موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-94-2
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥١٠

إذن ليس من السهل غربلة المتناقضات في شتات أخباره ، وليس من الهيّن الليّن غضّ النظر عنها ، فإستخلاص تاريخه سليماً من تلك الشوائب الكثيرة يحتاج إلى بالغ جهد مكين ، وباحث قمين أمين ، وحيث مرّ حديثنا عنه في الحلقة الأولى متكفلاً سيرة وتاريخ ، فذلك يغني في معرفة تاريخه عبر سنيّ حياته ، بدءاً من ولادته إلى يوم وفاته رضي الله عنه.

أمّا الآن فنحن على أبواب الحلقة الثانية ، وتتكفل بالحديث عنه من جانب آخر أوسع فصولاً وشمولاً ممّا مرّت الإشارة إليه ، وهو تاريخه العلمي ( تتضمن دراسة وعطاء ، بدءاً من ينابيع العلم والمعرفة الأولى ، وانتهاءً بمظاهر العطاء من مدارسه وتلاميذه ، ونماذج من خطبه ومحاوراته وكتبه ومسائله ، والمأثور عنه من حكم وكلمات قصار ) (١).

ومن الطبيعي سنلاقي الكثير من الروايات المتناقضة في هذه المواضيع المبحوث عنها ، فلابدّ من أخذ الحيطة ، والحذر من الأخذ بكلّ ما روي منها ، والإعتماد عليها ، ومع ملاحظة السند والمتن والدلالة سنلقي كمّاً غير قليل في سلّة المهملات ، لأنّه ممّا يرتفع مع المناقبيين إلى قمة الغلوّ الفاحش ، كما نلقي أيضاً كمّاً نحو ما سبق معه ، لأنّ الأخذ بما فيه ، إسفاف مع المعادين ووقوع في هوّة الإحن والأضغان.

فالرجل كما قرأناه في سيرته وتاريخ حياته كان مستهدَفاً للخصوم ،

____________________

(١) موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى / ج١ ( ماذا نقرأ في هذا الكتاب؟ ).

٢١

وإن لم يعدم من أنصار انتهلوا من نمير علومه فأرواهم ، فقالوا فيه مِدحاً لاتستوي في غلوّها فتصير جرحاً ، كما لم يسلم من فئات تبنّوه لجئاً في تسديد مقالاتهم ونصرة مذاهبهم ، شأنه في ذلك شأن العظماء ، فكلّما كان المرء كبيراً ، حمّلوا تاريخه كثيراً.

فبعظم قدر المرء يعظم خصمه

وينال شهرته يعدّ خصيماً

فالهرّ إذ تعلق مخالب ظفره

قبّ الأسود فكان ذا تعظيماً

ولنشرع بعون الله تعالى في قراءة أبواب هذه الحلقة ، لنقرأ في فصولها مراحل دراساته ، ونتاج ثمراته ، في سنيّ حياته ، ولا شك أنّه كان أشرفها زماناً أيام تشرفه بخدمة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمّه عليه السلام ، الذي أولاه بعنايته ، وشرّفه ببركة دعائه له ، فكانت فترة تلك الصحبة على قلّة أيامها ، موفورة بعطائها ، سعُد فيها حظُّه ، وعلا بها جدُّه ، فكان موفور الحظ مليئ العياب.

٢٢

الباب الأوّل

وفيـه فصـلان

٢٣

٢٤

الفصل الأوّل

في بدء تعلّمه على يد معلّمه الأوّل وهو مدينة العلم ذلك هو رسول الله النبيّ الكريم محمّد بن عبد الله عليه‌السلام

٢٥

٢٦

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم أوّل ينبوع ثرّ من ينابيع الحكمة نهل منه ابن عباس العلم ، وأصفى مورد من موارد المعرفة ، ورده حبر الأمة ، فاستقى منه جليل معارفه ، وتلقى من فَلَق فيه ، المحكم من كتاب الله تعالى ، وما كان تلقيه مجرد حفظ سور وآيات عن ظهر قلب ، بل كان يتلقى التأويل مع التنزيل ، فحفظ المحكم وهو ابن عشر سنين كما كان يتحدث عن ذلك باعتزاز بالغ (١) كما سمع الحديث الشريف من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فحفظ منه ما وسعه حفظه ، ورأى كثيراً من أفعاله وتقريره ما أكمل عنده ركائز السنة النبوية قولاً وعملاً وتقريراً ، وقد مرّت شواهد على ذلك ، ونظراً لقصر الفترة زماناً وكثرة المروي عن ابن عباس ممّا لا يتناسب في سماعه كلّ ذلك في فترة لم تبلغ ثلاث سنين ، وقد حدّدها الذهبي فقال : ( صحب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نحواً من ثلاثين شهراً ، وحدث عنه بجملة صالحة ) (٢) ، ولمّا كان الحديث عن تلك الفترة قد مرّ في الجزء الأوّل من الحلقة الأولى (٣) ، سوى ما ورد من الوقوف عند الأحداث الثلاثة التي تميّزت عن غيرها ممّا رآه وسمعه ابن عباس ، وهي : حجة الوداع ، وبيعة الغدير ، وحديث الكتف والدواة ، وسمّيته

____________________

(١) موسوعة فقه عبد الله بن عباس / ٨ ـ ٩.

(٢) موسوعة فقه عبد الله بن عباس / ٨ ـ ٩ نقلاً عن تهذيب التهذيب ٥ / ٢٧٩.

(٣) موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى ١ / ١٨١ ـ ٢٠١ ، ٢٠٩ ـ ٢٢٠.

٢٧

بحديث الرزية ، وقد استغرق الحديث عن هذه الثلاثة بقية الجزء الأوّل كلّه تقريباً فلا حاجة إلى إعادته ، وقد عرفنا أسباب دواعي تميزّه عن غيره من الصحابة حتّى الذين تشدّهم مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قربى نسب أو مصاهرة ، فكان من أهم أسباب نبوغه المبكّر هو مباركة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له بالدعاء بالحكمة والفقه والعلم بالتأويل ، وكان ذلك مدعاة فخر كبيرة ، ولكن كلّ ذلك لم يقنع المشكك في صحة رواية ذلك الكمّ الكثير من الروايات المنسوبة إلى ابن عباس ، فلابدّ لنا من وقفة تحقيق ، نستنير بمعالمه سواء الطريق.

ابن عباس في مهبِّ العاصفة

إنّ الحديث عن مرويات ابن عباس كمّاً وكيفاً حقّه أن يكون في الحلقة الرابعة حيث خصصتها لما قيل فيه وعنه ، ولذا سميتها ( ابن عباس في الميزان ) غير أنّ المقام يستدعي بيان بعض الشيء ولو بنحو الإيجاز ، لتسليط الضوء على ذلك الكمّ الكثير من الروايات الذي قالوا أنّه بلغ عددها ( ١٦٦٠ ) وعن مدى صحته أو عدم صحته ، ما دمنا في مقام الحديث عن بدء تعلّمه على يد معلّمه الأوّل وهو النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، فأقول :

لقد أسرف القول غير واحد من الباحثين قديماً وحديثاً في تقويم المروي عن ابن عباس ، حتّى قالوا : ( روى غندر أنّ ابن عباس لم يسمع من النبيّ إلاّ تسعة أحاديث ، بينما يرى يحيى القطان أنّ ابن عباس لم يسمع من الرسول سوى عشرة أحاديث ، وقد أسرف الغزالي جداً حين قال

٢٨

في المستصفى : انّ ابن عباس لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أربعة أحاديث ).

ـ قال د ـ محمّد روّاس قلعه جي بعد نقله ما تقدم ـ : ( ونحن نقول كما قال ابن حجر : هذا كلام فيه نظر ، ففي الصحيحين ممّا صرّح ابن عباس فيه بالسماع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرة أحاديث ، وفيهما ممّا يشهد فعله نحو ذلك ، وفيهما ممّا له حكم الصريح نحو ذلك ، فضلاً عما ليس في الصحيحين ).

وستأتي منا مناقشة من أسرف في القول كالغزالي ، ولكن قبلها إلى قراءة سريعة في نماذج من سماعات الصحابة للحديث النبوي الشريف كمّاً وكيفاً ، وكانوا يكبرونه سنّاً ولكنهم قصرت بهم خطاهم عن أن يبلغوا شأوه ، وصار هو على صغر سنه يقرئ بعضهم.

نماذج من سماع الصحابة للحديث النبوي الشريف كمّا وكيفاً

١ ـ قال عمر : ( كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ـ وهي من عوالي المدينة ـ وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل يوماً ، وأنزل يوماً ، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك ) (١).

____________________

(١) صحيح البخاري ١ / ٢٥ كتاب العلم باب التناوب في العلم ، فتح الباري ١ / ١٩٥.

٢٩

٢ ـ قال البراء بن عازب الأوسي : ( ما كلّ الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يحدثنا أصحابنا وكنا منشغلين في رعاية الإبل ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيسمعونه من أقرانهم وممّن هو أحفظ منهم ، وكانوا يشددون على من يسمعون منه ) (١).

وفي رواية أخرى عنه : ( ليس كلّنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له ضيعة واشتغال ، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب ) (٢).

٣ ـ عن قتادة : ( أنّ أنساً حدّث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له رجل : سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فغضب غضباً شديداً وقال : ليس كلّما نحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعناه ( منه ) ولكن كان يحدّث بعضنا بعضاً ، ولا يتهم بعضنا بعضاً ) (٣).

٤ ـ قيل لحذيفة ـ ابن اليمان ـ : نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال : ( خصّني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشرّ مخافة أن أقع فيه ، وعلمت أنّ الخير لا يسبقني علمه ) (٤).

____________________

(١) معرفة علوم الحديث / ١٤.

(٢) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي / ٣٢ ـ ٣٣ ، ونحوه في قبول الأخبار للكعبي ١ / ٣٩.

(٣) قبول الأخبار للكعبي / ٤٠ ط دار الكتب العلمية بيروت.

(٤) إحياء علوم الدين للغزالي ١ / ٧٧ ط مصر.

٣٠

وكان حذيفة رضي الله عنه قد خُصّ بعلم المنافقين ، و ] استفرد [ بمعرفته علم النفاق وأسبابه ودقائق الفتن ، فكان عمر وعثمان وكبار الصحابة ( رضي الله عنهم ) يسألونه عن الفتن العامّة والخاصة ، وكان يُسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ولا يخبر بأسمائهم (١).

إلى غير ذلك ممّا دلّ على أن ليس كلّ ما رواه الصحابة كان سماعاً من فَلَق فيه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع ذلك لم يذكر عن زوامل الأسفار من أشكل على تلك الحال. بل رأينا الكثير ممّن شغف حبّاً ببعض الصحابة ، يكيل المدح جزافاً لهم ، ويدافع مستميتاً عن أولئك البعض أمثال أبي هريرة الذي منح وسام ( راوية الإسلام ) ، وقد صدر بهذا الإسم كتاب لمحمد العجاج الخطيب الشامي يدافع فيه عنه ولكنه كان دفعاً بالصدر ، وهو مليء بالمغالطات ـ وحبّ الشيء يعمي ويصمّ ـ تحامل فيه على من تناول أبا هريرة بالتجريح ، ولو كنّا بصدد الردّ عليه لحاسبناه حساباً عسيراً ، ولكن نذكّره والقارئ إلى ما جاء في صحيح البخاري من اعتراف أبي هريرة بإتهام الصحابة له حيث يقول : ( إنّكم تزعمون أنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ... ) ، وفي رواية أخرى : ( يقولون أنّ أبا هريرة قد أكثر ... ) (٢).

وإذا أردنا محاسبته بعملية حسابية بسيطة نجد اللوم عليه لا على من

____________________

(١) إحياء علوم الدين للغزالي ١ / ٧٨ ط مصر.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٣١ كتاب العلم باب كتابة العلم.

٣١

اتهمه ، فهو قد أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في سنة سبع بعد فتح خيبر ، وزعم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم جعله عريف أهل الصُفّة ، وقد أرسله مؤذناً مع العلاء الحضرمي إلى البحرين وكان ذلك في السنة الثامنة ، ولم يعد إلى المدينة إلاّ بعد أن استقدمه عمر في خلافته للشهادة على قدامة بن مظعون لشربه الخمر ، ومرّة أخرى سنة قاسم فيها العمال ، فقال له عمر : ( استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه ) (١) ، وفي طبقات ابن سعد عنه : ( أنّه قال لعمر : خيل لي تناتجت وسهام لي اجتمعت ، فأخذ مني إثنا عشر ألفاً ) (٢). فكانت مدّة صحبته للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم سنة وعدّة أشهر؛ ومع قصر تلك المدّة فقد أخرج له أحمد في مسنده ( ٣٨٤٨ ) حديثاً ، وروى له بقي بن مخلد في مسنده ( ٥٣٧٤ ) ، بينما بقية الصحابة مَن هم أشدّ لصوقاً بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقدم سلماً ، وأكثر حضوراً معه وعنده في السفر والحضر ، لم يبلغ واحد منهم مبلغ أبي هريرة في روايته! ومهما قيل في تبرير ذلك من أقوال فهي غير مقبولة ، وأعذار واهية ، ولو نظرنا إلى المكثرين من الصحابة لا نجد من يوازيه ، فهو على أميّته ـ إذ لم يكن يعرف الكتابة ـ فاقهم بطوفان وعاء واحد ، ورحم الله أمة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من الوعائين الذين سترهما ، وما أوسع كيس أبي هريرة!!

ولا نريد أن نتجنى عليه ولا على غيره من الصحابة ، ولكن من حقنا

____________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١١١ ـ ١١٣.

(٢) طبقات ابن سعد ٤ / ٥٩ ـ ٦٠.

٣٢

أن نسأل أعلام المحدّثين والكتاب المحدَثين ما الذي حملهم على مناقشة كثرة المروي عن ابن عباس وأخرسهم وأصمّهم وأعماهم عن كثرة المروي عن أبي هريرة؟! إنّها الإزدواجية في المعايير! وحبّذا لو أنصفوا أنفسهم قبل أن ينصفوا الآخرين ، لسلكوا طريقاً وسطا ، ولم يذهبوا في عواهن القول شططا ، فعاد أمرهم فرطا ، أبو هريرة راوية الإسلام يروي لهم ـ أو هم ـ يروون له أكثر من سبعة أضعاف ما رووه عن عبد الله بن عمرو ابن العاص ، الذي كان يقول أبو هريرة عنه : ( ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنّه كان يكتب ولا أكتب ) (١).

والآن إلى كشف الحساب عن مرويات المكثرين من الصحاب

لو أردنا مقارنة ما روي عن ابن عباس مع ما روي عن الصحابة ، فعلينا أن نجعله مع المكثرين منهم ، وهم لا يتجاوزون العشرة ، وأحاديث بعضهم تفوق جميع ما رواه العشرة ( المبشرة؟ ) بل وحتّى جميع أمهات المؤمنين غير عائشة فإنّها من المكثرين أيضاً ، وللقارئ سأذكرهم واحداً بعد الآخر حسب أرقام مروياتهم ، فمن الأكثر إلى الأقل مع تعريف بسيط بكلّ واحد منهم نتعرف من خلاله على مقدار معاشرته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومدى إلتصاقه به ، لنتهضّم ما ذكره المحدّثون عنهم من أرقام عالية.

____________________

(١) البخاري ، كتاب العلم باب كتابة العلم ١ / ٣٠ ط بولاق.

٣٣

ومن الطبيعي أن يكون أبو هريرة في أعلا السلّم من حيث الرقم في الكمّ ، لولا أنّه أنزل نفسه ـ ولعلّه تواضعاً أو جائعاً مازحاً فقد كان هو كذلك ـ فأخلى المقام لعبد الله بن عمرو بن العاص ، ونحن مجاراة له كانت مسيرتنا مع الصحابة المكثرين ، فجعلناه أوّلهم.

١ ـ عبد الله بن عمرو بن العاص

أسلم وهاجر هو وأبوه قبل الفتح بستة أشهر ، قال محمّد محمّد أبو زهو في كتابه الحديث والمحدثون : ( كان أكثر الناس أخذاً للحديث والعلم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، روى البخاري في كتاب العلم أنّ أبا هريرة قال : ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنّه كان يكتب ولا أكتب. وجاء عنه أنّه كان يكتب كلّ ما يسمعه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنهته الصحابة (؟) عن ذلك ، وقالوا : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم في الغضب والرضا فلا تكتب كلّ ما تسمع ، فسأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال له : ( أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منهما إلاّ حق ـ يعني شفتيه الكريمتين ـ. ).

وروى ابن سعد عن مجاهد قال : رأيت عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة فسألت عنها فقال : هذه الصادقة ، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد ... ) (١).

____________________

(١) الحديث والمحدثون / ١٤٢ ط١ مصر ١٣٧٨ هـ شركة مساهمة مصرية.

٣٤

ومع هذا فلقد حاز قصب السبق أبو هريرة ، ولولا أنّه القائل : ( ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنّه كان يكتب ولا أكتب ) (١) لما ذكرت عبد الله بن عمرو أوّلاً. وهذا لم يذكر من الحديث عنه سوى سبعمائة ( ٧٠٠ ) حديث ، اتفق الشيخان منها على سبعة عشر ( ١٧ ) وانفرد البخاري بثمانية (٨) ومسلم بعشرين ( ٢٠ ) ، وهذا الرقم يهبط بصاحبه إلى أدنى مستوى المكثرين ، فما بال أبي هريرة يقول : ( ما كان أحد أكثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني إلاّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنّه كان يكتب ولا أكتب )؟! ولا شك أنّ من كان يكتب يكون أكثر ضبطاً ممّن لا يكتب. ثمّ يروي الحديث هذرمة ، فيروى عنه من الحديث ما يزيد على سبعة أضعاف ما رواه مَن كان يكتب ، ومهما يكن فلولا أنّ البخاري ذكر في صحيحه في كتاب العلم ذلك عن أبي هريرة ، لما كدنا نصدّق ذلك ، ولكن أنّى لنا الإنكار أو التشكيك في ذلك ، وكتابه أصح كتاب بعد كتاب الله عند زوامل الأسفار؟! وما قيل في توجيه ذلك إنّما هو تزويق وتلفيق وتبريرات خاطئة.

٢ ـ أبو هريرة

مات سنة ٥٧ هـ على المعتمد عن ٧٧٨ عاماً ، عاش منها بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ٤٧ عاماً ، فحدّث فيها كثيراً من وعاء واحد حتّى قال : ( إنّ الناس يقولون

____________________

(١) البخاري ، كتاب العلم باب كتابة العلم ١ / ٣٠ ط بولاق.

٣٥

أكثر أبو هريرة ... ) (١) ، ولا غرابة في إتهام الناس له لأنّ صحبته للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم تطل ، فهو قد أتى المدينة ليالي فتح خيبر عام سبع من الهجرة ، وخرج من الحجاز في شهر ذي القعدة عام ٨ هـ مع العلاء الحضرمي ، ولم يعد إلاّ بعد عام ٢٠ هـ حين دعاه عمر للشهادة على قدامة بن مظعون ، فمتى طالت صحبته لتستوفي فيها كلّ ما رواه ممّا بلغ ( ٥٣٧٤ ) في مسند بقي بن مخلّد ، أو ( ٣٨٤٨ ) كما في مسند أحمد!

إنّها طامّة ما فوقها طامّة ، إنسان لا يحظى بشرف الصحبة إلاّ بعام ودون العام ، يفوق أكابر الصحابة ممّن هم أقدم سلماً وأكثر لصوقاً ، وأشد وثوقاً ، كيف لا يتهمه الناس؟ وكيف لا يتطرق الريب إلى كثرة مروياته بعد أن جرّبوا عليه الكذب.

وحسب القارئ دليل صدق على كذب زعمه دخوله على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجة عثمان وبيدها مشط ... مع أنّ رقية ماتت وقت بدر ، وأبو هريرة أسلم وقت خيبر ، كما قال الذهبي ، وكذلك قال الحاكم في المستدرك : ( هذا حديث صحيح الإسناد واهي المتن فإنّ رقية ماتت سنة ثلاث من الهجرة عند فتح بدر ، وأبو هريرة إنّما أسلم بعد فتح خيبر ) (٢) ، وكذلك الذهبي أنكر ذلك كما سبق.

وقد روى الذهبي وغيره عن أبي هريرة قال : ( لو كنت أحدّث في

____________________

(١) البخاري ، كتاب العلم باب كتابة العلم ١ / ٣١ ط بولاق.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤ / ٤٨.

٣٦

زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته ) (١). ولعل القارئ لا يدري أنّ عمر كان قد نهاه عن الحديث ، بل وأكذبه فقال له فيما رواه السائب بن يزيد قال : ( سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لألحقنك بأرض دوس ) (٢).

٣ ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب

عرض يوم بدر ويوم أحد فاستصغره النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأجازه يوم الخندق ، روي عنه ( ٢٦٣٠ ) حديثاً كما في كتاب ( السنة قبل التدوين ) لمحمد عجاج الخطيب (٣) ، إلاّ أنّه في كتاب الحديث والمحدثون لمحمد محمّد أبو زهو ورد : ( فقد روي له ألف وستمائة وثلاثون حديثاً ، إتفق الشيخان من ذلك على مائة وسبعين ، وانفرد البخاري بواحد وثمانين ، ومسلم بواحد وثلاثين ، والباقي رواه غيرهما ) (٤) ، وفيه جعله في أواخر درجات السلالم نزولاً ، حيث ذكره بعد ابن عباس ، وقبل ابن عمرو بن العاص ، وابن مسعود ، وهؤلاء العبادلة هم في نهاية عدّ المكثرين.

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ ١ / ٧.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٠٧.

(٣) السنة قبل التدوين / ٤٧١.

(٤) الحديث والمحدثون / ١٤٢ ط١ مصر ١٣٧٨ هـ.

٣٧

٤ ـ أنس بن مالك الأنصاري

توفي سنة ٩٣ هـ ، خدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين ، وروي له ( ٢٢٨٦ ) حديثاً كما في كتاب السنة قبل التدوين (١) ، إلاّ أنّه في كتاب ( الحديث والمحدثون ) لأبي زهو قال : ( روي لأنس ألف ومائتان وستة وثمانون حديثاً ( ١٢٨٦ ) إتّفق الشيخان منها على مائة وثمانين وستة ، وأنفرد البخاري بثلاثة وثمانين ومسلم بأحد وسبعين ) (٢).

وقد جعله أبو زهو بعد جابر ، فلا كلام في ذلك لأنّ ما روي عنه أقلّ ممّا روي عن جابر في حسابه ، ولكنّه قدّمه على عائشة مع أنّه ذكر مروياتها ( ٢٢١٠ ) ، فكان ينبغي له أن يقدمها حتّى عليهما ، ولكنه تبين لي أنّه وهم في ذكر مرويات أنس ، كما وهم من قبل في ذكر مرويات ابن عمر ، والصواب ما ذكره محمّد عجاج الخطيب في كتابه ( السنة قبل التدوين ) عدّاً وترتيباً ، فلاحظ.

٥ ـ عائشة أم المؤمنين

تزوجها صلى الله عليه وآله وسلم وهي ابنة سبع ، ودخل بها وهي ابنة تسع ، ومات عنها صلى الله عليه وآله وسلم وهي ابنة ثمانية عشرة سنة ، وتوفيت سنة ٥٧ أو ٥٨ هـ ، روي لها من الحديث ( ٢٢١٠ ) حديثاً ، إتفق الشيخان من ذلك على مائة وأربع وسبعين حديثاً ، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ، ومسلم بثمانية وستين. والباقي رواه غيرهما.

____________________

(١) السنة قبل التدوين / ١٣٧.

(٢) الحديث والمحدّثون / ١٣٧.

٣٨

٦ ـ عبد الله بن عباس

ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهاجر مع أبيه قبيل الفتح ، ومات صلى الله عليه وآله وسلم وعمره ١٣ سنة ، ومات هو سنة ٦٨ هـ. ، وروي له من الحديث ( ١٦٧٠ ) ، اتّفق الشيخان على خمسة وتسعين منها ، وانفرد البخاري بمائة وعشرين ، ومسلم بتسعة وأربعين حديثاً. والباقي رواه غيرهما.

٧ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري

ولد سنة ١٦ قبل الهجرة ، ومات سنة ٧٨ هـ عن ٩٤ سنة ، روي له ( ١٥٤٠ ) حديثاً ، منها في الصحيحين ( ٢١٢ ) حديثاً ، اتّفق الشيخان على ( ٦٠٠ ) حديثاً ، وانفرد البخاري بستة وعشرين ، ومسلم بمائة وستة وعشرين حديثاً. والباقي رواه غيرهما.

٨ ـ أبو سعيد الخدري

ولد سنة ١٢ قبل الهجرة ، ومات سنة ٧٤ هـ ، روي له من الحديث ( ١١٧٠ ) ، له في الصحيحين ( ١١١ ) حديثاً ، اتفق الشيخان على ( ٤٣ ) ، وانفرد البخاري بستة عشر حديثاً ، ومسلم باثنين وخمسين حديثاً.

٩ ـ عبد الله بن مسعود الهذلي

من السابقين إلى الإسلام ، قال أبو زهو : ( أسلم عبد الله قديماً حين أسلم سعيد بن زيد قبل إسلام عمر بن الخطاب بزمان ، جاء عنه أنه قال : ( لقد رأيتني سادس ستة ما على الأرض مسلم غيرنا ) روي له من الحديث

٣٩

( ٨٤٨ ) ، اتفق الشيخان منها على ٦٤ حديثاً ، وانفرد البخاري بواحد وعشرين حديثاً ، ومسلم بخمسة وثلاثين حديثاً ) (١).

ولمّا كان حديث ابن مسعود أقلّ من ألف جعلته آخر المكثرين ، وبه مسك الختام وتمام الكلام عن كشف الحساب عن مرويات المكثرين من الصحاب الكرام.

ونعود الآن إلى محاسبة الذين نفوا أن يكون ابن عباس سمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحديث إلاّ عدداً يسيراً ، حددّه القطان بعشرة ، وغندر بتسعة ، والغزالي بأربعة ، وحكى ذلك عنهم ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) في آخر ترجمة ابن عباس ، بعنوان فائدة. وقد تنظّر في ذلك فقال : ( وفيه نظر ففي الصحيحين عن ابن عباس ممّا صرح فيه بسماعه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرة ، وفيهما ممّا يشهد فعله نحو ذلك ، وفيهما ممّا له حكم الصريح نحو ذلك ، فضلاً عما ليس في الصحيحين ... ) (٢) اهـ.

ووافقه من المحدثين المعاصرين الدكتور محمّد رواس قلعه جي ، فقد ذكر ما سبق عن ابن حجر ثمّ قال : ( ونحن نقول كما قال ابن حجر : هذا كلام فيه نظر ) ، ثمّ أعاد ما قاله ابن حجر في أحاديث ابن عباس التي فيها تصريح بالسماع وما يشهد فعله ، وممّا له حكم الصريح.

وخير ما نعقب نحن به على ما قاله ابن حجر وتنظره ، أن نقف وقفة عابرة مع الغزالي. فإليها :

____________________

(١) الحديث والمحدّثون / ١٤٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٧٩.

٤٠