ٥ : ١١٣. وتفسير القرآن العظيم ٤ : ١٩٩.

٣٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة الصلح في الحديبية ، فدخل الشك والريب قلوب بعض الصحابة حتى خالفوا أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يستجيبوا له حينما أمرهم بالحلق والنحر (١) إلاّ بعد التكرار وقيامه بنفسه بالحلق والنحر ، وهذا يدّل على أنّ لحسن العاقبة دوراً كبيراً في الحكم على البعض بالعدالة وعدمها ، فرضوان الله تعالى إنّما خصص بالبيعة ، ولا دليل لشموله لجميع المراحل التي تعقب مرحلة البيعة ، فمثلاً أنّ قاتل عمّار بن ياسر في صفين كان من المبايعين تحت الشجرة (٢). وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمّار : « قاتِلهُ وسالبه في النار » (٣)، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ويح عمّار تقتله الفئة الباغية ، عمّار يدعوهم إلى الله ، ويدعونه إلى النّار » (٤).

الآية الثامنة : قال الله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (٥).

وصف الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه بأنّهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، عرفوا بالركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان من الله ، ووعد تعالى المؤمنين منهم والذين عملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٥. والكامل في التاريخ ٢ : ٢٠٥.

(٢) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤ : ١٦١.

(٣) سير أعلام النبلاء ١ : ٤٢٠ ـ ٤٢٦. والطبقات الكبرى ٣ : ٢٦١. واُسد الغابة ٤ : ٤٧. وكنز العمّال ١٣ : ٥٣١ / ٧٣٨٣. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٩٧ وقال : رجاله رجال الصحيح.

(٤) صحيح البخاري ٤ : ٢٥. وبنحوه في العقد الفريد ٥ : ٩٠. والكامل في التاريخ ٣ : ٣١٠.

(٥) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

٤٠