اختصاص الشيعة في التمسّك بالقرآن الكريم

المؤلف:

الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي


المترجم: علاء تبريزيان
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-292-X
الصفحات: ٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يُوحَىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ) (١) ، وقوله تعالى : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ ) (٢).

السنّة :

عُرف التمسك والالتزام بالسنة ووجوب اتباعها في أوساط المذاهب الإسلاميّة بأنه الأساس والركيزة الثانية في مجال تشريع الأحكام.

ولم يلحظ أي رفض أو إنكار في مجال شرعيته ، ولكن الأمر الجدير بالمتابعة والدراسة بدقة وحيطة في هذا المجال هو مناقشة مدىٰ الاستقلال بالسنة أو صلتها بالكتاب.

وكما بينّا فيما سبق فإن السنة تلزم بالضرورة ـ ومن دون أيّ انفصال ـ أن تكون مبينة لاحكام القرآن المشرقة ، ولا يمكنها الانفصال عن القرآن أبداً.

والملاحظة التي ينبغي الالتفات إليها في مجال تبيين وإيضاح السنة للأحكام القرآنية هي هل يمكن للسنة أن تتعارض أو تتنافى مع الكتاب أم لا ؟

__________________

(١) النجم : ٣.

(٢) يونس : ١٥.

٢١

السنة : هي قول وفعل وتقرير المعصوم ، ويختص ذلك عند أبناء العامة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل هذه الاتجاهات والمصادر الثلاثة من الرسول والامام يمكنها ولو بصورة جزئية أن تقع في عرض الكتاب لتعارضه أو تنافيه ؟

وإجابة على هذا الاستفسار وهذه المسألة التي تتشكل منها المباحث الرئيسية في هذا المجال سنناقش هذا الموضوع وندرس هذه القضيّة تحت عنوان « استقلال السنة في التشريع ».

٢٢



استقلال السنة في التشريع

دوّنت في الآونة الأخيرة كتبٌ كثيرة تحت عنوان « التشريع الإسلامي » من قبل شخصيات مختلفة ، إذ هي على الأغلب تصدر كرسائل لنيل درجة الدكتوراه ، وقد دوّن البعض وتحت عنوان « استقلال السنة في التشريع » أبحاثاً حول الاكتفاء الذاتي للكتاب والسنة ، وقد طرحوا وجوهاً ونماذج لاستقلال كلّ منهما ، ومن مجموع أبحاث هذه الكتابات نستوحي أن الحاجز والقضية الشائكة الأساسيّة عندهم هي عدم الاذعان لأخبار وأحاديث العرض على الكتاب ، إذ نجدهم يتهجمون بعنف وبألفاظ متشددة ولاذعة علىٰ هذه المسألة.

وفي الحقيقة فإن قضية عرض الأخبار على الكتاب تعتبر في نظر أبناء العامة رؤية ضالة تسربت إلىٰ التفكير والعقليّة الإسلاميّة عن طريق الزنادقة والروافض والخوارج !!

وكذلك يستشف من أقوال ووجهات نظر كبار العلماء عند أبناء العامة بأن هذا الأسلوب في التفكير عند أوساط أئمتهم وشيوخهم

٢٣

يمتاز بخطورة وحساسية خاصة ، إذ نجدهم يواجهون أيّة حركة التفات أو توجه إلى حاكمية القرآن في مقام ردّ أو قبول الأحاديث والأخبار بتكفيرها والردّ عليها ، ونجدهم يظهرون الاشمئزاز والتنفّر من ذلك !!

ومن هنا ينبغي أن نلحظ قضية استقلال السنة ، والتي أصبحت وسيلة تستخدم في الفترة الأخيرة لمهاجمة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام في بيانهم لأحاديث وجوب العرض على الكتاب ، أنها كم تتطابق وتنسجم مع الضوابط والأسس العلمية ، وماهو الميزان لتلقّي وقبول ذلك عند أبناء العامة ؟

إن هذا الاسلوب والنمط في التفكير والرؤية عند مذهب الإمامية وأهل البيت عليهم‌السلام اعتبر مبدءاً مقدّساً ومتقناً ، فاتبعوه بتمام القوة وارتأوا ضرورة أن تتطابق السنة مع الكتاب.

وفي الحقيقة فإن مسألة الحفاظ على السنة تستوجب وتحتّم على الإنسان المؤمن والمتعبد بالشريعة في كافة الفترات الزمنيّة أن يتعامل مع الأحكام الصادرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يتناسب مع شأنها ومكانتها ، وليتعلمها ويعلّمها للآخرين ، وأن يكون متمسكاً بها.

ومما لا شك فيه ، فإنه كان من المحتّم في بدء الدعوة

٢٤

الإسلاميّة ـ لضرورة العمل بالسنة ـ أن يتم الحفاظ والمواظبة على الأقوال والسنن المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن يُحاول جهد الامكان وبأتم الصور المراقبة والمحافظة عليها ، ولكن عندما منع الخلفاء التدوين ، وذلك لأجل أغراض ووجهات نظر خاصة ، لم يمكن الوصول إلىٰ السنة الصحيحة وإلى كافة أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فعندها وانطلاقاً لرفع الحاجة وسدّ الافتقار ، ومن أجل الوصول إلى ما يرمون إليه ، عمدوا إلى أمر يقربهم إلى السنة ويوصلهم إليها ، فاختلقوا أمراً لينوب عن ذلك.

ومن هذا المنطلق اعتبروا عمل الصحابي وعمل أهل المدينة في عداد السنة ، وذلك لأن أفعالهم مستقاة من سنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن الواضح أن هذا النمط والأسلوب لتلقي السنة لا يسعه أن يكون مبيناً لها على وجه الحقيقة ، ومن جهة أخرى فهذا التمسك يتم إذا لم يعتر فعل الصحابة أو أهل المدينة عيب أو نقص.

وحيث أن السياسة العامة للسلطة الحاكمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتهجت نهجاً وسبيلاً خاصاً ، وظهرت أحداث ومجريات غير متوقعة وغير مرتقبة في طريق السنة ، عندها لم يبقَ مجالٌ للتمسك بالسنة عبر أفعال هؤلاء.

ومما لا شك فيه فإن أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيما علي بن

٢٥

أبي طالب عليه‌السلام هم الأولى والأتقن في استيعاب وفهم ومعرفة القرآن والسنة ، وهذا مما اعترف به مخالفوهم ، حيث يقول المناوي في فيض القدير : « قد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي ، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن الحجاب ، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء » (١) ، فمع هذا الوصف كيف يمكننا القول بأن يكون غيره مقدَّماً عليه في بيان السنة ؟

كما أن التمسك والالتزام بأقوال الصحابة أو أهل المدينة مع كثرة مواطن الضعف الموجودة فيها لن تصل أبداً في المستوى إلى الوثوق والاتكال عليها كما هو الحال في أقوال أهل بيت الرسول صلوات الله عليهم وهم الذين أُذهِب عنهم الرجس وطُهِّروا تطهيراً.

وهذا من مسلّمات قواعد الترجيح في الأخذ بالأخبار والأحاديث والعمل بالسنن من جهة السند والتي تمتلك المستوى الرفيع في وثاقتها والعول عليها.

فبناءً على هذا لا يمكننا الوثوق والاعتماد في تلقّي السنة إلاّ بما جاء عن طريق أهل البيت عليهم‌السلام الذين وافق الجميع على طهارتهم وعلوّ شأنهم العلمي.

__________________

(١) فيض القدير ٣ : ٤٦.

٢٦



موضع الافتراق في تقسيم الأخبار

أجد من الضرورة ـ إذ يتمتع بحثنا بأهميّة ومكانة خاصّة ـ أن نتمعّن فيه ، وأن نحكم أمره بما يناسب المقام.

فإن الكتاب والسنّة كما اعتبرهما الإماميّة المصدرين الأساسيين من الأدلّة الاربعة ، واتّخذ أبناء العامّة أيضاً هذين الأمرين ركناً لقواعدهم التشريعيّة ، واعتبروهما أصلين مستقلّين في مجال التشريع ، وذكرنا فيما سبق أن مذهب الإماميّة اشترط وجود ترابط بين الكتاب والسنّة وعرّف السنّة أنها مبيّنة ومفسّرة للكتاب.

وقد قسّم البعض ـ كابن حزم ـ الأخبار فيما ترتبط بالكتاب إلى قسمين ، والبعض الاخر إلىٰ ثلاثة (١) ، والفئة الثالثة إلىٰ أربعة أقسام (٢).

__________________

(١) راجع كتاب حجية السنة.

(٢) راجع كتاب « الفكر الاسلامي ».

٢٧

وهؤلاء البعض ممّن قسّم الأخبار إلىٰ ثلاثة أو أربعة أصناف ، ذكروا أموراً في السنة ممّا لم تتبيَّن في القرآن ، كتحريم نكاح العمة وخالة الزوجة وتحريم أكل لحم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ورجم المحصن وغير ذلك ، إذ ذكر ابن حجر الكثير منها في بلوغ المرام ، وذكر الشوكاني ذلك في نيل الأوطار.

كما وأنّ تواجد مثل هذه الأخبار في السنة كان سبباً لظهور القول باستقلال السنة في التشريع وسبباً لنشوء الآراء والأقوال المختلقة ، وعند تبنّيهم لهذه الآراء نجدهم لا يشترطون لزوم عدم مخالفة الأخبار للكتاب وترجيح الموافق منها فحسب ، بل نجدهم يكفّرون من يقول بذلك ، ويتبرّؤون منه.

إنّ قوة الاستدلال والبرهنة عند مذهب الإمامية على ضوء الكتاب والسنة ، هو الذي نقب هذا البحث وأبداه محققاً ومهذباً ، فأحال الأمر وأرجعه إلىٰ العلماء الاعلام وأولي الألباب ، ليحكموا بأنفسهم ويبينوا مذهباً يمتاز بمستوى رفيع في تمسكه بالكتاب والسنة بين المذاهب الاسلامية عامة ، وليبينوا ماهي نسبة الصدق في التمسك بالقرآن والسنة للذين يدعون ذلك ويتظاهرون به.

٢٨



رأي أبناء العامة في عرض الخبر على الكتاب

من الأمور والملاحظات التي لم يُلتفت إليها في هذا المجال هي عدم التمعّن الشامل في المدلول التطابقي لقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، إذ نجد أنها حُملت فيما يخص استقلال أوامر الرسول ونواهيه بصورة منفصلة ومنقطعة عن كتاب الله عز وجل ، وهذا تصوّر باطل أو على أقل تقدير أنه غير تام ، لأنّ اختصاص هذا الأمر في مجال السنة يعتبر تصرفاً يفتقد القرينة على الظهور ، وهذا مما لم يُجعل له في المباحث الصناعية المتعلقة بحجية الظواهر ضابطاً يتكفل ببيانه وإيضاحه.

وتوهَّمَ البعض أن فحوى الاية المباركة يتعارض مع الأخبار القائلة بلزوم عرض الخبر على الكتاب ، وعلى هذا يمكن للسنة بصفتها الدليل الحاكم أن تقضي على حكم الآيات ، أو أن تصل إلى

__________________

(١) الحشر : ٧.

٢٩

حدّ يمكّنها مِن أن تنسخ حكم الآيات.

فبناءً على هذا تفتقد هذه الأخبار حيثيتها لوجود المعارض مع الآية التي مرّ ذكرها ، ومن الواضح والبديهي جداً أن ( مَا ) في الآية المباركة تقصد بيان مهمّة الرسول وشرح رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن المبادرة إلى تجزئتها عما هو خارج عن الكتاب يخالف ظهور الآية.

وقد جاء في كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ( المتوفى سنة ١٤٠٣ ه‍ ) مايلي :

« أحاديث العرض على كتاب الله : فكلّها ضعيفة ، لا يصحّ التمسّك بها ، فمنها ماهو منقطع ، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول ، ومنها ما جمع بينهما. وقد بيّن ذلك ابن حزم في الأحكام والسيوطي في مفتاح الجنة نقلاً عن البيهقي تفصيلاً » (١).

وفي كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي لمحمّد بن الحسن الحجوي الفاسي ( المتوفى سنة ١٣٧٦ ه‍ ) :

« اعلم أنّ الحقّ عند أهل الحقّ أن السنة مستقلّة في التشريع ... وما يروى من طريق ثوبان من الأمر بعرض الأحاديث على القرآن ، فقال يحيى بن معين : أنه من وضع الزنادقة ، وقال

__________________

(١) حجية السنة : ٤٧٤ ، ط بغداد ، دار السعداوي.

٣٠

الشافعي : ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير » (١).

وقال ابن عبد البر في كتاب جامع العلم :

« عن عبد الرحمن بن مهدي أن الزنادقة وضعوا حديث : ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فان وافق فأنا قلته وإن خالفه فلم أقله. ونحن عرضنا هذا الحديث نفسه على قوله تعالى : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) وغيرها من الآيات الدالة على الأخذ بالسنة ، فتبين لنا أن الحديث موضوع ، دلّ على نفسه بالبطلان ، وقد نقل ابن حزم الأندلسي في كتاب الإحكام في أُصول الأحكام مجموعة مختلفة من هذه الروايات ، ثم بادر إلى تضعيفها جميعاً ، قال في فصل قوم لا يتّقون الله فيما ينسب إلى النبي : قد ذكر قوم لا يتّقون الله عزّ وجلّ أحاديثاً في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإباحة الكذب عليه » (٢).

ثم بادر ابن حزم لبيان وسرد الأحاديث فضعفها واحدة تلو الأخرىٰ ، ثم قال معلّقاً علىٰ رواة بعض الأحاديث : « ساقط متهم بالزندقة ».

__________________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ٣٠٩ ، الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي ١ / ١٠٤.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام : ٢ / ٢٠٥.

٣١

وقال : « كلّ من يروي هذه الأحاديث فقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وقال أخيراً : « وقال محمّد بن عبد الله بن مسرة : الحديث ثلاثة أقسام : فحديث موافق لما في القرآن فالأخذ به فرض ، وحديث زائد على مافي القرآن فهو مضاف إلىٰ مافي القرآن والأخذ به فرض ، وحديث مخالف القرآن فهو مطرح ».

ثم يقول : « ولا سبيل إلىٰ وجود خبر مخالف لما في القرآن أصلاً ، وكل خبر شريعة ، فهو إمّا مضاف إلىٰ مافي القرآن ومعطوف عليه لجملته ، وإمّا مستثنىٰ منه لجملته ، ولا سبيل إلىٰ وجه ثالث » (١).

فنستوحي من هذه المقولات أن هذه الفئة ترتئي أن الأحاديث المنقولة في العرض على الكتاب لا مصداقية لها ولا صلة بينها وبين الكتاب والسنة ، بل هي ترتبط بالزنادقة ، ولا تمتلك الصلاحيّة للاستدلال بها والعول عليها.

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٢٠٥.

٣٢



رأي الشاطبي ومخالفته للمشهور

ومن أبناء العامة نجد الشاطبي في كتاب « الموافقات » كمخالف للقول المشهور وموافق لرأي الإماميّة ، ونجده في مقام التعارض قدّم النصّ القرآني على الحديث ، وهو إذ جعل السنّة فرعاً للكتاب ، ووافق الرأي الذي ينطلق على ضوء الأسس المنطقية ، أُعتُبر مخالفاً لمشهور ما عليه أبناء العامة ، واعتقد الجميع أنه خالف الطريقة الصحيحة بتبنّيه هذا المعتقد.

يقول الشاطبي : « إن الكتاب مقطوع به ، والسنة مظنونة ، والقطع فيها إنّما يصحّ في الجملة لا في التفصيل ، بخلاف الكتاب ، فانه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدّم على المظنون ، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة » (١).

فقدم الشاطبي القرآن علىٰ السنّة لأنّه قطعي الصدور ، وجعل

__________________

(١) الموافقات ٤ / ٧.

٣٣

للسنة مكانة خاصة بصفتها مفسرة ومبيّنة لكلام الوحي (١) ، واعتقد بأن القرآن فيه تبيان لكلّ شيء والسنة هي العارفة بذلك والمطلعة عليه وهي التي تتكفّل ببيان وإيضاح ذلك للناس ولم يبيّن للناس شيءٌ سوى الوحي (٢).

وكما قلنا إن جمهور أبناء العامة خالف ما ذهب إليه الشاطبي :

يقول الدكتور عبد الغني : « ومن ذلك كلّه تعلم بطلان ماذهب إليه الشاطبي في الموافقات من أن رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الإعتبار ، وقد قلّده في ذلك بعض الكتّاب من المتأخرين في هذا الموضوع ، وبالتقليد أغفل من أغفل ... » (٣).

وممن خاض في هذه المخاضة ، وبادر لنشر أمور مفتعلة ولا أساس لها وحرّض على مذهب الشيعة هو الدكتور السالوس الذي أصدر لحدّ الآن مجموعة كتب ضدّ مذهب الإماميّة ، وفي إحدىٰ هذه الكتب باسم قصة الهجوم على السنة تعرض لهذه المسألة ، وكفّر أتباع مذهب التشيع ، وذكر أنهم ينتمون إلىٰ مقولة تقدّم القرآن على الأخبار.

قال : « وأصل هذا الرأي فاسد ـ لزوم عرض الخبر على

__________________

(١) المصدر السابق ٤ : ٧.

(٢) المصدر السابق ٤ / ١٠.

(٣) حجيّة السنّة : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٣٤

الكتاب ـ أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلىٰ إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن ، وهم في ذلك مختلفوا المقاصد ... » (١).

ونقل كلام السيوطي في مفتاح الجنة بهذه الصورة : « إن قائلاً رافضياً زنديقاً أكثر من كلامه أن السنة النبوية والاحاديث المروية لا يحتج بها ، وأن الحجة في القرآن خاصة ، وأورد على ذلك حديث : ما جاءكم عني من حديث فاعرضُوه على القرآن ، فان وجدتم له أصلاً فخذوه وإلاّ فردّوه » (٢).

وهو يريد أن يقول : إن الذين يعتقدون بلزوم عرض الأحاديث على الكتاب ، في الحقيقة يعتقدون بالكتاب فقط وأنهم ينكرون السنة !

وبالرغم مما يُرى من نقاط ضعف في هذه المقولة ، يبدو أنّه قد نسي أنه إذا كان قول « الاقتصار على القرآن » يوجب الزندقة ، فان عمر بن الخطاب ينبغي أن يكون من الزنادقة في هذا المجال (٣) ، لأنّه يعتبر الرائد الأوّل لهذه المقولة ، ويليه الخوارج الذين يعتبرهم

__________________

(١) قصة الهجوم على السنة : ٣٣.

(٢) المصدر السابق : ٣٢.

(٣) صحيح البخاري كتاب العلم رقم ١١١ ، وكتاب المغازي رقم ٤٠٧٩ ، وكتاب المرضى رقم ٥٢٣٧ ، وكتاب الاعتصام رقم ٦٨١٨.

٣٥

أبناء العامة من أهل الصدق ويعدّون أحاديثهم من أصحّ الأحاديث (١) ، لانّ الخليفة الثاني هو الذي قال ـ ولأول مرة ـ في حضور الرسول مقولة : « حسبنا كتاب الله » ، وكذلك الخوارج في بيان « الحكم لله » وقفوا بوجه حجة الله في تلك الظروف الحرجة والخطيرة.

__________________

(١) الكفاية للخطيب : ٢٠٧ ، السنة ومكانتها في التشريع الاسلامي : ٢٠٥ ، أصول علم الحديث : ١٦٠ ـ ١٦١.

٣٦



تبرئة الخوارج !

سبّبت نقاط الالتقاء ووجوه الاشتراك عند بعض الفرق أن يتحدوا في قبال مذهب التشيع ، وليدافعوا عن الخوارج ويعتبروا المذهب الإمامي هو الفرقة المنفردة والمختصة بالتمسك بالقرآن عند ضرورة العرض على الكتاب ، كما نجد في كتبهم ـ عند تبرير الخوارج في نقلهم الأحاديث الموجودة في مبحث لزوم العرض على الكتاب : روى عبد الرحمن بن مهدي : « ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فان وافق كتاب الله فأنا قلته ، وإن خالف كتاب الله فلم أقله ، وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله » ، ثم قال : إن هذا الحديث إنما وضعه الخوارج والزنادقة (١).

ثم يقولون في مقام تبرير الخوارج : وأما الحديث الذي نسبه عبد الرحمن بن مهدي إلى الخوارج فيرجّح أن الزنادقة وحدهم وضعوه ، لا سيما وكل من يحيى بن معين والخطابي في تذكرة

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ٢ / ٢٣٣.

٣٧

الموضوعات ينسبانه للزنادقة (١) ، كما أن محمّد عجاج الخطيب يضعّف نسبة هذين الحديثين للخوارج (٢).

وهذا الظن الحسن بالخوارج هو تتمة للايضاح المنقول عن أبي داود السجستاني إذ يقول « ليس في أصحاب الأهواء أصحّ حديثاً من الخوارج » (٣).

وأيضاً عن ابن تيمية : « والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس ، حتى قيل : إن حديثهم من أصح الحديث » (٤).

وجاء في كتاب مسند الفراهيدي من كتب الأباضية إذ هم يُعتبرون من فرق الخوارج ، ذكر حديث لزوم عرض الحديث على الكتاب عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولفظه : « إنكم ستختلفون من بعدي فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فعني ، وما خالفه فليس عني » (٥).

ومن هنا يتبيّن محاولة تبرئة الخوارج من هذا الافتراء والادعاء بأنّ الإمامية قد تفردوا في اختصاصهم بتقديم الكتاب على السنة وذهبوا إلى عرض الخبر على الكتاب.

__________________

(١) السنة ومكانتها في التشريع : ٩٧.

(٢) السنة قبل التدوين : ٢٠٥ ، أصول علم الحديث : ١٦٠.

(٣) الكفاية للخطيب : ٢٠٧.

(٤) السنة ومكانتها في التشريع : ٢٠٥.

(٥) مسند الربيع بن حبيب الفراهيدي ١ : ١٣ رقم ٤٠.

٣٨



تمييز الأحاديث الموضوعة

واستناداً إلى نظرية أبناء العامة في المنع من عرض الخبر على الكتاب ينبغي أن تنقّح الأحاديث وتهمل الموضوعة منها في كتب الحديث بصورة كاملة ، وإلاّ فمن الصعوبة أن نحكم بصحّة الأحاديث ، وأن نتعامل معها كسنة مع عدم الاذعان بتنقيح الأحاديث الموضوعة التي تشتمل على أربعة عشر ألف (١) أو اثني عشر ألف (٢) حديثاً وأن لا نقول بتنقيحها من قبل ذوي الاختصاص.

وكانت الطريقة السائدة عند بعض المحدّثين الكبار من أبناء العامة الملقبين ب‍ « أمير المؤمنين في الحديث » أنّهم لتحقّق نواياهم ومآربهم الخاصّة عمدوا إلى جعل ووضع الحديث ، وكانوا يضعون الحديث.

__________________

(١) الكفاية للخطيب البغدادي : ٦٠٤.

(٢) تنزيه الشريعة المرفوعة ١ / ١١ ، أصول علم الحديث : ٩٧.

٣٩

فبناءً على هذا الأساس إذاً لا نمتلك ميزاناً ومقياساً معيّناً لتمييز ومعرفة الأحاديث الصحيحة ، ومما لا شك فيه أن ذلك سيؤدي بنا إلى مواجهة عقبات ومشاكل في معالجة هذا الأمر !!

على سبيل المثال : نعيم بن حماد المروزي ، هذا الراوي الذي أشادوا به ووُصف بالمقامات والدرجات الرفيعة : « كان نعيم بن حماد أعلم الناس بالفرائض وأول من جمع المسند وصنَّفه » (١) ، لكننا نجده مع هذا الوصف في إمامة الحديث ، فقد كانت له صفة منبوذة وبغيضة وهي وضع الحديث ، وكان يبادر إليها كما قالوا عنه :

كان يضع الحديث في تقوية السنة (٢) ، ووضع في الردّ علىٰ أبي حنيفة وناقض محمّد بن الحسن ووضع ثلاثة عشر كتاباً في الردّ على الجهميّة (٣) ، وقال أبو داود فيه : « عند نعيم بن حمَّاد عشرون حديثاً عن النبي ليس لها أصل » (٤) ومما لا يخفى أنه كان يبادر إلىٰ تدريب بعض التلاميذ في هذا المجال كمحمد بن إسماعيل البخاري !!

وكذلك الراوي عن عكرمة أبي عصمة نوح بن أبي مريم الذي

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٣ / ٣٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٩٩ ، تهذيب الكمال ٢٩ : ٧٠.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠ / ٦٠٨.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٩٩.

(٤) تاريخ بغداد ١٣ / ٣١٢ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٦٠٩.

٤٠