بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٦
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

١١ ـ كش : حمدويه وإبراهيم معا ، عن محمد بن عيسى ، عن هشام المشرقي أنه دخل على أبي الحسن الخراساني عليه‌السلام فقال : إن أهل البصرة سألوا عن الكلام فقالوا : إن يونس يقول : إن الكلام ليس بمخلوق ، فقلت لهم : صدق يونس إن الكلام ليس بمخلوق ، أما بلغكم قول أبي جعفر عليه‌السلام حين سئل عن القرآن : أخالق هو أم مخلوق؟ فقال لهم : ليس بخالق ولا مخلوق ، إنما هو كلام الخالق فقويت أمر يونس ، فقالوا : إن يونس يقول : إن من السنة أن يصلي الانسان ركعتين وهو جالس بعد العتمة ، فقلت : صدق يونس (١).

١٥

* ( باب) *

* ( ( وجوه اعجاز القرآن ) ) *

أقول : قد سبق ما يناسب هذا الباب في الباب الاول من هذا الكتاب ، وقد أوردنا أكثر ما يناسب هذا الباب في كتاب أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتذكر (٢).

ولنذكر هنا ما أورده القطب الراوندي رحمه الله بطوله في كتاب الخرائج والجرائح في هذا المعنى ، فانه كاف في هذا الباب ، ومقنع في دفع الشبه الموردة على ذلك في كل باب.

قال رضوان الله عليه : اعلم أن كتاب الله المجيد ليس مصدقا لنبي الرحمة خاتم النبيين فقط بل هو مصدق لسائر الانبياء والاوصياء قبله ، وسائر الاوصياء بعده جملة وتفصيلا ، وليس جملة الكتاب معجزة واحدة ، بل هي معجزات لا تحصى وفيه إعلام عدد الرمل والحصى ، لان أقصر سورة فيه إنما هو الكوثر ، وفيه إعجاز من وجهين :

أحدهما أنه قد تضمن خبرا عن الغيب قطعا قبل وقوعه ، فوقع كما أخبر عنه من غير خلف فيه ، وهو قوله : ( إن شانئك هو الابتر ) لما قال قائلهم :

____________________

(١) رجال الكشى : ٤١٤.

(٢) راجع ج ١٧ ص ١٥٩ ٢٢٥ من هذه الطبعة الحديثه.

١٢١

إن محمدا رجل صنبور (١) فاذا مات انقطع ذكره ، ولا خلف له يبقى به ذكره فعكس ذلك على قائله ، وكان كذلك.

والثاني من طريق نظمه لانه على قلة عدد حروفه ، وقصر آيه ، يجمع نظما بديعا ، وأمرا عجيبا ، وبشارة للرسول ، وتعبدا للعبادات بأقرب لفظ وأوجز بيان ، وقد نبهنا على ذلك في كتاب مفرد لذلك.

ثم إن السور الطوال متضمنة للاعجاز من وجوه كثيرة نظما وجزالة وخبرا عن الغيوب ، فلذلك لا يجوز أن يقال : إن القرآن معجز واحد ولا ألف معجز ، ولا أضعافه ، فلذلك خطأنا قول من قال : إن للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف معجز أو ألفي معجز ، بل يزيد ذلك عند الاحصاء على الالوف.

ثم الاستدلال في أن القرآن معجز لا يتم إلا بعد بيان خمسة أشياء : أحدها ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة ، وادعاؤه أنه مبعوث إلى الخلق ورسول إليهم ، وثانيها تحديه العرب بهذا القرآن الذي ظهر على يديه ، وادعاؤه أن الله أنزله عليه وخصه به ، وثالثها أن العرب مع طول المدة لم يعارضوه ، ورابعها أنه لم يعارضوه للتعذر والعجز ، وخامسها أن هذا التعذر خارق للعاذه ، فاذا ثبت ذلك فإما أن يكون القرآن نفسه معجزا خارقا للعادة بفصاحته ، ولذلك لم يعارضوه ، أولان الله صرفهم عن معارضتهم ولو لا الصرف لعارضوه ، وأي الامرين ثبت صحت نبوته عليه‌السلام لانه تعالى لا يصدق كاذبا ، ولا يخرق العادة لمبطل.

وأما ظهوره عليه‌السلام بمكة ، ودعاؤه إلى نفسه فلا شبهة فيه ، بل هو معلوم ضرورة لا ينكره عاقل ، وظهر هذا القرآن على يده أيضا معلوم ضرورة ، والشك في أحدهما كالشك في الاخر.

وأما الذي يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدى بالقرآن فهو أن معنى قولنا إنه تحدى : أنه كان يدعي أن الله تعالى خصه بهذا القرآن وإنبائه به ، وأن

____________________

(١) الصنبور كعصفور النخلة المنفردة من النخيل ، والتى دقت من أسفلها وانجرد كربها وقل حملها ، ثم كنى به عن الرجل الضعيف الذليل بلا أهل ولا عقب ولا ناصر.

١٢٢

جبرئيل عليه‌السلام أتاه به ، وذلك معلوم ضرورة لا يمكن لاحد دفعه ، وهذا غاية التحدي في المعنى.

وأما الكلام في أنه لم يعارض ، فلانه لو عورض لوجب أن ينقل ولو نقل لعلم ، كما علم نفس القرآن ، فلما لم يعلم ، دل على أنه لم يكن ، وبهذا يعلم أنه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما لانه لو كان لنقل وعلم ، وإنما قلنا إن المعارضة لوكانت لوجب نقلها لان الدواعي متوفرة على نقلها ، ولانها تكون الحجة ، والقرآن شبهة ، لوكانت ، ونقل الحجة أولى من نقل الشبهة وأما الذي نعلم به أن جهة انتفاء المعارضة التعذر لا غير ، فهو أن كل فعل ارتفع عن فاعله مع توفر دواعيه إليه ، علم أنه ارتفع للتعذر ، ولهذا قلنا إن هذه الجواهر والاكوان ليست في مقدورنا ، وخاصة إذا علمنا أن الموانع المعقولة مرتفعة كلها ، فيجب لنا أن نقطع على أن ذلك من جهة التعذر لا غيره وإذا علمنا أن العرب تحدوا بالقرآن فلم يعارضوه مع شدة حاجتهم إلى المعارضة ، علمنا أنهم لم يعارضوه للتعذر لا غير ، وإذا ثبت كون القرآن معجزا وأن معارضته تعذرت لكونه خارقا للعادة ، ثبت بذلك نبوته المطلوبة.

ثم اعلم أن الطريق إلى معرفة صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوصي عليه‌السلام ليس إلا ظهور المعجز عليه ، أو خبر نبي ثابت نبوته بالمعجز ، والمعجز في اللغة ما يجعل غيره عاجزا ، ثم تعورف في الفعل الذي يعجز القادر عن مثله ، وفي الشرع هو كل حادث من فعل الله أو بأمره أو تمكينه ناقض لعادة الناس في زمان تكليف مطابق لدعوته أو ما يجري مجراه.

واعلم أن شروط المعجزات امور :

منها أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه المبعوث إليه وجنسه ، لانه لو قدر عليه أو واحد من جنسه في الحال لما دل على صدقه ، ووصي النبي حكمه حكمه.

ومنها أن يكون من فعل الله أو بأمره وتمكينه لان المصدق للنبي بالمعجز هو الله ، فلا بد أن يكون من جهته تعالى.

١٢٣

ومنها أن يكون ناقضا للعادة لانه لو فعل معتادا لم يدل على صدقه ، كطلوع الشمس من المشرق.

ومنها أن يحدث عقيب دعوى المدعي أو جاريا مجى ذلك. والذي يجري مجراه أن يدعي النبوة ويظهر عليه معجزا ، ثم يشيع دعواه في الناس ثم يظهر معجز من غير تجديد دعوى لذلك ، لانه إذا لم يظهر كذلك لم يعلم تعلقه بالدعوى فلا يعلم أنه تصديق له في دعواه.

ومنها أن يظهر ذلك في زمان التكليف لان أشراط الساعة ينتقض بها عادته تعالى ، ولا يدل على صدق مدع.

ثم إن القرآن معجز ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدى العرب بمثله وهم النهاية في البلاغة ، وتوفرت دواعيهم إلى الاتيان بما تحداهم به ، ولم يكن لهم صارف عنه ولا مانع منه ، ولم يأتوا به ، فعلمنا أنهم عجزوا عن الاتيان بمثله.

وإنما قلنا إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحداهم به لان القرآن نفسه يتضمن التحدي كقوله تعالى : ( فأتوا بسورة من مثله ) ومعلوم أن العرب في زمانه وبعده كانوا يتبارون بالبلاغة ، ويفخرون بالفصاحة ، وكانت لهم مجامع يعرضون فيها شعرهم ، وحضر زمانه من يعد في الطبقة الاولى كالاعشى ولبيد وطفة ، وزمانه أوسط الازمنة في استعمال المستأنس من كلام العرب دون الغريب الوحشي الثقيل على اللسان فصح أنهم كانوا الغاية في الفصاحة ، وإنما قلنا اشتدت دواعيهم إلى الاتيان بمثله فانه تحداهم ثم قرعهم بالعجز عنه ، بقوله تعالى : ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا ) وقوله تعالى : ( فان لم تفعلوا ولن تفعلوا ).

فان قيل : لعل صارفهم هو قلة احتفالهم به أو بالقرآن لا نحطاطه في البلاغة قلنا لا شبهة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من أو سطهم في النسب [ وفي الخصال المحمودة ] حتى سموه الامين ، الصدوق ، وكيف لا يختفلون به وهم كانوا يستعظمون القرآن حتى شهروه بالسحر ، ومنعوا الناس من استماعه ، لئلا يأخذ بمجامع قلوب السامعين ، فكيف

١٢٤

يرغبون عن معارضته (١).

فان قيل : ألستم تقولون إن ما يأتي به محمد من القرآن هو كلام الله وفعله وقلتم إن مقدورات العباد لا تنتقض بها العادة ، وقلتم إن القرآن هو أول كلام تكلم به تعالى ، وليس بحادث في وقت نزوله ، والناقض للعادة لابد وأن يكون هو متجدد الحدوث ، لان الكلام مقدور للعباد ، فما يكون من جنسه لا يكون ناقضا للعادة ، فلا يكون معجزا للعباد.

الجواب أن الناقض للعادة هو ظهور القرآن في مثل بلاغته المعجزة ، وذلك يتجدد ، وليس يظهر مثله في العادة سواء جوز أن يكون من قبله أو من قبل ملك يظهر عليه بأمره تعالى أو أوحى الله به إليه ، فاذا علم صدقه في دعواه بظهور مثل هذا الكلام البليغ الذي يعجز عنه المبعوث إليه وجنسه عن مثله ، وعما يقاربه وكان ناقضا للعادة ، فكان معجزا دالا على صدقه ، ولم يضرنا في ذلك أن يكون تعالى تكلم به قبل ، إذ لم يجر تعالى عادته في إظهاره على أحد غيره.

وقوله ( إنه مركب من جنس مقدور العباد ) لا يقدح في كونه ناقضا للعادة ولا في كونه معجزا ، لان الاعجاز فيه هو من جملة البلاغة ، وفيها يقع التفاوت بين البلغاء ، ألا ترى أن الشعراء والخطباء يتفاضلون في بلاغتهم في شعرهم وخطبهم؟ فصح أن يكون في الكلام ما بلغ حدا في البلاغة ينقض به العادة في بلاغة البلغاء من العباد.

ويبين ذلك أن البلاغة في الكلام البليغ لا يحصل بقدرة القادر على إحداث الحروف المركبة ، وإنما يظهر بعلوم المتكلم بالكلام البليغ ، وتلك العلوم لا تحصل للعبد باكتسابه ، وإنما يحصل له من قبل الله الله ابتداء ، وعند اجتهاد العبد في استعمال ما يحصل عنده ، وتلك العلوم من فعله تعالى ، وقد أجرى الله عادته فيها بمنح العبد من العلوم للبلاغة ، فلا يمنح من ذلك إلا مقدارا يتفاوت فيه

____________________

(١) مختار الخرائج ص ٢٦٧ ٢٦٨ ، وما بعده لم يطبع إلى قوله وأما وجه اعجاز القرآن وقد صححه المؤلف العلامة بخط يده في نسخة الاصل وضرب على بعض جملاتها.

١٢٥

بلاغة بعضهم عن بعض ، ويتفاوتون في ذلك بقدر تفاوت بلاغتهم ، فاذا تجاوز بلاغة القرآن ذلك المقدار الذي جرت به العادة في بلاغة العبد ، وبلغت حدا لا تبلغه بلاغ أبلغهم ، ظهر كونه ناقضا للعادة ، وإنما يبين كونه كذلك ، إذا بينا أنه تحداهم بمثل القرآن ، فعجزوا عنه ، وعما يقاربه.

فاذا قيل : فبما ذا علمتم أن القرآن ظهر معجزة له دون غيره ، وما أنكرتم أن الله بعث نبيا غير محمد ، وآمن محمد بن ، فتلقته منه محمد ، ثم قتل ذلك النبي وادعاه معجزة لنفسه.

الجواب أنا نعلم باضطرار أنه مختص به كما نعلم في كثير من الاشعار والتصانيف أنها مختصة بمن تضاف إليه كشعر امرء القيس وكتاب العين للخليل ، ثم إن القرآن ظهر منه وسمع ، ولم يجر ، في الناس ذكر أنه ظهر لغيره ، ولا جوزوه ، وكيف يجوز في حكمه الحكيم أن يمكن أحدا من ذلك وقد علم حال محمد في عزف نفسه عن ملاذ الدنيا من أول أمره إلى أواخره ، كيف يتهم بما قالوه.

فان قيل : لعل من تقدم محمدا كامرء القيس وأضرابه لو عاصره لامكنه معارضته ، قلنا : إن التحدي لم يقع بالشعر فيصح ما قتله ، وكان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقريبا منه من قدم في البلاغة من تقدم ، ولانه ما كلفهم أن يأتوا بالمعارضة من عند أنفسهم ، وإنما تحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن من كلامهم أو كلام غيرهم ممن تقدمهم ، فلو علموا أن في كلامهم ما يوازي بلاغة القرآن لاتوابه ، ولقالوا إن هذا كلام من ليس بمنبئ وهو مساو للقرآن في بلاغته ومعلوم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قرأ الكتب ولا تتلمذ لاحد من أهل الكتاب ، وكان ذلك معلوما لاعدائه ، ثم قص عليهم قصص نوح ، وموسى ، ويوسف ، وهود ، وصالح ، وشعيب ولوط ، وعيسى وقصة مريم على طولها ، فما رد عليه أحد من أهل الكتاب شيئا منها ، ولا خطاؤه في شئ من ذلك ، ومثل هذه الاخبار لا يتمكن منها إلا بالتبخيت والاتفاق (١) وقد نبه الله عليه بقوله ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا

____________________

(١) أى الا بأن نقول بالبخت والاتفاق.

١٢٦

أمرهم ) (١) ونحو ذلك من قصص الانبياء والامم الماضين.

وأما وجه إعجاز القرآن فاعلم أن المسلمين اتفقوا على ثبوت دلالة القرآن على النبوة وصدق الدعوة ، واختلف المتكلمون في جهة إعجاز القرآن على سبعة أوجه ، فقد ذهب قوم إلى أنه معجز من حيث كان قديما أو لانه حكاية للكلام القديم ، وعبارة عنه ، فقولهم أظهر فسادا من أن يختلط بالمذاهب المذكورة في إعجاز القرآن.

فأول ما ذكر من تلك الوجوه : ما اختاره المرتضى وهو أن وجه الاعجاز في القرآن أن الله صرف العرب عن معارضته ، وسلبهم العلم بكيفية نظمه وفصاحته وقد كانوا لولا هذا الصرف قادرين على المعارضة متمكنين منها.

والثاني : ما ذهب إليه الشيخ المفيد وهو أنه إنما كان معجزا من حيث اختص برتبة في الفصاحة خارقة للعادة ، قال : لان مراتب الفصاحة إنما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها الله في العباد ، فلا يمتنع أن يجري الله العادة بقدر من المعلوم فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية ، ويكون ما زاد على ذلك زيادة غير معتادة معجزا خارقا للعادة.

والثالث : وهو ما قال قوم وهو أن إعجازه من حيث كانت معانيه صحيحة مستمرة على النظر ، وموافقة للعقل.

والرابع : أن جماعة جعلوه معجزا من حيث زال عنه الاختلال والتناقض على وجه لم تجر العادة بمثله.

والخامس : ما ذهب إليه أقوام وهو أن جهة إعجازه أنه يتضمن الاخبار عن الغيوب.

والسادس : ما قاله آخرون ، وهو : أن القرآن إنما كان معجزا لا ختصاصه بنظم مخصوص مخالف للمعهود.

والسابع : ما ذكره أكثر المعتزلة ، وهو أن تأليف القرآن ونظمه معجزان

____________________

(١) يوسف : ١٠٢.

١٢٧

لالأن الله أجز عنهما بمنع خلقه في العباد ، وقد كان يجوز أن يرتفع فيقدر عليه لكن محال وقوعه منهم كاستحالة إحداث الاجسام والالوان ، وإبراء الاكمه والابرص من غير دواء ، ولو قلنا إن هذه الوجوه السبعة كلها وجوه إعجاز القرآن على وجه دون وجه لكان حسنا.

ثم إن المرتضى رحمه الله استدل على أنه تعالى صرفهم عن المعارضة وأن العدول عنها كان لهذا ، لالان فصاحة القرآن خرقت عادتهم بأن الفضل بين الشيئين إذا كثر لم تقف المعرفة بحالهما على ذوي القرائح الذكية بل يغني ظهور أمريهما عن الرؤية بينهما ، وهذا كما لا يحتاج إلى الفرق بين الخز والصوف إلى أحذق البزازين ، وإنما يحتاج إلى التأمل ، الشديد التقارب الذي يشكل مثله.

ونحن نعلم أنا علم مبلغ علمنا بالفصاحة ، نفرق بين شعرا مرء القيس وشعر غيره من المحدثين ، ولا نحتاج في هذا الفرق إلى الرجوع إلى من هو الغاية في علم الفصاحة ، بل نستغني معه عن الفكرة ، وليس بين الفاضل والمفضول من أشعار هولاء وكلام هؤلاء قدر ما بين الممكن والمعجز ، والمعتاد والخارج عن العادة ، وإذا استقر هذا ، وكان الفرق بين سور المفصل وبين أفصح قصائد العرب غير ظاهر لنا الظهور الذي ذكرناه ولعله إن كان ثم فرق فهو مما يقف عليه غيرنا ، ولا يبلغه علمنا فقد دل على أن القوم صرفوا عن المعارضة واخذوا عن طريقها.

والاشبه بالحق ، والاقرب إلى الحجة ، بعد ذلك القول قول من جعل وجه إعجاز القرآن خروجه عن العادة في الفصاحة ، فيكون ما زاد على المعتاد معجزا كما أنه لما أجرى الله العادة في القدرة التي يمكن بها من ضروب أفعال الجوارح كالطفو بالبحر وحمل الجبل فانها إذا زادت على ما تأتي العادة ، كانت لا حقة بالمعجزات كذلك القول ههنا.

ثم إن هؤلاء الذين قالوا : إن جهة إعجاز القرآن الفصاحة المفرطة التي خرقت العادة ، صاروا صنفين :

منهم من اقتصر على ذلك ، ولم يعتبر النظم ، ومنهم من اعتبر مع الفصاحة النظم

١٢٨

المخصوص ، وقال الفريقان : إذا ثبت أنه خارق للعادة بفصاحته ، دل على نبوته لانه لو كان من قبل الله فهو دال على نبوته ومعجز ، وإن كان من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم نتمكن من ذلك مع خرقه العادة لفصاحته لان الله خلق فيه علوما خرق بها العادة ، فاذا علمنا بقوله : إن القرآن من فعل الله دون فعله قطعنا على ذلك دون غيره.

وأما القول الثالث والرابع فكلاهما مأخوذ من قوله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (١) فحمل الاولون ذلك على المعنى والاخرون على اللفظ ، والاية مشتملة عليهما عامة فيهما ، ويجوز أن يكون كلا القولين معجزا على بعض الوجوه ، لا رتفاع التناقض فيه ، والاختلاف فيه ، على وجه مخالف للعادة.

وأما من جعل جهة إعجازه ما تضمنه من الاخبار عن الغيوب فذلك لا شك أنه معجز ، لكن ليس هو الذي قصد به التحدي لان كثيرا من القرآن خال من الاخبار بالغيب ، والتحدي وقع بسورة غير معينة.

وأما الذين قالوا إنما كان معجزا لاختصاصه باسلوب مخصوص ، ليس بمعهود فان النظم دون الفصاحة ، لا يجوز أن يكون جهة إعجاز القرآن على الاطلاق لان ذلك لا يقع فيه التفاضل ، وفي ذلك كفاية ، لان السابق إلى ذلك لابد أن يقع فيه مشاركة لمجرى العادة كما تبين.

وأما من قال : إن القرآن نظمه وتأليفه مستحيلان من العباد ، كخلق الجواهر والالوان ، فقولهم به على الاطلاق باطل ، لان الحروف كلها من مقدورنا ، والكلام كله يتركب من الحروف التي يقدر عليها كل متكلم وأما التأليف فاطلاقه مجاز في القرآن لان حقيقته في الاجسام وإنما يراد من القرآن حدوث بعضه في أثر بعض ، فان اريد ذلك فهو إنما يتعذر لفقد العلم بالفصاحة وكيفية إيقاع الحروف لا أن ذلك مستحيل كما أن الشعر يتعذر على العجم لعدم علمه بذلك ، لا أنه

____________________

(١) النساء : ٨٢.

١٢٩

مستحيل منه من حيث القدرة ومتى اريد استحالة ذلك يما يرجع إلى فقد العلم فذلك خطأ في العبارة دون المعنى.

أقول : ثم أعاد رحمه الله الكلام على كل من الوجوه المذكورة على الترتيب المذكور ، فقال في الصرفة :

واعترض فقالوا : إذا كان الصرف هو المعجز فلم لم يجعل القرآن من أرك الكلام وأقله فصاحة ، ليكون أبهر في باب الاعجاز.

الجواب : لو فعل ذلك لجاز لكن المصلحة معتبرة في ذلك ، فلا يمتنع أنها اقتضت أن يكون القرآن على ما هو عليه من الفصاحة فلاجل ذلك لم ينقص منه ولا يلزم في باب المعجزات أن يفعل ما هو أبهر وأظهر ، وإنما يفعل ما تقتضيه المصلحة بعد أن تكون دلالة الاعجاز قائمة فيه ، ثم يقال : فهلا جعل الله القرآن أفصح مما هو عليه ، فما قالوا فهو جوابنا عنه ، وليس لاحد أن يقول : ليس وراء هذه الفصاحة زيادة ، لان الغايات التي ينتهي إليها الكلام الفصيح غير متناهية.

ومن اعتراضاتهم قولهم : لو كان الصرف لم خفي ذلك على فصحاء العرب لانهم إذا كانوا يتأتى منهم قبل التحدي ما تعذر بعده ، وعند روم المعارضة ، فالحال في أنهم صرفوا عنها ظاهرة ، فكيف لم ينقادوا.

والجواب لابد أن يعلموا تعذر ما كان متأتيا منهم ، لكنهم يجوز أن ينسبوه إلى الاتفاقات أو إلى السحر أو العناد ويجوز أن يدخل عليهم الشبهة على أنه يلزمهم مثل ما ألزمونا بأن يقال : إن العرب إذا علموا أن القرآن خرق العادة بفصاحته ، فلم لم ينقادوا فجوابهم جوابنا.

واعترضوا فقالوا : إذا لم يخرق القرآن العادة بفصاحته فلم شهد له بالفصاحة متقدموا العرب كالوليدبن المغيرة وكعب بن زهير ، والاعشى الكبير لانه ورد ليسلم فمنعه أبوجهل!!؟ وخدعه ، وقال : إنه يحرم عليك الاطيبين فلو لا أنه بهرهم بفصاحته وإلا لم ينقادوا.

والجواب جميع ما شهد به الفصحاء من بلاغة القرآن فواقعة موقعه ، لان

١٣٠

من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بفصاحته ، وإنما يقول : تلك المزية ليست مما تخرق العادة ، وتبلغ حد الاعجاز ، فليس في قبول الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن ما يوجب القول ببطلان الصرفة ، وأما دخولهم في الاسلام فلامر بهرهم وأعجزهم ، وأي شئ أبلغ من الصرفة في ذلك.

وأما القائلون بأن إعجازه الفصاحة قالوا : إن الله جعل معجزة كل نبي من جنس ما يتعاطا قومه ، ألاترى أن في زمان موسى عليه‌السلام لما كان الغالب على قومه السحر ، جعل الله معجزته من ذلك القبيل ، فأظهر على يده قلب العصاحية واليد البيضا ، فعلم اولئك الاقوام بأن ذلك مما لا يتعلق بالسحر ، فآمنوا ، وكذلك زمان عيسى عليه‌السلام لما كان الغالب على قومه الطب جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص ، فعلم اولئك الاقوام أن ذلك مما لا يوصل إليه بالطب ، فآمنوا به.

وكذلك لما كان زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الغالب على قومه الفصاحة والبلاغة ، حتى كانوا لا يتفاخرون بشئ كتفاخرهم بها ، جعل الله معجزته من ذلك القبيل فأظهر على يده هذا القرآن ، وعلم الفصحاء منهم أن ذلك ليس من كلام البشر ، فآمنوا به ، ولهذا جاء المخصوصون فآمنوا برسول الله كالاعشى (١) مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(١) هو ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة بن الحصن بن عكابة بن صعب بن على بن بكربن وائل يكنى أبا بصير خرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد الاسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وعادك ما عاد السليم المسهدا

وما ذاك من عشق النساء وانما

تناسيت قبل اليوم خلة مهددا

ومهد معشوقته ، وفيها يقول لناقته :

فآليت لا أرثى لها من كلالة

ولا من حفاحتى تزور محمدا

فبلغ خبره قريشا فرصدوه على طريقه وقالوا : هذا صناجة العرب يعنى صاحب الصنج ، لقب به لما كان في شعره من الجودة اذا أنشدأ خذ بالاسماع كالصنج ما م ) دح أحدا

١٣١

بقصيدة وأراد أن يؤمن ، فدافعه قريش وجعلوا يحدثونه بأسوء ما يقدرون عليه وقالوا : إنه يحرم عليك الخمر والزنا ، فقال : لقد كبرت ومالي في الزنا من حاجة ، فقالوا : أنشدنا ما مدحته به ، فأنشدهم.

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليم مسهدا

نبي يرى ما لا ترون وذكره

أغار لعمري في البلاد وأنجد

 قالوا : إن أنشدته هذا لم يقبله منك ، فلم يزا لوا بالسعي حتى صدوه فقال : أخرج إلى اليمامة ، ألزمه عامي هذا ، فمكث زمانا يسيرا ومات باليمامة.

وجاء لبيد (١) وآمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وترك قيل الشعر تعظيما لامر القرآن

____________________

قط الارفع في قدره ، فلما ورد عليهم قالواله : أين أردت يا أبا بصير؟ قال : أردت صاحبكم هذا لاسلم ، قالوا : انه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك ، وكلها بك رافق ولك موافق ، قال : وماهن؟ فقال أبوسفيان بن حرب : الزنا ، قال : لقد تركنى الزنا وما تركته ، ثم ماذا؟ قال : القمار ، قال : لعلى ان لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار ، ثم ماذا؟ قال : الربا قال مادنت ولا ادنت ، ثم ماذا؟ قال : الخمر ، قال : أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لى في المهراس فأشربها ( والمهراس حجر عظيم منقور يسع كثيرا من الماء ) فقال له أبوسفيان : هل لك في خير مما هممت به؟ قال : وما هو؟ قال : نحن وهو الان في هدنة ، فتأخذ مائة من الابل ، وترجع إلى بلدتك سنتك هذه وتنظر ما يصير اليه أمرنا ، فان ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا ، وان ظهر علينا أتيته ، فقال : ما أكره هذا ، فقال أبوسفيان : يا معشر قريش! هذا الاعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضر من عليكم نير ان العرب بشعره ، فاجمعوا له مائة من الابل ، ففعلوا ، فأخذها وانطلق إلى بلده ، فلما كان بقاع منفوحة قرية مشهورة من نواحى اليمامة رمى به بعيره فقتله. راجع سيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٨٦ الاغانى ج ٩ ص ١٢٥.

(١) هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ، أحد شعراء المخضرمين وهو من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان القراء المعمرين ، يقال انه عاش ١٤٥ سنة ، ٩٠ سنة في الجاهلية وبقيتها في



١٣٢

فقيل له : ما فعلت قصيد تاك؟ قال : أبدلني الله بهما سورتي البقرة وآل عمران.

قالوا : ومن خالفنا في هذا الباب يقول : إن الطريق إلى النبوة ليس إلا المعجز ، وزعموا أن المعجز يلتبس بالحيلة ، والشعوذة ، وخفه اليد ، فلا يكون طريقا إلى النبوة ، فقوله باطل ، لان هذا إنما كان لو لم يكن طريق إلى الفصل بين المعجز والحيلة ، وههنا وجوه من الفصل بينه وبينها : منها أن المعجز لا يدخل جنسه تحت مقدور العباد كقلب العصاحية وإحياء الموتى وغير ذلك ، ومنها أن المعجز يكون ناقضا للعادة بخلاف الحيلة ، فانه يحتاج فيها إلى التعليم ، ومنها أن

____________________

الاسلام قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقدبنى كلاب بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل فأسلم وهاجر وحسن اسلامه ، ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب فأقام بها ومات في آخر خلافة معاوية.

كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة : أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الاسلام ، فأرسل إلى الاغلب الراجز العجلى فقال له : أنشدنى ، فقال :

أرجزا تريد أم قصيدا

لقد طلبت هينا موجودا

 ثم أرسل إلى لبيد فقال : أنشدنى ، فقال : ان شئت ما عفى عنه يعنى الجاهلية فقال : لا ، أنشدنى ما قلت في الاسلام ، فانطلق فكتب سورة البقرة [ وآل عمران ] في صحيفة ثم أتى بها وقال : لقد أبدلنى الله هذه في الاسلام مكان الشعر. فكتب بذلك المغيرة إلى عمر ، فنقص من عطاء الاغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة فكتب الاغلب : يا أميرالمؤمنين أتنقص من عطائى أن أطعتك؟ فرد عليه خمسمائته وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة.

وأراد معاوية أن ينقصه من عطائه لما ولى الخلافة ، وقال : هذان الفودان يعنى الالفين فما بال العلاوة؟ يعنى الخمسمائة ، فقال له لبيد : انما أنا هامة اليوم أو غد فأعرنى اسمها ، فعلى لا أقبضها أبدا ، فتبقى لك العلاوة والفودان ، فرق له وترك عطاءه على حاله فمات ولم يقبضه.

١٣٣

المعجز لا يحتاج إلى الالات بخلاف الحيلة فانها تحتاج إلى الالات ، ومنها أن المعجز إنما يظهر عند من يكون من أهل ذلك الباب ويروج عليهم ، والحيلة إنما يظهر عند العوام والذين لا يكونون من أهل ذلك الباب ، ويروج على الجهال ومن قال من مخالفينا : إن محمدا لم يكن نبيا لانه لم يكن معه معجز ، فالكلام عليه أن نقول إنا نعلم ضرورة أنه ادعي النبوة كما نعلم أنه ظهر بمكة ، وهاجر إلى المدينة ، وتحدى العرب بالقرآن ، وادعى مزية القرآن على كلامهم وهذا يكون تحديا من جهة المعنى ، وعلموا أن شأنه يبطل بمعارضته ، فلم يأتوا بها لضعفهم ، وعجزهم كان لا نتقاض العادة بالقرآن فأوجب انتقاض العادة كونه معجزا دالا على نبوته.

فان قيل : إنما لم يعارضوه لكونهم غبايا جهالا ، لا لعجزهم.

قلنا : المعارضات كانت مسلوكة فيما بينهم ، فامرؤ القيس عارض علقمة بن عبدة بن الطبيب وناقضه ، وطريقة المعارضة لاتخفى على دهاة العرب مع ذكائها.

فان قيل : أخطأوا طريق المعارضة ، كما أخطأوا في عبادة الاصنام ، أو لان القرآن يشتمل على الا قاقيص وهم لم يكونوا من أهله.

قلنا في الاول فرق بينهما ، لان عبادة الاصنام طريقها الدلالة ، وما كان طريقه الدلالة يجوز فيه الخطأ ، بخلاف مسألتنا لان طريقة التحدي هي الضرورة لا يجوز فيها الخطأ ، وأما الثاني ففي القرآن ما ليس من الاقاصيص ، فوجب أن يأتوا بمثله فيعارضوه ، على أنهم طلبوا أخبار رستم واسفنديار ، وحاولوا أن يجعلوه معارضة للقرآن ، واليهود والنصارى كانوا أهل الاقاصيص ، وكان من الواجب أن يتعرفوها منهم ، ويجعلوها معارضة.

فان قيل : لا يجوز أن يكون القرآن معجزا دالا على نبوته من حيث إنه ناقض العادة ، فلا يمتنع أن يكون العرب أفصح الناس ، ومنهم جماعة أفصح العرب ، وفي الجماعة واحد هو أفصح منهم ، وإذا أتى بكلام لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بما يقاربه ، فاذا أتى بكلام مختص بالفصاحة لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا

١٣٤

بما يقاربه ، يوجب كونه معجزا.

قلنا لهم : لا يصح ولو اتفق لكان دليلا على صدقه.

فان قيل : لو كان القرآن معجزا لكان نبيا مبعوثا إلى العرب والعجم ، وكان يجب أن يعلم سائر الناس إعجاز القرآن من حيث الفصاحة ، والعجم لا يمكنهم ذلك.

قلنا : هذا لا يصح لان الفصاحة ليست بمقصورة على بعض اللغات ، يمكنهم أن يعرفوا ذلك على سبيل الجملة ، إذ أمكن أن يعلموا بالاخبار المتواترة أن محمدا كان ظهر عليه القرآن ، وتحدى العرب ، وعجزوا أن يأتوا بمثله ، فيجب أن يكون القرآن معجزا دالا على نبوته ، والعرب يعرفون ذلك على التفصيل لان القرآن نزل بلغتهم ، والعلم به على سبيل الجملة في هذا الباب كاف.

وإنما قلنا إنه معجز من حيث إنه ناقض العادة لان العادة لم يجر أن يتعلم واحد الفصاحة ثم يبرز عليهم بحيث لم يمكنهم أن يأتوا بما يقاربه ، فاذا أتى به كذلك كان معجزا.

وأما القائلون بأن إعجازه بالفصاحة والنظم معا ، قالوا : إن الذي يدل على أن التحدي كان بالفصاحة والنظم معا أنا رأينا النبي عليه‌السلام أسل التحدي إرسالا ، وأطلقه إطلاقا ، من غير تخصيص يحصره ، فقال مخبرا عن ربه : ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا ) (١) وقال : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) (٢).

فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدي : هل أراد مثله في الفصاحة دون النظم ، أو فيهما جميعا ، أو في غيرهما؟ فعل من سبق الفهم إلى قلبه ، وزال الريب عنه ، لانهم لوارتابوا لسألوه [ ولو شكوا لا ستفهموه ] ولم يجز ذلك على هذا إلا والتحدي واقع بحسب عهدهم وعادتهم ، وقد علمنا أن عادتهم جارية في التحدي

____________________

(١) أسرى : ٨٨.

(٢) البقرة : ٢٣.

١٣٥

باعتبار طريقة النظم مع الفصاحه ، ولهذا لا يتحدى الشاعر الخطيب الذي لا يتمكن من الشعر ، ولا الخطيب الشاعر ، وإنما يتحدى كل بنظيره ، ولا يقنع المعارض حتى يأتي بمثل عروض صاحبه كمناقضة جرير للفرزدق ، وجرير للاخطل ، وإذا كانت هذه عادتهم ، فانما اختلفوا في التحدي عليها.

فان قيل : عادة العرب وإن جرت في التحدي بما ذكر تموه ، فلا يمنع صحه التحدي بالفصاحة دون طريقة النظم ، لا سيما والفصاحة هي التي بصح فيها التفاضل وإذا لم يمتنع ذلك فبما أنكرتم أن يكون تحداهم بالفصاحة دون الظلم ، فأفهمهم قصده ، فلهذا لم يستفهموه.

قلنا : ليس نمنع أن يقع التحدي بالفصاحة دون النظم ، فمن أين عرفته وإنما سمعناه في التحدي بالقرآن من حيث أطلق التحدي به ، وعري عما يخصه بوجه دون وجه ، فحملناه على ما عهده القوم ، وألفوه في التحدي ، فلوكان أفهمهم تخصيص التحدي بقول مسموع ، لوجب أن ينقل إلينا لفظه ، ولا نجد له نقلا ، ولوكان أفهمهم بمخارج الكلام أو باشارة وغيرها لوجب اتصاله بنا أيضا فان ما يدعو إلى النقل للالفاظ ، يدعو إلى نقل ما يتصل بها من مقاصد ومخارج ، سيما فيما تمس الحاجة إليه.

ألاترى أنه لما نفى النبوة بعد نبوته بقوله : ( لا نبي بعدي ) أفهم مراده السامعين من هذا القول أنه عنى لا نبي بقي من البشر كلهم ، وأراد بالبعد عموم سائر الاوقات ، اتصل ذلك بنا على حد اتصال اللفظ ، وفي ارتفاع كل ذلك من النقل دليل على صحة قولنا.

على أن التحدي لوكان مقصورا على الفصاحة دون النظم ، لو قعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم ، أو بليغ كلامهم ، لانا نعلم خفاء الفرق بين قصار السور وفصيح كلام العرب.

فكان يجب أن يعارضوه ، فاذا لم يفعلوا ، فأنهم فهموا من التحدي الفصاحة وطريقة النظم ، ولم يجتمعا لهم ، واختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب

١٣٦

الكلام ، أوضح من أن يتكلف الدلالة عليه.

وقد قال السيد : وعندي أن التحدى وقع بالاتيان بمثله في فصاحته وطريقته في النظم ، ولم يكن بأحد الامرين ، ولو وقعت المعارضة بشعر منظوم أو برجز موزون أو بمنثور من الكلام ، ليس له طريقة القرآن في النظم ، لم تكن واقعة موقعها والصرفة على هذا إنما كانت بأن يسلب الله كل من رام المعارضة للعلوم التي يتأتى معها مثل فصاحة القرآن وطريقته في النظم ، ولهذا لا يصاب في كلام العرب ما يقارب القرآن في فصاحته ونظمه.

وأما القائلون بأن إعجاز القرآن في النظم المخصوص ، قالوا : لما وجدنا الكلام منظوما موزونا ومنثورا غير موزون ، والمنظوم هو الشعر وأكثر الناس لا يقدرون عليه ، فجعل الله تعالى معجز نبيه النمط المذي يقدر عليه كل أحد ، ولا يتعذر نوعه في كلهم ، وهو الذي ليس بموزون ، فيلزم حجته الجميع.

والذي يجب أن يعلم في العلم باعجاز النظم ، هو أن يعلم مباني الكلام وأسباب الفصاحة في ألفاظها ، وكيفية ترتيبها ، وتباين ألفاظها ، وكيفية الفرق بين الفصيح والافصح ، والبليغ والابلغ ، وتعرف مقادير النظم والاوزان ، وما به يبين المنظوم من المنثور ، وفواصل الكلام ، ومقاطعه ، ومباديه ، وأنواع مؤلفه ومنظومه ، ثم ينظر فيما أتى به حتى يعلم أنه من أي نوع هو؟ وكيف فضل على ما فضل عليه من أنواع الكلام ، حتى يعلم أنه من نظم مباين لساير المنظوم ونمط خارج من جملة ما كانوا اعتادوه فيما بينهم : من أنواع الخطيب والرسائل والشعر ، والمنظوم ، والمنثور ، والرجز ، والمخمس ، والمزدوج ، والعريض والقصير ، فاذا تأملت ذلك ، وتدبرت مقاطعه ومفاتحه ، وسهولة ألفاظه ، واستجماع معانيه ، وأن كل واحد منها لو غيرت لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة ، وأدل على المعنى منها ، وأجمع للفوائد والزوائد منها ، وإذا كان كذلك فعند تأمل جميع ذلك يتحقق ما فيه من النظم اللائق ، والمعاني الصحيحة التي لا يكاد يوجد مثلها على نظم تلك العبارة ، وإن اجتهد البليغ والخطيب.

١٣٧

وفي خواص نظم القرآن وجوه أولها خروج نظمه عن صورة جميع أسباب المنظومات ولو لانزول القرآن لم يقع في خلد فصيح سواها ، وكذلك قال عتبة بن ربيعة لما اختاره قريش للمصير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قرء عليه حم السجدة فلما انصرف قال : سمعت أنواع الكلام من العرب ، فما شبهته بشئ منها ، إنه ورد على ما راعني ونحوه ما حكى الله عن الجن ( قل اوحي إلي ) إلى قوله : ( آمنا به ) فلما عدم وجود شبيه القرآن من أنواع المنظوم ، انقطعت أطماعهم عن معارضته.

والخاصة الثانية في الروعة التي له في قلوب السامعين ، فمن كان مؤمنا يجد شوقا إليه وانجذابا نحوه ، وحكي أن نصرانيا مر برجل يقرء القرآن فبكى فقيل له : ما أبكاك؟ قال : النظم.

والثالثة أنه لم يزل غضا طريا لا يخلق ولا يمل تاليه ، والكتب المتقدمة عارية عن رتبة النظم ، وأهل الكتاب لا يدعون ذلك لها.

والرابعة أنه في صورة كلام هو خطاب لرسوله تارة ولخلقه اخرى.

والخامسة ما يوجد من جمعه [ بين الاضداد ] فان له صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادتين.

والسادسة ما وقع في أجزائه من امتزاج بعض أنواع الكلام ببعض ، وعادة ناطقي البشر تقسيم معاني الكلام.

والسابعة أن كل فضيلة من تأسيس اللغة في اللسان العربي هي موجودة في القرآن.

والثامنة عدم وجود التفاضل بين بعض أجزائه من السور كما في التوراة كلمات عشر تشتمل على الوصايا يستحلفون بها لجلالة قدرها ، وكذا في الانجيل أربع صحف ، وكذا في الانجيل محاميد ومسابيح يقرؤنها في صلواتهم.

والتاسعة وجود ما يحتاج العباد إلى علمه من اصول دينهم وفروعه ، من التنبيه على طرق العقليات ، وإقامة الحجج على الملاحدة والبراهمة والثنوية ، والمنكرة للبعث القائلين بالطبايع ، بأوجز كلام وأبلغه ، ففيه من أنواع الاعراب والعربية

١٣٨

حتى الطب في قوله : ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) فهذا أصل الطب ، والمحكم والمتشابه ، والحقيقة والمجاز ، والناسخ والمنسوخ ، وهو مهيمن على جميع الكتب المتقدمة.

والعاشرة وجود قوام النظم في أجزائه كلها حتى لا يظهر في شئ من ذلك تناقض ولا اختلاف ، وله خواص سواها كثيرة.

فان قيل : فهلا كانت ألفاظ القرآن كليتها مؤلفة من قبل الالفاظ الموجزة التي إذا وقعت في الكلام زادته حسنا ، ليكون كلام الله عليه النظم الاحسن الافضل إذ كان لا يعجزه شئ عن بلوغ الغاية كما يعجز الخلق عن ذلك.

الجواب : أن هذا يعود إلى أن كيف لم يرتفع أسباب التفاضل بين الاشياء حتى يكون كلها كشئ واحد متشابه الاجزاء والابعاض وكيف فضل بعض الملائكة على بعض ، ومتى كان كذلك لم يوجد اختلاف الاشياء يعرف به الشئ وضده ، على أنه لو كان كلام الله كما ذكر يخرج في صورة المعمى الذي لا يوجد له لذة البسط والشرح ، ولو كان مبسوطا لم تبين فضيلة الراسخين في العلم على من سواهم ، وأنه تعالى حكيم عليم بأن إلطاف المبعوث إليهم إنما هو في النمط الذي أنزله ، فلو كان على تركيب آخر ، لم يكن لطفا لهم.

ثم لنذكر وجها آخر للصرفة ، وهو أن الامر لو كان بخلافه ، وكان تعذر المعارضة والعدول عنه لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة ، وتجاوزه له في الجزالة ، لوجب أن يقع منهم معارضة على كل حال ، لان العرب الذين خوطبوا بالتحدي والتقريع ، ووجهوا بالتعنيف والتبكيت ، كانوا إدا أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم ، وقاسوا بكلامهم كلامه ، علموا أن المزية بينهما إنما تظهر لهم دون غيرهم ممن نقص عن طبقتهم ، ونزل عن درجتهم ، دون الناس جميعا ، ممن لا يعرف الفصاحة ، ولا يأنس بالعربية ، وكان ما عليه دون المعرفة لفصيح الكلام من أهل زماننا ممن خفي الفرق عليهم بين مواضع من القرآن وبين فقرات العرب البديعة ، وكلمهم الغريبة ، فأي شئ أقعد بهم عن أن يعتمدوا إلى بعض أشعارهم

١٣٩

الفصيحة ، وألفاظهم المنثورة ، فيقابلوه ، ويدعوا أنه مما ثل لفصاحته أو أزيد عليها ، لا سيما وأكثر من يذهب إلى هذه الطريقة يدعي أن التحدي وقع بالفصاحة دون النظم وغيره من المعاني المدعاة في هذا الموضع.

فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره فمن هذا الذي كان يكون الحكم في هذه الدعوى وجماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أهل الخلاف عليه والرد لدعوته ، والصدود عن محجته ، لا سيما في بدو الامر وأوله ، وقبل أوان استقرار الحجة ، وظهور الدعوة ، وكثرة عدد الموافقين وتظافر الانصار والمهاجرين.

ولا نعمد إلا على أن هذه الدعوى لو حصلت لردها بالتكذيب من كان في حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفصحاء ، لكن كان اللبس يحصل والشبهة تقع لكل من ليس من أهل المعرفة من المستجيبين الدعوة والمنحرفين عنها من العرب.

ثم لطوايف الناس جميعا كالفرس والروم والترك ومن ما ثلهم ممن لا حظ له في العربية عند تقابل الدعوي في وقع المعارضة موقعها ، وتعارض الاقوال من الاجابة بها مكانها ، ما يتأكد الشبهة ، وتعظم المحنة ، ويرتفع الطريق إلى إصابة الحق ، لان الناظر إذا رأى جل أصحاب الفصاحة وأكثرهم يدعي وقوع المعارضة والمكافاة والمماثلة ، وقوما منهم كلهم ينكر ذلك ويدفعه ، كان أحسن حاله أن يشك في القولين ، ويجوز في كل واحد منهما الصدق والكذب ، فأي شئ يبقى من المعجز بعد هذا؟ والاعجاز لا يتم إلا بالقطع على تعذر المعارضة على القوم وقصورهم عن المعارضة والمقاربة ، والتعذر لا يحصل إلا بعد حصول العلم بأن المعارضة لم تقع ، مع توفر الدواعي وقوة الاسباب ، وكانت حينئذ لا تقع الاستجابة من عاقل ، ولا المؤازرة من صديق.

وليس يحجز العرب عما ذكرناه ورع ولا حياء ، لانا وجدناهم لم يرعووا عن السب والهجاء ، ولم يستحيوا من القذف والافتراء ، وليس في ذلك ما يكون حجة ولا شبهة ، بل هو كاشف عن شدة عداوتهم وأن الحيرة قد بلغت بهم إلى استحسان

١٤٠