موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-94-2
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥١٠

هل أخذ عن الصحابة؟

لقد مرّ بنا في الجزء الأوّل من الحلقة الأولى ما قام به ابن عباس في عهد أبي بكر من دور مناهض له ، وذلك حين جمع أبو بكر المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( إنّكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها. والناس بعدكم أشد إختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ... ) (١) ، فقام ابن عباس أزاء ذلك بعمل لا يثير حوله الشكوك لسنّه الفتية يومئذ ـ فهو ابن ثلاث عشرة سنة ـ وألمعيته النادرة ، فصار يتتبع أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عند الصحابة لئلا تنسى ويدرس أثرها ، وقد كان هو في غنى عما عندهم ، لأنّ عنده المعين الذي لا ينضب باب مدينة علم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّ بنا قريباً شواهد غنائه به وإستغنائه عن غيره ، لكن الحكمة والتعقل يحدوان به إلى فكّ بعض ذلك الحصار الذي فرضته السلطة الحاكمة على الحديث النبوي الشريف ، فسلك سبيلاً لحفظ ذلك التراث الإسلامي الذي وعته صدور الصحابة ، فكان ـ وهو يخشى عليه الضياع ـ يدور عليهم ويأتي أبواب بيوتهم ويتحمل العناء في سبيل ذلك ويكتب ما يملونه عليه ، فهو للحديث النبوي الشريف حفظ وتأليف ، وهو للمحدِّث الصحابي زيارة وتشريف ، وهو للسلطة المانعة تحدٍّ وتزييف.

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٢.

٦١

الوجه في أخذه عن الصحابة

لا شك في أنّ حبر الأمة قد أخذ الحديث عن بعض الصحابة ـ وخاصة الأنصار ـ وكان أخذه على نحو الإنتقاء في الشيوخ ، وستأتي النصوص التي تكشف لنا عن إهتمامه البالغ ، وحرصه الشديد على سماع الحديث عنهم ، ولابد من تفسير معقول ومقبول لذلك الإهتمام الشديد ، بعد أن كان عنده المعين الصافي الذي لا تكدّره الدلاء ، ولا تعجزه كثرة الواردين عن إرواء الجميع من نمير تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ، ولو أمعنا النظر في التراث المنقول عن تاريخ تلك الحقبة ، نجدها فترة ذات حساسية عالية مرّت بها جماعة المسلمين ، فقد حدث التنازع بين المهاجرين والأنصار فغلب المهاجرة وحدثت بيعة الفلتة ، ولم يرض بنو هاشم ـ ومنهم ابن عباس طبعاً ـ بتلك البيعة وامتنعوا ستة أشهر عن مبايعة الخليفة ، وقد مرّ حديث السقيفة بما جرّ من بعده لأحداث أسيفة وكسيفة ، فكانت جفوة ، وكانت نبوة ، وحدثت إجراءات صارمة من الفئة الحاكمة ضد الساخطين ، وفي الرجوع إلى الحلقة الأولى وقراءة ( فترة بين عهدين ) ما يغني عن الإعادة.

٦٢

موقف غريب ومريب!

كان من بعض تلك الإجراءات التعسفية منع تدوين الحديث ، وأوّل من منع منه أبو بكر نفسه ، وكان قد جمع خمسمائة حديث فبات قلقاً ـ فيما تصفه بنته عائشة ـ فأصبح فأحرقها ، وإليك خبرها في ذلك :

أخرج الذهبي في ( تذكرة الحفاظ ) فقال : ( وقد نقل الحاكم فقال : حدثني بكر بن محمّد الصدفي بمرو ... قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلب كثيراً ، قالت : فغمنّي ، فقلت : أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمّا أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد أئتمنته ووثقت ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد نقلت ذاك. قال الذهبي : فهذا لا يصح ، والله أعلم ) (١).

وروى الذهبي أيضاً : ( عن ابن أبي مليكة قال : ومن مراسيل ابن أبي مليكة أنّ الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال : إنّكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد إختلافاً ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه ) (٢).

____________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) نفس المصدر ١ / ٢.

٦٣

وهذا البيان الخليفي القاضي بسدّ باب الحديث ، والتأكيد على مقولة ( حسبنا كتاب الله ) التي سبق أن قالها عمر يوم حديث الكتف والدواة ، وقد مرّ ذكره مفصلاً في الحلقة الأولى ، فراجع.

فهذا البيان يرتبط سياسياً بإلغاء دور الحديث وأهله ، ولعلّه من باب سدّ الذرائع لئلا يحدّث الصحابة بما سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حق أهل بيته ، وهذا ما لا تريده سياسة الوقت ، ما دام عرش الخلافة بعدُ في مهبّ الريح ، فالمدينة تغلي مراجلها من المعارضة ، وخارج المدينة انتفاضة عارمة ، أعلنت في حينها باسم الردة ، وقد كانت ثمّة ردّة.

لذلك بادر ابن عباس وهو الألمعي إلى الذهاب نحو الأنصار في دورهم ليسألهم عما سمعوه ووعوه من الحديث النبوي الشريف قبل أن يُنسى أو يتناساه من يماليء السلطة.

فلنقرأ بعض النصوص في هذا الخصوص ، نستفيد منها الأسباب والدوافع التي حدت بابن عباس لأن يتتبع الحديث النبوي الشريف عند الصحابة والأنصار منهم خاصة ، وماذا كانت النتائج لذلك الجهد وتلك المخاطرة في مخالفة السلطة.

روى ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن عكرمة عن ابن عباس قال : لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلّم فلنسأل أصحاب رسول الله فإنّهم اليوم كثير.

قال : فقال واعجباً لك يابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك وفي

٦٤

الناس من أصحاب رسول الله من فيهم.

قال : فتركت ذلك ، وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل ( أي نائم وقت القيلولة ) فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح عليّ بالتراب ، فيخرج فيراني فيقول لي : يابن عم رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول : لا أنا أحق أن آتيك فأسأله عن الحديث ، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتّى رآني وقد أجتمع الناس حولي ليسألوني.

فيقول : هذا الفتى كان أعقل مني ) (١).

وهذا الأثر أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (٢) ، والحاكم في ( المستدرك ) في معرفة الصحابة وصححه على شرط البخاري ، وأقره الذهبي في ( التلخيص ) ، وذكره الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) (٣) ، والذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) (٤) والدارمي في مقدمة سننه (٥).

وأخرج ابن سعد في ( الطبقات ) عن ابن عباس يقول : ( كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار ، فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما نزل من القرآن في ذلك ، وكنت لا آتي أحداً

____________________

(١) الطبقات ٢ / ق ٢ / ١٢١.

(٢) المعجم الكبير ١٠ / ٢٤٤ / ١٠٥٩٢.

(٣) مجمع الزوائد ٨ / ٢٧٧ ( ١٥٥٢١ ). وقال : رجاله رجال الصحيح.

(٤) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٤٦.

(٥) سنن الدارمي ١ / ١٤١.

٦٥

منهم إلاّ سرّ بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (١).

ومن أظهر الشواهد على تلقّيه عن الأكابر من الصحابة ، وتأكيده على صحة سماعه منهم بقوله : ( سمعته مِن فِيه إلى أذني ) هو سماعه من أكبر الصحابة سنّاً ، وأعلاهم شأناً بعد أهل البيت حيث جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم واحداً من أهل البيت ، وذلك هو الصحابي الجليل سلمان المحمّدي رضي الله عنه ، فقد سمع منه حديث بدء إسلامه من فيه إلى أذنه ، وهو حديث لا يخلو من عظة للقارئ مع ما فيه من فائدة تاريخية مجهولة لدى الكثير من المسلمين ، سنقرؤه وحديثين آخرين رواهما ابن عباس عن سلمان رضي الله عنه لهما دلالتهما في الأدب النبوي الرفيع الذي تعلّمه سلمان رضي الله عنه فحدّث به ليتعلّمه المسلمون ، ولكن مع الأسف أنّى لهم ذلك وقد خدعتهم الدنيا بزخرفها وازيّنت لهم فأنستهم تلك التعاليم التربوية ، فكيف بمن أتى من بعد تطاول القرون.

وإلى القارئ ما أسنده ابن عباس عن سلمان رضي الله عنه :

حدّثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، ثنا عبد الملك بن هشام السدوسي ، ثنا زياد بن عبد الله البكائي ( ح ).

وحدثنا محمّد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا محمّد بن عبد الله بن نمير ، ثنا يونس بن بكير ( ح ).

____________________

(١) الطبقات ٢ / ق ٢ / ١٢٤.

٦٦

وحدثنا الحسن بن العباس الرازي ، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، كلّهم عن محمّد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن عبد الله بن عباس ، حدثني سلمان حديثه من فيه ، قال : كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها جَيّ وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحبّ خلق الله إليه ، فلم يزل بي حبّه إياي حتّى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتّى كنت قاطن النار أوقدها لا أتركها تخبو ساعة واحدة ، وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، فشُغل يوماً فقال لي : يا بني إنّي قد شغلت هذا اليوم من ضيعتي ، فاذهب إليها فطالعها فأمره فيها ببعض ما يريد ، ثمّ قال لي : لا تحتبس عليّ ، فإنّك إن احتبست عليّ كنت أهم عليّ من ضيعتي وشغلتني عن كلّ شيء من أمري ، فخرجت أريد ضيعته أسير إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها ، وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلمّا سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلمّا رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في دينهم ، وقلت : هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ، فما برحت من عندهم حتّى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي ، ثمّ قلت لهم : من أبصركم بهذا الدين؟ قالوا : رجل بالشام ، ثمّ رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وقد شغلته عن عمله ، أبي قال : بني أين كنت؟ ألم أعهد إليك ما عهدت؟ قلت : إنّي مررت بناس يصلون في كنيسة

٦٧

لهم ، فدخلت إليهم ، فما زلت عندهم وهم يصلون حتّى غربت الشمس ، قال : أي بني ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، ثمّ حبسني في بيته وبعثت إلى النصراني فقلت : إذا قدم إليكم ركب من الشام فأخبروني بهم ، فقدم عليهم ركب من الشام ، تجار من النصارى فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثمّ خرجت معهم حتّى قدمت الشام ، فلمّا قدمتها ، قلت : من أفضل أهل هذا الدين علماً ، قالوا : الأسقف في الكنيسة ، فجئته فقلت : إنّي قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : فادخل ، فدخلت معه ، وكان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا به إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ، فلم يعط إنساناً منها شيئاً ، حتّى جمع قلالاً من ذهب وورق ، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع ، ثمّ مات ، واجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إنّ هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئاً ، قالوا : وما علمك بذلك؟ قلت لهم : فأنا أدلكم على كنزه ، قالوا : فدلنا عليه ، فدللتهم عليه ، فاستخرجوا ذهباً وورقاً ، فلمّا رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبداً ، فصلبوه ثمّ رجموه بالحجارة ، وكان ثمّ رجل آخر فجعلوه مكانه ، قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أفضل منه أزهد في الدنيا ولا

٦٨

أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه ، فأحببته حبّاً لم أحبّه شيئاً قط ، فما زلت معه زماناً ، ثمّ حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إنّي قد كنت معك ، فأحببتك حبًّا لم أحبّه شيئاً قط ، وقد حضرتك ما ترى من أمر الله عزوجل ، فإلى من توصي بي وما تأمرني؟ قال : يا بني ما أعلم بقي أحد آمرك أن تأتيه إلاّ رجلاً بعمورية بأرض الروم على مثل ما نحن عليه ، فلمّا مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية ، فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتّى كانت عندي بقيرات وغنيمة ، ثمّ نزل به أمر الله عزوجل فلمّا حضر قلت له : يا فلان إنّي كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثمّ أوصى فلان إلى فلان ، ثمّ أوصاني فلان إليك ، فإلى مَن توصي بي وإلى من تأمرني؟ قال : والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن أظلّك زمان نبيّ هو مبعوث بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يخرج بأرض العرب إلى أرض. أظنه قال : ذات نخل ، به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بذلك البلد فافعل ، ثمّ مات وغيّب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، مرّ بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا : نعم ، فأعطيتهم وحملوني معهم حتّى إذا قدموا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، فرأيت النخل فرجوت البلد

٦٩

الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحق في نفسي ، فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من بني قريظة ، وابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فوالله ما هو إلاّ أن رأيتها عرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، فبعث الله عزوجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقام بمكة ما أقام ما أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثمّ هاجر إلى المدينة ، فو الله إنّي لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتّى وقف عليه ، فقال : قاتل الله بني قيلة ، والله إنّهم ليجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنّه نبيّ ، فلمّا سمعتها أخذني الفرح حتّى ظننت أني سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة وجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا يقول؟ فغضب سيدي ، فلطمني لطمة شديدة ، ثمّ قال : مالك ولهذا؟ أقبل على عملك ، قلت لا شيء إنّما أردت أن أستفتيه عما قال ، وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلمّا أمسيت أخذته ، ثمّ ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنّه قد بلغني أنّك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي صدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، وقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ( كلوا ) وأمسك هو فلم يأكل منه ، فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثمّ انصرفت عنه فجمعت شيئاً ، فتحول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ثمّ جئته به ، فقلت له : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا ، وقلت في

٧٠

نفسي : هاتان ثنتان ، ثمّ جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببقيع الغرقد قد اتبع جنازة رجل من الأنصار وهو جالس ، فسلمت عليه ، ثمّ استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلمّا رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استدرت عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تحوّل ) فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ، ثمّ شغل سلمان الرق حتّى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً وأحداً (١) ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( كاتب يا سلمان ) فكاتبت صاحبي على ثلاث مئة نخلة أحييها له وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ( أعينوا أخاكم ) فأعانوني في النخل ، الرجل بثلاثين ، والرجل بعشرين ، والرجل بخمس عشرة ، والرجل بعشر ، والرجل بقدر ما عنده حتّى أجتمعت لي ثلاث مئة نخلة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( اذهب يا سلمان فآذنّي حتّى أكون أنا أضعها بيدي ) ففقّرت لها وأعانني أصحابي حتّى إذا فرغت جئته ، فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معي إليها ، فجعلت أقرب له الوديّ ويضعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده حتّى فرغنا ، والذي نفس سلمان بيده ما مات منه ودية واحدة ، فأديت النخل وبقي عليّ المال ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي ،

____________________

(١) كذا في المخطوطتين والصواب بدر وأحد.

٧١

فقال : ( ما فعل الفارسي المكاتب؟ ) فدعيت له ، فقال : ( خذ هذه فأدّ بها ما عليك ) فقلت : وأين تقع هذه يا رسول الله ممّا عليّ؟ فقال : ( خذها فإنّ الله عزوجل سيؤدّيها عنك ) فوزنت له منها ، فو الذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية وأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق ثمّ لم يفته مشهد.

حدثنا محمّد بن السري بن مهران الناقد ، ثنا بشار بن موسى الخفاف ، ثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمّد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس : حدثني سلمان أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهدية فأكل هو وأصحابه ، وأتاه بصدقة فلم يأكل منها.

حدثنا محمّد بن عليّ الصائغ المكي ، ثنا محمّد بن بكار العيشي ، ثنا الحجاج بن فروخ الواسطي ، ثنا ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : قدم سلمان من غيبة له ، فتلقاه عمر رضي الله عنه فقال : أرضاك لله عبداً ، قال : فتزوج في كندة ، فلمّا كان الليلة التي يدخل على أهله إذ البيت منجّد وإذا فيه نسوة ، فقال : أتحولت الكعبة في كندة أم هي جمرة؟ أمرنا خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نتخذ من المتاع إلاّ أثاثا كأثاث المسافر ، ولا نتخذ من النساء إلاّ ما ننكح ، فخرج النسوة ودخل على أهله ، فقال : يا هذه أتعصيني أم تطيعيني؟ قالت : بل أطيعك فيما شئت ، قال : إنّ خليلي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا إذا دخل أحدنا بأهله أن يقوم فيصلي ، ويأمرها أن تصلي خلفه ويدعو وتؤمن ففعل وفعلت ، فلمّا جلس في مجلس كندة قال له رجل من القوم : كيف

٧٢

أصبحت يا أبا عبد الله؟ كيف رأيت أهلك الليلة؟ فسكت فعاد الثانية ، فقال له : وما بال أحدكم يسأل عما وارته الحيطان والأبواب ، إنّما يكفي أحدكم أن يسأل عن الشيء أجيب أم سكت عنه.

وبأزاء هذا الحديث الذي رواه ابن عباس عن سلمان : فقال : ( حدثني من فيه ) ، وجدت حديثاً آخر قال فيه أيضاً : ( حدثني أبو سفيان ابن حرب من فيه إلى أذني ) ، ولم أقف على ذكر مثل ذلك منه عن غير هذين الرجلين ، وهنا تثب علامة إستفهام واضحة : هل كان ابن عباس ـ وهو اللوذعي الألمعي ـ هادفاً في ذكر كيفية السماع من هذين الرجلين؟ وهل كان هادفاً في اختياره لهما فمن أعلى الصحابة سنّاً وشأنا حتّى عدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البيت ، إلى أخسّهم ضعة في إسلامه حتّى روت المصادر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعنه وابنيه معه فقال : ( لعن الراكب والقائد والسائق ) (١)؟

ربّما كان الجواب الصحيح هو نعم ، يرينا كيف الإسلام الصحيح

____________________

(١) تاريخ الطبري١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ في كتاب المعتضد العباسي ، وفي شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٨٩ ، وجمهور خطب العرب ٢ / ٢٢ في محاورة الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقد لعنه الرسول في سبعة مواطن.

وقد أخرج الطبراني في معجمه الكبير ١٧ / ١٦٢ ط الموصل بسنده عن عاصم الليثي أبو نصر قال : دخلت مسجد المدينة فإذا الناس يقولون : نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ، قال قلت : ماذا؟ قالوا : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب على منبره فقام رجل فأخذ بيد ابنه فأخرجه من المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لعن الله القائد والمقود ، ويل لهذه الأمة من فلان ذي الاسناه ) وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رجاله ثقات.

٧٣

يرفع الإنسان مكانته حتّى جعله من أهل البيت ، وكيف يضع المنافق فينحط إلى أسفل السافلين فتلحقه اللعنة إلى يوم الدين.

ولست متجنياً على أحد ، ولا مفتاتاً على ابن عباس حين أراه يختار من حديثي الرجلين ما يتعلق ببداية إسلام الأوّل ، وكيف هداه الله تعالى ، ومن حديث الثاني ما يتعلق بإصراره على البقاء كافراً مع روايته لحديث هرقل معه وهو ما يستدعي مبادرته إلى قبول الدين الحق ، ولكنه أخلد إلى كفره وأصرّ على عناده ، مع أنّ الدواعي إلى قبوله الإسلام أكثر ممّا كانت لدى الأوّل ، للروابط النسبية والسببية.

والآن لنقرأ ما رواه ابن عباس عن أبي سفيان وقد حدثه من فيه إلى أذنه :

حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : حدثني أبو سفيان بن حرب ـ من فيه إلى أذني ـ قال : انطلقت في المدّة التي كانت بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل ، قال : وكان دحية الكلبي جاء به ، فدفعه إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل ، فقال هرقل : ههنا رجل من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ قالوا : نعم ، قال : فدعيت في نفر من قريش ، فدخلنا على هرقل ، فأجلسنا بين يديه ، فقال : أيّكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ قال أبو سفيان : قلت : أنا ، فأجلسوني بين يديه ، وأجلسوا أصحابي خلفي ، ثمّ دعا بترجمانه ، فقال : قل لهم إنّي

٧٤

سائل عن هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ ، فإن كذبني فكذّبوه ، فقال أبو سفيان : وأيم الله لولا أن يؤثر عليّ الكذب لكذبت ، ثمّ قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو حسب ، قال : فهل كان من آبائه ملك؟ قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت : لا ، قال : من يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم فقال : أيزيدون أم ينقصون؟ فقلت : لا بل يزيدون ، قال : فهل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطاً له؟ قلت : لا ، قال : فهل قاتلتموه؟ قلت : نعم ، قال : فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت : يكون الحرب بيننا وبينه سجالاً ، يصيب منا ونصيب منه ، قال : فهل يغدر؟ قلت : لا ونحن منه في هدنة لا ندري ما هو صانع فيها ، قال : فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه ، قال : فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت : لا ، قال لترجمانه : قل له إنّي سألتك : عن حسبه ، فزعمت أنّه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرُسل تبعث في أحساب قومها ، وسألتك : هل كان من آبائه ملك فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك آبائه ، سألتك : عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم ، فقلت : بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، وسألتك : هل أنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثمّ يذهب فيكذب على الله ، وسألتك : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطاً له؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا

٧٥

خالط حشاشة القلوب ، وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنّهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتّى يتم ، وسألتك : هل قاتلتموه؟ فزعمت أنّكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ثمّ تكون لها العاقبة ، وسألتك : هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر ، وسألتك : هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا ، فقلت : لو كان قال هذا القول أحد قبله؟ قلت : رجل أئتم بقول قيل قبله ، ثمّ قال : فما يأمركم؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف ، قال : فإن يك ما تقول فيه حقاً أنّه نبيّ ، وقد كنت أعلم أنّه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو كنت أعلم أنّي أخلص لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فإذا فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن تركت فإنّ عليك إثم الأريسيين و ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) إلى قوله ( بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (١) فلمّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط ، وأمر بنا فأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنّه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

____________________

(١) آل عمران / ٦٤.

٧٦

أنّه سيظهر حتّى أدخل الله عليّ الإسلام.

قال الزهري فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار لهم فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد؟ وأن يثبت لكم ملككم؟ قال : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فدعا بهم : إنّي إنّما اختبرت شدتكم على دينكم ، فقد رأيت منكم الذي أحببت ، فسجدوا له ورضوا عنه (١).

____________________

(١) تعليق فيه تدقيق :

أبو سفيان وهرقل

١ ـ هذا النص لم يروه أحد إلا ابن عباس ، ذلك أن أبا سفيان لم يقصه لأي أحد غير ابن عباس كما يزعم ابن عباس في النص رقم ( ٤٢٧٨ ) حيث يقول : ( حدثني أبو سفيان من فيه إلى في ... ) وأتساءل مرتاباً : لم سكت أبو سفيان عن رواية هذه الحادثة قبل أن يسلم؟! ولم يروها إلا بعد إسلامه بزمن غير قصير! بل وبعد وفاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وأيضاً أتساءل مرتاباً : لم يقص على ابن عباس هذه الحادثة سراً وليس أمام الناس؟! وأيضاً أتساءل منقباً : أين بقية الركب الذي دخلوا مع أبي سفيان على هرقل ، والذين وقفوا خلف أبي سفيان ليراقبوا ما يقوله ، ويكذبوه إن كذب بناء على طلب هرقل ( فقال ـ أي هرقل ـ : أدنوه مني ـ أي أبو سفيان ـ وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ... فإن كذبني فكذبوه ). ـ ويبدو أن أبا سفيان لا يستصعب الكذب عموماً ـ هؤلاء الذين تراوح عددهم بين العشرين والثلاثين نفراً ، كما تختلف الروايات في ذلك ، فلم لم يرو أحد من هؤلاء هذه الحادثة بعد عودتهم غانمين من تجارتهم! لا قبل إسلامهم ولا بعد إسلامهم! فهذه ليست بالحادثة التي تخفى! ذلك أنه من المفترض أن من بقي منهم على قيد الحياة قد أسلموا بعد الفتح كأبي سفيان ، وإن كنا لا نعرف أحداً بيقين من ذلك الركب وهذه مهزلة أخرى!

إن أباسفيان في خلوته مع ابن عباس يستطيع أن يسامره بمثل هذه الحكايات ، يرويها كما تهوى نفسه وتشتهي إذ ليس عليه الآن رقيب يحاسبه أو يكذبه إن كذب ، لا كما كان الحال في مجلس هرقل ، ومن الراجح أن هذه الخلوة قد تمت في زمن لاحق ، وربما في

٧٧

____________________

شيخوخة أبي سفيان ، وربما أن جميع من كانوا معه في مجلس هرقل قد ماتوا ، فأمن التكذيب!

٢ ـ أبو سفيان يقرر سلفاً أنه كان يريد أن يكذب في حديثه عن محمد كما قال :

( فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه ). كما أنه تحيّن فرصة خلال حديثه مع هرقل ليغمز في محمد ، وأعترف أنه فعل ذلك حيث قال : ( ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ).

إذاً مع كل حرص وإصرار أبي سفيان على الطعن والغمز والانتقاص ـ كذباً ـ لمحمد للتقليل من شأنه وشأن دينه ودعوته ، إلا أنه حينما سئل : ( بماذا يأمركم ) راح يعدد كل ما يعد عند الناس فضيلة ومحمدة ومكرمة ، قال أبو سفيان : ( فقلت : يقول : أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباءكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ) ، ويضيف في النص ٢٧٨٢ : ( والصدقة والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ) ، فهل خان أبا سفيان ذكاؤه هنا ، وكان يستطيع أن يجيب بأكثر من طريقة ـ إلا هذه الطريقة ـ تنسجم مع شخصه ورؤيته ونواياه!

أمّا ما عدده ، فهو كلام رجل مسلم مؤمن يعتقد برسالة محمد ، ويؤمن بنبوته ودعوته ، ويريد بقولته تلك أن يعلي شأن من يتحدث عنه. فأبو سفيان لم يقل ذلك الكلام في حضرة هرقل ، إنّما قاله في خلوته مع ابن عباس لغاية في نفسه يعلمها الذي يعرف شخصية أبا سفيان وتاريخه.

٣ ـ يسأله هرقل عن الذين اتبعوا محمداً وأمنوا به ، هل هم من الأشراف أم من الضعفاء؟ فيجيبه أبو سفيان أنهم من الضعفاء. فإذا كان الأشراف هم علية القوم وسادتهم وكبراؤهم ، فإن الضعفاء تعني المقابل لهؤلاء ، وهم الفقراء والعامة من القوم الذين لا حول لهم ولا طول ولا جاه يعتد به. فإذا كانت هذه الحادثة قد حدثت بعد صلح الحدييبية ، أي حتماً بعد السنة السادسة للهجرة ، وحتى ذلك الزمن كان قد دخل في الإسلام الكثير من الأشراف والأغنياء والأقوياء والسادة من المكيين واليثربيين ، فهل كان أبو بكر وعمر وعثمان وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وغيرهم كثير من الأراذل والضعفاء أم من علية القوم والسادة ، وهل كان عمر وحمزة وغيرهما من الضعفاء أم أنهما تهددا من مكة في عقر دارها قبل الهجرة بزمن وحين كان محمد والمسلمون في المراحل الأولى بعد؟! فهذا الواقع يكذب أبا سفيان ، فيما يرد على هرقل كلامه في أتباع الأنبياء

٧٨

____________________

والرسل. كما أن المسلمين حين حدثت الحادثة كانوا قد حققوا عدداً من الانتصارات ، وصاروا أقوياء تحسب مكة ورجالاتها لهم الحسابات!!

٤ ـ ومع كل ما رأى وما سمع أبو سفيان من هرقل قيصر الروم وعظيمها ، وحامي دينها ، من مدح وإطراء وتعظيم للرسول ، ومن إقرار واضح منه بأنه رسول الله حقاً ، وكيف تمنى لو استطاع الوصول إليه وغسل قدميه ، وكل هذا على مسمع الركب ومسمع حاشية هرقل أيضاً ، مع كل ذلك لم يسلم أبا سفيان ولم ينثنِ إلا مكرهاً كارهاً كما أقر هو وأعترف في النص ( ٢٨٧٢ ) : ( حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره ) ، وبما أن أبا سفيان رجل سياسة وتجارة ، وربما أن السياسة والتجارة ـ عموماً ـ لا دين لها ولا موقف ، فصاحبهما ـ وفي كل ساعة إن لزم الأمر ـ يميل مع مصلحته حيث يجدها ، فقد رأى أبو سفيان أن يسلم ـ رغم كرهه وعدم قناعته ـ ليبحث من جديد عن مصالحه من خلال الإسلام. وقد استطاع الحصول عليها ومنذ اللحظة الأولى ، السيادة : ( من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ) قول للرسول عند فتح مكة ، ثم الخلافة الأموية في أسرته. والمال : فقد أعطاه الرسول هو وابنه معاوية الكثير من المال ـ سيبحث في نصوص لاحقة ـ إذاً ، إسلام أبي سفيان إسلام انتهازي ، فهو لم يخسر شيئاً في إسلامه ، بل بقي سيداً ورابحاً!

٥ ـ لا شك أن العلم اليوم يرفض وينكر التنجيم الكهاني ، وبالتالي يرفض كل ما يأتي به ويبتني عليه. وعلى ذلك فإذا كان هرقل ممن يبحثون في النجوم وينجمون ، فلا قيمة علمية لكل ما جاء به هرقل في استطلاعاته النجومية ، ونحن لسنا واثقين إن كان هرقل يمارس ذلك العمل فعلاً ، أو كان فقط يؤمن به ، وأيضاً لسنا متيقنين من حدوث تلك النبوءة الهرقلية. ومن ثم ألم ير هرقل في نجومه إلا مملكة الختان؟!! ألم ير مملكة التوحيد؟!! وهل الإسلام صار دين الختان! ورسوله رسول الاختتان؟!

وعلى الرغم من إبطال الإسلام للكهانة والتنجيم وتكذيبهم ولو صدقوا كما يقرر صاحب فتح الباري جزء (١) صفحة ( ٥٤ ) : ( فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم ، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعا ذائعاً ، إلى أن أظهر الله الإسلام ، فانكسرت شوكتهم ، وأنكر الشرع الإعتماد عليهم ) ، وينقل عن القرطبي أيضاً في جزء (١) صفحة ( ١٥١ ) :

( وأمّا ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا ما كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم ). إلا أن صاحب الفتح العالم الجليل ابن حجر ، يعود ليتخذ من كهانة هرقل التنجيمية دليلاً على نبوة محمد وصدق دعوته فيقول بطريقة تلفيقية : ( وكان ما أطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج

٧٩

وهكذا تبقى الشواهد تتلو الشواهد على أنّ ابن عباس لم يكن يخلط الزين بالشين ولا ممّن يجمع الغث مع السمين في حديثه ، فهو كما كان

____________________

العقرب ، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرّة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة ، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور ، وعند تمام العشرين الثانية ابتداء مجيء جبريل بالوحي ، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرّت فتح مكة وظهور الإسلام ، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى ).

وعلى ذلك يصدق علماء الإسلام والتنجيم ـ رغم عدم صدقه وواجب تكذيبه ـ طالما أنه يخدم ـ في ظنهم ـ قضيتهم!

٦ ـ جاء في النص ( ٢٧٨٢ ) على لسان هرقل قوله : ( ... التمسوا لي ها هنا أحداً من قومه ـ أي محمد ـ لأسألهم عن رسول الله عليه‌السلام ).

فهل كان هرقل سيد العالم المسيحي ، وقيصر بيزنطة يعتقد أن محمداً رسول الله ونبي من عنده؟! والصواب أن هذا الكلام جعله راوي النص أو رواته على لسان هرقل الذي لا يعقل أبداً أن يقوله. كما فعل سهيل بن عمرو موفد أهل مكة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي عقد معه صلح الحديبية الشهير ، حيث رفض أن يكتب في وثيقة الصلح : محمد رسول الله ، وقال له : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك الخ .. فكيف بهرقل ينطق بتلك الكلمة! وفي ذات النص دليل على ذلك ، فمرة يقول هرقل : ( إني سائل هذا الرجل ). فهرقل إذا لا يعتقد أبداً أنه رسول الله ، بل هو رجل يزعم أنه نبي ، وتلك الألفاظ من زيادات الرواة المسلمين.

وقد يزعم البعض أن هرقل كان قد آمن سراً ، فإذا كان كذلك فلم ظل يقاتل ويجيش الجيوش ضد محمد ومن تلاه من الخلفاء في معارك كثيرة وكبيرة ، من تبوك إلى مؤتة إلى اليرموك فدمشق فأجنادين الخ ... حتى أجلوه عن بلاد الشام؟!!

والحقيقة أننا يجب أن نرتاب في هذا النص ، كما نشك في صدق إسلام أبي سفيان وهو الذي قال لعثمان حين بويع بالخلافة تلقفوها يابني أمية تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب ما من جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة. الحلقة الأولى ج٢ / ١٥٠.

ملاحظة : ليعذرني القارئ لكوني لم أسجل النصوص المدروسة ، وذلك لطولها فليراجعها في مكانها.

٨٠