موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٧

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-95-9
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥٢٦

الفرائض ونفر الحائض قبل الطواف بالبيت وأمثالها ممّا عرف عنه فيها فقيهاً بارعاً ، سيأتي الحديث في ذلك في محله.

ولا يفوتني التنبيه على مناقشة صاحب « مجمع البيان » لبعض آراء ابن عباس أو استئناسه بتأييدها ، بل وحتى الدفاع عنه ، نحو ما ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) ، فقد ذكر الإختلاف في المعنى ، ثم قال : « وروي عن ابن عباس أنّه قال : إنّها منسوخة بقوله : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) (٢) ، وهذا بعيد لأنّ النسخ لا يجوز أن يدخل الخبر الذي هو متضمن للوعد ، وإنّما يجوز دخوله في الأحكام الشرعية التي يجوز تغيّرها وتبدلّها بتغير المصلحة ، فالأولى أن يحمل على أنّه لم يصح هذا القول عن ابن عباس (٣).

ونحو ما ورد عنه من تبيين رأي ابن عباس وترجيحه في قوله تعالى : (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٤) ، قال : « اختلف في السيئة فقال ابن عباس : والسيئة ههنا الشرك ، وقال الحسن : هي الكبيرة الموجبة للنار ، وقال السدي : هي الذنوب التي أوعد

____________

(١) البقرة / ٦٢.

(٢) آل عمران / ٨٥.

(٣) مجمع البيان ١ / ٢٤٤.

(٤) البقرة / ٨١.

١٠١

الله عليها النار ، والقول الأوّل يوافق مذهبنا ، لأنّ ما عدا الشرك يستحق به الخلود في النار عندنا » (١).

وقال : « والذي يليق بمذهبنا من تفسير هذه الآية قول ابن عباس ، لأنّ أهل الإيمان لا يدخلون في حكم هذه الآية » (٢).

وأيضاً جاء عنه في ترجيح قول ابن عباس في تفسيره قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (٣) ، بأنّه : « خطاب للزوج والمرأة جميعاً ، وعن الشعبي للزوج وحده ، ... وقول ابن عباس أقوى لعمومه ، وإنّما كان العفو أقرب للتقوى من وجهين :

أحدهما : إنّ معناه أقرب إلى من يتقي أحدهما ظلم صاحبه ، لأنّ من ترك لغيره حق نفسه ، كان أقرب إلى أن لا يظلم غيره بطلب ما ليس له. والثاني : إنّ معناه أقرب إلى أن يتقي معصية الله ، لأنّ من ترك حق نفسه كان أقرب إلى أن لا يعصي الله بطلب ما ليس له » (٤).

وأيضاً جاء عنه في ترجيح قول ابن عباس على أقوال الآخر في تفسير قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (٥) ، فقال : « أي بالعهود عن ابن عباس وجماعة من المفسرين ، ثم اختلف في هذا العهود على أقوال :

____________

(١) مجمع البيان ١ / ٢٨١.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢٨٢.

(٣) البقرة / ٢٣٧.

(٤) مجمع البيان ٢ / ١٢٥.

(٥) المائدة / ١.

١٠٢

أحدهما : إنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضاً فيها على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم ، أو بغاهم سوءاً ، وذلك هو معنى الحلف عن ابن عباس ...

وثانيها : انّها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان وطاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم ، عن ابن عباس أيضاً. وفي رواية أخرى ، قال : هو ما أحلّ وحرّم وما فرض وما أخذ في القرآن كلّه ، أي فلا تتعدوا فيه ولا تنكثوا ...

وثالثها : إنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان وعقد النكاح وعقد العهد ...

ورابعها : إنّ ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا وما جاء به من عند الله ...

وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس : إنّ المراد بها عقود الله التي أوجبها الله على العباد في الحلال والحرائم والفرائض والحدود ، ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخرى ، فيجب الوفاء بجميع ذلك إلاّ ما كان عقد في المعاونة على أمر قبيح فإنّ ذلك محضور بلا خلاف » (١).

وأيضاً عنه اعتذار عمّا روي من قول ابن عباس : « أقرأوا بما آمنتم به ، فليس له مثل ، وذلك في قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ

____________

(١) مجمع البيان ٣ / ٢٥٩.

١٠٣

اهْتَدَواْ) (١) » ، فقال الطبرسي : وهذا محمول على أنّه فسّر الكلام ، لا أنّه أنكر القراءة الظاهرة مع صحة المعنى (٢).

إلى غير ذلك من الموارد التي كان فيها صاحب « مجمع البيان » ردءاً لابن عباس في أقواله ، فمن شاء المزيد فليرجع إلى « مجمع البيان ». ولم يكن هو الوحيد الذي اعتمد تفسير ابن عباس ، بل غالب المفسرين كذلك ، كما ستأتي الإشارة إلى ما قاله صاحب المباني في ذلك.

وقبل أن نودع « مجمع البيان » أود التنبيه على أنّ الطبرسي نقل في عدّة مواضع بعنوان « تفسير ابن عباس » ، وهذا يوحي بوجوده نسخة منه عنده ، وسأبحث هذا الموضع في الكلام عن تفسير ابن عباس.

هوية ابن عباس مفسراً

من نافلة القول التدليل على ذلك ، بعدما قرأناه مكرراً فيما مضى ممّا دلّ على ذلك ، وأنّه كان صدر المفسرين ، وأنّه ترجمان القرآن ، أمّا الآن فهل هو أوّل من دوّن التفسير؟ أو هو أوّل من أملى فيه ، ثم هل كان مفسراً أثرياً؟ أم كان لغوياً؟ أم كانت له مشاركة فيهما جميعاً؟

هذه المسائل التي ينبغي للباحث تجليتها من خلال الرجوع إلى ما مرّ بعضه في تراجم تلامذته ويأتي بعضه.

____________

(١) البقرة / ١٣٧.

(٢) مجمع البيان ١ / ٤٠٧.

١٠٤

ولا شك إنّ عناية المسلمين بتفسير كتاب الله تعالى بدأت منذ نزوله منجّماً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كانت الصحابة الذين يعون حق الوعي مفاهيم الإسلام ، يرجعون إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما أشكل عليهم من تفسير القرآن ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبيّن لهم ويوضح ذلك ، ويدعوهم إلى التمسك به وإقامة أحكامه ، وقد نصبه علماً من بعده مقروناً بعترته ليقوموا مقامه في تبيانه ، كما في حديث الثقلين : « إنّى مخلف فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً » (١).

فقام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام من بعده ، بتلك المهمة ـ لأنّه الوحيد الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : « علي مع القرآن والقرآن معه » (٢) ـ ولذلك أخذ يبثّ علمه لمن طلبه ، فكان ابن عباس أبرز من أخذ منه وأوعى من حمل عنه.

فكان يختصه بمحاضرات في المسجد النبوي الشريف كما مرّ في الحلقة الأولى وفي مقدمة هذه الحلقة ، في كلمة السيد أمير علي في كتابيه : « روح الإسلام » و « تاريخ التمدن الإسلامي ».

حتى كان على حدّ قول ابن عمر فيه بعد أن كان لا يعجبه من ابن عباس خوضه في التفسير ويسميه جرأة ، إلاّ أنّه عاد وأعترف له بأنّه : « أعلم أمّة محمد بما نزل على محمد » (٣) ، وبلفظ الطبري في « تهذيب الآثار » : « أعلم الناس بما

____________

(١) يراجع كتابي علي إمام البررة ١ / ٢٩٢.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٦٥.

(٣) أسد الغابة ٣ / ١٩٢ ، ١٩٥ ، وتهذيب التهذيب ٥ / ٢٧٨.

١٠٥

أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم » (١) ، ولابن عمر ولغيره أقوال في هذا السبيل ستأتي في « شهادات التكريم ».

وتتبين لنا قيمة تفسير ابن عباس من رجوع بعض الصحابة إليه ، وحسبنا أن فيهم من هم أكبر منه سنّاً وأطول صحبة ، وحتى أنّه كان على صغر سنه يُقرء جماعة من المهاجرين ، عرفنا منهم باسمه عبد الرحمن بن عوف كما في البخاري في حديث الفلتة « باب رجم الحبلى » ، وقد مرّ اسم عمر أيضاً نقلاً عن « ذخائر العقبى » للمحب الطبري ، وكان يرجع إليه عمر حين يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله ، فلا يجد عندهم ما يرضيه ، فيسأل ابن عباس فيجيبه بما عجز عنه غيره ، وقد مرّت بعض مسائله منه في الحلقة الأولى في « عهد عمر » (٢) وفي هذه أيضاً ، وسوف يأتي في موارد آياتها من التفسير إن شاء الله تعالى في الحلقة الثالثة.

أمّا رجوع التابعين إليه ، فحسبنا ما مرّ بنا من ذكر مدارسه ، وذكر ثمارها.

ولا ننسى قول مجاهد وهو تلميذه ـ وكان قد عرض عليه القرآن ثلاثين عرضة يسأله عن كلّ آية فيفسرها له ـ فكان يقول : « إذا فسّر الشيء رأيت عليه النور ». ومن هذا النص تصح دعوى أنّ ابن عباس أوّل من أملى في التفسير.

____________

(١) أنظر تاريخ بغداد للخطيب ١ / ١٨٥ ، البداية والنهاية لابن كثير ٨ / ٣٣١.

(٢) موسوعة عبد الله بن عباس / ج٢ / الفصل٣.

١٠٦

وقول سعيد بن جبير انّه قال له ابن عباس : « ألا تسألني عن آية فيها مائة آية؟ قال قلت : ما هي؟ قال : قوله عزوجل : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) (١) كلّ شيء أوتي من خير أو شرّ كان فتنة. وذكر حين حملت به أمّه ، وحين وضعت ، وحين التقطة آل فرعون حتى بلغ ما بلغ ، ثم قال : ألا ترى قوله : (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٢) » (٣) وسيأتي هذا الأثر بأوسع ممّا هنا فانتظر.

وكان يرى الفرق بين معنى التأويل والتفسير ، فهو يقول : « التفسير على أربعة أوجه : وجه تعرفه العرب من كلامها ، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله تعالى ذكره » (٤).

ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلاّ الله تعالى ذكره ، ومن أدعى علمه سوى الله تعالى ذكره فهو كاذب » (٥).

وقد روى ذلك موقوفاً عليه أيضاً الراغب الاصفهاني ، فقال : قال ابن عباس : « أنزل القرآن على أربعة أوجه ، وجه حلال وحرام لا يسع أحداً

____________

(١) طه / ٤٠.

(٢) الأنبياء / ٣٥.

(٣) جامع بيان العلم ١ / ١٣٩ ط الثانية محققة نشر السلفية ١٣٨٨ هـ

(٤) تفسير الطبري ١ / ٧٥ ط محققة.

(٥) تفسير الطبري ١ / ٣٤ ط الباري الحلبي.

١٠٧

جهالته ، ووجه يعرفه العرب ، ووجه تأويله يعلمه العالمون ، ووجه لا يعلم تأويله إلاّ الله ، ومن انتحل فيه علماً فقد كذب » (١).

وروى الثعلبي بسنده عن ابن عباس أنّه قال : « ما من أحد قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره إلاّ بمنزلة الأعرابي يقرأ ولا يدري ما هو » (٢).

فتبين ممّا سبق أنّه كان مفسراً ألمعياً جامعاً بين وجوه التفسير التي ذكرها ، إذ كانت له قوة استنباط ونفاذ بصيرة على استيعاب ما أخذه في التفسير من عليّ عليه السلام كما قال ذلك. وبلغت قوة استنباطه أن قال : « لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى » (٣).

ولذلك تهافت عليه التابعون حين رأوه أبعد الباقين من الصحابة نظراً ، وأثقبهم فكراً في تفسير القرآن ، فكان أكثر الصحابة تلاميذ في التفسير وغيره ، وقد مرّت بنا أسماء من عثرنا على روايته عنه ، وهم لاشك يتفاوتون مداركاً وحسن تلقِّ ، وصدق أداء ، فليس سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء مثل عكرمة في الوثاقة ، وإن كان هو أكثرهم لصوقاً بمولاه ، ولكنّه كان يكذب عليه ، وقد مرّ في ترجمته شواهد على ذلك ، وقد نبّهت على أنّ مولى آخر لابن عباس اسمه عكرمة مغمور الذكر معدود في الرواة عن

____________

(١) مقدمة التفسير المطبوع ملحقاً بكتاب تنزيه القرآن على المطاعن للقاضي عبد الجبار ط الجمالية ١٣٢٩ هـ.

(٢) الكشف والبيان ١ / ١٧ ط دار الكتب العلمية.

(٣) الإتقان ٢ / ١٢٦ ط حجازي بمصر.

١٠٨

ابن عباس من دون تمييز لرواياته عن روايات سميّه عكرمة البربري الحروري.

وفي نظري أنّ ما ورد من روايات مستقيمة مروية عن عكرمة إنّما هي عن هذا المغمور الذكر. وهذه حقيقة مغيّبة ومجهولة لدى جلّ القرآء إن لم يكن كلّهم. ويعود السبب إلى تشابه الأسماء ، وشهرة عكرمة البربري الخارجي ، فكان هو المحظي بالذكر والشهرة بكثرة مروياته عن مولاه ابن عباس ، وكان مبعث الغرابة في تباين مرويّاته صدقاً وكذباً! وهذا ما جعلني أرتاب في صحة نسبة جميع ذلك إليه ، ولكن بعد أن وجدت في موالي ابن عباس شخصاً آخر باسم عكرمة استيقنت أنّ المروّيات المطابقة للواقع هي عن عكرمة الآخر.

ويبقى ابن عباس أستاذ جيل من مفسرين وقرآء التابعين ، وإلى القارئ أسماء المشاهير منهم :

مشاهير التابعين من تلامذته في التفسير والقراءة

لا ريب في أنّه كانت لابن عباس رضي الله عنه مدرسة تفسيرية لها سماتها وخصائصها ، وكان له أصحاب يقومون بعلمه ، ويقولون بقوله ، وهم الذين نشروا علمه على أوسع ما يكون النشر ، وكان أهل مكة هم أشهر من غيرهم في الأخذ عنه.

قال ابن تيمية في مقدمته في « أصول التفسير » : « أعلم الناس بالتفسير

١٠٩

أهل مكة ، لأنّهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس ، وأبي الشعثاء وسعيد بن جبير وأمثالهم » (١).

وقد أخرج ابن جرير في تفسيره عن هؤلاء كثرة كاثرة ، ولا ريب أنّ تخريجه عنهم ، لا يعني إضفاء الوثاقة على جميع مروياتهم ، لكنه أحسن عملاً حين أخرج عنهم بأسانيده ، فخفّف العبء عن كاهله ، وترك الباب مفتوحاً لمن يحقق فيها ، كما أنّه ليس بالضرورة أنّ جميع مروياتهم تحكي رأي شيخهم ابن عباس رضي الله عنه ، بل كانت لهم ذاتية خاصة بهم ، تدلّ على نحو استقلالية تفصلهم أحياناً عن شيخهم في هذا الجانب ، وإن لم ينسلخوا عن عنوان تلمذتهم في أخذهم عنه ، شأنهم شأن الآخرين ممن لم يتنكروا لمن أفاض عليهم وعلّمهم ، فكانوا من ثماره حتى بلغوا به مقاماً يشار إليهم بالذكر.

وإلى القارئ أسماءهم مرتبة أبجدياً مع ذكر ما قيل فيهم بإيجاز :

١ ـ درباس المكي ، مولى ابن عباس.

قال أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » : « عرض على مولاه عبد الله بن عباس روى القراءة عنه عبد الله بن كثير و ... » (٢).

٢ ـ سعيد بن جبير.

ذكره أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، وقال : « عرض على عبد

____________

(١) أصول التفسير / (٢٣) ـ ٢٤.

(٢) طبقات القرآء ١ / ٢٨٠.

١١٠

الله بن عباس ... » (١). وقال الداوودي في « طبقات المفسرين » : « قرأ القرآن على ابن عباس » (٢).

٣ ـ سعيد بن المسيب.

ذكره أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، وقال : « ورد الرواية عنه في حروف القرآن ، قرأ على ابن عباس » (٣). وذكره طاش كبري زاده في « مفتاح السعادة » وأنّه أخذ القراءة عن ابن عباس (٤).

٤ ـ سليمان بن قَتة ـ بفتح القاف ومثناة من فوق مشددة ، وقَتة أمّه ـ التميمي ، مولاهم البصري.

ثقة ، عرض على ابن عباس ثلاث عرضات (٥).

٥ ـ شهر بن حوشب أبو عبد الله الأشعري ـ وقيل : أبو الجعد ـ.

من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام ، قرأ القرآن على ابن عباس سبع مرّات ، كما في « النجوم الزاهرة » (٦).

٦ ـ طاووس بن كيسان اليماني.

ذكره أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، وقال : « التابعي الكبير المشهور وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، أخذ القرآن عن ابن

____________

(١) نفس المصدر ١ / ٣٠٥

(٢) طبقات المفسرين ١ / ١٨١.

(٣) طبقات القرآء ١ / ٣٠٨.

(٤) مفتاح السعادة ١ / ٣٥٧.

(٥) طبقات القرآء ١ / ٣٤١.

(٦) النجوم الزاهرة ١ / ٢٧١.

١١١

عباس وعظم روايته عنه » (١).

٧ ـ عبد الرحمن بن هرمز الأعرجي المدني.

ذكره أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، وقال : « تابعي جليل ، أخذ القراءة عرضاً عن أبي هريرة وابن عباس » (٢) ، وكذا في « مفتاح السعادة » (٣).

٨ ـ عطية بن سعد بن جنادة العوفي « ت١١١ هـ ».

عرض القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات على وجه التفسير ، وأمّا على وجه القراءة فسبعين مرّة (٤).

٩ ـ عكرمة بن خالد بن العاص ، أو خالد المخزومي المكي.

تابعي ثقة جليل حجة قاله أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، ثم قال : « روى القراءة عرضاً عن أصحاب ابن عباس ، ولا يبعد أن يكون عرض عليه. فقد روى عنه كثيراً ، وقطع الحافظ أبو العلاء أنّه قرأ عليه » (٥).

١٠ ـ عمران بن تيم ، أو ابن ملحان ، أبو رجاء العطاردي البصري.

التابعي الكبير ، قال أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » : « ولد قبل الهجرة بأحدى عشرة سنة وكان مخضرماً ، أسلم في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم

____________

(١) طبقات القرآء ١ / ٣٤١.

(٢) نفس المصدر ١ / ٣٨١.

(٣) مفتاح السعادة ١ / ٣٥٨.

(٤) الذريعة ٤ / ٢٨٣ ، تنقيح المقال ٢ / ٢٥٣ ط حجرية.

(٥) طبقات القرآء ١ / ٥١٥.

١١٢

يره ، وعرض القرآن على ابن عباس ، وتلقنه من أبي موسى » (١).

١١ ـ مجاهد بن جبر المكي.

أحد الأعلام من التابعين والأئمة المفسرين ، كما وصفه أبو الخير الجزري في « طبقات القراء » ، وقال : « قرأ على عبد الله بن عباس بضعاً وعشرين ختمة ، ويقال : ثلاثين عرضة ، ومن جملتها ثلاث سأله عن كلّ آية فيه كانت » (٢).

وحكى عنه قوله : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحتة إلى خاتمته ، أوقفه عند كلّ آية منه وأسأله عنها (٣).

وعنه أيضاً ، قال : ختمت على ابن عباس تسع عشرة ختمة كلّها يأمرني أكبّر فيها من : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (٤).

وترجمه الداوودي في « طبقات المفسرين » ، وقال : « وروى عن عبد الله بن عباس وقرأ عليه القرآن ثلاث عرضات. وحكى عنه قوله : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أقف عند كلّ آية أسأله فيم نزلت ، وكيف كانت؟ » (٥).

ولا منافاة بين الروايات ، فإنّ الروايات التي فيها الختمة ، يعني القراءة ، والتي

____________

(١) طبقات القرآء ١ / ٦٠٤ ، مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده ١ / ٣٦٤.

(٢) طبقات القرآء ٢ / ٤١.

(٣) نفس المصدر ٢ / ٤٢.

(٤) الشرح / ١.

(٥) طبقات المفسرين ٢ / (٣٠٥) ـ ٣٠٦.

١١٣

فيها العرض هي بمعنى الأخذ مع التفسير كما هو صريح العرضات الثلاثة.

وقد قال ابن أبي مليكة : « رأيت مجاهد سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه ، فيقول ابن عباس : أكتب حتى سأله عن التفسير كلّه » (١). وسيأتي ما يتعلق حول تفسير مجاهد ، وهذا هو معنى ما مرّ أنّ ابن عباس أوّل من أملى في التفسير.

١٢ ـ يحيى بن يعمر العدواني البصري.

تابعي جليل ، عرض على ابن عمر وابن عباس وعلى أبي الأسود الدؤلي ، وهو أوّل من نقط المصاحف (٢).

١٣ ـ يزيد بن القعقاع ، أبو جعفر القارئ.

أحد القراء العشرة ، تابعي مشهور كبير القدر ، عرض القرآن على مولاه عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة وعبد الله بن عباس (٣).

١٤ ـ أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي.

من كبار التابعين ، أخذ القرآن عرضاً عن أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وابن عباس ، قال الجزري : « وصح أنّه عرض على عمر وأنه قال : قرأت القرآن على عمر بن الخطاب أربع مرات وأكلت معه اللحم » (٤) ، وقد مرّ بعض التحفظ على هذا القول فيما مضى.

____________

(١) تفسير الطبري ١ / ٦٢.

(٢) غاية النهاية للجزري ٢ / ٣٨١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

١١٤

١٥ ـ أبو الجوزاء أوس بن خالد الربعي.

قال : « جاورت ابن عباس في داره أثنتي عشرة سنة ، ما في القرآن آية إلاّ وقد سألته عنها » (١).

إلى غير هؤلاء ، ممن وصلت إلينا مروياتهم ، فكانت كثرة لم يأت عن أحد من الصحابة مثلها ، فلا تكاد آية ليس فيها عن ابن عباس أثر.

وقلنا : إنّ كثرة المرويات عن ابن عباس في التفسير ـ وفي الحديث أيضاً ـ صارت سبباً للتشكيك في صحة النسبة ، وزاد الأمر رسوخاً هو ورود المتضّادات في مرويات تلاميذه عنه ، بل حتى في مرويّات الواحد منهم أحياناً ، وهذا ما حمل البعض كالشافعي على رفض الكثير إلاّ القليل منها ، فقال : « لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث » (٢) ، وسيأتي ردّ هذا الزعم إذ هو لا يخلو من غمط إن لم يكن هو الخبط ، فالإمام الشافعي مع علّو مقامه لا يعقل أنّه رأى كثرة المبثوث في مصادر التفسير من روايات وأقوال مجاهد وأبي الجوزاء وبقية من تقدم ذكرهم. فرابه ذلك ـ فشكّك في صحة جميع ذلك ـ فرفضه بجرّة من قلم « إلاّ شبيه بمائة حديث » ؛ لقد كان عليه بعد قناعته بذلك التحديد العددي ، أن يذكره كلّه أو بعضه ، أو ما يعينّه ، أمّا الرفض بلا حجة فغير مقبول ، وهذا منّا لا

____________

(١) المعارف لابن قتبية ٤٦٩ ، الكنى والألقاب ١ / ٣٨ ط الحيدرية.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات للنووي ١ / ٢٧٥ نقله عن البيهقي في كتابه مناقب الشافعي في باب ما يستدل به على معرفته بصحة الحديث.

١١٥

يعني بالضرورة قبول جميع ما نراه منسوباً إلى ابن عباس ، كيف وقد نجد الرأيين المتضادين في تفسير آية واحدة وربما برواية راوٍ واحد ، وفي تفسير الطبري نماذج من ذلك ، فليرجع إليه من شاء خصوصاً في روايات عكرمة وعطية العوفي.

فكان جلّ المفسرين من التابعين هم من تلامذته.

قال صاحب « كتاب المباني » : « وقد أخبرناك فيما تقدم من كتابنا عن حالة ابن عباس وتقدّمه في التفسير وتخصيص الله سبحانه إياه بهذا النوع الجليل الخطير ، وفيه قدوة لصاحب الحجة والتبصير ، ثم من اشتهر بعلم التفسير من التابعين كسعيد بن جبير ، وعكرمة مولى ابن عباس ـ وليس بعكرمة بن أبي جهل ـ وكذلك أبو صالح باذام ـ ومن الناس من يقول باذان مولى أم هانئ ـ ومجاهد بن جبر ، وأبو العالية الرياحي ، والضحاك بن مزاحم ، وعليّ بن أبي طلحة ، وأبو مجلز لاحق بن حميد ، والحسن البصري ، وقتادة بن دعامة ، وهؤلاء كلّهم أخذوا عن ابن عباس ، ما خلا قتادة ، فإنّه لم يُعرف له صحبة مع أحد من الصحابة غير أنس ابن مالك عن أبي الطفيل ، إلاّ أن يكون قد رأى بعضهم ولم تكثر صحبته له ولا سماعه منه. وكذلك الحسن فإنّه لم تعرف له كثير صحبة مع ابن عباس ، وإنّما روى ما روى عنه من خُطب قام بها ابن عباس رضي الله عنه بالبصرة فيما يقال ، وروى عن عبد الملك بن ميسرة ، قال : لم يلق الضحاك ابن عباس ، إنّما لقي سعيد بن جبير بالري فأخذ عنه ، وهذا بعيد لكثرة ما روى الضحاك عن ابن عباس من غير أن

١١٦

يذكر سعيد بن جبير ، ولم يكن الضحاك ممن يتهم بكذب أو تدليس ... » (١).

قال الزرقاني : « وأمّا ابن عباس فهو ترجمان القرآن بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... وروى أنّ رجلاً أتى ابن عمر يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ، أي من قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (٢) ، قال اذهب إلى ابن عباس ، ثم تعال أخبرني ، فذهب فسأله ، فقال : « كانت السموات رتقاً لا تمطر ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات » ، فرجع إلى ابن عمر فأخبره ، فقال : قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنّه أوتي علماً » (٣).

ولابد من نظرة فاحصة في التفاسير التي ملئت بالروايات عن ابن عباس رضي الله عنه ، وذلك من خلال تقويم التفاسير المنسوبة إلى ابن عباس ، لأنّه قد كثر عليه فيها الدس والوضع ، لذلك يجب الحيطة فيما يعُزى إليه في ذلك.

____________

(١) أنظر مقدمتان في علوم القرآن / ١٩٦ ط السنّة المحمدية ١٩٥٤ م.

(٢) الأنبياء / ٣٠.

(٣) مناهل العرفان ١ / ٤٨٣.

١١٧
١١٨

تقويم بلا تأثيم

قال السيوطي في « الإتقان » : « قد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة ، وفيه روايات وطرق مختلفة فمن جيّدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي ، عنه قال أحمد بن حنبل : بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً. أسنده أبو جعفر النحاس في ناسخه.

قال ابن حجر : وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث ، رواها عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهي عند البخاري عن أبي صالح ، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيراً فيما يعلّقه عن ابن عباس.

وأخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيراً بوسائط بينهم وبين أبي صالح.

وقال قوم : لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير ، وإنّما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير.

قال ابن حجر : بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك.

وقال الخليلي في الإرشاد : تفسير معاوية بن صالح قاضي الأندلس ،

١١٩

عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رواه الكبار عن أبي صالح كاتب الليث ، عن معاوية ، وأجمع الحفاظ على أنّ ابن أبي طلحة لم يسمعه من ابن عباس.

قال : وهذه التفاسير الطوال التي أسندوها إلى ابن عباس غير مرضيّة ، ورواتها مجاهيل. كتفسير جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، وعن ابن جريج في التفسير جماعة رووا عنه.

وأطولها ما يرويه بكر بن سهيل الدمياطي ، عن عبد الغني بن سعيد ، عن موسى بن محمد ، عن ابن جريج ، وفيه نظر.

وروى محمد بن ثور عن ابن جريج نحو ثلاثة أجزاء كبار ، وذلك صححه.

وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج نحو جزء ، وذلك صحيح متفق عليه.

وتفسير شبل بن عباد المكي ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قريب إلى الصحة.

وتفسير عطاء بن دينار يكتب ويحتج به.

وتفسير أبي روق ، نحو جزء صححوه.

وتفسير إسماعيل السدي ، يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس ، وروى عن السدي الأئمة مثل الثوري ، وشعبة لكن التفسير الذي جمعه رواه اسباط بن نصر ، واسباط لم يتفقوا عليه ، غير أنّ أمثل التفاسير تفسير السدي.

١٢٠