اختصاص الشيعة في التمسّك بالقرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي


المترجم: علاء تبريزيان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-292-X
الصفحات: ٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قيل له : « من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة ؟ فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمّد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة » (١).

وهذا يعني أنه أيضاً كان يضع الحديث وكان مصاباً بنفس الداء الذي قد ابتلى به نعيم بن حماد.

فالذين يعتقدون بضرورة تصحيح الأحاديث وقالوا : لا ينبغي عرض الأحاديث على الكتاب ، هل فحصوا هذه المجموعة من الأحاديث ، وهل تمّ تعيينها وفرزها من قبلهم ؟

وفي إزاء هذه الرؤى والأفكار ، هل يصحّ أن نتّهم الذين ينادون للمحافظة على السنة وصيانتها ـ إذ جعلوا الكتاب الإلهي ضابطاً وملاكاً لمعرفة السنة الصحيحة ـ أنهم زنادقة.

والآن إذ تعيّن وتحتّم وجود نماذج كثيرة من الموضوعات في الأحاديث النبوية ، فكيف نحكم على هذه الأحاديث وبصورة عامة لأي جهة أو لأي فئة يمكننا أن نسند أو نرد هذه الأخبار ؟

فهل نجرؤ علىٰ نسبتها إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أم نسندها وننسبها إلى الكذّابين والوضّاعين والمرتزقة الذين يعملون لصالح الحكام

__________________

(١) موضوعات ابن الجوزي ١ / ٤١ ، التقييد والايضاح ١٣٢ ، تدريب الراوي ١ / ٢٨٢.

٤١

والطغاة والظلمة ؟

فيستوجب حتميّة وجود أخبار القصاصين والوضاعين والزنادقة في كتب الحديث أن ننتهج لتحكيم وتصحيح السنّة النبويّة أسلوب وطريقة التصفية والتنقية في الأحاديث ، ليمكننا بذلك تمييز ومعرفة مختلقات أيادي بني أمية وموضوعات القصّاص والزنادقة التي قد انتشرت وتبعثرت في كتب الأخبار الذائعة.

ولا يوجد ولن يوجد سبيل أفضل وأكثر وثوقاً وائتماناً من القرآن في هذا المجال.

وهذا الأصل الحاسم والسديد هو من الأصول المسلَّم بها عند مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو الذي قد عملوا به وساروا عليه ، وهو بصفته ضابطاً وقاعدة لمعرفة الأخبار الصحيحة من الأخبار والأحاديث الضعيفة.

٤٢



التعارض بين الكتاب والسنة

كما أشرنا فيما سبق فإنه يستحيل وقوع التعارض بين الكتاب والسنة ، إذ لا يسعنا أن نجد تبريراً وتأويلاً منطقياً لذلك ، ولكن أراد بعض أبناء العامة أن يتظاهروا بوجود خلاف وتعارض بين البيان والمبيَّن ، ليستلزم بعد ذلك ضرورة استقلال السنة في تشريع الأحكام ، وليوهموا أن ذلك هو أمر متاح ويمكننا أن نتلقاه ونأخذ به.

ذكر في كتاب مفتاح السنة عن الخولي : « أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظيفته البيان ، والبيان غير المبيَّن ، فالبيان مفصل والمبيَّن مجمل ، فكان هناك نوع مخالفة ، فمن اتبع المبيَّن فقد اطاع الله ومن اتبع بيان الرسول لكلام الله فقد أطاع الرسول » (١).

علماً أنه توجد جماعة أُخرى في أوساط أبناء العامة لم يقبلوا هذه الفكرة بهذه الصورة ، فقد جاء في كتاب المدخل لدراسة السنة النبوية : « ما كان للبيان أن يناقض المبيَّن ، ولا الفرع أن يعارض

__________________

(١) مفتاح السنة ، محمّد عبد العزيز الخولي : ١٠.

٤٣

الأصل ، فالبيان النبوي يدور أبداً في فلك الكتاب العزيز لا يتخطاه ، ولهذا لا توجد سنة صحيحة ثابتة تعارض محكمات القرآن وبياناته الواضحة » (١).

وأيضاً مسألة لزوم نسخ الكتاب وتخصيصه ، وفي بعض الموارد الأخرى تقديم السنة على الكتاب ، هي من جملة المسائل التي عرضت وطرحت في ساحة الأبحاث العلمية لأبناء العامة ، والتي نشير إلى نماذج منها :

١ ـ يقولون في إرث الأنبياء أن « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » تتعارض مع قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (٢) ، وبما أن النسبة الواقعة بينهما هي العموم والخصوص ، فالنتيجة تكون بتقديم الخاص على العام.

وواضح من غير تذكير بأنّ مثل هذه الأكاذيب والافتراءات لا يمكنها أن تعالج المعاريض الأخرى التالية لهذا النص ، إذ إجمالاً اطلاق كلمة « الإرث » تمنع من هذا التخصيص ، ونستوحي من عبارة ( وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) (٣) ، ومن جهة أُخرىٰ أن استدلال الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام بهذه الآية في مواجهتها مع أبي

__________________

(١) المدخل لدراسة السنة النبوية للقرضاوي : ١١٧.

(٢) الفكر السامي للفاسي ١ / ١٠٦ ، والاية في سورة النساء : ١١ و ١٧٦.

(٣) النمل : ١٦.

٤٤

بكر عند مطالبتها فدك تدل على ما يورثه الأنبياء.

وقد بادر بعض الاعلام في هذا المجال ، ومنهم فخر الاسلام البزدوي الحنفي في كشف الأسرار « قوله : ( اجماع السلف على الاحتجاج بالعموم ) أي بالعام الذي خصّ منه ، فإن فاطمة احتجَّت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) الآية مع أن الكافر والقاتل وغيرهما خصوا منه ، ولم ينكر أحد من الصحابة احتجاجها به مع ظهوره وشهرته ، بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة » (١).

ومما لا شك فيه بأنها عليها‌السلام ـ وفق النصوص الصحيحة والمتواترة بين الفريقين ـ « سيّدة نساء أهل الجنة » ، ولا يعقل لسيدة نساء أهل الجنة أن تبادر وتستدل في حياتها الدنيوية بأمور لا تصح.

وكلام فخر الاسلام البزدوي يشير إلى هذا الأمر : بأن القتل والكفر يعتبران من الاسباب المانعة للإرث ، ولا ينكر أحد بين المسلمين ذلك على النقيض من مسألة إرث الأنبياء إذ تفرّد أبو بكر بذكرها ، وقد خالفه كبار الصحابة وفي طليعتهم أهل بيت الرسول

__________________

(١) كشف الاسرار عن أصول فخر الاسلام ، البزدوي البخاري ١ : ٦١١ و ٦٢٨.

٤٥

صلوات الله عليهم.

٢ ـ ومورد آخر هو قوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) (١) شأن نزولها كما تصرح أوثق المصادر التفسيرية للفريقين ، أنها نزلت في نكاح المتعة ، ومن هذا المنطلق تعرضت لسخط البعض ، فذهب جماعة إلى القول بنسخها ، ويقول الفخر الرازي في هذا المجال : « المراد بهذا الاية حكم المتعة ، وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمهر معلوم لأجل معين فيجامعها » (٢).

وجاء في تفسير أبي حيان : « قال ابن عباس ومجاهد والسدي : إن الآية في نكاح المتعة » (٣).

وفي تفسير أبي السعود : « نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم » (٤).

٣ ـ ونموذج آخر رواية مسلم عن أبي هريرة : « خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق

__________________

(١) النساء : ٢٤.

(٢) التفسير الكبير ١٠ / ٥٠.

(٣) تفسير أبي حيان ٣ / ٢١٨.

(٤) تفسير أبي السعود ٣ / ٢٥١ ، تفسير القرطبي ٥ / ١٣٠ ، تفسير البيضاوي ١ / ٢٥٩ ، مختصر تفسير ابن كثير ١ / ٣٥٧ ، الدر المنثور ٢ / ٤٠ ، تفسير الخازن ١ / ٣٥٧ ، تفسير التسهيل ١ / ١٣٧ ، تفسير الآلوسي ٥ / ٥ ، تفسير المراغي ٥ / ٨ ، تفسير الشوكاني ١ / ٤١٤.

٤٦

الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبثَّ فيها الدّواب يوم الخميس ، وخلق آدم عليه‌السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخَلق من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل » (١).

في حين نجد القرآن يشير إلى نقيض مافي هذه الرواية ، وقد جاء فيه أن الأرض والسماء خلقتا في ستة أيام كما يقول تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (٢).

٤ ـ ومن الموارد الأخرىٰ : « لا وصية لوارث » (٣) إذ حكم فيها بنسخ آيات الوصية ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٤).

٥ ـ وكذلك رواية « البكر بالبكر : جلد مائة وتغريب عام » والآية ( فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (٥).

لأن حاكم الشرع إذا اكتفى بالجلد وحده فقد خالف السنة !

__________________

(١) صحيح مسلم : ٤ / ٢١٤٩ برقم ٢٧٨٩.

(٢) الأعراف : ٥٣.

(٣) الحديث بهذا اللفظ رواه أبو داود ٣ / ١١٤ ، والترمذي ٤ / ٤٣٤ ، وابن ماجه ٢ / ٩٠٥ ، كلهم عن أبي امامة الباهلي ، وبوّب البخاري في الصحيح بهذا اللّفظ فقال : باب لا وصيّة لوارث ، ثمّ ذكر حديث ابن عباس بمعناه ٤ / ٤ ط اسطنبول ، الفكر السامي ١ / ٩٣.

(٤) البقرة : ١٨٠.

(٥) النور : ٢.

٤٧

واذا أراد أن يعمل على ضوء السنة فانه سيخالف الكتاب ، وهذه المسألة هي من نماذج اختلاف الواقع بين شتى المذاهب الاسلامية مع الأحناف (١).

٦ ـ وفي مجال آخر مما يملك النطاق الواسع في التمسك به بين أوساط أتباع ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ، هو حديث « إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه » إذ يتعارض مع استدلال عائشة ويخالفه القرآن ، ورواية النهي عن البكاء يرويها عبد الله بن عمر عن أبيه.

ففي البخاري : « قال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت لعائشة ما قال عمر : إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت يرحم الله عمر لا والله ! ماحدّث رسول الله إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد ، ولكن قال : إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، وقالت : حسبكم القرآن : ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) » (٢) (٣).

وكذلك الآيات الواردة في المواريث بالنسبة إلى الذكور والإناث والقول بالتعصيب (٤) في تقسيم الفرائض.

__________________

(١) اعلام الموقعين ٢ / ٣٨٠ ـ ٣٩٦.

(٢) الأنعام : ١٦٤.

(٣) صحيح البخاري : كتاب الجنائز رقم ١٢٨٨.

(٤) والقول بالتعصيب هو القول بحرمان النساء من الإرث فيما زاد على الفريضة وذلك

٤٨

فجاء في التنزيل : ( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) (١).

وكذلك قوله سبحانه وتعالى : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ ) (٢).

والآيتان المذكورتان تنافيان القول بالتعصيب في روايتهم : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر » ، مع أن أصحاب الفرائض في طبقاتهم المقدّرة محفوظة لا يتجاوزون الأخرى ، والقول بالتعصيب في « فما بقي لاُولى رجل ذكر » ينافي « أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله » وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

وتحري الدقة والتمعن في هذا الأمر وفي الكلمات الأُخرى توصلنا إلى هذه النتيجة ، وهي أن فقدان الأُصول الثابتة وعدم امتلاك المباني والأسس المتينة والمستحكمة هو السبب في نشوء هذه الفجوة وهذا الخلل والتنافر في الرؤى ومنهج التفكير ، ولا يمكن أيضاً أن نتصور غير ذلك في مثل هذه الحالة.

__________________

في التركة التي تبقى بعد التقسيم ، والقول به يختص بأهل السنة وأهل الجاهلية حيث يخصصون الأرث بالرجال دون النساء كما لا يخفى.

(١) النساء : ٧.

(٢) الأنفال : ٧٥ والأحزاب : ٦.

٤٩

وأيضاً ففي الأبحاث المرتبطة بحجية الخبر ، وفي تعارض الخبرين يتعلق ويرتبط تصحيح واستقرار التعارض على أصل صدور الخبر ، وإذا وقع أحد الأخبار في مخمصة ، أو واجه مانعاً أو حاجزاً في مرحلة الصدور ، فعندئذ لا يسعنا أن نعتبره طرفاً للمعارضة ، وممّا لا شك فيه أن أحد السبل لتمييز ومعرفة صدور الخبر هي موافقته أو عدم مخالفته للقرآن ، إذ هذا الأمر بصفته أوثق وأتقن سبيل معروف في هذا المجال.

وفي كتب الأصول لأبناء العامة ، كأصول السرخسي (١) ، وكشف الأسرار (٢) ، والتقرير والتحبير (٣) ، والتيسر والتحرير (٤) ، وإرشاد الفحول (٥) أيضاً عرّف التعارض بمعنى تمانع الدليلين ، إذ ينفي كلّ من الدليلين موضوع الدليل الآخر ، وللأسف لم يلحظ في أي كتاب من هذه الكتب مسألة المخالفة مع الكتاب أو الموافقة معه ، وفي جملة من الموارد بادر البعض الى الاستهزاء بالأخبار والأحاديث المرتبطة بهذا الباب واعتبروها مردودة ومرفوضة.

__________________

(١) أُصول السرخسي ٢ / ٢٤٢.

(٢) كشف الأسرار عن أصول فخر الاسلام البزدوي ٤ / ٨٨ ـ ٩٥.

(٣) التقرير والتحبير ٣ / ٢٦٩.

(٤) التيسير والتحرير ٤ / ١٤٦.

(٥) ارشاد الفحول : ٢٠٤.

٥٠



اختصاص الإمامية في التمسك بالقرآن

يمتاز المذهب الامامي الاثنا عشري في مسألة التمسك بالقرآن بخصوصية فذة قد حرمت منها المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وهي أن مرجعية القرآن تعتبر الركن الوثيق والأساسي والمسلَّم به والمقدّس عند مذهب الامامية ، ومن هذا المنطلق نجدهم بادروا إلى الالتزام والتقيد بها ، وفي الواقع إن جعل القرآن كمرجع عند مذهب الإمامية لتصديق وتأييد أو تكذيب وتفنيد الأخبار والأحاديث هو من الأمور التي شيّدت قواعدها على أسس من البرهان والعقل ، وقلّما نجد دليلاً يصل إلى قوّته وسداده ومتانته ، وقلّما نجد دليلاً يمتلك هذا المقدار من الأهمية والقيمة.

٥١
٥٢



رأي الإمامية في حاكمية الكتاب

كما قلنا فيما سبق فإنّ مسألة موافقة الكتاب وعدم مخالفته في مطلق الأخبار وعند ترجيح الخبرين المتعارضين من المسلّمات عند الامامية ، وقد ادعى العلماء التواتر في صدور روايات هذا الباب.

ومما لا شك فيه أنه لا يسع أيّ ضابط أو قاعدة في هذا الشأن أن تكون أتقن وأوثق من القرآن ليمكننا أن نشخص صحة الأمور وسقمها ولا سيما في ما يخصّ باب الأحاديث والأخبار.

وأقوال المفكرين الفطاحل في المجالات العلمية في مذهب الإمامية تثبت هذه الحقيقة : بأن جعل القرآن مقياساً لتثبيت الشؤون الفردية والاجتماعية هو أمر ضروري جداً ويمتاز بأهمية خاصة.

وفيما يخصّ بحاكمية الكتاب وجعله الميزان والمقياس لتمييز

٥٣

وتعيين الصحيح والفاسد من الأخبار ، فانه قبل أن يتم إثباته عن طريق النصوص قد ثبت عن طريق الأدلة والبراهين من أنه أمر لا غبار عليه ، ولا يمكن تجاوزه إلى أي وجه آخر.

وكما يشاهد في بيان أخبار وأقوال فطاحل العلماء فإن حيوية هذا الأمر وسداده تمتاز بوضوح وإشراق ، إذ توحي بأننا لا نحتاج إلى أي دليل خارجي لقبولها والاذعان لها ، ومجرد نسبتها إلى كتاب الله وصيانته من الخطأ والتحريف لهما شاهدان على ذلك وهما دليل علىٰ صدقها وصحتها ، إذ تتمكن بذلك أن توفر الأرضية لجعل القرآن الحاكم والمرجع لتمييز وتعيين الأخبار الصحيحة عن الأخبار السقيمة والفاسدة.

وفي هذا المجال نشير إلى جملة من أقوال العلماء المختصين وأهل الخبرة في هذا الشأن.

يقول الشيخ الأنصاري :

« الثانية : أن يكون ( الخبر المخالف ) على وجه لو خلا الخبر المخالف له عن المعارضة لكان مطروحاً لمخالفة الكتاب ، كما إذا تباين مضمونها كليّة ، كما لو كان ظاهر الكتاب في المثال المتقدم ، واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجيّة رأساً لتواتر الأخبار ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنّة والمتيقّن من

٥٤

المخالفة هذا الفرد ، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضاً » (١).

ويقول الآخوند الخراساني :

« إنّ الأخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة لو قيل بأنَّها في مقام ترجيح أحدهما ، لا تعيين الحجة عن اللاحجة كما نزلناها عليه ، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجيّة المخالف من أصله ، فانَّهما تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في الأخرىٰ كما لا يخفى » (٢).

ففي هذا التصريح يستدل الاخوند بجهتي موافقة الكتاب ومخالفته : أحدهما ترجيح الموافق مع الكتاب في المتعارضين بالعموم والاطلاق ، والآخر بطلان الخبر المخالف مع القرآن على ضوء أخبار لزوم العرض على الكتاب.

ويقول الإصفهاني رحمه‌الله أيضاً في هذا المجال :

« أمّا مقتضىٰ أدلّة الترجيح ، فاللازم تقديم الخبر الموافق لظاهر الكتاب بل لعلّه القدر المتيقّن من مورد الترجيح فتدبّر. وأمّا

__________________

(١) فرائد الأصول ، كتاب التعادل والتراجيح ، باب الترجيح بموافقة الكتاب ٤ / ١٤٨.

(٢) كفاية الأُصول ٢ / ٤١٩ ـ ٤٢٠.

٥٥

إذا كان الكتاب نصاً ، أو أظهر من المخالف ، فهو مورد سقوط المخالف عن الحجيّة رأساً بحيث لو كان وحده ما صحّ الأخذ به ، فانه القدر المتيقّن من الأخبار الدالّة علىٰ أنّه زخرف وباطل ، قد مرّ انّه من باب تمييز الحجّة عن اللاحجة ، لا من باب الترجيح بموافقة الكتاب » (١).

ويقول الشهيد الصدر رحمه‌الله أيضاً :

« الطائفة الثالثة : وهي الروايات الآمرة بعرض نفس أخبار الأئمّة على الكتاب وجعل الكتاب معياراً لتمييز الأخبار الصحيحة عن الأخبار الكاذبة ، علىٰ عكس ما يقوله الأخباريون (٢) من فرض

__________________

(١) نهاية الدراية ٦ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٢) من المناسب لكبار العلماء والشخصيات الدينيّة ، في كتبهم الاستدلاليّة عند التطرق إلى مبحث حجية ظواهر الكتاب وفي مقام الردّ على الأخباريين وأيضاً في مبحث تعارض الخبرين حين يبادرون إلى بيان روايات لزوم العرض على الكتاب ، أن يتعرضوا في بدء الامر إلىٰ أبناء العامة بصفتهم مخالفين لهذه المجموعة من الأخبار ، ثم ليتعرضوا الى الأخباريين بصفتهم ساروا على نهج أهل الخلاف في هذا الخصوص ، ليتضح بذلك عظمة مذهب التشيع للعالم ومستوى تمسكهم بالكتاب ، وأيضاً ليتحقق الغرض من الاستدلال على المراد والمطلوب بصورة أفضل وأتم.

وإن اشتراك وموافقة الأخبارية وأهل الخلاف تثبت حقيقة امتياز منهج وأسلوب التفكير والاجتهاد والاستنباط عند مذهب الإمامية.

وبهذا الأُسلوب يتجلّى بوضوح مسألة بطلان المنهج المخالف وتتبدل ساحة المنازعات إلى شكل آخر.

والملاحظة الجديرة بالاهتمام في هذا المبحث هي أن يعلم العالم الاسلامي

٥٦

أخبار الأئمّة أصلاً والكتاب فرعاً يفسّر بلحاظها ، وقد ادّعي تواتر هذه الطائفة.

والانصاف أن هذه الطائفة من أقوىٰ الأدلّة علىٰ حجيّة ظواهر الكتاب الكريم ، ولا يأتي هنا احتمالنا السابق في الطائفة الثانية ، إذ المفروض في هذه الأخبار جعل القرآن مقياساً لصحّة الخبر وسقمه ، فاذا فرض أن العبرة بالقرآن المفسر بالخبر كان ذلك رجوعاً مرة أُخرى إلىٰ الخبر فينتهي ذلك إلىٰ جعل نفس الخبر مقياساً لصحة الخبر وسقمه ، وهذا ممّا لا معنى له ولا يحتمل ، وهذا بخلاف باب الشروط ، فهناك لا يكون تهافت في أن يكون مقياس صحّة الشروط وفسادها مخالفتها للقرآن المفسّر بالخبر وعدمها.

والحاصل أن المتفاهم عرفاً من هذه الطائفة بشكل واضح لا خفاء عليه أن القرآن هو الأصل وأن الأخبار هي الفرع وأن كلّ ما خالف الكتاب سواء كانت مخالفة لفظيّة أو ظهوريّة يجب طرحه ولا يجوز العمل به ، بل هو ممّا لم يقولوه ، لأنّهم تلامذة القرآن

__________________

والحوزات العلمية في شتى أنحاء العالم أن التشيع يستقي وجوده ويكتسب صفته الرسمية على ضوء تطابقه مع القرآن ، وأنه يرى السنة في موازات القرآن ومرتبطة بالكتاب ، على خلاف مذهب أبناء العامة ، إذ يرون السنة مستقلة في التشريع وغير مرتبطة بالقرآن ، وقد فندوا ورفضوا الروايات الواردة في موضوع عرض الروايات على الكتاب واعتبروها موضوعة من قبل الزنادقة !!

٥٧

وأبناؤه فلا يأمرون بشيء يخالف القرآن ... » (١).

وحصيلة الكلام ، هو أن ما يفهم عرفاً من أخبار لزوم العرض على الكتاب هو أن القرآن هو الاصل والاخبار فرع ، وكل شيء يعارض أو يخالف القرآن بأي شكل من الأشكال ـ لفظية كانت أو ظهورية ـ فيجب رفضه ولا يجوز العمل به ، بل ينبغي أن نقول بأن التحدّث على خلاف ونقيض القرآن يعتبر من الموارد التي لم ولن يتحدث بها الأئمة ، وذلك لأنهم تلاميذ مدرسة الوحي وابناؤها ، ولا يتفوهون أبداً بما يخالف القرآن أو ما يعارضه.

__________________

(١) مباحث الأُصول للسيّد الحائري تقريراً لأبحاث الشهيد الصدر ١ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

٥٨



أحاديث الامامية في عدم الأخذ

بالأحاديث المخالفة للكتاب

١ ـ خبر الراوندي عن الصادق عليه‌السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما علىٰ كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فرُدّوه ، فما لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما علىٰ أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه » (١).

٢ ـ روى الصادق عليه‌السلام : « أنّ رسول الله خطب الناس بمنىٰ ، فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله » (٢).

٣ ـ وعن الإمام أبي جعفر الثاني ـ محمّد الجواد عليه‌السلام ـ في

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ / ٨٤ ب ٩ من أبواب صفات القاضي رقم ٢٩.

(٢) أصول الكافي ١ / ٦٩ ، ح٥.

٥٩

مناظرته ليحيىٰ بن أكثم ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع : قد كثرت عَلَيَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عَلَيَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه علىٰ كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به ، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به » (١).

٤ ـ وعن الصادق عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله « إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة وعلىٰ كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه » (٢).

وأيضاً يروي الكليني رحمه‌الله أن الامام جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : « إنّ الله تبارك وتعالىٰ أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد حتىٰ لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه » (٣).

وكذلك روى عن الامام محمّد الباقر عليه‌السلام : « أنّ الله تبارك وتعالىٰ لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة إلاّ أنزله في كتابه وبينه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدل عليه ،

__________________

(١) احتجاج الطبرسي ٢ / ٢٤٦.

(٢) أصول الكافي ١ / ٦٩ ، ح١.

(٣) المصدر السابق ١ / ٥٩ ، ح١.

٦٠