الإمامة في القرآن والسنّة

امتثال الجحش

الإمامة في القرآن والسنّة

المؤلف:

امتثال الجحش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٥
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

المذهب.

إنّ هذا الموقف الذهبي هو أعظم موقف عشتُهُ في حياتي ، حيث إنّه يمثّل نقطة البدء لرحلة جديدة مباركة إلى النور ، إلى الحقّ ، إلى برّ الأمان ، وعلى متن سفينة أهل البيت عليهم‌السلام ، وتحت إمرة أربابها الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم : « إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى » (١).

وخيرُ ما ابتدأتُ به هذه الرحلة هو تأليفي لهذا الكتيّب ، حيث اخترتُ الإمامة موضوعاً له كونها تمثّل محور الخلاف بين المسلمين ، فأسأل الله تعالى أن يجعله أحد الدوافع والمحرّكات التي تدفعك أُختي القارئة أخي القارئ لإعادة النظر في ما تختزنانه من أفكار ومعتقدات مخالفة لما جاء به النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتساهم في تصحيح الفكر والفهم وتنوير العقل.

وأن يجعله حجاباً لي من النار ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٢).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلِّ اللهمّ على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

امتثال الحبش

__________________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين للحاكم النيسابوري ٢ : ٣٤٣ و ٣ : ١٥٠.

(٢) الشعراء (٢٦) : ٨٨ ـ ٨٩.

٢١
٢٢

واقع الإمامة في الإسلام

هي محض نور يُقتبس منه كلّ نور.

هي ذروة النقاء وقمّة الصفاء الروحي.

هي هبة ربانيّة ونعمة إلهيّة ، حلّت فيها البركة السماويّة ففجّرتها نبع عطاء سرمدي ، لا يعرف نهاية ولا حدّاً.

يفيض بخيراته على البشر كلّهم ، من الأوّلين والآخرين ، العالمين بحقيقته والجاهلين.

هي الإمامة...

والتي تمثّل ـ بما تشغله من حيّز كبير من الأهميّة ـ محور الخلاف بين المسلمين على مرِّ العصور.

وقد ساهم هذا الاختلاف في خلق الأزمات والمشاكل ، التي طالما عانت منها الأُمّة الإسلاميّة ولا زالت.

ولعلّ أكبر هذه المشاكل هي انقسام أُمّتنا الإسلاميّة إلى فئتين عظيمتين.

أُمّتنا التي قال تعالى فيها : ( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١).

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٩٢.

٢٣

أهل السنّة ومفهوم الإمامة :

تضمّ هذه الفئة القسم الأكبر من أبناء الأُمّة الإسلاميّة ، حيث ينظرون إلى الإمامة كمفهوم ضيّق ومحدود لا يتعدّى قيادة المجتمع وإدارة الشؤون السياسيّة ، فتنحصر بهذا مهمة الإمام بالأُمور الدنيويّة فقط ، كحفظ أمن الدولة ، وحماية حدود البلاد ، والفصل بين المتخاصمين ، والضرب على أيدي المعتدين.

هذا ، ولا إشكال فيما إذا تعدّى الإمام حدود التقوى وتلوّث بلوث الآثام والمعاصي ، فإنّه يبقى إماماً مُطاعاً !

وبعبارة أُخرى :

إنّ هذه الفئة تقول بإمامة حتى الجائر والظالم ، ولا ينخلع هذا الإمام بارتكابه المعاصي ، بل إنّه بمجرّد استيلائه على هذا المنصب ـ بغض النظر عن الطريقة التي وصل بها إلى الحكم ـ فقد استحقّه.

ومن جهة أُخرى : يعتبرون مصدر تعيين الإمام واختياره هم الأفراد أنفسهم ، فهم يختارونه بأنفسهم وينصبّونه عليهم !

إنّ هذه النظرة السطحيّة إلى الإمامة أدّت إلى تهميش هذا الأصل المهم وتفشّي الاعتقاد بفرعيّته.

الاتجاه الآخر :

أمّا القسم الثاني من أبناء الأُمّة هم ما يُسمّون ب‍ ( الشيعة ) ، حيث تختلف نظرتها إلىٰ الإمامة عن الفئة السابقة.

٢٤

فتقول الشيعة : إنّ للإمامة مفهوماً أعمّ وأشمل من مجرّد كونها قيادة اجتماعيّة وسياسيّة فحسب.

بل إنّ الإمام هو مَن يُجسّد المرجعيّة الفكريّة والزعامة السياسيّة في الوقت نفسه ، وهو مبلّغ قوانين وأنظمة وأحكام الإسلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر الزمان.

وهو النموذج للإنسان الكامل ، وهو فقط مَن مِن حقّه أن يترأس الأُمّة ويقود مسيرتها ، حيث يتمتّع بالعصمة التي تمكّنه من تأدية دوره في إرشاد البشر وهدايتهم ، حيث تُتخذ سيرته منهجاً يجب أن ينتهجه كلّ الناس.

وخلاصة ما تقوله هذه الفئة :

إنّ هذا المزيج من القدرات والكفاءات على كافّة الصعد ، والتي ستجتمع في شخص واحد ، بالإضافة إلى العناية والرعاية الإلهيّة ، سيؤدّي إلى تحقيق الرسالة ، وهو جعل الأُمّة تسير وفق دستور حياتي خالد يضمن حياة سعيدة وآمنة لأفرادها.

إذاً ، تنظر الشيعة إلى الإمامة كأصل ثابت من أُصول الاعتقاد ، لا يكتمل الإيمان إلاّ باعتقادها عن تفكّر وتدبّر ذاتيين ، والسؤال هو : كيف ، وبأيّ دليل يرتفع مفهوم الإمامة إلى هذا المستوى الرفيع من الدين ؟

سنعرف ذلك بعد الرجوع إلى القرآن الكريم ، والسنّة الشريفة

٢٥

وبعض كتب التفسير ، ليتبيّن أنّ الإمامة هي استمرارية لرسالة النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، وبها يتحقّق الوعد الإلهيّ ويظهر الدين كلّه.

٢٦

الفصل الأوّل

الإمامة منصب إلهي

إمامة إبراهيم :

ثمّة آية قرآنية تتعلّق بموضوع بحثنا ، فلنرَ بماذا ستفيدنا هذه الآية الكريمة ، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١).

تتحدّث هذه الآية عن واحدة من أعظم السّيَر العظيمة ، والتي ظلّت بصمة شاهدة علىٰ أصالة التاريخ منذ فجره ، ولسنا الآن بصدد دراسة سيرة سيّدنا إبراهيم عليه‌السلام ; لأنّها أعظم من أن تحيط بها هذه الصفحات القلائل.

إنّما ذكرنا هذه الآية لارتباطها الوثيق بمفهوم الإمامة كأصلٍ دينيّ من جهة كونها منصباً إلهيّاً ، لا شأن لغير الله باختيار من يشغله ، كما أنّ نيله متعلّق بشروط ومؤهلات خاصّة ، وليتسنّى فهم ذلك رأينا أن نفصّل الآية السابقة إلى مقاطع بحسب ما يمليه علينا سياقها.

أوّلاً : ابتلاءٌ فجزاء

في زمن أرهقت فيه الإنسانية لثقل حملها...

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٢٤.

٢٧

وانهكت تتأوّه لسوء حالها...

حيث اتّخذت الأصنام أرباباً معبودة ، تسجد لها ، وتعكف على عبادتها...

في هذا الخضم من الضلال والفوضى...

بُعث سيّدنا إبراهيم أبو الأنبياء عليه‌السلام...

لينتشل المجتمع البشري من بؤرة الوضاعة والانحطاط إلى أُفق الرقيّ والانضباط.

وحاله حال الأنبياء ، فما أن تربّع على عرش النبوّة حتى أخذت المحن والابتلاءات الإلهيّة تتهافت عليه واحدة تلو الأُخرى ، فكانت لا تزيده إلاّ صبراً وتسليماً.

يقول تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (١).

ومن الواضح أنّه ليس المراد من ( كلمات ) الواردة في هذه الآية مجرّد ألفاظ وتعابير تتألّف من أحرف هجائيّة وإن ذهب البعض إلى هذا المعنى.

لكن على الأكثر والأصح أنّ المراد من هذه الكلمات مجموعة أُمور وأحاديث واقعة ، كما في قوله تعالى لمريم : ( إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ ) (٢).

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢) آل عمران (٣) : ٤٥.

٢٨

فكلمه الله في هذه الآية هو عيسى بن مريم نفسه عليه‌السلام.

وعندما قال سبحانه : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) كان يريد من هذه الكلمات مجموعة الابتلاءات التي مرّ بها إبراهيم عليه‌السلام والتي حدّثنا القرآن الكريم عنها ، فمنها :

١ ـ صموده عليه‌السلام أمام نمرود ومن لفّ لفّه ، واستعداده لأن يُلقى في النار دون أن يؤثّر ذلك على إيمانه ، بل على العكس كان يزداد تعلّقاً بربّه سبحانه.

٢ ـ امتثاله لأمر ربّه حين أمره أن يأخذ زوجته ووليده إلى أرض الحجاز ويتركهما وحيدين في أرض قاحلة جدباء لا حول لهما فيها ولا قوّة ، حيث قال مستودعهما الله : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) (١).

٣ ـ ومنها ما هو أعظم وأمضى ; إذ أمره ربّه أن يذبح ابنه إسماعيل بيده ! حيث تكرّر عليه هذا المنام في عالم الرؤيا عدّة مرّات ، فأيقن أنّه الوحي الإلهي ، ثمّ طرح هذا الأمر على ولده إسماعيل ، فما كان من الابن إلاّ أن سلّم لأمر ربّه تسليماً ، ومن دون تردّد قائلاً : ( قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (٢).

ها هما..

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٣٧.

(٢) الصافات (٣٧) : ١٠٢.

٢٩

الذابح والمذبوح...

كلاهما في ساحة الابتلاء ، وعلى أُهبة الاستعداد لتنفيذ الأمر الإلهيّ بمنتهى الإيمان والصبر والتسليم.

فلمّا أوشكا أن يبدأا ـ وما أعظمه من منظر ! ( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) (١) ـ جاءهما نداء ربّهما : ( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ) (٢) وهو الأمر بالتوقّف ، إذ لم يكن الهدف هو ذبح إسماعيل أصلاً ، إنّما كان الهدف هو ظهور التسليم والإذعان والطاعة منهما مهما كان الأمر الإلهيّ صعباً ومريراً ، وليبقى هذا المشهد خالداً يصوّره القرآن الكريم على مرّ العصور ، حيث يحكي حقيقة الارتباط بالله ، وحقيقة الإيمان الذي ملأ نفوساً حتى استغرقت بالروح الإلهيّة المقدّسة ، فغاب عن مرآها كلّ شي دون الله.

بعد أن قطع إبراهيم كلّ الابتلاءات ، وحقّق ما حقّقه من نجاح كبير ، وأثبت ما أثبته من جدارة وكفاءة ، أراد الله أن يهبه المنصب الجديد الذي استحقّه وصار أهلاً له ، هذا المنصب هو الإمامة ، حيث قال سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) فصار إبراهيم بإرادة الله وجعله إماماً للناس أجمعين.

__________________

(١) الصافات (٣٧) : ١٠٣.

(٢) الصافات (٣٧) : ١٠٤ ـ ١٠٥.

٣٠

مقام الإمامة :

قال الإمام الصادق عليه‌السلام :

« إن الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً ، واتّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولا ، واتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً » (١).

إنّ هذه المراتب التي أحرزها إبراهيم عليه‌السلام وهي : العبوديّة ، النبوّة ، الرسالة ، الخلّة ، الإمامة ، حيث جاءت مرتّبة تصاعديّاً ، فإنّها ترسم سُلّم الصعود والارتقاء إلى أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها الإنسان ، وهي الدرجة العليا ( الإمامة ).

( فالعبوديّة ) وهي الدرجة الأُولى ليست بمعنى الملوكيّة ، إذ أنّ كلّ الناس عبيد الله ، إنّما المراد منها هو الإخلاص والصدق في خطّ التعبّد ، إذ أنّها ( العبوديّة ) منطلق الكمالات المعنويّة.

بعد العبوديّة تأتي ( النبوّة ) المختصّة بشخصه ، ثمّ ( الرسالة ) حيث تعمّ كلّ الأُمّة ، فتكون أعلى مرتبةً وأصعب مهمةً من النبوّة ، إذ كلّ رسول نبيّ ، وليس كلّ نبيّ رسول ، ثمّ بعد الرسالة تأتي مرتبة ( الخلّة ) ، والتي تفرّد بها إبراهيم عليه‌السلام من بين الأنبياء والمرسلين ، فصار خليل الله.

بعد أن أحرز إبراهيم كلّ هذه المقامات ، وأتمّ كلّ تلك

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٥ ، حديث ٢ و ٤ ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام.

٣١

الابتلاءات ، بحيث لم يصدر منه حتى ما يسمّى بترك الأولى الذي وقع فيه عدد من الأنبياء والرسل ، بعد كلّ ذلك استحقّ إبراهيم عليه‌السلام مقام الإمامة ، وهي المرتبة الأرقى كما أسلفنا.

كما يدلّ على أنّ منصب الإمامة جاء بعد كلّ تلك المناصب ( وخاصّة النبوّة ) ، هو طلب إبراهيم عليه‌السلام الإمامة لذريّته إذ قال : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) فقوله هذا لا يخلو من احتمالين :

الأوّل : أنّه كان له ذريّة بين يديه عندما جُعل إماماً.

الثاني : أنّه كان يعلم أنّه سيكون له ذريّة فيما بعد.

وكلا الأمرين ـ الاحتمالين ـ حدثا في آخر حياته ، أي في كبره ، حيث يقول تعالى حاكياً مفاجأته بنبأ الذريّة : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ ) (١).

كما يقول سبحانه في آية أُخرى : ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) (٢).

__________________

(١) الحجر (١٥) : ٥١ ـ ٥٤.

(٢) هود (١١) : ٧١ ـ ٧٣.

٣٢

إذاً ، تشير هذه الآيات إلىٰ أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يرزق بذريّة ، بل لم يعلم بذلك إلاّ بعد أن مسّه الكبر ، وكلّ ذلك حدث وقت النبوّة ، ومع ذلك لم يكن إماماً عندئذ إلاّ بعد أن صار أهلاً لها.

استمراريّة الإمامة :

لمّا ارتقى إبراهيم عليه‌السلام من النبوّة إلى الإمامة ، لم يَغبْ عن ذهنه خطورة الفراغ الذي سيخلّفه بعد رحيله الأبدي والتحاقه بالرفيق الأعلى ، وكان أمله أن يكون أئمة من ذريّته بعده كما كان هو.

ولعلوّ شأنّها ـ الإمامة ـ وسموّ مكانتها في عينه ، حيث رأى ما لم يره ولم يطلع عليه أحد من البشر غيره خلال مسيرة حياته ، سأل ربّه : أن يا ربّ هل ستجعل من أولادي وأحفادي أئمة من بعدي كما جعلتني ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ؟

يأتيه الجواب : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

يالَحكمة السماء...

ويالَبديع نظمها...

أُنظر إلىٰ الردّ الإلهي...

كلمات معدودة صارت قانوناً جرى ويجري منذ بدء الخليقة إلى منتهاها...

( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) جوابٌ ليس مقبولاً محضاً ولا رفضاً

٣٣

مطلقاً ، بل قسّم البشريّة إلى قسمين :

القسم الأوّل : غير الظالمين ، وهم الذين سينالهم عهد الله.

القسم الثاني : الظالمون ، وهم الذين حُرموا عهد الله.

الظالم مَن هو ؟

إنّ الظالم في عرفنا : هو كلّ من يعتدي علىٰ حقوق الغير أو يسلبها في المجالات المختلفة ، ولكنّ القرآن يعمّم هذا المفهوم ليشمل كلّ معتد على حقّ غيره أو حقّ نفسه.

فثمّة آيات كثيرة في القرآن الكريم تعرض صوراً لإلحاق الظلم بالنفس ، مثل قوله تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ) (١).

وقوله سبحانه : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) (٢).

وقوله عزّ وجلّ : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) (٣).

إذاً ، كلّ من مارس الظلم بحقّ نفسه أو حقّ غيره فهو في نظر القرآن الكريم ظالم ، وكلّ ظالم هو بعيد عن نيل عهد الله ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

__________________

(١) النساء (٤) : ١١٠.

(٢) الكهف (١٨) : ٣٥.

(٣) البقرة (٢) : ٥٤.

٣٤

بقي في متناول الإمامة مَن لم يجترح عمليّة ظلم في حياته كلّها ، وهم المعصومون طبعاً.

يقول العلاّمة الطباطبائي ـ صاحب تفسير الميزان ـ نقلاً عن أحد أساتذته حول طلب إبراهيم عليه‌السلام الإمامة لذريّته :

« إنّ مآل هذه الذريّة من حيث صلاحها وفسادها ينتهي إلى الفرضيّات التالية :

الأُولى : أن نفترض أنّ هذه الذريّة ظالمة علىٰ الدوام من أوّل عمرها إلى آخره.

الثانية : أن نفترض أنّها كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح آخر العمر.

الثالثة : أن تكون صالحة أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الظلم بعد ذلك.

الرابعة : أنّها لم تكن ظالمة في أيّ وقت من الأوقات ».

ثمّ يقول :

« من المحال أن يطلب إبراهيم عليه‌السلام الإمامة ـ وهي بهذا الشأن العظيم حيث وهبت إليه بعد النبوّة والرسالة ـ لمن كان ظالماً من ذريّته من أوّل حياته إلى آخرها.

كما من المحال أن يسألها لمن كان من ذريّته صالحاً في مبدأ حياته ثمّ آل إلى الظلم آخر عمره.

تبقى إذاً من ذريّة إبراهيم عليه‌السلام فئتان :

٣٥

الأُولى : التي لزمت الصلاح من أوّل عمرها وبقيت على ذلك.

الثانية : التي كانت ظالمة في أوّل عمرها ثمّ آلت إلى الصلاح.

لكنّ الآية أخرجت الظالمين عن نطاق الإمامة بشكل مطلق ولم تحده ـ أي الظلم ـ بزمان دون آخر ، وهو قيد تخرج فيه جميع الفئات من ذريّة إبراهيم عليه‌السلام ، عدا الفئة التي لزمت الصلاح وعاشت العصمة منذ أوّل حياتها إلى نهايتها » (١).

نستنتج من كلّ هذا أنّ العصمة ـ والتي لا يرى الكثيرون ضرورتها ـ إنّما هي الشرط الأساسي لنيل الإمامة.

الإمامة عهد الله :

صغيرة في لفظها...

كبيرة في مدلولها...

فما معنى أن تنال الإمامة وتصير إماماً ؟

معناه أن ينالك عهد الله ، معناه أن تعيش مع الله ولله ; لتبلغ حدّاً يطلق عليك فيه مصطلح ( الإنسان الكامل ).

وتكون قائداً وأُسوة للبشريّة جمعاء في عقيدتك... وتفكيرك... وجميع تحرّكاتك...

فهل تستطيع ؟

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١ : ٢٧٤ ، والنقل بالمعنىٰ.

٣٦

لو اطّلعنا علىٰ سِيَر جميع القادة والحاكمين والرؤساء والمشايخ و... و... فضلاً عن الناس العاديين ، لوجدناها لا تخلو من عمل يتعارض مع الأوامر والتوجيهات الإلهيّة ، بغض النظر عن كون هذا العمل كبيراً أو صغيراً ، هذا إن لم يعمل بعضهم عكسها متعمداً !

إلاّ من وقع عليه الاختيار الإلهيّ ، وحمّله مسؤوليّة قيادة مسيرة البشر ، فهؤلاء وما أدراك ما هؤلاء ؟!

هؤلاء هم القادة الربّانيون والزعماء الإلهيّون ، سفراء الله في أرضه وحججه على خلقه.

هؤلاء هم الذين عبدوا الله حقّ عبادته ، وأطاعوه ولم يعصوه طرفة عين ، حيث عاشوا العصمة بأسمى معانيها وأبهى تجلّياتها.

كيف لا ، وهم الذين نالهم عهد الله ـ الامامة ـ بمعناه القيادي الشامل دون غيرهم ؟!

في الحقيقة إنّ ما نريد قوله : إنّ اختيار الإمام أمر محصور بالإرادة والقدرة الإلهيّة وحسب ; لأنّ البشر غير قادرين على اختيار الأفضل والأجدر لهذا المنصب ، وذلك لسطحيّتهم وعدم قدرتهم على الاطلاّع على ضمائر وسرائر بعضهم ، إلاّ أن يحدّده الله ويعيّنه بذاته.

وما يدلّنا على ذلك في الآية جواب الباري عزّ وجلّ عندما سأله إبراهيم عليه‌السلام الإمامة لذريّته ، فقد اقترن الجواب بضمير ياء المتكلّم

٣٧

في كلمة ( عهدي ) حين قال : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، الأمر الذي يعني تخصّصها وانحصارها بالله سبحانه ، فلم يقل ( عهدكم ) مثلاً ، أو ( عهد البشر ) ، بل قال : ( عهدي ) أي عهدي وحسب.

فالإمامة إذاً عهد الله ولا شأن لغير الله فيها.

وآية أُخرى...

يقول الله تعالى حاكياً طلب موسى عليه‌السلام : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) (١).

لمّا أمر الله سبحانه كليمه موسى عليه‌السلام بالذهاب إلى فرعون الطاغي ، لم يتردّد موسى عليه‌السلام ، ولكنّه شعر بالحاجة إلى مساعد وموآزر وشريك ليسانده في أمره ، فتوجّه إلى ربّه في طلبه :

( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ).

ثمّ يأتيه جواب ربّه : ( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ) (٢) ، ولم يأمره أن يتشاور مع أصحابه وأتباعه ليختاروا وزيراً وشريكاً له من بينهم.

__________________

(١) طه (٢٠) : ٢٩ ـ ٣١.

(٢) طه (٢٠) : ٣٦.

٣٨

الفصل الثاني

إمامة أهل البيت عليهم‌السلام في القرآن الكريم

أوّلاً : آية التطهير

وهي قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١).

أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة زوجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت :

خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه مُرْطٌ مُرَحَّل (٢) من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثمّ قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) » (٣).

كما أخرج الترمذي حديثاً عن أُمّ سلمة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي المعروفة بالتقوى والفضل ، قالت : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلّل الحسن

__________________

(١) الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

(٢) المُرْط : كساء من صوف ، وربما كان من شعر ، وربما كان من خزّ ، والمُرَحَّل : الذي نُقش فيه تصاوير الرحال ، أو هو الذي فيه علم ، انظر غريب الحديث لابن قتيبة ٢ : ١٦٠. والنهاية في غريب الحديث ٢ : ٢١٠ ، لسان العرب ١١ : ٢٧٨ ( مرط ).

(٣) صحيح مسلم ٧ : ١٣٠ ، باب فضائل أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٩

والحسين وعليّ وفاطمة كساءً ثمّ قال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً » ، فقالت أُمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال : « إنّكِ إلى خير » (١).

يظهر لنا من خلال حديث زوجَتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عائشة وأُمّ سلمة ـ أنّ المعنيين في آية التطهير هم أهل بيت النبيّ وهم : عليّ وفاطمة وولدهما الحسن والحسين عليهما‌السلام.

ولكنّ البعض يقول غير ذلك !

على مائدة البحث :

١ ـ مصداق الآية

يعتقد البعض أنّ هذه الآية ـ آية التطهير ـ نزلت في نساء النبيّ ; بحجّة وقوعها في سياق الآيات التي يخاطب الله بها زوجات نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة الأحزاب.

فيقول سبحانه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٦٠ ، حديث ٣٩٦٣.

٤٠