موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-95-9
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢٦

قال أبو القاسم المؤلف رحمه الله : « والدليل على هذا تكاثف الوعيد فيها.

وروي أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب « كرم الله وجهه » أنّه ناظر ابن عباس ، فقال : من إين لك إنّها محكمة؟ فقال ابن عباس : تكاثف الوعيد فيها ، وكان ابن عباس مقيماً على إحكامها ، فقال أمير المؤمنين عليّ « كرم الله وجهه » : نسخها الله تعالى بآية قبلها وآية بعدها في النظم ، قوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (١) ، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) (٢) » (٣).

وعند مراجعة كتاب النحاس في ذكر الآية المذكورة آنفاً « النساء / ٩٢ » ذكر خمسة أقوال فيها ، ثم قال أبو جعفر : « فهذه خمسة أقوال :

فالقول الأوّل : لا توبة للقاتل ، مروي عن زيد بن ثابت ، وابن عباس ، وساق بسنده عن سعيد بن جبير ، قال : سألت ابن عباس : هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال : لا ، وقرأت عليه التي في الفرقان ، قال : (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) (٤) ، قال : هذه الآية مكية نسختها آية مدنية : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً) (٥).

____________

(١) النساء / ٤٨.

(٢) النساء / ١١٦.

(٣) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة بهامش اسباب النزول للواحدي / (١٤٢) ـ ١٤٣.

(٤) الفرقان / ٦٨.

(٥) النساء / ٩٣.

٤٦١

ثم روى النحاس بسنده عن سالم بن أبي الجعد : أنّ ابن عباس سئل عمن قتل مؤمناً متعمداً ثم تاب وآمن وعمل صالحاً ثم أهتدى؟ فقال : وأنّى له بالتوبة وقد سمعت نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : « يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل تشخب أوداجه دماً ، يقول : أي ربِّ سل هذا فيم قتلني » ثم قال ابن عباس : والله لقد أنزلها الله ثم ما نسخها » (١).

ثم قال أبو جعفر : « والقول الثاني : إنّ له توبة ... وهو أيضاً مروي عن زيد بن ثابت وابن عباس ـ ثم ساق بسنده ـ عن ابن عبادة ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس قال : ألمن قتل مؤمناً توبة؟ قال : لا إلاّ النار ، فلمّا ذهب قال له جلساؤه : ما هكذا كنت تفتينا ، أنّ لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة؟ قال : إنّي لأحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً ، قال : فبعثوا خلفه في أثره فوجدوه كذلك » (٢).

ومن الشواهد على اختلاف الرواية عنه في النسخ ما جاء عنه في قوله تعالى : (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (٣) ، فقد روى النحاس في كتابه بسنده عنه ، قال : « كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برأ الدبر وعفا الوبر وأنسلخ صفر ـ أو قال دخل صفر ـ فقد حلّت العُمَر لمن أعتمر ، فقدم

____________

(١) الناسخ والمنسوخ لابي جعفر النحاس / ١١٠.

(٢) نفس المصدر / ١١١.

(٣) البقرة / ١٩٦.

٤٦٢

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحج ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الحلّ نحلّ؟ قال : « الحلّ كلّه ».

وقال النحاس : إنّ ابن عباس كان يرى الفسخ جائزاً ويقول : من حج فطاف بالبيت فقد حلّ ، لا اختلاف في ذلك عنه ، قال ابن أبي مليكة : قال له عروة : يا بن عباس أضللت الناس؟ قال : بم ذلك يا عروة؟ قال تفتي الناس بأنّهم إذا طافوا بالبيت حلّوا ، وقد حج أبو بكر وعمر فلم يحلاّ إلى يوم النحر ، فقال له ابن عباس : قال الله عزوجل : (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (١) ، فأقول لك : قال الله ، ثم تقول لي : قال أبو بكر وعمر ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفسخ.

قال أبو جعفر : وهذا القول انفرد به ابن عباس كما انفرد بأشياء غيره » (٢).

أقول : لم يكن ابن عباس بهذا القول منفرداً ، بل كان ذلك رأي أهل البيت عليهم السلام ، وأولهم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، وفوق ذلك كلّه أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، وسيأتي الكلام حول هذا في أبواب فقه ابن عباس رضي الله عنه.

ومن الشواهد أيضاً على اختلاف الرواية عنه في مسائل النسخ في قوله تعالى : (وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٣). قال النحاس : « واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية إختلافاً كثيراً على أنّ الأسانيد

____________

(١) الحج / ٣٣.

(٢) الناسخ والمنسوخ لابي جعفر النحاس / ٣٣.

(٣) النساء / ٦.

٤٦٣

عنه صحاح مع إختلاف في المتون.

فمن ذلك ـ فساق الخبر بسنده ـ عن القاسم بن محمد ، قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إنّ لي إبلٌ أثفر ظهورها وأحمل عليها ولي يتيم له إبلٌ فما يحلّ لي منها؟ قال : إذا كنت تهنأ جرباها وتلط حوضها ، وتنشد ضالتها ، وتسقي وردها ، فاحلبها غير ناهكٍ لها في الحلب ، ولا مضرٍّ بنسلها ...

وروي عن عكرمة عن ابن عباس : (وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (١) ، قال : إذا احتاج وإضطر ...

وعن ابن عباس رواية ثالثة ـ بسنده ـ عن مقسم ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : (وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) (٢) ، قال : يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم » (٣).

وممّا يلحق بالمقام ، ما جاء عنه في قول الله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ) (٤) ، فقد روي النحاس وغيره عن القاسم بن محمد قال : « سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن عباس ، عن الأنفال؟ فقال : الفرس من النفل ، ثم عاد يسأله ، فقال ابن عباس ذلك أيضاً ، ثم عاد ، فقال : أمّا الأنفال التي قال الله تعالى في كتابه ، فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون

____________

(١) النساء / ٦.

(٢) النساء / ٦.

(٣) الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس.

(٤) الأنفال / ١.

٤٦٤

ما مثل هذا؟ مثله مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب (١) » (٢).

ولنوضح الكلام بما قاله السيد الأستاذ قدس سره حيث قال :

« ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول : إنّ نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة :

١ ـ إنّ الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة ، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم عليه السلام وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلاً ونقلاً ، فإن ثبت في مورد فهو المتبع ، وإلاّ فلا يلتزم بالنسخ ، وقد عرفت أنّ النسخ لا يثبت بخبر الواحد.

٢ ـ إنّ الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ ومبينّة لرفعه ، وهذا القسم أيضاً لا إشكال فيه ، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى (٣).

ـ قال الشوكاني في « فتح القدير ٥ / ١٨٦ » : وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه ـ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ قال :

____________

(١) ذكر المرحوم الشيخ الأميني قصته في ( الغدير ٦ / (٢٩٠) ـ ٢٩٣ ) ، وأن عمر جلده لكثرة مساءلته عن حروف القرآن حتى أضطربت الدماء في ظهره.

(٢) الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس.

(٣) هي قوله تعالى : (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المجادلة / (١٢) ـ ١٣ ). وقد مرّ ما يتعلق بتفسير هذه الآية في أسباب النزول عن ابن عباس مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام.

٤٦٥

« إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ـ آية النجوى (إِذَا نَاجَيْتُمُ ...)كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلمّا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدمّت بين يدي نجواي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ) (١).

وثمة رأي بأنّ النسخ هنا بمعناه اللغوي ، فقد نقل الرازي في تفسيره « ٨ / ١٦٧ ط القاهرة » : عن أبي مسلم أنّه جزم بكون الأمر إمتحانياً لتمييز من آمن إيماناً حقيقياً عمّن بقي على نفاقه فلا نسخ ، وقال الرازي : وهذا الكلام حسن ما به بأس.

ورواية تصدّق الإمام دون غيره من الصحابة في مصادر كثيرة ، راجع « البيان » ـ.

٣ ـ إنّ الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق ولا ميبنّة لرفعه ، وإنّما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما ، فيلتزم بأن الآية الآخرى ناسخة لحكم الآية المتقدمة.

والتحقيق : إنّ هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن ، كيف وقد قال الله عزوجل : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (٢) » (٣).

ثم إنه ١ذكر الآيات التي أدعى النسخ فيها ، وناقش من استدل بها ، فذكر منها ستاً وثلاثين آية ، وما ذكره حريّ بالمراجعة لمزيد الإستفادة.

____________

(١) فتح القدير ٥ / ١٨٦.

(٢) النساء / ٨٢.

(٣) البيان في تفسير القرآن / (٣٩٥) ـ ٤٠٢ ط الأولى.

٤٦٦

شواهد على التخصيص بعنوان النسخ عند ابن عباس رضي الله عنه :

لقد وردت روايات عن ابن عباس ذكر فيها النسخ وهو في الحقيقة تخصيص بعض أفراد العام ، فمنها :

١ ـ قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (١) ، أخرج السيوطي في « الدر المنثور » نقلاً عن ابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « لمّا نزلت هذه الآية : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) ، فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً ، ثم نزلت هذه الآية : (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (٢) ، فنسخت الأولى إلاّ الفاني إنّ شاء أطعم عن كلّ يوم مسكيناً وأفطر » (٣).

فقوله : « فنسخت الأولى إلاّ الفاني » ، فهذا الإستثناء دلّ على عدم رفع الحكم بالكلية الذي هو معنى النسخ ، بل دلّ على أنّ المراد بالنسخ التخصيص.

ويؤكد ذلك ما في رواية سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : « كان الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم رخّص لهما أن يفطرا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكيناً ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك

____________

(١) البقرة / ١٨٤.

(٢) البقرة / ١٨٥.

(٣) الدر المنثور ١ / ١٧٧.

٤٦٧

(فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم وللحبلى والمرضع إذا خافتا » (١).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) (٢) ، قال : « ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال : (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ) حلّ لكم (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (٣) » (٤).

وهذا أيضاً دلّ على التخصيص وليس على النسخ ، لأنّ النسخ رفع الحكم بالكلية ، وفي المقام لم يرفع كلية بل استثنى نساء أهل الكتاب فقط من بين النساء المشركات.

المسألة الثالثة : في المحكم والمتشابه

لقد قسم عبد الله بن عباس رضي الله عنه وجوه التفسير على أربعة أوجه :

وجه تعرفه العرب بكلامها ، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله عزوجل.

قال الماوردي : « وهذا صحيح : أمّا الذي تعرفه العرب بكلامها ، فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم ، وأمّا الذي لا يعذر أحد بجهالته ، فهو ما يلزم

____________

(١) جامع البيان ٢ / ١٣٥ ط٢ ١٣٧٣ بمصر.

(٢) البقرة / ٢٢١.

(٣) المائدة / ٥.

(٤) جامع البيان ٢ / ٥١١.

٤٦٨

الكافة في القرآن من الشرائع وجملة دلائل التوحيد ، وأمّا الذي لا يعلمه إلاّ الله عزوجل فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة ، وهذا التقسيم الذي ذكره ابن عباس صحيح » (١). ثم ناقش في تداخل القسم الثاني في الثالث.

وقد روى عنه أيضاً ما مرّت بنا مقولته المشهورة في وجوه التفسير المروية عنه مرفوعة وموقوفة : « أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسّره العرب ، وتفسير تفسّره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلاّ الله ، ومن أدعى علمه سوى الله فهو كاذب » (٢) ، وهذا ما رواه مرفوعاً وروي عنه أيضاً موقوفاً. ثم قال : « نؤمن بالمحكم وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به ، وهو من عند الله كلّه » (٣).

وهذا هو نحو المروي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ففي « تفسير العياشي » عن أبي عبد الله عليه السلام : « إنّ القرآن محكم ومتشابه ، فأمّا المحكم فنؤمن به ونعمل به وندين به ، وأمّا المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به ، وهو قول الله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (٤) ، والراسخون في العلم هم آل محمد » (٥).

____________

(١) تفسير الماوردي ١ / ٣٦.

(٢) التبيان ١ / ٧ ، الدر المنثور ٢ / ٧ ، الإتقان ٢ / ٤.

(٣) الدر المنثور ٢ / ٧ ، الإتقان ٢ / ٤.

(٤) آل عمران / ٧.

(٥) تفسير العياشي ١ / ١٦٢.

٤٦٩

وقد ورد عن ابن عباس أنّه ممن يعلم التأويل (١) ، ولا بُعد في ذلك بعد أن كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا له فقال : « اللهم علّمه التأويل » ، ثم هو كان في علمه وتعلّمه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ما هو متيقن معلوم ، وقد مرّت بنا مقولته مفتخراً : « علمي من علم عليّ ، وعلم عليّ من علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » ، فلا غرابة لو قال : إنّه يعلم تأويل الكتاب ، ويعرف المحكم منه والمتشابه على نحو ما بينّاه.

وإن كان للمحكم عنده معنى آخر ، غير المحكم من الآيات ، هو ما يسمّيه بالمحكم من السور ، وفسّره بأنّه ما يُسمي بالمفصّل ، وهو قصار السور لكثرة الفواصل التي بين السور بالبسملة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ).

فكان يقول في سورة الضحى إلى الناس ، وكان يفصل في الضحى بين كلّ سورتين بالتكبير وهو رأي قرأه كثير (٢).

وكان يقول : « إنّ الذي تدعونه المفصل هو المحكم ، توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم » (٣).

وأنا لا أكاد أصدّق رواية هذا الخبر عنه! إذ مرّ بنا في الحلقة الأولى « سيرة وتاريخ » بأنّه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وبنو هاشم في حصار الشعب ، فكان عمره يوم توفي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة سنة ، كما مرّ بنا أيضاً أنّه قد جمع المحكم على عهده صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يبعد سهو الرواة عنه في تقدير العمر.

____________

(١) جامع البيان للطبري ٣ / ١٨٣.

(٢) تفسير الماوردي ١ / ٢٧.

(٣) راجع الحلقة الأولى من هذه الموسوعة ٢ / ٣٢٤.

٤٧٠

ومهما كان شأن هذا الخبر ، فليس المراد بالمحكم في السور هو عين المحكم في الآيات الذي هو مقابل المتشابه كما هو عنوان المسألة ، والناظر إلى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (١). لقد قال في قوله تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) : « يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم ويلبسون » (٢).

وفي هذا المعنى جاء عن ابن عباس ما يوائم بعض ما جاء عن أهل البيت٨ من بعض الوجوه ، وأن المحكم والمتشابه ربما كان أعمّ ممّا ينطبق على الناسخ والمنسوخ.

فقد روى السيوطي نقلاً عن ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : « المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات منسوخه ومقدّمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به » (٣).

____________

(١) آل عمران / ٧.

(٢) رواه ابن الجوزي في زاد المسير ١ / ٢٢٨.

(٣) الإتقان ٢ / ٢.

٤٧١

ففي الكافي « انّ الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم السلام » ، بسنده : « عن بريد بن معاوية ، عن أحدهما عليهم السلام في قول الله عزوجل (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم) ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم قد علّمه الله عزوجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه ، والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم ، فأجابهم الله بقوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) (١) ، والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابّه ، وناسخ ومنسوخ ، فالراسخون في العلم يعلمونه » (٢).

ولعلّ ابن عباس بناءاً على تلقيه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول : أنا من الراسيخين في العلم. ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف : (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٣) : « أنا من أولئك القليل » (٤).

ولمّا كانت الألفاظ الواردة في تفسير المحكمات والمتشابهات من الألفاظ المبيّنة للمفاهيم اللغوية ، وهي أيضاً قابلة للتضايف النسبي ، فربّ آية محكمة عند طائفة هي متشابهة عند طائفة أُخرى ، فلا بدّ في معرفة المراد من الآيات الآمرة بالأخذ من الراسخين في العلم وهم أهل البيت عليهم السلام كما مرّ في خبر العيّاشي ، وفي خبر الإمام الباقر عليه السلام في « الكافي » : « إنّ الراسخين في العلم

____________

(١) آل عمران / ٧.

(٢) الكافي ١ / ١٦٦.

(٣) الكهف / ٢٢.

(٤) جامع البيان للطبري ١٥ / ٢٨٢ ، البرهان للزركشي ٢ / ٧٣.

٤٧٢

من لا يختلف في علمه » (١).

وفي « الدر المنثور » : « أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أنس وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وأبي الدرداء : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال : « من برّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم » (٢).

ذكر نماذج من بعض الآيات المحكمات وتفسيرها

أخرج السيوطي في « الإتقان » عن ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى : (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ) (٣) قال : « من ها هنا : (قُلْ تَعَالَوْاْ) (٤) إلى ثلاث أيات ، ومن ها هنا : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) إلى ثلاث آيات يعني محكمات » (٥).

ولا يبعد أن يكون ابن عباس قد ذكر هذا من باب التمثيل وإلا فالآيات المحكمات أكثر من ذلك ، أمّا الآيات التي ذكرها أوّلاً فهي ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام من الآية ١٥١ إلى الآية ١٥٣ ، وهي قوله تعالى : (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ

____________

(١) أصول الكافي ١ / ٢٤٥ ، الميزان ٣ / ٦٣.

(٢) الدر المنثور ٢ / ٧.

(٣) آل عمران / ٧.

(٤) الإسراء / (٢٣) ـ ٢٥.

(٥) الإتقان ٢ / ٣.

٤٧٣

إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ـ ‏ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ـ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

وأمّا الآيات التي ذكرها ثانياً فهي أربع آيات في سورة الإسراء : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٢).

ولابن عباس من خلال الآيات المحكمات والمتشابهات ، حملة على الذين يتبعون ما تشابه منه ، فقال : « فيحملون المحكم على المتشابه ، والمتشابه على المحكم ، ويلبسون ، فلبّس الله عليهم » (٣). وقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ

____________

(١) الأنعام / (١٥١) ـ ١٥٣.

(٢) الإسراء / (٢٣) ـ ٢٦.

(٣) جامع البيان للطبري ٣٠ / ١٧٧.

٤٧٤

في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (١) قال : « من أهل الشك » (٢).

وقال وقد ذكر عنده الخوارج وما يلقون عند الفرار ، فقال : « يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ قوله تعالى : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ...) (٣) » (٤).

موقفه من تفسير الحروف المقطعّة

لقد رويت عنه عدّة روايات في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقد رواها مستقصياً السيوطي في كتابه « الإتقان » في الجزء الثاني ، كما ذكر المفسرون بعضها ، فالطبري مثلاً ذكر عن ابن عباس عن (حم) ، و (طسم) ، و (ألم) ، قال : « هو اسم الله الأعظم » (٥).

ثم روى أيضاً عنه قال : « هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله » (٦).

وروى ثالثاً أيضاً عنه قال في قوله : (ألم) ، و (حم) ، (ن) قال : « أسم مُقطّع » (٧).

وأخيراً روى أيضاً عنه خبراً رواه عن جابر بن عبد الله بن رياب ، قال : « مرَ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (٨) ، فأتى أخاه

____________

(١) آل عمران / ٧.

(٢) جامع البيان للطبري ٣ / ١٧٦.

(٣) آل عمران / ٧.

(٤) جامع البيان للطبري ٣ / ١٨١.

(٥) نفس المصدر ١ / ١٣٠.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر ١ / ١٣١.

(٨) البقرة / (١) ـ ٢.

٤٧٥

حيّ بن أخطب في رجال من يهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلوا فيما أنزل الله عزوجل عليه : (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، فقال : أنت سمعته؟ قال : نعم ، فمشى حيّ بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا محمد ألم يذكر لنا أنّك تتلو فيما أنزل عليك (ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بلى ، فقالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال : نعم ، قالوا لقد بعث الله جلّ ثناؤه قبلك أنبياء ما نعلمهم بيّن نبيّ منهم ما مدّة ملكه وما أجل أمته غيرك ، فقال حيّ بن أخطب وأقبل على من كان معه ، فقال لهم : الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه احدى وسبعون سنة ، قال : فقال لهم : أتدخلون في دين نبيّ إنّما مدّة ملكه وأجل أمته احدى وسبعون سنة؟ قال : ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال : نعم ، قال : فماذا؟ قال : (آلمص « قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة واحدى وستون سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم ، قال : ماذا؟ قال : (ألر) ، قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه احدى وثلاثون ومائتا سنة ، فقال : هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال : نعم (ألمر) ، قال : فهذه أثقل وأطول ، الأف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه احدى وسبعون ومائتا سنة ، ثم قال : لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم

٤٧٦

كثيراً ، ثم قاموا عنه.

فقال أبو ياسر لأخيه حيّ بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمد ، احدى وسبعون ، واحدى وستون ومائة ، ومائتان واحدى وثلاثون ، ومائتان واحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (١) » (٢).

وآيات الصفات من المتشابهات

لقد أختلف في تفسير الآيات المتشابهات في الصفات على أقوال ثلاثة :

أحدها : أنّه لا مدخل للتأويل فيها ، بل تجري على ظاهرها ، ولا تُؤول شيئاً منها ، وهذا قول المشبّهة المجسّمة.

ثانيها : إنّ لها تأويلاً ، ولكن لا نخوض فيه ونقول لا يعلمه إلاّ الله ، وهذا قول السلفية البلكفية ـ أي بلا كيف ـ.

ثالثاً : إنّها مؤولة تأويلاً بما يليق وعظمة ذي الجلال ، وهذا قول أهل الحق من الصحابة والتابعين وحتى بعض أئمة المذاهب كأحمد بن حنبل فيما حكاه ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ رَبِّكَ) ، قال : « وهل هو إلاّ

____________

(١) آل عمران / ٧.

(٢) جامع البيان للطبري ١ / ١٣٨.

٤٧٧

أمره بدليل قوله : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) (١) » (٢) ، وهذا هو عين المروي عن ابن عباس (٣).

ولمّا كان التأويل غير مستحيل لإستحالة الجسمية في حق الباري تعالى ، فقد ذهب ابن عباس تبعاً لإمامه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى القول به ، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) (٤) ، وقوله : (وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) (٥) أي حبّ العجل.

المسألة الرابعة : مسألة الكناية والمثل

من النظم البلاغي في القرآن استعمال الكناية والمثل في كثير من آياته الكريمة ، وابن عباس معدود هو المفسر الأوّل بعد الإمام عليّ عليه السلام فلم يكن يخفى عليه هذا النظم وهو القائل : « القرآن كلّه إياك أعني وأسمعي يا جارة » (٦).

ولو أردنا استيعاب جميع ما ورد عنه في ذلك لطال بنا البحث ، لكننا نذكر للقارئ بيان بعض الشواهد.

فمن شواهد الكناية ما رواه عبد الرزاق في « المصنف » : « أنّ عبيد ابن عمير وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح إختلفوا في الملامسة ،

____________

(١) النحل / ٣٣.

(٢) البرهان في علوم القرآن للزركشي ٢ / ٧٩ ط الأولى ١٣٧٦ هـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم

(٣) مجمع البيان ٤ / ٢٠٠ ط الأعلمي.

(٤) يوسف / ٨٢.

(٥) البقرة / ٩٣.

(٦) مجمع البيان ٧ / ٤٦٥.

٤٧٨

قال سعيد وعطاء : هو اللمس والغمز ، وقال عبيد بن عمير : هو النكاح ، فخرج عليهم ابن عباس وهم كذلك ، فسألوه وأخبروه بما قالوا ، فقال : أخطأ الموليان ، وأصاب العربي ، وهو الجماع ولكن الله يعفُّ ويكني » (١).

ومن الشواهد في المقام أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق في كتاب الطلاق ، قال ابن عباس : « الدخول والتغشي ، والإفضاء ، والمباشرة ، والرفث والمس هو الجماع ، غير أنّ الله حيً كريم يكنّي عما شاء » (٢).

ومن باب الكناية في قوله تعالى : (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ) (٣) ، قال ابن عباس : « أي مال كثير » (٤).

ومن باب الكناية في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (٥) ، قال : « إنّ كلّ ما نسبه الله تعالى من الخسار إلى غير المسلمين فإنّما عنى به الكفر ، وما نسبه إلى المسلمين فإنّما عنى به الدنيا » (٦).

____________

(١) المصنف كتاب الصلاة / ٥٠٦.

(٢) المصنف كتاب الطلاق باب وربائبكم رقم / ١٠٨٢٦.

(٣) الكهف / ٣٤.

(٤) بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي ٢ / ٣٣٩.

(٥) البقرة / ٢٧.

(٦) مجمع البيان ١ / ١٤٠.

٤٧٩

روي الحاكم في « المستدرك » عن محمد بن المنكدر ، قال : « إلتقى ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال ابن عباس : أيّ آية في كتاب الله أرجى عندك؟ فقال عبد الله عمرو : (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) (١) ، قال : لكن قول إبراهيم : (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢) هذا لما في الصدور من وسوسة الشيطان ، فرضي الله تعالى من إبراهيم بقوله : (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى) (٣).

وروي النحاس عن ابن عباس ، قال : « أرجى آية في القرآن : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) (٤) » (٥).

ومن الشواهد على ضرب الأمثال بآيات الذكر الحكيم ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير سورة البقرة في قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٦). روى البخاري بسنده عن ابن جريج : « سمعت عبد الله بن

____________

(١) الزمر / ٥٣.

(٢) البقرة / ٢٦٠.

(٣) مستدرك الحاكم١ / ٦٠

(٤) الرعد / ٦.

(٥) البرهان للزركشي ١ / (٤٤٧) ـ ٤٤٨.

(٦) البقرة / ٢٦٦.

٤٨٠