موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-94-2
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥١٠

الحسن يسأله : من أوّل من جمع الناس في هذا المسجد يوم عرفة؟ فقال : أوّل من جمع ابن عباس ، قال : وكان مثجّة (١) أحسب في الحديث يثير العلم ، قال : وكان يصعد المنبر فيقرأ سورة البقرة فيفسّرها آية آية ) (٢). ورواه ابن سعد ثانية بسند آخر عن الحسن البصري.

ولا غرابة لو فسّر البقرة آية آية وهو الذي روى عنه ابن أبي مليكة ، قال : ( سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة البقرة وعن سورة النساء فإنّي قرأت القرآن وأنا صغير ) (٣).

وكان له في البصرة عدّة تلاميذ يُحمل عنهم الحديث أفذاذ ، مثل جابر بن زيد أبو الشعثاء الذي قال في حقه : ( لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن يزيد لأوسعهم عمّا في كتاب الله علماً ) (٤).

ومثل حيّان بن عمير القيسي ، وأبي مدينة السدوسي ، وموسى بن سلمة الهذلي ، والحكم بن الاعرج ، وأبو يزيد المدني ، ويوسف بن مهران ، وغيرهم كثير ، ومن أعيانهم أبو الجوزاء الربعي ، قال : ( جاورت ابن عباس في داره اثنتي عشرة سنة ما في القرآن آية إلاّ وقد سألته عنها ) (٥). وأحسبه

____________________

(١) في النهاية لابن الأثير ( ثج ) ومنه قول الحسن عن ابن عباس ( انه كان مثجا ) أي كان يصب الكلام صبا ، شبّه فصاحته وغزارة منطقه بالماء المثجوج ، والمثج ـ بالكسر ـ من ابنية المبالغة.

(٢) الطبقات لابن سعد ٦ / ٣٣٣ الطبعة الخامسة ط مصر تح الدكتور علي محمّد عمر.

(٣) طبقات ابن سعد ٦ / ٣٣٣ ط مصر تح عمر ، سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٠.

(٤) نفس المصدر ترجمة جابر بن زيد.

(٥) مجاورة أبي الجوزاء كانت بالمدينة أو بمكة لأنّ ابن عباس لم يقم في البصرة مثل تلك المدة.

١٨١

تحوّل من البصرة إلى مكّة مثل طلق بن حبيب وهو ممّن روى عن ابن عباس وقد تحوّل من البصرة إلى مكة (١).

مدرسته في الكوفة

ليس من شك في أنّ له في الكوفة تأثير قويّ من أيام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حينما كان يأتيها من البصرة فيبقى لغرض مراجعة الإمام عليه السلام في شؤون البلاد أو لأغراض أخرى ويقيم فيها أياماً ، ويبدو أنّه كانت له داراً فيها وكان ينزلها إذا ما جاء الكوفة ، كما في حديث ولادة ابنه عليّ والتي كانت في شهر رمضان الذي قتل فيه الإمام عليه السلام. وقد مرّ الكلام حول تلك الولادة في ( الحلقة الأولى ) (٢) ، فراجع.

ومهما يكن فلا شك أنّه كان له دور في تثقيف أهلها لم ينسوه ، بدلالة أنّهم كانوا يراجعونه بعدما إستقرّ في المدينة ، ولا تنس أنّ من أبرز تلامذته النشيطين كان سعيد بن جبير وهو بالكوفة ، وقد كان امتداداً لعلم ابن عباس ، كما أنّ ابن عباس كان يشيد بمكانة تلميذه ويشير على أهل الكوفة بمراجعته ، كما سيأتي في ترجمته.

قال الدكتور جواد علي : ( كان أثر ابن جبير في الكوفة كبيراً

____________________

(١) طبقات ابن سعد ترجمته في التابعين من البصريين.

(٢) موسوعة عبد الله بن عباس / الحلقة الأولى٥ / ٣٩٧.

١٨٢

وكذلك أثر سائر تلامذة ابن عباس ، فأصبحت هذه المدينة التي اشتهرت بالعربية والأخبار والحديث من أشهر المدن بعلم التفسير ، ولا سيما التفسير المتأثر بطريقة ابن عباس ، وقد كان في مقدور تلامذة ابن جبير وحدهم خلق جوّ علمي ، فكيف بتلامذة ابن عباس الآخرين؟ ) (١).

وقال عمر كحالة : ( واستقر سعيد بن جبير بالكوفة وحصل على شهرة كبيرة فيها ، وحمل إليها علم ابن عباس ، وترك ابن جبير عدداً من المشايخ أخذوا العلم منه ، ولا سيما علم التفسير الذي اشتهر به ، وكان أثر ابن جبير في الكوفة كبيراً ، وكذلك أثر سائر تلامذة ابن عباس. فأصبحت الكوفة التي اشتهرت بالعربية والأخبار والحديث من أشهر المدن بعلم التفسير المتأثر بطريقة ابن عباس ) (٢).

مدرسته في مكة المكرمة

روى البسوي في كتابه ( المعرفة والتاريخ ) بسنده عن سفيان : ( قال ابن أبجر ـ عبد الملك بن سعيد ـ : لم يفقّه أهل مكة حتّى أتاهم ابن عباس ) (٣).

____________________

(١) مجلة المجمع العلمي العراقي ١ / ٢١٧ من السنة الأولى.

(٢) التاريخ والجغرافية / ١٩ ـ ٢٠ ط دمشق ١٣٩٢ هـ.

(٣) المعرفة والتاريخ ١ / ٩٤٠.

١٨٣

وقال ابن القيم في ( أعلام الموقعين ) : ( وأمّا أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس ) (١).

روى الذهبي عن نافع : ( كان ابن عمر وابن عباس يجلسان للناس عند مقدم الحاج ، فكنت أجلس إلى هذا يوماً ، وإلى هذا يوماً فكان ابن عباس يجيب ويفتي في كلّ ما سئل عنه ، وكان ابن عمر يردّ أكثر ممّا يفتي ) (٢).

ومن أبرز تلامذة مدرسته من أهل مكة : عطاء المكي ، ومجاهد بن جبر ، وعكرمة ، وستأتي تراجمهم ، وما نقلوه من علمه إلى الناس حتّى انتشر في الأقطار.

وقال عطاء بن أبي رباح : ( ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس أكثر فقهاً وأعظم جفنة ، إنّ عنده أصحاب القرآن يسألون ، وأصحاب الفقه عنده ، وعنده أصحاب الشعر يسألون ، وعنده أصحاب النحو يسألون كلّهم يصدر من واد واسع ) (٣).

وكان كبار الصحابة يزدحمون في مجلسه ، وفيهم مثل أبي ذر وعمّار ، كما في حديث رواه فرات بن إبراهيم في تفسيره في سورة القيامة ، قال : ( حدّثنا أبو القاسم العلوي معنعناً عن عمار بن ياسر ، قال :

____________________

(١) أعلام الموقعين ١ / ١٦.

(٢) سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٥٩ ط دار الفكر.

(٣) المعرفة والتاريخ للبسوي ١ / ٥٢٠ ، التذكرة الحمدونية ٢ / ٩٧.

١٨٤

كنت عند أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في مجلس ابن عباس رضي الله عنه وعليه فسطاط وهو يحدّث الناس ، إذ قام أبو ذر حتّى ضرب بيده على عمود الفسطاط ثمّ قال : أيّها الناس مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني فقد أنبأته باسمي ، أنا جندب بن جنادة أبو ذر الغفاري ، سألتكم بحق الله وحق رسوله أسمعتم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ( ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر )؟ قالوا : اللّهمّ نعم ، قال : أفتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمعنا يوم غدير خم ألفاً وثلثمائة رجل وجمعنا يوم سمرات خمسمائة رجل كلّ ذلك يقول : ( اللّهمّ من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ) ، فقام رجل فقال : بخ بخ يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ، فلمّا سمع ذلك معاوية بن أبي سفيان اتكأ على المغيرة بن شعبة وقام وهو يقول : لا نقرّ لعليّ بولاية ولا نصدّق محمّداً في مقالة ، فأنزل الله تعالى على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ـ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ـ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ـ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) (١) تهديداً من الله عزوجل وانتهاراً؟ فقالوا : نعم ) (٢).

وهذا فيما أراه كان في أيام عثمان ، أيام شدّة الحصار على أبي ذر في أن لا يحدّث.

____________________

(١) القيامة / ٣١ ـ ٣٤.

(٢) تفسير فرات / ٥١٥ ح ٦٧٤ / ١ وشواهد التنزيل ٢ / ٢٩٥.

١٨٥

مدرسته في الطائف

عن عكرمة قال : ( كان ابن عباس في العلم بحراً ينشق له الأمر من الأمور ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اللّهمّ ألهمه الحكمة وعلّمه التأويل ) ، فلمّا عمي أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم من علمه ـ أو قال كتب من كتبه ـ فجعلوا يستقرؤونه ، وجعل يقدّم ويؤخر فلمّا رأى ذلك ، قال : إنّي قد تلهت من مصيبتي هذه ، فمن كان عنده علم من علمي ، فليقرأ عليّ ، فإنّ إقراري له كقراءتي عليه. قال : فقرأوا عليه ) (١).

وقد أثار جلوسه لتعليم الناس في الطائف حفيظة ابن الزبير ، حتّى كتب إليه ما مرّ ذكره في الحلقة الأولى وما أجابه به ابن عباس فلا حاجة إلى إعادته. فراجع.

وعن عمرو بن شعيب بن محمّد بن عمرو بن العاص ـ ويقال له أبو عبد الله المدني ويقال الطائفي سكن مكة وكان يخرج إلى الطائف ـ روى عن أبيه شعيب قال : ( كنت عند عبد الله بن عمرو فجاء رجل فاستفتاه في مسألة فقال لي : يا شعيب أمض معه إلى ابن عباس ... فذكر الحديث ) (٢).

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، قال الذهبي : تلهت : تحيّرت ، والأصل ولهت كما قيل في وجاه تجاه.

(٢) تراجع ترجمة شعيب في التهذيب وفي طبقات خليفة ذكره في أول الطبقة الأولى من أهل الطائف.

١٨٦

مدرسته في الشام

لم يكن عبد الله بن عباس حبر الأمّة غريب الشخصية على أهل الشام ، فليس هو كسائر الوافدين الذين عرفوهم أيام ملك معاوية. بل لهم به معرفتهم السابقة ، إن لم يكن كلّهم ولا أقلّ من بعضهم ـ منذ دخوله إلى الشام مع عمر ـ وكان ذلك مكرراً ، فقد رأوه معه وعرفوه كمستشارٍ له ، ثمّ زادت معرفتهم به أيام عثمان حين وفد حاجهم في سنة ٣٥ هـ فرأوه أمير الموسم يقيم للناس حجّهم ويفتيهم فيما يحتاجون إليه من مناسكهم. وقد مرّ الحديث عن كلّ ذلك في ( الحلقة الأولى ) من كتابنا هذا.

ولمّا كانت حرب صفين فقد رأوه مع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قائداً لميسرة جيشه ، ومنازلاً في ساحة الحرب ، ثمّ خطيباً منظوراً إليه ، رأساً في الناس بعد الإمام عليه السلام ، على حدّ تعبير صاحبهم معاوية ، وهذا أيضاً مرّ في ( الحلقة الأولى ).

فلا غرابة إذن بعد معرفتهم له في تلك الأيام أن جعلتهم يتزاحمون على الأخذ عنه ـ عندما يحلّ ببلادهم أيام حكم معاوية ـ ليمتاروا ما يحتاجونه في متطلبات الساحة الفكرية والثقافية ، فيحضرون مجالسه ، ويسمعون دروسه ، وكان هو رضي الله عنه من منطلق المسؤولية لا يبخل عليهم برشحات فكره ، فلم يضطغن عليهم ما مرّ منهم في صفين ، ولم ينس أنّهم

١٨٧

ـ أو الكثير منهم ـ قد غرّر بهم معاوية ، والآن وقد حلّ بينهم ، وهم عاكفون على مجلسه لابدّ له أن يؤدي رسالته في هدايتهم ما وسعته الظروف.

ولقد حدّث عن بعض مظاهر تلك المدرسة وتأثيرها في روادها صاحب ( الحدائق الوردية ) في حديث له مرّت الإشارة إليه في ( الحلقة الأولى ) عند الكلام على موت الإمام الحسن الزكي عليه السلام ، وسيأتي بتمامه في إحتجاجاته مع معاوية ، ونقتبس منه ما يتعلق بالمقام :

قال : ( وكان ابن عباس تقشّف وكره أن يتزيّا بزيّه ، فيشهره أهل الشام ، فيضرّ به ذلك عند معاوية. فلمّا رجع إلى منزله قال : يا غلام هات ثيابي فوالله لئن جلست لهذا المنافق ـ يعني معاوية ـ ينعى إليّ أهل بيتي واحداً واحداً إنّي إذن أحمق ، قال : فقال : عليّ بالمقطّعات (١) فلبسها ، قال : ثمّ قال : عليّ بعمامة له اسمها الحوبية فلبسها وكان من أجلّ الناس ، أمدّهم جسماً ، وأحسنهم شعراً ، وأحسنهم وجهاً. قال : ثمّ أتى مسجد دمشق فدخل ، فلمّا نظر إليه أهل الشام قالوا ـ الذين لم يشاهدوه قبل هذا ـ مَن هذا؟ ما يشبه إلاّ الملائكة ما رأينا مثل هذا؟ قالوا ـ الذين يعرفونه ـ هذا ابن عباس هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فجلس إلى سارية وتقوّض إليه الخلق ، فما سئل عن شيء إلاّ أجابهم به من تفسير كتاب الله ولا حلال ولا حرام ولا واقعة كانت في جاهلية ولا إسلام ، ولا شِعر كان في جاهلية

____________________

(١) القصار من الثياب أو برود عليها وشي ، أو شبه الجباب ونحوها من الخز وغيره ( قطر المحيط. قطع ).

١٨٨

ولا إسلام إلاّ أجابهم به. قالوا : ومعاوية لا يشعر بشيء من هذا ، فانتبه فقال للآذن : اءذن لمن بالباب. قال : أو بالباب أحد؟ قال : فأين الناس؟ قال : ذهبوا إلى ابن عباس. قال : هاه قد فعلوها ، نحن والله أظلم منه وأقطع للرحم. اذهب يا غلام فقل له أجب أمير المؤمنين ، فأتاه الرسول. قال : فقال ابن عباس : إنا بنو عبد مناف لا نقوم من عند جليسنا حتّى يكون هو الذي يقوم ، ولكن قد تقاربت الصلاة فإذا صلينا أتينا ) (١).

ولقد جاء في حديث الزبير بن بكار في ( الموفقيات ) فيما حكاه عنه الأربلي في ( كشف الغمة ) : ( قال الراوي ، وافتقد معاوية الناس ، فقيل له إنّهم مشغولون بابن عباس ، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل ) (٢).

ولم ينقطع عطاؤه عن أهل الشام حتّى وهو بعيد عنهم بمكة ، فقد كانوا يرسلون وافدهم فيقصده ويسأل منه ، وسيأتي في إحتجاجاته حديثه مع وافدهم الذي أرسلوه يسألون عن قتال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لأهل القبلة ، وتلك المسألة شغلت بال الكثيرين ممّن لم يهتدوا بنور الإيمان ،

____________________

(١) الحدائق الوردية ١ / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٢) كشف الغمة ١ / ٥٦٣ ط حديثه في ايران ، ص١٢٧ط حجرية سنة ١٢٩٤ هـ.

وهو ممّا سقط من النسخة المطبوعة من الأخبار الموفقيات ولم يستدركه المحقق في الضائع منها ، واستدركته عليه في نسختي.

١٨٩

ولولا سيرته عليه السلام فيهم لم تعرف أحكامهم.

قال الراوي : ( كان عبد الله بن عباس بمكة يحدّث الناس على شفير زمزم ونحن عنده : فلمّا قضى حديثه قام إليه رجل من الملأ فقال : يابن عباس إني امرؤ من أهل الشام. فقال : أعوان كلّ ظالم إلاّ من عصم الله منهم ، فسل عما بدا لك؟ قال : يابن عباس إنّي رجل من أهل حمص ، إنّهم يتبرأون من عليّ بن أبي طالب ويلعنونه.

فقال ابن عباس : بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً ، ألبُعد قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وأنّه لم يكن أوّل ذكران العالمين إيمانا بالله ورسوله ، وأوّل من صلى وركع وعمل بأعمال البرّ؟!

فقال الشامي : إنّهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته ، غير أنّهم يزعمون أنّه قتل الناس ، وإنّما جئتك لأسألك عن عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله لم يكفروا بقبلة ولا قرآن ، ولا بحج ولا بصيام رمضان.

فقال ابن عباس : ثكلتك أمك سل عمّا يعنيك ولا تسل عمّا لا يعنيك.

فقال : يابن عباس ما جئت أضرب إليك من حمص لحج ولا لعمرة ، ولكن جئتك لأسألك لتشرح لي من أمر عليّ وقتاله أهل لا إله إلاّ الله.

فقال ابن عباس : ثكلتكم أمهاتكم فلم يقتل إلاّ من استحق القتل.

قال : يابن عباس إنّ قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك

١٩٠

وأمينهم ، ولا يسعك أن تردّني بغير حاجتي ، فإنّ القوم هالكون في أمره ، ففرّج عني فرّج الله عنك.

فقال ابن عباس : ويحك إنّ علم العالم صعب ولا يحتمل ولا تقبله القلوب إلاّ قلب من عصمه الله ، يا أخا أهل الشام إنّما مثل عليّ في هذه الأمّة في فضله وعلمه كمثل موسى والعالم ...

( ثمّ شرع في بيان ما أجمله وبعد ذلك بيّن للشامي فضل الإمام وما جاء فيه من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مفصلاً كما سيأتي في إحتجاجاته ).

وجاء في آخره : فقال الشامي يابن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة ، وفرّجت عني فرّج الله عنك. أشهد أنّ عليّاً رضي الله عنه مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ) (١).

وهكذا كان حبر الأمّة يرفد أهل الشام بعطائه ، ويواصل ذلك حتّى عن طريق المراسلة ، وحسبنا شاهداً كتابه إلى مجبّرة أهل الشام ، وسيأتي بنصه في كتبه ، وفيه من النصح بعد التأنيب ، والدعوة إلى التوبة ، بعد التثريب ومخافة الحوبة ، ما يعدّ روعة في البيان ، فراجع.

مدرسته في مصر

لقد مرّ بنا في الحلقة الأولى من تاريخه ذكر مشاركته في فتح إفريقية بقيادة ابن أبي سرح ، وذكرنا هناك كلامه مع جرجير صاحب

____________________

(١) كتاب ( الهمة في آداب إتّباع الأئمة ) للقاضي النعمان / ٧٥ بتحقيق الدكتور محمّد كامل حسين ، دار الفكر العربي ، سلسلة مخطوطات الفاطميين / ٣.

١٩١

إفريقية ، وهو الذي لقّبه بـ ( حبر العرب ). وفي هذه الغزاة أخذ عنه جماعة من أهل مصر حتّى أنّ الذهبي في كتابه قال : ( وروى عنه من أهل مصر خمسة عشر نفساً ) (١).

فذكر ابن حبّان في كتاب ( الثقات ) منهم : حنش بن عليّ ، وقال : يروي عن ابن عباس ... عداده في أهل مصر (٢).

وذكر أيضاً سعيد بن الصلت ،ووصفه ابن حجر في ( تعجيل المنفعة ) بالمصري (٣).

وذكر أيضاً عبادة بن نشيط الأسدي ، وقال : عداده في أهل مصر (٤).

وذكر أيضاً مالك بن سعد النجيبي من أهل مصر (٥).

كما ذكر محمد بن الزبير ، وقال : يروي عن ابن عباس ، وكان على إفريقية (٦). وهذا يعني أنّه بلغت تعاليمه إلى إفريقية.

وكانت عنده دفاين علم

لمّا كان البشر تتفاوت مداركهم حسب تفاوت استيعاب عقولهم ، فكلُ

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٤ / ٤٤٢.

(٢) الثقات لابن حبان ٢ / ١٠٥.

(٣) المصدر نفسه ٢ / ١٧٣.

(٤) المصدر نفسه ٢ / ٣٤٩.

(٥) المصدر نفسه ٣ / ٢٧.

(٦) المصدر نفسه ٣ / ١٧.

١٩٢

مبلغ علمه قدر طاقته بعقله ، فإن حُمل على العقل فوق ما يحتمل استحال الحال من الصلاح إلى الفساد ، ومن ثمّ ورد : ( لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ).

وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً : ( يا بن عباس لا تحدّث قوماً حديثاً لا تحتمله عقولهم ) (١).

كما روى أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً : ( لا تحدثوا أمتي من أحاديثي إلاّ ما تحتمله عقولهم فيكون فتنة عليهم ) (٢).

وعلى هذا كانت مناهج ابن عباس التربوية مع تلامذته ، لأنّه كانت مناهج تربيته قد تعلّمها من ابني عمّيه وهما خيرة البشر ، فما ظنّك بعدُ فيمن يتربّى على نبيّ ووصي؟ وماذا سيكون منهجه في التعليم ، وهو قد اقتبس العلم من مدينته ومن بابها؟

ومنهما أخذ الأدب في نشر العلم ، فهو لا يضعه عند غير أهله ، وكلمة الإمام عليه السلام نصب عينيه ، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان فتنة لبعضهم ) (٣).

وقال عليه السلام : ( حدّث الناس بما يعرفون أتحبّون أن يكذَّب الله ورسوله ) (٤). وعلى هذا كانت سيرة علماء الصحابة.

وقد روى مسلم في أوّل صحيحه في باب النهي عن الحديث بكلّ

____________________

(١) كشف الخفاء ١ / ٢٢٦ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٥ هـ.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير ابن كثير ٤ / ٥٠١ دار الفكر بيروت.

(٤) نفس المصدر السابق.

١٩٣

ما يسمع قول ابن مسعود : ( ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم الاّ كان لبعضهم فتنة ) (١).

وجاء في صحيح البخاري في كتاب العلم في باب من خصّ بالعلم قوماً دون قوم ، حديث أبي الطفيل عن عليّ عليه السلام قال : ( حدّثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ) (٢).

فكان ابن عباس يخفي أشياء من حديثه ويفشيها إلى أهل العلم ، فقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج في خبر عن مجالد بن سعيد قول الشعبي في ابن عباس : ( وكان عند ابن عباس دفاين علم يعطيها أهلها ويصرفها عن غيرهم ) (٣).

أنماط من المسائل دلّت على الإحتياط في جواب السائل

١ ـ وكان من مناهجه التربوية لتلاميذه قوله : ( إذا سأل أحدكم فلينظر كيف يسأل ، فإنّه ليس أحد إلاّ وهو أعلم بما سأل عنه من المسؤول ) (٤).

٢ ـ وكانت عنده فراسة يعرف بها قيمة سائله من مسألته ، وهو القائل : ( ما سألني رجل عن مسألة إلاّ عرفت أفقيه هو أو غير فقيه ) (٥).

٣ ـ وكانت شهرته العلمية في البلاد الإسلامية مدعاة لورود المسائل

____________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٩ ط صبيح.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٣٧ ط بولاق.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ، ونحو ذلك في الشافي للمرتضى / ٢٤٢ ط حجرية.

(٤) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ٢ / ١٨٣.

(٥) جامع بيان العلم لابن عبد البر ١ / ١٣٩ ط الثانية المحققة سنة ١٣٨٨ هـ.

١٩٤

عليه من شتى الأمصار ، وما أكثر الشواهد على ذلك ، وإليك بعضاً منها :

روى البيهقي : ( عن عبد الله بن أبي الهذيل (١) قال : أمرني ناس من أهلي أن أسأل لهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أشياء فكتبتها في صحيفة ، فأتيته لأسأله فإذا عنده ناس يسألونه ، فسألوه حتّى سألوه عن جميع ما في صحيفتي ، وما سألته عن شيء ، فسأله رجل أعرابي فقال : أني مملوك أكون في إبل أهلي فيأتيني الرجل يستسقيني فأسقيه؟ ) (٢).

٤ ـ وكان يُعلم السائلين أنّ بعض أجوبته إنّما هي مراعاة لحال السائل ، فقد قال : ( ربما أنبأتكم بالشيء أنهاكم عنه إحتياطاً بكم وإشفاقاً على دينكم ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه رجل شاب يسأل عن القُبلة للصائم فنهاه عنها ، وسأله شيخ عنها فأمره بها ) (٣).

٥ ـ ( وسأله رجل عن توبة القاتل فقال لا توبة له ) ، وسأله آخر فقال : ( له توبة ، ثمّ قال : أمّا الأوّل فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته ، وأمّا الثاني فجاء مستكيناً وقد قتل فلم أويأسه ) (٤).

٦ ـ وقال لرجل سأله عن تفسير آية : ( وما يؤمنك أني لو أخبرتك

____________________

(١) من أهل الكوفة من قبيلة عنزة مات في أيام ولاية خالد القسري.

(٢) سنن البيهقي ٩ / ٢٤١.

(٣) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ٢ / ١٩٣.

(٤) نفس المصدر ٢ / ١٩٢.

١٩٥

بتفسيرها كفرت به؟ ).

قال ابن القيم تعقيباً على ذلك : ( أي جحدته وأنكرته وكفرت به ، ولم يرد أنك تكفر بالله ورسوله ) (١).

٧ ـ وكان لديه خوف من غوغائية الناس الذين يسمعون ولا يعون ، ثمّ هُم عن ابن عباس يحدثون. فقد حدث أبو السفر فقال : ( سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يا أيّها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم ، وأسمعوني ما تقولون ، ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس قال ابن عباس ، من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم. فإنّ الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقى سوطه أو نعله أو قوسه ) (٢).

٨ ـ وكان حريصاً على تنبيه الناس وتحذيرهم من خطأ وقعوا فيه ، وهو بشاعة سيرة الشيخين وشناعة الأخذ بها مقابل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان مبدء استعمال هذه المقولة من عبد الرحمن بن عوف ، فقد استعمل هذا السلاح في إبعاد الإمام عليه السلام عن الخلافة كما مرّ في الحلقة الأولى (٣) ، فكان ابن عباس رضي الله عنه إذا سأله سائل فأجابه بما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم واعترض عليه أحد الصحابة أو من غيرهم بأنّ هذا مخالف لما قال به أبو بكر وعمر ، فيردّ عليه ابن عباس موبّخاً

____________________

(١) أعلام الموقعين ٤ / ١٣٧.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٤٤ ط بولاق.

(٣) موسوعة عبد الله بن عباس الحلقة الأولى ج٢ ( فيا لله وللشورى ).

١٩٦

ومؤنّباً:( أراهم سيهلكون ، أقول : قال رسول الله ، ويقولون : نهى أبو بكر وعمر ) (١).

٩ ـ وفي حادثة ثانية مشابهة قال ابن عباس : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ) (٢).

١٠ ـ وفي مقام ثالث أيضاً يشبه لما مرّ قال ابن عباس : ( والله ما أراكم منتهين حتّى يعذّبكم الله ، نحدّثكم عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحدّثونا عن أبي بكر وعمر ) (٣).

١١ ـ وسئل عن المتعة فقال : ( المتعة حلال ) ، فقال له جبير بن مطعم : كان عمر ينهى عنها ، فقال ابن عباس : ( يا عدي نفسه ، من هنا ضللتم ، أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحدّثوني عن عمر ) (٤).

وهذا نهجه في التعليم السليم ، كما هو نهجه في مقارعة المخادعين للناس بسيرة الشيخين ، ولم أقف على من يضارعه في هذين النهجين من سائر الصحابة أجمعين.

____________________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٣٧ ط الأولى ، الذهبي في تذكرة الحفاظ ٣ / ٨٣٧ ط حيدر آباد ، وابن عبد البر في مختصر العلم / ٢٢٦ ، وابن القيّم في زاد المعاد ١ / ٢١٢ ، والمغني لابن قدامة ٣ / ٢٨١ط الثالثة بالمنار ، وسير أعلام النبلاء ٥ / ٢٤٢ ، وجامع بيان العلم وفضله ٢٣٩ و ٢٤٠ ط مصر١٣٨٨ هـ.

(٢) زاد المعاد لابن القيم الجوزية ١ / ٢٠٩ ط دار الكتاب العربي بيروت ( افست ). وقال ابن القيم : فهذا جواب العلماء ...

(٣) زاد المعاد ١ / ٢١٣.

(٤) زاد المعاد ١ / ٢١٣.

١٩٧
١٩٨

الفصل الأوّل

في تلاميذه والرواة عنه

١٩٩

٢٠٠