موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-95-9
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢٦

فعتب الله عليه حيث لم يردّ العلم إليه ، فقال : عبدٌ لي عند مجمع البحرين هو أعلم منك ، قال : أي رب فكيف به؟ قال : تأخذ حوتاً فاجعله في مكتل ـ زنبيل ـ فحيث ما فقدت الحوت فهو ثَمّ ».

ثم إنّ ابن عباس ساق الحديث بطوله ، وفي آخره : « قال ـ سعيد ـ : وكان ابن عباس يقرأ « وأمّا الغلام فكان كافراً » ، قال ابن عباس : « وكان أمامهم مَلِك يأخذ كلّ سفينة ـ صالحة ـ غصباً “ (١).

والحديث قال عنه محقق الكتاب في الهامش : متفق عليه ، أخرجه البخاري في العلم في عدّة أبواب ، وفي الإجارة ، وفي الشروط وبدء الخلق والأنبياء والتفسير والأيمان والنذور ، وفي التوحيد ، وأخرجه مسلم في الفضائل ، والترمذي في سورة الكهف.

أقول : ومن سبر المواضع المذكورة في صحيح البخاري لا يجدها متفقة لفظاً مع ورودها متحدة سنداً ، فظن خيراً بضبط البخاري ولا تسأل عن الخبر!

ثم إنّ قراءة ابن عباس كانت تأويلية موضحة للتنزيل ، فلا يظنّ ظان أنّه كانت له قراءة تنزيلية على خلاف ما هو الموجود في المصاحف المنتشرة كما سيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع ، وحسبنا الآن بهذا عرضاً عن الإلقاء والتلقي سماعاً وكتابة.

والآن لنقرأ عن مادة الدرس :

____________

(١) الرحلة في طلب الحديث / ٩٧.

٢١

٢ ـ مادة الدرس

فقد كان يحاضر تلامذته كلّ يوم مادة خاصة ، وتلك بدايات التخصص عند تلامذته ، فنجد بعضهم برع في التفسير ، وبعضهم في الفقه ، وبعضهم في الأدب ، إلى آخر ما هنالك من فنون المعرفة التي كان ابن عباس يحاضر فيها ، وهو بحق يسعنا أن نجعله العالم الموسوعي في رأس قائمة أصحاب التنظيم الدراسي يومئذ ، إذ لم يكن معروفاً لدى الصحابة في عصرهم من يدعو إلى منهج الإختصاص الذي شمخت به المناهج الحديثة في بلادنا مستوردة له من غيرنا ، وعدّته زمرة الناعقين وراء المستشرقين أنّه من حسناتهم ، ولو أنّهم قرأوا تأريخهم المجيد ، لرأوه حافلاً بأحسن ممّا أتاهم من بعيد ، فهو يساير سنة التطور والتجديد.

ولا أطيل في ذلك ، وحسبنا حديث أبي صالح الآتي عليهم من شهيد ، وقبل ذلك الحديث نقرأ قول ابن عباس نفسه لابن خلاد : « العلم كثير ولن تعيه قلوبكم ، ولكن ابتغوا أحسنه ، ألم تسمع قوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (١) ».

أمّا ما قاله أبو صالح كما أخرجه ابن كثير في « البداية والنهاية » ـ ورواه غيره ـ فقد قال : « لقد رأيت من ابن عباس مجلساً لو أنّ جميع

____________

(١) الزمر / ١٨.

٢٢

قريش فخرت به لكان لها به الفخر ، لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق ، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب. قال : فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه ، فقال لي : ضع لي وضوءاً ، قال : فتوضأ وجلس ، فقال : أخرج فقل لهم : مَن كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل ، قال : فخرجت فآذنتهم ، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة ، فما سألوه عن شيء إلاّ أخبرهم عنه ، وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر ، ثم قال : إخوانكم ، فخرجوا.

ثم قال : أخرج فقل : من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل ، قال : فخرجت فآذنتهم ، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة ، فما سألوه عن شيء إلاّ أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر ، ثم قال : إخوانكم ، فخرجوا.

ثم قال : أخرج فقل : من كان يريد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها ، فليدخل ، فخرجت فآذنتهم ، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة ، فما سألوه عن شيء إلاّ أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر ، ثم قال : إخوانكم ، فخرجوا.

ثم قال : أخرج فقل من كان يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل ، فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة ، فما سألوه عن شيء إلاّ أخبرهم به وزادهم مثله ، ثم قال : إخوانكم ، فخرجوا.

٢٣

قال أبو صالح : فلو أنّ قريشاً كلّها فخرت بذلك لكان فخراً ، فما رأيت مثل هذا لأحد من الناس » (١).

وربما قال مشكك تعقيباً على هذا الخبر : بأنّ أثر الصنعة بادٍ عليه! من خلال وحدة اللهجة في السؤال والجواب والوصف والسياق ، كلّ ذلك ظاهر في كلام ابن عباس وأبي صالح في المرات الأربع ، وهذا النسق عادة ما يكون مثار شك في تفاصيل الخبر لا في أصله وصدقه إجمالاً.

هذا إذا تجاوزنا جهالة أبي صالح الراوي ، فمن هو؟ إذ أنّ الرواة المكنّين بأبي صالح والرواة عن ابن عباس هم أربعة :

١ ـ أبو صالح باذام ـ ذكوان ـ مولى أم هانيء بنت أبي طالب رضي الله عنه. ذكره ابن حجر في تهذيبه ، وحكى توثيقه وتجريحه ، والتوثيق أقوى (٢).

٢ ـ أبو صالح سميع بن الزيّات. ذكره الذهبي في « المقتنى في سرد الكنى » (٣).

٣ ـ أبو صالح قيلولة. كسابقه (٤).

٤ ـ أبو صالح ميزان. ذكره ابن حجر في تهذيبه (٥).

____________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٣٠٢ ط السعادة بمصر.

(٢) تهذيب التهذيب ١ / ٤١٦.

(٣) المقتنى في سرد الكنى ١ / ٣٧٢.

(٤) نفس المصدر ١ / ٣٧١.

(٥) تهذيب التهذيب ١٢ / ١٣٣.

٢٤

والأشهر منهم هو الأوّل ، وربما قيل هو المتبادر أوّلاً فيكون هو الأظهر.

ومهما أحاط الشك بالخبر من جهالة الراوي سنداً ، أو من جهة السياق متناً ، فيبقى له نصيب من الصحة إجمالاً ، إذ لا دخان من دون نار ، ولا ديار من دون دار ، وعلى ذلك قامت الحجة في دلالة الآثار.

٣ ـ متابعة الدرس ، وأهمها المذاكرة

لقد مرّت بنا قراءة بعض أقواله لتلامذته في ذلك من فضل مدارسة العلم ، وأوضح من ذلك كان قوله لهم : « إذا سمعتم منّي حديثاً فتذاكروه بينكم ، فإنّه أجدى وأحرى ألاّ تنسوه ».

وكذلك ما مرّ من قوله لسعيد بن جبير : « تذاكروا هذا الحديث لا يتفلت منكم ... ».

وقوله الآخر أيضاً وقد مرّ : « ردّوا الحديث واستذكروه ، فإن لم تذكّروه ذهب ... » ، وأحسب أنّ الصحيح « فإن لم تذاكروه ذهب ».

(٤) الترغيب في طلب العلم

لقد روى الخطيب بسنده : عن عنترة ، قال : « سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل أيّ الأعمال أفضل؟ قال : ذكر الله أفضل ، فأعادها عليه ثلاث مرات ثم أنشأ يحدّث ، فقال : ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلاّ كانوا أضياف الله ، وأظلّت

٢٥

عليهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه حتى يخوضوا في حديث غيره ، وما سلك رجل في طريق يبتغي فيه العلم إلاّ سهّل له به إلى الجنّة ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه » (١).

وأعاده الخطيب ثانية عن أبي عمرو الشيباني عن ابن عباس.

وأيضاً جاء عنه في تفضيل طلب العلم على الجهاد ، ما رواه عنه علي الأزدي ، فقال : « سألت ابن عباس عن الجهاد؟ فقال : « ألا أدلّك على ما هو خير لك من الجهاد؟ تبني مسجداً تعلّم فيه القرآن وسنن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والفقه في الدين » (٢).

وجاء عنه أيضاً أنّه قال : « إنّ الشياطين قالوا لإبليس : يا سيدنا ما لنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد ، والعالم لا تصيب منه والعابد تصيب منه ، قال : انطلقوا ، فانطلقوا إلى عابد فأتوه لعبادته فقالوا : إنّا نريد أن نسألك فانصرف ، فقال له ابليس : هل يقدر ربّك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ فقال : لا أدري ، فقال : أترونه كفر في ساعة! ثم جاؤا إلى عالم في حلقته يضاحك أصحابه ويحدّثهم ، فقال له : إنّا نريد أن نسألك ، فقال : سل ، فقال : هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في جوف بيضة؟ قال : نعم. قال : وكيف؟ قال : يقول : كن فيكون ، فقال : أترون ذلك لا يعدو نفسه ، وهذا يفسد علي عالماً كثيراً » (٣).

____________

(١) موضح أوهام الجمع والتفريق ٢ / ٤٥٧.

(٢) جامع بيان العلم لابن عبد البر ١ / ٦٢.

(٣) الفقيه والمتفقه للخطيب ١ / ٢٦ ط دار احياء السنة النبوية.

٢٦

ونحو قوله الآخر : « إذا كان يوم القيامة يؤتى بالعابد والفقيه فيقال ـ يعني للعابد ـ أدخل الجنّة ، ويقال للفقيه : إشفع » (١).

(٥) الترهيب والتحذير من التطاول والكذب والازدراء بالآخرين نتيجة الغرور العلمي

وذلك من خلال نصائحه التي كان يُسمعها لمن حضر من تلامذته وغيرهم ، نحو ما قاله لسعيد بن جبير « من أفتى بفتيا يعمى عنها فإنّما إثمها عليه » (٢).

ونحو قوله لعثمان بن حاضر الأزدي وقد سأله أن يوصيه ، فقال : « نعم عليك بتقوى الله ، عليك بالإستقامة ، اتبع ولا تبتدع » (٣).

وكم فرق بين النصيحتين بين قوله لسعيد وبين قوله لعثمان!

وإذا عرفنا أنّ ابن عباس كان حرباً على القصاصين بالرغم من دعم السلطة الحاكمة لهم ، فلا نعجب ممّا روي أنّه مرّ بقاص فركله برجله ، فقال : « أتدري ما الناسخ من المنسوخ؟ ، قال : ومن يعرف الناسخ من المنسوخ ، قال : وما تدري ما الناسخ من المنسوخ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت » (٤).

____________

(١) نفس المصدر ١ / ٢٠.

(٢) الفقيه والمتفقه ١ / ١٥٥.

(٣) نفس المصدر ١ / ١٧٣ ، سنن الدارمي ١ / ٥٣.

(٤) معرفة الناسخ والمنسوخ لابن حزم بهامش تنوير المقياس ٢ / ٣٠٩.

٢٧

وما قوله لطاووس بدون هذا ، فقد أخرج الدارمي في سننه : « عن عبيد الله بن سعيد ، عن سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجر ، قال : كان طاووس يصلي ركعتين بعد العصر ، فقال له ابن العباس : أتركهما ، قال : إنّما نهي عنها أن تتخذ سلّماً ، قال ابن عباس : فانّه قد نهي عن صلاة بعد العصر ، فلا أدري أتعذّب عليها أم تؤجر ، لأنّ الله يقول : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١).

قال سفيان : تتخذ سلّماً ، يقول يصلي بعد العصر إلى الليل » (٢).

كما أنّه ليس بدون ذلك إنكاره وتخويفه من ضمّ أقوال الآخرين مع قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كان حرباً على أولئك الذين يحتجوّن بسيرة الشيخين مثل إحتجاجهم بالكتاب والسنة ، وقد مرّت نماذج من أقواله نحو قوله : « أما تخافون أن تعّذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال فلان » (٣).

وأيضاً عن طاووس : أنّ ابن عباس كان يقول : « كنّا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ركبتم الصعب والذلول » (٤).

____________

(١) الاحزاب / ٣٦.

(٢) سنن الدارمي ١ / ١١٥.

(٣) نفس المصدر ١ / ١١٤.

(٤) نفس المصدر.

٢٨

٦ ـ الإختبار

فمن ذلك قوله لتلميذه عبيد الله بن عتبة : « يابن عتبة تعلَم آخر سورة من القرآن أنزلت؟ قال : نعم (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (١) ، قال : صدقت » (٢).

وكذا قوله لتلميذه الآخر وهو أبو العالية وقد سأله عن شيء ، فقال : « يا أبا العالية أتريد أن تكون مفتياً؟ فقال : لا ولكن لا آمن أن تذهبوا ونبقى ، فقال : صدق أبو عالية » (٣).

وقد مرّ التعريف بأبي العالية وتكريم ابن عباس له حتى كان يجلسه معه على السرير.

٧ ـ إمارة التخرج في قريض الثناء

لقد مرّت شواهد على ذلك في تراجم بعض تلامذته ، من تكريم وتقديم ، كما صنع مع أبي العالية رفيع بن مهران ، حتى كان يجلسه معه على السرير.

فقد روى الخطيب بسنده عن أبي العالية ، قال : « كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش ، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير ، فيغامزني قريش ، ففطن لهم ابن عباس ، فقال : كذاك هذا العلم يزيد الشريف شرفاً ، ويجلس المملوك على الأسرة » (٤).

____________

(١) النصر / ١.

(٢) المعجم الأوسط للطبراني ٧ / ١٩٩.

(٣) سنن الدارمي ١ / ١٣٣.

(٤) الفقيه والمتفقه ١ / ٣١.

٢٩

ونحو هذا التكريم صنيعه مع تلميذ آخر من تلامذته هو أبو حمزة ، فقد روى الخطيب بسنده عنه ، قال : « كنت أقعد مع ابن عباس فكان يجلسني معه على سريره ، فقال لي : أقم عندي حتى أجعل لك سهماً من مالي » (١).

وعن تكريمه لسعيد بن جبير ، فقد فاق ما ذكرت حتى كان يشركه معه في الإجابة ، ولم نجد مثل هذا مع غيره.

فقد روى الخطيب بسنده عن سعيد بن جبير ، قال : « كنت عند ابن عباس فسئل عن مسألة فالتفت إليّ فيها ، فقال : ما تقول يا سعيد بن جبير؟ فقلت : أنت ابن عباس وإنّما جئت أقتبس منك. فقال ابن عباس : إذا كان لك جليس فسله ، فإنّما هو فهم يؤتيه الله من يشاء » (٢).

الكتابة عنه بين التنقيد والتقييد

لئلا نغرق في تفاصيل الحديث عن بداية إختلاف الآراء في موضوع كتابة الحديث سلباً وإيجاباً ، تنقيداً وتقييداً ، نمرّ بما ورد عن ابن عباس في ذلك ، وقد مرّ بنا في الحلقة الأولى في الجزء الأول ، وفي بداية هذه الحلقة أيضاً ، ما يوضح لنا رأيه ومن خلال سلوكه العملي ، ثم نحن الآن نستعرض ما روي عنه ممّا يوحي بالتناقض والتضاد ، وكأنّه نتيجة التناضل السياسي بينه وبين السلطات الحاكمة كانت المواقف المرويّة عنه متناقضة.

____________

(١) نفس المصدر ٢ / ١١٧.

(٢) نفس المصدر ٢ / ١٨٥.

٣٠

فهو إذ يأبى ويمنع من الكتابة ويبيّن ضلالة صاحبها ، وإذا به يأمر بها ويدعو لها ويبيّن فضلها ، إنّها ظاهرة تقضى بالعجب! كيف يتم التعليل لإختلاف المواقف ، وتضادّ الأخبار؟

وقبل اليوم نجد الخطيب البغدادي « ت٤٦٣ هـ » في كتابه « تقييد العلم » قد وافانا بجملة ما ورد عن ابن عباس نفياً وإثباتاً ، فلنقرأ ذلك ، فقد كفانا مؤنة الطلب وفيما ذكره مبلغ الأرب ، فعنه نذكر ما يلي :

قال في كتابه المذكور في القسم الأوّل في الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم في الفصل الثاني منه : « في ذكر الرواية عن عبد الله ابن عباس في ذلك ...

ثم ساق خمس روايات بأسانيده ، فنحن نذكر متونها ، وهي كما يلي :

١ ـ عن طاووس ، قال : سأل ابن عباس رجل من أهل نجران ، فأعجب ابن عباس حسن مسألته ، فقال الرجل « أكتبه لي » ، فقال ابن عباس : « إنّا لا نكتب العلم ».

٢ ـ عن طاووس ، قال : إن كان الرجل يكتب إلى ابن عباس يسأله عن الأمر فيقول للرجل الذي جاء : « أخبر صاحبك إنّ الأمر كذا وكذا ، فإنّا لا نكتب في الصحف إلاّ الرسائل والقرآن ».

٣ ـ عن طاووس ، قال : كنّا عند ابن عباس ، قال ، وكان سعيد بن جبير يكتب ، قال : فقيل لابن عباس : « إنّهم يكتبون » ، قال : « أيكتبون؟ » ، ثم قام ، قال : وكان حسن الخلق ، قال : « ولولا حسن خُلقه لغيّر بأشدّ من القيام ».

٣١

٤ ـ قال طاووس : لمّا عمي ابن عباس ، جعل ناس من أهل العراق يسألونه ويكتبون ، قال : فجاء إنسان من أهله ، فالتقم أذنه فلم يتكلم حتى قام.

٥ ـ عن سعيد بن جبير : انّ ابن عباس كان ينهى عن كتابة العلم ، وأنّه قال : « إنّما أضلّ من قبلكم الكتب » (١).

هذه جملة ما أورده الخطيب عن كراهة ابن عباس للكتابة والتقييد.

ونقرأ ما ذكره عن ابن عباس من الرخصة والإباحة في كتابة العلم والحديث ، ثم نعود إلى الموازنة بين الموقفين.

قال : « ذكر الرواية عن عبد الله بن عباس في ذلك ...

ثم ساق خمس روايات في الترخيص في التقييد ذكرها بأسانيده ، ونحن نذكر متونها فقط وهي كما يلي :

١ ـ عن عبيد الله بن أبي رافع ، قال : « كان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول : « ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم كذا؟ » ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها.

٢ ـ عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : « قيّدوا العلم ، وتقييده كتاتبه ».

٣ ـ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : « خير ما قيّد به العلم الكتاب ».

٤ ـ عن الأعرج ، عن عبد الله بن عباس ، قال : « قيّدوا العلم بالكتاب ».

____________

(١) تقييد العلم / ٤٢.

٣٢

٥ ـ عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن عباس ، قال : « قيّدوا العلم بالكتاب ، من يشتري مني علماً بدرهم » (١).

هذه أيضاً خمس روايات فيها الرخصة من ابن عباس قولاً وعملاً. خمس بخمس! فأيّهما أرجح ميزاناً وأظهر برهاناً؟

فنقول : إنّ الروايات التي ذكرت الكراهة أربع منها عن طاووس وواحدة عن سعيد بن جبير ، وروايات طاووس متفاوتة الألفاظ والمعاني ، ممّا يبعث الشك في ضبط الراوي لها! ومع غض النظر عن ذلك ، فيمكن حمل الكراهة فيها على خوف الإنكباب على درسها ممّا يؤدي إلى الانصراف عن القرآن ، وهذا ما ذكره الخطيب وغيره في وجه المنع.

أمّا روايات الجواز ، فقال فيها : « إنّما اتسع الناس في كتب العلم وعوّلوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك ، لأنّ الروايات انتشرت والأسانيد طالت ، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت ، والعبارات بالألفاظ اختلفت ، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا ، وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ ، مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن ضعف حفظه في الكتاب ... » (٢).

وهذا لا يبعد كثيراً عمّا قاله الرامهرمزي « ت٣٦٠ هـ » قبله ، فقد قال : « وإنّما كره الكتاب من كره من الصدر الأوّل لقرب العهد ، وتقارب

____________

(١) نفس المصدر / ٩١.

(٢) نفس المصدر.

٣٣

الإسناد ، ولئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، أو « و » يرغب عن حفظه « تحفظه » والعمل به ... » (١).

ولعلّ ابن عبد البر في « جامع بيان العلم » كان أكثر وضوحاً وأحسن بياناً وتصريحاً ، حيث قال : « من كره كتاب العلم إنّما كرهه لوجهين : أحدهما ألاّ يتخذ مع القرآن كتاباً يضاهي به ، ولئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ فيقلّ الحفظ » ، يؤول بهذا أخبار الكراهة.

ثم يقول : « وقد رخّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب العلم ورخص فيه جماعة من العلماء وحمدوا ذلك » (٢).

أقول : فلا يبعد أن تكون أخبار الكراهة عن ابن عباس أيضاً كذلك ، وتبقى أخبار الرخصة كالناسخة لما مرّ عليها ، لأنّا وجدنا عنه عدّة كتب أجاب فيها عن المسائل ، كما أنّه كان لديه كاتباً اسمه يزيد بن هرمز (٣) ، وهو يروي بعض تلكم الكتب.

ومنها روايته : « إنّ نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال؟

فقال ابن عباس : إنّ الناس يقولون انّ ابن عباس يكاتب الحرورية ، ولولا أنّي أخاف أن أكتم علماً فلم أكتب به إليه.

____________

(١) المحدث الفاصل للرامهرمزي / ٣٨٦.

(٢) جامع بيان العلم ١ / ٧٠.

(٣) أنظر موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي ١ / ٣٣٩ و ٣٤٠.

٣٤

فكتب إليه نجدة : أمّا بعد فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهنّ بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ وأخبرني متى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخُمس لمن هو؟

فكتب إليه ابن عباس : كتبت إليّ تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بالنساء؟ قد كان يغزو بهنّ فيداوين المرضى ، ويُحذَين من الغنيمة ، أمّا سهم فلم يضرب لهنّ بسهم.

وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقتل الصبيان ، فلا تقتل الصبيان إلاّ أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتله ، فتميّز الكافر وتدع المؤمن.

وكتبت إليّ : متى ينقضي يتم اليتيم؟ ولعمري أنّ الرجل لتنبت لحيته وأنّه لضعيف الأخذ لنفسه ، ضعيف الإعطاء ، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد انقطع عنه اليتم.

وكتبت تسألني عن الخُمس؟ وإنّا كنّا نقول : هو لنا ، فأبى ذلك علينا قومنا » (١).

وسيأتي ذكر مجموعة من كتبه في الفصل الرابع من الباب الثالث من هذه الحلقة إن شاء الله تعالى.

وقد أضاء ما نقلناه آنفاً عن سعيد بن جبير من جواز الكتابة ما نقله

____________

(١) نفس المصدر ١ / ٣٣٧.

٣٥

عنه أحمد في العلل (١) ، أنّه كان يكتب عند ابن عباس على ألواح حتى يملؤها ثم يكتب على نعله (؟! » ، والألواح هي الصحف التي كانت معروفة ومتداولة بينهم يومئذ ، وقد استعمل سعيد هذه اللفظة في قوله ، كما في طبقات ابن سعد : « ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها ، وكتبت في نعلي حتى أملأها ، وكتبت في كفي ، وربما أتيته فلم أكتب حديثاً حتى أرجع لا يسأله أحد عن شيء » (٢).

وهذا يعني أنّ سعيد بن جبير كان يكتب ما يمليه ابن عباس من أجوبة السائلين ، فيمكن أن يُعدّ سعيد أوّل من دوّن الأمالي عن ابن عباس ، كما يبدو من هذا الخبر إنّ استخدام النعل والكفّ في الكتابة عند الضرورة كان أمراً مقبولاً ، وإن صرنا نراه مستهجناً في عصرنا ، وقد روى ابن النديم عن استخدام الخفّ لإخفاء الكتاب عن الفتح بن خاقان (٣).

____________

(١) العلل ١ / ٥٠.

(٢) الطبقات الكبرى ٦ / ٢٥٧ ط بيروت.

(٣) قال أبو هفان : ثلاثة لم أر قط ولا سمعت أحبّ إليهم من الكتب والعلوم : الجاحظ والفتح بن خاقان واسماعيل بن اسحاق القاضي. فأما الجاحظ فإنه لم يقع بيده كتاب قط الاّ استوفى قراءته كائناً ما كان ، حتى انه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر ، والفتح بن خاقان فانه كان يحضر لمجالسة المتوكل فاذا اراد القيام لحاجة أخرج كتاباً من كمّه أو خفّه وقرأه في مجلس المتوكل والى عوده إليه حتى في الخلاء. وأما اسماعيل بن اسحاق فإني ما دخلت اليه إلا رأيته ينظر في كتاب أو يقلّب كتباً أو ينفضها ، ( فهرست ابن النديم / ١٣٠ ) ( تجدد ) وهذه الحكاية حكاها ابن النديم مرة أخرى عن غير ابي هفان بتفاوت يسير في ص٢٠٨ فلتراجع.

٣٦

ماذا بقي من آثاره

كما إنّه كان جميل الذكر فهو أيضاً جليل الأثر ، وقد فرض بعلمه في شتى فنون معارف عصره خلوده بآثاره ، فهو حيّ ما دام له أثر في التفسير يذكر ، وحديث يسطر ، وفقه به يشهر ، وخلّ عنك باقي آثاره في اللغة العربية وآدابها ، وأيام العرب وأنسابها. وتلكم هي حياة العلماء المعطاءة الباقية ما بقي الدهر ، لأنّهم أعيانهم مفقودة لكن آثارهم في الحياة موجودة ، فهم بإستمرار عطائها يُذكرون فيُشكرون.

وابن عباس رضي الله عنه ممن ملك ناصية الحياة في هذا الباب ، فخلّف من التراث ما هو كفيل بخلوده ، ولولا عوادي الزمان ، وأبناء الشيطان ، لوصل ذلك الكمّ الهائل من التراث الذي قدّر بعضه حمل بعير.

فقد روى ابن سعد وغيره : أنّ كريب بن أبي مسلم « ت٩٧ هـ » ـ وهو أحد موالي ابن عباس النابهين ـ قد أودع عند موسى بن عقبة حمل بعير من كتب ابن عباس ، فكان علي بن عبد الله بن عباس « ت١١٨ هـ » إذا إحتاج إلى بعضها كتب إلى موسى بن عقبة أن يرسل إليه صحيفة من كتب أبيه لينسخها ، ثم ينسخها ويعيدها إليه (١).

ولئن لم يصل إلينا من تلك الثروة العلمية إلاّ خبرُها ، فكذلك ثمّة قائمة طويلة بأسماء كتب لابن عباس ذكرها الشيخ النجاشي في رجاله في ترجمة

____________

(١) الطبقات الكبرى ٥ / ٢٩٣.

٣٧

عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي الأزدي البصري أبو أحمد شيخ البصرة وأخباريّها ، فقال : « وله كتب قد ذكرها الناس منها كتاب مسند أمير المؤمنين عليه السلام ـ ثم ذكر جملة كثيرة وكان منها : ـ الكتب المتعلقة بعبد الله بن عباس عنه ـ كذا ـ مسندة عنه ».

وهذا النص يوحي بأنّ الجلودي روى ما حصل عليه من آثار لابن عباس فصنّفها حسب موضوعاتها كما يظهر ذلك من أسمائها ، وهي ثروة لو وصلت إلينا لأغنتنا عن كثير ممّا يقوله المبطلون ، وهذه أسماء تلك الكتب :

« كتاب التنزيل عنه ، كتاب التفسير عنه ، كتاب المناسك عنه ، كتاب النكاح والطلاق عنه ، كتاب الفرائض عنه ، كتاب تفسيره عن الصحابة ، كتاب القراءات عنه ، كتاب البيوع والتجارات عنه ، كتاب الناسخ والمنسوخ عنه ، كتاب نسبه ، كتاب ما أسنده عن الصحابة ، كتاب بقية قوله في الطهارة ، كتاب الصلاة والزكاة ، كتاب ما رواه من رأي الصحابة ، كتاب الذبائح والأطعمة واللباس ، كتاب الفتيا والشهادات والأقضية والجهاد والعدة وشرايع الإسلام ، كتاب قوله في الدعاء والعوذ وذكر الخير وفضل ثواب الاعمال والطب والنجوم ، كتاب قوله في قتال أهل القبلة وإنكار الرجعة والأمر بالمعروف ، كتاب في الأدب وذكر الأنبياء وأوّل كلامه في العرب ، كتاب بقية كلامه في العرب وقريش والصحابة والتابعين ومن ذمّه ، كتاب قوله في شيعة علي عليه السلام ،

٣٨

كتاب بقية رسالته « كذا / رسائله / ظ » وخطبه وأوّل مناظرته ، كتاب بقية مناظراته وذكر نسائه وولده ، آخر كتب ابن عباس » (١).

وقد روى ابن القيم الجوزي في « زاد المعاد » عن الواقدي عن عكرمة أنّه قال : « وجدت هذا الكتاب ـ وهو كتاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنذر ابن ساوى ـ في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته فإذا فيه ... فذكر الكتاب » (٢).

كما وقد أورد ابن النديم المتوفى سنة « ٣٨٠ هـ » أسماء بعض الكتب عن ابن عباس من مدوناته أو مدونات بعض تلاميذه رواية عن :

١ ـ فقد جاء في « ص٣٦ » « تجدد » في تسميته الكتب المصنفة في تفسير القرآن : كتاب ابن عباس ، رواه مجاهد ، ورواه عن مجاهد حميد بن قيس ، وورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد ، وعيسى بن ميمون ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد.

٢ ـ أيضاً في « ص٣٦ » « تجدد » : كتاب تفسير عكرمة عن ابن عباس.

٣ ـ وفي الكتب المؤلفة في نزول القرآن « ص٤٠ » : كتاب عكرمة عن ابن عباس.

٤ ـ وفي الكتب المؤلفة في أحكام القرآن « ص٤١ » : ذكر كتاب أحكام القرآن للكلبي رواه عن ابن عباس.

٥ ـ وذكر في « ص ٢٨٧ » « تجدد » : إبراهيم الحربي « ت٢٨٥ هـ » له من

____________

(١) رجال النجاشي / (١٦٧) ـ ١٦٩ط بمبئ سنة ١٣١٧ هـ.

(٢) زاد المعاد ٣ / ٨٣.

٣٩

الكتب : كتاب غريب الحديث ، والذي خرج منه : .. مسند علي عليه السلام .. مسند العباس .. مسند عبد الله بن العباس ..

أمّا عن الآثار الباقية المنسوبة إليه ، فهي بين مطبوع وبين مخطوط. ولكلّ منها حديث مفصّل يأتي في الحلقة الثالثة إن شاء الله.

أمّا الآن فأكتفي بفهرسة أسمائها وهي كما يلي :

١ ـ تفسير ابن عباس ، المطبوع باسم تنوير المقباس ، جمعه المجد الفيروز آبادي الشافعي صاحب القاموس ، وهو مطبوع مكرراً.

٢ ـ كتاب قصة الإسراء والمعراج ، طبع بدمشق منسوباً إليه ، وهو ليس كذلك!

وقد قال عنه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي محذراً منه في كتابه « فقه السيرة » فقال : « إحذر وأنت تبحث عن قصة الإسراء والمعراج أن تركن إلى ما يسمى بـ « معراج ابن عباس » ، فهو كتاب ملفّق من مجموع أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند ، وقد شاء ذاك الذي فعل فعلته الشنيعة هذه أن يلصق هذه الأكاذيب بابن عباس رضي الله عنه ، وقد علم كلّ مثقف ، بل كلّ إنسان عاقل أنّ ابن عباس برئ منه ، وأنّه لم يؤلف أيّ كتاب في معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بل وما ظهرت حركة التأليف إلاّ في أواخر العهد الأموي.

ولمّا وقف دعاة السوء على هذا الكتاب ووجدوا فيه من الأكاذيب

٤٠