موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان

موسوعة عبد الله بن عبّاس - ج ٦

المؤلف:

السيد محمد مهدي السيد حسن الموسوي الخرسان


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-94-2
ISBN الدورة:
964-319-500-7

الصفحات: ٥١٠

( حدّثنا عبد الله ، حدّثنا الحسن بن أحمد ، حدّثنا مسكين بن هارون ، حدّثنا صاحب لنا عن أبي روق ، عن إبراهيم التيمي ، عن ابن عباس ، قال : قراءتي قراءة زيد وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود هذا أحدها ( س٢آ٦١ ) ( مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ) (١) ) (٢).

نقد الرواية :

أوّلاً : فلننظر إلى رجال الإسناد ، ولنختار منهم الأوّل والوسط والأخير ، فمعرفة حالهم تكفي عن النظر في حال الباقين.

أمّا الأوّل : وهو ابن أبي داوود ـ مؤلف الكتاب ـ فقد أكذبه أبوه ـ وهو صاحب السنن ، وتكذيبه له يغني عن حكاية أقوال الآخرين فيه ـ قال : ابني عبد الله كذّاب ـ وكان ابن صاعد يقول : كفانا أبوه بما قال فيه (٣).

وأمّا الوسط : فهو ( صاحب لنا )؟ فجهالته تسقط الرواية بالمرّة ، ولماذا كتم إسمه؟ ولعلّه بعد لم تلده أمّه؟

وأمّا الأخير : فهو إبراهيم التيمي ، ذكره الذهبي في كتبه ( تذكرة الحفاظ ، وسير أعلام النبلاء ، وميزان الإعتدال ) (٤) ، وأثنى عليه ، فقال : يروي عن عمر وأبي ذر والكبار ، وذكر إرساله عن عائشة (٥) ، وزاد في ميزانه

____________________

(١) البقرة / ٦١.

(٢) المصاحف / ٥٥ ط بتحقيق آرثر جفري.

(٣) تذكرة الحفاظ ٢ / ٧٧٢ ط حيدر آباد ( أفست ).

(٤) تذكرة الحفاظ ١ / ٧٣ ، سير أعلام النبلاء ٥ / ٦٠ ، ميزان الإعتدال ١ / ٧٣.

(٥) انظر سير أعلام النبلاء ٥ / ٦٠.

١٢١

إضافة حفصة (١) ، وربما لتثقيل كفة ميزانه. ومهما يكن فقد قال : ذكروا أن الحجاج قتله ، وقيل مات في حبسه سنة ٩٢ هـ ، وقيل سنة ٩٤ هـ ولم يبلغ الأربعين (٢).

فنقول : إذا عرفنا أن قتل عمر كان سنة ٢٥ هـ فيكون مولد إبراهيم بعد مقتل عمر بنحو من ثلاثين سنة. أفهل تعقل روايته عنه؟!

وإذا عرفنا أنّ أبا ذر مات بالربذة سنة ٣٢ هـ فيكون مولد إبراهيم بعد موت أبي ذر بأكثر من عشرين سنة. فهل تعقل روايته عنه؟!

ولابد للذهبي وغيره ممّن يحاولون إثبات روايته أن يقولوا هي عنهما بإرسال كما هو حاله في روايته عن عائشة وحفصة ، ومن كان كذلك لا يمكن لنا أن نصدّقه في زعمه روايته ذلك من ابن عباس سماعاً ، خصوصاً وهي معنعنة ممّا يشير من طرف خفي إلى إرساله ذلك عنه.

هذا كلّه من ناحية السند (٣).

ثانياً : ماذا من جهة المتن؟

____________________

(١) ميزان الإعتدال ١ / ٧٤.

(٢) انظر سير أعلام النبلاء ٥ / ٦٠.

(٣) ذكر ابن الجزري في غاية النهاية ١ / ٤٢٦ : هذه الرواية مرسلة عن الضحاك بن مزاحم وفيها ( الا ثمانية عشر حرفاً ) إلخ ، ولما كان الضحاك لم يلق ابن عباس وأنكر لقاءه القطان وشعبة ، وروي الذهبي في سير أعلام النبلاء ٥ / ٤٨٢ عن مشاش ، قالوا : سألنا الضحاك هل لقيت ابن عباس؟ قال : لا. فالرواية مرسلة لا تثبت حجة على أخذ ابن عباس من زيد شيئاً من التفسير أو غيره. وسيأتي مني تصحيح لقاء الضحاك لابن عباس وروايته عنه في بحث التفاسير المروية عنه في الحلقة الثالثة إن شاء الله.

١٢٢

فإنّ ابن عباس في كلّ ما أخذ من تفسير القرآن أخذه من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كما مرّ ذلك عنه ، وقبل ذلك كان حفظه المحكم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن حفظ وتعلم ذلك كما أنزله الله سبحانه على نبيه فأخذه عنه وعن وصيّه ، كيف يحيد في قراءته عما علمه وتعلّمه؟ ثمّ إنّ قراءة زيد الخاصة كانت مفضولة عند ابن عباس فيما روى أبو ظبيان عنه ، قال : ( قال ابن عباس : أيّ القرآتين تعدّون أوّل؟ قلنا : قراءة عبد الله ، قال : لا إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه القرآن في كلّ رمضان مرّة إلاّ العام الذي قبض فيه ، فإنّه عُرِضَ عليه مرتين يحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدّل ، وإنّما شقّ ذلك على ابن مسعود ، لأنَه عُدِلَ عنه مع فضله وسنّه ، وفُوِّضَ ذلك إلى من هو بمنزلة ابنه ) (١).

وبين يدي الآن ( معجم القراءات القرآنية ) ، فراجعت المجلد الأوّل منه فأحصيت على عجل ، فما وجدته فيه من موارد إختلاف قراءة ابن عباس مع قراءة زيد بن ثابت ، فبلغت ( ٦٧ ) مورداً ، وربما فاتني بعضها هذا كلّه في المجلد الأوّل وهو لم يتجاوز سورة البقرة ، فما ظنك بباقي موارد الإختلاف بين القراءتين إلى آخر سور القرآن المجيد!

فمن هذا كلّه تبيّن لنا أنّه لم يثبت ما يوثّق أخذ ابن عباس من زيد شيئاً.

إذن كيف زعم الزاعمون من أولياء زيد أنّ ابن عباس أخذ عنه وقرأ

____________________

(١) كنز العمال ٢ / ٣٨٩ ط حيدر آباد الثانية.

١٢٣

عليه القرآن؟ ولقد ذكر بعضهم تلك المرسلات فأضاف إليها ما وصف به زيداً ( من الفطانة وسلامة الفطرة ما يرشحه لأن يكون استاذاً للقرآن وكتابته منذ عهد مبكّر ) ، وانتهى إلى القول : ( وقد أخذ عنه ابن عباس التفسير والقرآن ) (؟) ولم يذكر لذلك مصدراً.

وبدأ يبني هرماً على وهم فقال : ( وكانت العلاقة بين التلميذ والشيخ علاقة روحية حيث إنّا نجد أنّ ابن عباس عندما يأخذ بركاب شيخه يردّ عليه بقوله : لا تفعل يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيجيب التلميذ الشيخ بقوله : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، ولكن الشيخ لا ينسى لأهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكانة واحترام ، فيقول لتلميذه : أنّى يداك فيخرج يديه فيقبّلهما ويقول : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا ).

ثمّ قال : ( وكان ابن عباس يأتيه إلى البيت ويأخذ عنه العلم. وقال له يوماً : أنا آتيك ، فقال ابن عباس : العلم يؤتى ولا يأتي ) (١) ، من دون ذكره مصدراً لذلك؟

وتعقيباً منّا فنقول : إنّ الإحترام المتبادل بين ابن عباس وبين زيد في القصة التي مرّ ذكرها لم يكن فيه دلالة على مقام استاذية لزيد ، ولا لعلاقة روحية علمية ، بل كان ذلك من أدب ابن عباس مع زيد ، لأنّه كان قد أتاه في بعض حيطانه زائراً ، فلمّا أراد الإنصراف أخذ له

____________________

(١) عبد المجيد محمّد أحمد الدوري تفسير ابن عباس دراسة وتحليل / ٤٥. أطروحة ماجستير في كلية الشريعة ببغداد.

١٢٤

بركاب البغلة حتّى ركب وسوّى عليه ثيابه ، وزيد يتأبّى عليه فما كان من زيد إلاّ أن أخذ يد ابن عباس فقبلها وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا (١). فغاية ما تدلّ القصة ـ إن صحت ـ على خُلق رفيع في احترام المزور لزائره وتقدير الزائر لذلك الخُلُق بردّ الجميل فقبّل يد المزور ، لأنّه من أهل بيت النبوّة. وفي فعل زيد بتقبيله يد ابن عباس ما يلاحظ استنكار نابتة الحشوية مثل هذا الفعل مع السلالة النبوية.

والآن نستعرض بعض الشواهد ذات الدلالة على ما كان بين الرجلين ـ ابن عباس وزيد ـ من وئام أو خصام في المجال العلمي لنرى كيف تبلغ المحاققة الحاقة؟

شواهد ذات دلالة

١ ـ ذكر ابن عبد البر في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) فقال : ( وروى سفيان بن عيينة عن ابن أبي حسين قال : اختلف ابن عباس وزيد في الحائض تنفر ، فقال زيد : لا تنفر حتّى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت ، فقال ابن عباس لزيد : سل نسيّاتك أم سليمان وصويحباتها. فذهب زيد فسألهنّ ثمّ جاء وهو يضحك فقال : القول ما قلت ) (٢). وهذا أخرجه البخاري بتغيير يسير ، وابن القيم في ( أعلام

____________________

(١) انظر سنن البيهقي ٦ / ٢١١.

(٢) جامع بيان العلم وفضله ١ / ١٥٩ ، ط الثانية محققة نشر المكتبة السلفية سنة ١٣٨٨ هـ.

١٢٥

الموقعين ) (١). وقد روى ذلك طاووس وعكرمة ولرواياتهما دلالة واضحة على خلاف ابن عباس مع زيد في المسألة السابقة (٢).

٢ ـ أخرج عبد الرزاق في ( المصنف ) بسنده : ( عن عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين ، فقال : للزوج

____________________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ٢١٢ ، ويراجع البيهقي في سننه ٥ / ١٦٣ ونذكر ما عنده.

(٢) أخرج البيهقي في سننه ٥ / ١٦٣ ـ ١٦٤ بسنده عن طاووس قال : كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت : أنت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ قال : نعم ، قال : فلا تفت بذلك ، فقال ابن عباس : أمّا لا ، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فرجع إليه زيد بن ثابت يضحك ويقول : ما أراك الا قد صدقت. قال البيهقي : ورواه مسلم في الصحيح.

وأخرج البيهقي أيضاًً بسنده عن عكرمة قال : سأل أهل المدينة ابن عباس عن امرأة طافت بالبيت يوم النحر ثمّ حاضت فقال : تنفر فقالوا : لا نأخذ بقولك وهذا زيد بن ثابت يخالفك ، قال : إذا أتيتم المدينة فسلوا ، فلمّا قدموا المدينة سألوا فأخبروهم بصفية ، وكان فيمن سألوا أم سليم فأخبرتهم بصفية قال البيهقي : رواه البخاري في الصحيح ....

وأخرج أيضاًً بسنده عن عكرمة ان زيد بن ثابت قال : تقيم حتى تطهر ويكون آخر عهدها بالبيت ، فقال ابن عباس : إذا كانت قد طافت يوم النحر فلتنفر ، فأرسل زيد بن ثابت إلى ابن عباس إني وجدت الذي قلت كما قلت ، فقال ابن عباس : إني لأعلم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنساء ، ولكني أحببت أن أقول بما في كتاب الله ثمّ تلا ( ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) فقد قضت التفث ووفت النذر وطافت بالبيت فما بقي.

وأخرج ثالثاً بسنده عن عكرمة قال : اختلف فيها ابن عباس وزيد بن ثابت ، فقال زيد : ليكن آخر عهدها بالبيت ، يعنى الطواف بالبيت ، فقال ابن عباس : إذا أفاضت يوم النحر ثمّ حاضت فلتنفر إن شاءت ، فقالت الأنصار : إنا لا نتابعك إذا خالفت زيد بن ثابت ، فقال ابن عباس : سلوا صاحبتكم أم سليم ، فسألوها فأنبأت ان صفية بنت حيي بن أخطب حاضت بعدما طافت بالبيت يوم النحر فقالت لها عائشة : الخيبة لك حبستنا ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها أن تنفر ـ وأخبرت أم سليم أنها لقيت ذاك وأمرها أن تنفر ـ

قال البيهقي : أشار البخاري إلى هاتين الروايتين وأخرجه من حديث أيوب عن عكرمة مختصراً.

١٢٦

النصف وللأم ثلث مابقي وللأب الفضل.

فقال ابن عباس : أفي كتاب الله وجدته أم رأي تراه؟ فقال : بل رأي أراه ، لا أرى أن أفضّل أمّاً على أب ، وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال ) (١). وأخرجه البيهقي في ( السنن الكبرى ) (٢) ، وأخرجه الخطيب في كتاب ( الفقيه والمتفقه ) (٣) ، وجعل قائل ( بل رأي أراه ) هو ابن عباس؟ وهكذا تطمس الحقائق في مستنقعات الأهواء!

ولقد روى الدارمي في سننه : ( عن عكرمة قال : أرسل ابن عباس إلى زيد بن ثابت : أتجد في كتاب الله للأم ثلث مابقي؟ فقال زيد بن ثابت : إنّما أنت رجل تقول برأيك ، وأنا رجل أقول برأيي ) (٤).

٣ ـ قال ابن قيّم الجوزية في كتابه ( أعلام الموقعين ) : ( وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد والأخوة ، فقال : ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً ) (٥).

٤ ـ وقال السرخسي الحنفي في ( المبسوط ) : ( فأمّا أبو حنيفة احتجّ بما نقل عن ابن عباس أنّه كان يقول : ألا يتق الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن

____________________

(١) المصنف ١٠ / ٢٥٤.

(٢) السنن الكبرى ٦ / ٢٢٨.

(٣) الفقيه والمتفقه ١ / ٢٠٢ نشر دار احياء السنة.

(٤) سنن الدارمي ٢ / ٣٤٦.

(٥) أعلام الموقعين ١ / ١٨٦.

١٢٧

إبناً ولا يجعل أب الأب أباً؟ ومعنى هذا الكلام أنّ الاتصال بالقرب من الجانبين يكون بصفة واحدة لا يتصور التفاوت بينها بمنزلة المماثلة بين مثلين ... أهـ ) (١).

٥ ـ أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده إلى عبيد بن حنين ـ وهذا أحد الرواة عن ابن عباس ـ : ( قال : قلت لزيد بن ثابت مقتل عثمان إقرأ عليّ الأعراف؟ فقال : لست أحفظها ، إقرأها أنت عليّ فقرأتها عليه ، فما أخذ عليّ ألفاً ولا واواً ) (٢).

ومع هذا كلّه فلم يبخسه حظه في تأبينه كما عن عليّ بن زيد بن جدعان عن ابن عباس لمّا دفن زيد بن ثابت حثا عليه التراب ثمّ قال : هكذا يدفن العلم. قال عليّ : فحدثت به عليّ بن حسين فقال : وابن عباس والله قد دفن به علم كثير (٣).

أبو هريرة

ذكره ابن حجر في ( تهذيب التهذيب ) فيمن روى عنه ابن عباس ، وهذا منه لا يخلو من غرابة! وقد سبق أن ذكرت أبا هريرة ضمن المكثرين من الصحابة وأنّه اتهمه الصحابة في كثرة الحديث لقصر أيام صحبته ، فما

____________________

(١) المبسوط ٢٩ / ١٨٢.

(٢) الطبقات ٥ / ٢١١.

(٣) أنظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ٢ / ٩٨٢ برقم ١٨٧٣ ط مؤسسة الرسالة بيروت سنة ١٤٠٣ هـ ، السنن الكبرى للبيهقي ٣ / ٤١٠.

١٢٨

بال ابن عباس يروي عن إنسان مثل أبي هريرة؟!

ولو سلمنا فأين هي روايته حتّى استساغ ابن حجر أن يعدّ ابن عباس ممّن روى عن أبي هريرة؟

ولعلّه أراد ما أخرجه البخاري في صحيحه في ( كتاب الإستئذان باب زنا الجوارح دون الفرج ) بسنده عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : ( ما رأيت شيئاً أشبه باللمم ممّا قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم انّ الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا النساء المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدّق ذلك كلّه ويكذبه ) (١). وهذا ليس بشيء يجعل معه ابن عباس من رواة الحديث عن أبي هريرة! على أنّ هذا الحديث مطعون في سنده من جهة ابن طاووس ، وحسب القارىء معرفة به أنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك ، وكان كثير الحمل على أهل البيت (٢).

____________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٥٤ ط بولاق.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٦٨.

١٢٩

شبهات كاذبة

لقد تحامل بعض المستشرقين ـ بغير حق ـ على ابن عباس حبر الأمة فأكذبه بعضهم لكثرة مروياته ، وأدانه بعضهم بأنّه أخذ عن بعض أهل الكتاب وسمّوا كعب الأحبار وعبد الله بن سلام ووهب ابن منبه وأبا الجلد ، وتلك شنشنة نعرفها منهم ، وحسيكة بغض للإسلام نعلمها فيهم ، ولابدّ لنا من وقفة معهم والنظر في أدلتهم لإثبات مزاعمهم.

أمّا النمط الأوّل : فقد ذكر المرحوم الدكتور جواد عليّ في محاضرته ( موارد تاريخ الطبري ) المنشورة في العدد الأوّل من السنة الأولى من مجلة المجمع العلمي العراقي ص٢١٢ عن المستشرق شبرنجر : أنّه تحامل على ابن عباس فرماه بالكذب والبهتان بسبب كثرة مروياته. والتناقض بين بعض المروي عنه.

وقد دافع الدكتور جواد عليّ عن ابن عباس فقال رداً على المستشرق المذكور : وأنا على يقين أنّه لو أعمل عقله ودرس هذه الأقوال المنسوبة إلى ابن عباس دراسة علمية دقيقة ، ولو فكر في العوامل السياسية التي يمكن أن تكون هي المسؤولة أوّلاً عن ذلك ، وهي لا تدخل في بحثنا هذا في زماننا.

أقول : لو فكر في ذلك وتعمق في البحث عن هذه الأسباب ما تسرع

١٣٠

في حكمه هذا الذي تخالفه أيسر قواعد الجرح والتعديل.

وأمّا النمط الثاني : الذين أصرّوا على أخذ ابن عباس عن أهل الكتاب وسمّوا لنا منهم أنفاراً سنقف معهم عند كلّ واحد واحد منهم. لنرى هل أخذ منه عبد الله بن عباس شيئاً.

ثمّ إنّ البخاري وغيره (١) رووا عن ابن عباس نهيه لمن يأخذ عن أهل الكتاب ، واشتد نكيره على الذين يسألونهم ، مع أنّ عندهم كتاب الله بين ظهرانيهم.

هل أخذ ابن عباس عن كعب الأحبار؟

والجواب : لا. ولسنا متسرعين في ذلك؛ بل لو قال من زعم أخذه عنه بالعكس فما عدا الحق ، نعم ربما اغتر بنحو ما ورد في ألفية السيوطي من قوله :

وقد روى الكبار عن صغار

في السنّ أو في العلم والمقدار

ومنه أخذ الصحبُ من أتباع

وتابع عن تابع الأتباع

كالحبر عن كعب وكالزهري

عن مالك ويحيى الأنصاري (٢)

____________________

(١) صحيح البخاري ٤ / ١٧٣ و ١٩٣ و ٢ / ٧١ ، ومصنف عبد الرزاق ١٠ / ٣١٤ و ١١ / ١١٠ ، وجامع بيان العلم ٢ / ٥١ ، والفصل لابن حزم ١ / ٢١٦ ، وتاريخ ابن كثير ٢ / ١٣٤ ، ومجمع الزوائد ١ / ١٩٢ ، وتفسير السيوطي ١ / ٨٣ نقلاً عن البخاري وعبد الرزاق وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الايمان.

(٢) شيخ المضيرة / ٩١ ط دار المعارف.

١٣١

ومثل هذه الأبيات في ألفية العراقي (١) ، وحكى الشيخ أبو رية ذلك ، وقول الشيخ أحمد شاكر شارح الألفية : ( ومن هذا النوع رواية الصحابي عن التابعين كرواية الحبر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة وأبي هريرة وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار. وأبو هريرة وابن عباس كانا أكثر من نشر علم كعب الأحبار ... ).

أقول : إنّ من يجد اسم ابن عباس محشوراً مع أبي هريرة فيخاله هو مثله في الأخذ عن ذلك الكاهن الخبيث! ومن الظلم حشره معه ، كيف وذلك الكاهن وصفه الدكتور طه حسين في كتابه ( الشيخان ) ، قال : ( كان غريب الأطوار عرف كيف يخدع كثيراً من المسلمين ، ومنهم عمر ـ وهو كعب الأحبار ـ وكان كعب يهودياً من أهل اليمن ، زعم أنّه سأل عليّاً رحمة الله عن النبيّ حين ذهب عليّ إلى اليمن مرسلاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا أنبأه عليّ بصفة النبيّ عرف هذه الصفة ممّا كان يجده بزعمه في التوراة ، ولم يأت المدينة أيام النبيّ وإنّما أقام على يهوديته في اليمن ، وزعم هو بعد ذلك للمسلمين أنّه أسلم ودعا إلى الإسلام في اليمن ، وقد أقبل إلى المدينة أيام عمر ، فأقام فيها مولى للعباس بن عبد المطلب رحمة الله ، وكان بارعاً في الكذب على المسلمين يزعم أنّه يجد صفاتهم في الكتب ، وكان المسلمون يعجبون بذلك ويتعجبون له ، ولم يلبث أن كذب على عمر نفسه فزعم له أنّه يجد

____________________

(١) راجع فتح المغيث بشرح ألفية الحديث / ٨٣٢ ـ ٨٣٣.

١٣٢

صفته في التوراة ، فعجب عمر وقال : تجد اسم عمر في التوراة؟ قال كعب لا أجد اسمك! وإنّما أجد صفتك ) (١) ، وابن عباس كان يكذّبه فكيف يأخذ عنه!!

ولعلّ من اغترّ بما مرّ وأيضاً بما يجده من مساءلة ابن عباس لكعب فيتخيل أنّها كانت للأخذ عنه ، وهي إنّما كانت للإختبار.

وإلى القارئ ما رواه البلاذري في ترجمة ابن عباس في أنسابه : ( بسنده عن القاسم بن عوف الشيباني ، أنّ عبد الله بن عباس قال لكعب الأحبار : إنّي سائلك عن أشياء فلا تحدثني بما حرّف من الكتاب ، ولا أحاديث الرجال وإن لم تعلم فقل : لا أعلم فإنّه علم لك ) (٢). فأين هذا من الأخذ عنه؟!

وإلى القارئ بعض الشواهد الدالّة على عكس ما قالوا :

١ ـ فمن البرهنة على ذلك ما ذكره ابن قتيبة في ( عيون الأخبار ) : ( ذُكر الظلم في مجلس ابن عباس ، فقال كعب : إنّي لا أجد في كتاب الله المنزل أنّ الظلم يخرب الديار ، فقال ابن عباس : أنّا أوجدكَهُ في القرآن : قال الله عزوجل : ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ) (٣) ) (٤).

____________________

(١) الشيخان / ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) أنساب البلاذري رقم ٦٥ نسخة ٢ مخطوطة بقلمي.

(٣) النمل / ٥٢.

(٤) عيون الأخبار ١ / ٧٦ ط دار الكتب.

١٣٣

٢ ـ ومن البرهنة أيضاً ما رواه ابن قتيبة أيضاً عن عكرمة : ( قال : كنّا جلوساً عند ابن عمر وابن عباس ( رضي الله عنهما ) فمرّ طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن عباس : لا خير ولا شر.

قال كعب لابن عباس : ما تقول في الطيرة؟ قال : وما عسيت أن أقول فيها؟ لا طير إلاّ طير الله ، ولا خير إلاّ خير الله ، ولا إله إلاّ الله ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.

قال كعب : إنّ هذه الكلمات في كتاب الله المنزل يعني التوراة ) (١).

٣ ـ ومن البرهنة أيضاً ما رواه الزمخشري في تفسيره ( الكشّاف ) في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (٢) ، والقرطبي في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) وغيرهما ، عن ابن عباس قال لرجل مقبل من الشام : من لقيت به؟ قال : كعبا ، قال : وما سمعته يقول؟ قال : سمعته يقول : إنّ السموات على منكب ملَكَ. قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد! إنّ الله تعالى يقول : ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (٣).

____________________

(١) عيون الأخبار ١ / ١٤٦.

(٢) سورة فاطر / ٤١.

(٣) تفسير الكشّاف ٢ / ٥٨٠ ط مصطفى الحلبي وأولاده بمصر سنة ١٣٦٧ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٣٥٧.

وفي تفسير الطبري ٢٢ / ١٤٤ ط٢ مصطفى الباسي الحلبي وأولاده بمصر والمصدرين السالفين أعلاه ذكر نحو هذا أيضاًً عن كعب نقلاً عن ابن مسعود وقال : لبعض أصحابه ذهب إلى كعب يتعلم منه العلم ، فلمّا رجع قال له ابن مسعود : ما الذي أصبت من كعب؟ قال : سمعت كعب يقول ان السماء تدور

١٣٤

٤ ـ ومن البرهنة أيضاً ما رواه الزمخشري في ( الكشاف ) أيضاً والقرطبي في تفسيره ( الجامع لاحكام القرآن ) أنّ كعباً قال لابن عباس : إنّي أجد في التوراة : من حفر لأخيه مغواة ـ حفرة ـ وقع فيها فقال ابن عباس : فإنّي أوجدك في القرآن ذلك ، قال : وأين؟ قال : فاقرأ ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) (١) ) (٢).

٥ ـ وأجلى ممّا مرّ من البرهنة أيضاً هو ما رواه الطبري في تاريخه والثعلبي في كتابه ( قصص الأنبياء ) وغيرهما عن عكرمة : ( عن ابن عباس قال : بينما هو جالس ذات يوم من الأيام إذ أتاه رجل فقال : يا بن عباس إنّي سمعت العجب من كعب الأحبار يذكر في الشمس والقمر ـ وكان ابن عباس متكئاً فاحتفز ـ ثمّ قال : قال كعب الأحبار إنّه يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار.

قال عكرمة : فطارت من ابن عباس شظية ووقعت أخرى غضباً ثمّ قال : كذب كعب الأحبار ، كذب كعب ، كذب كعب ـ قالها ثلاثاً ـ بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام ، والله أكرم وأجلّ من أن يعذّب أهل

____________________

على قطب مثل قطب الرحى ، في عمود على منكب ملك ، فقال له عبد الله. وددت أنك انقلبت براحلتك ورحلها ، كذب كعب ، ما ترك يهوديته ، ان الله تعالى يقول : ( إن الله يُمسك السموات والأرض أن تزولا ) ان السموات لا تدور ، ولو كانت تدور لكانت قد زالت.

(١) سورة فاطر / ٤٣.

(٢) تفسير الكشاف ٢ / ٥٨٠ ، التفسير الجامع ١٤ / ٣٥٩.

١٣٥

طاعته ، ألم تر إلى قوله تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) (١) يعني دؤبهما في طاعته ، فكيف يعذّب أهل طاعته ، فكيف يعذّب عبدين أثنى عليهما أنّهما دائبان في طاعته ، قاتل الله هذا الحبر وقبّح حديثه ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله تعالى.

ثمّ استرجع مراراً ، ثمّ أخذ عوداً من الأرض فجعل ينكت به في الأرض ، وظل كذلك ما شاء الله ، ثمّ إنّه رفع رأسه ورمى العود وقال : إلاّ أحدّثكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الشمس والقمر وبدء خلقهما ومصير أمرهما؟ قلنا : بلى يرحمك الله تعالى. فقال ... وذكر الحديث بطوله إلى أن قال عكرمة في آخره :

فقمت مع النفر الذين حدثوا عن كعب ما حدثوا به من أمر الشمس والقمر حتّى أتيناه فأخبرناه بغضب ابن عباس وما وجدوه من حديثه ، وبما حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ممّا بين مبدئهما إلى معادهما.

فقال كعب الأحبار : إنّي حدثت عن كتاب دارس منسوخ قد تداولته الأيدي ، وابن عباس حدّث عن كتاب حديث العهد بالرحمن جلّ جلاله ناسخ الكتب وعن سيد الأنبياء والمرسلين خير البشر ، ثمّ قال : فمشى إلى ابن عباس فقال : بلغني ما كان من وجدك من حديثي ، وما حدثت به ... إلاّ وإني أستغفر الله من ذلك ... وأنا أحبّ أن تحدثني بما حدثت به

____________________

(١) إبراهيم / ٣٣.

١٣٦

أصحابك من حديث الشمس والقمر فاحفظ عنك الحديث ، فإذا حدّثت بشيء عن أمر الشمس والقمر فيما بعد هذا اليوم كان هذا الحديث الذي تحدثني مكان حديثي الأوّل ، قال عكرمة : فو الله لقد أعاد عليه ابن عباس الحديث ، وإنّي لأستقرئه في قلبي باباً باباً فما زاد شيئاً ولا نقص شيئاً ، ولا قدّم ولا أخّر. فزادني ذلك في ابن عباس رغبة وللحديث حفظاً ... ) اهـ (١).

وبعد هذه الشواهد لا يصح معها قول من يزعم أنّ ابن عباس كان يأخذ عن أهل الكتاب ، ومنهم كعب الصهيوني الأوّل ، بل هناك شواهد رويت عن ابن عباس ومن قبله عن أبيه وأيضاً عن الإمام عليّ عليه السلام أنّهم كانوا في ريب من صحة إسلام كعب فضلاً عن الأخذ منه. وإليك بعضاً منها :

أ ـ ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ كما في كتاب أبي رية ( أضواء على السنة المحمدية ) : أنّه كذّاب (٢).

ب ـ ما روي عن العباس بن عبد المطلب : ( قال سعيد بن المسيب : قال العباس لكعب ما منعك أن تُسلم على عهد محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتّى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب : إنّ أبي كتب

____________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٦٥ ط٥ دار المعارف ، قصص الأنبياء / ١١ ـ ١٦ط حجازي بالقاهرة سنة ١٣٧١ هـ. ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي السفر الأوّل ٧ / ١٤٤ بتحقيق احسان عباس ط دار الشروق ، واللئالئ المصنوعة للسيوطي وكامل ابن الأثير باختصار وقد نقد الخبرية فراجعه في الجزء الأوّل في أوائله.

(٢) أضواء على السنة المحمدية / ١٢٦.

١٣٧

لي كتاباً من التوراة ودفعه إليّ وقال : إعمل بهذا وختم على سائر كتبه وأخذ عليّ بحق الوالد على ولده أن لا أفضّ الخاتم ، فلمّا كان الآن ورأيت الإسلام يظهر ولم أر بأساً ، قالت لي نفسي : لعلّ أباك غيّب عنك علماً كتمك فلو قرأته ، ففضضت الخاتم فقرأته فوجدتُ فيه صفة محمّد وأمته ، فجئت الآن مسلماً. فوالى العباس ). انتهى بنص ابن سعد في طبقاته (١).

ومن الغريب أنّ الدكتور جواد عليّ يعتقد أنّه ليس هناك دليل قوي يثبت لقاء كعب الأحبار لابن عباس! (٢) ولنا فيما تقدم أقوى دليل على ثبوت اللقاء.

نعم ، ثمة أخبار مكذوبة تذكر لقاء كعب وابن عباس عند معاوية وفي أيام حكومته ، وهي لا تصح أبداً ، لأنّ كعباً توفي في أواخر أيام عثمان وفي سنة ٣٢ هـ (٣) ومعاوية تولى الحكومة بعد الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام سنة ٤١ هـ ، فكيف يمكن تصديق المفسرين والمحدثين والمؤرخين الذين يذكرون أكذوبة قراءة معاوية ( في عين حامية ) وقراءة ابن عباس ( في عين حمئة ) ، وما دار بينهما حول ذلك وتحكيم كعب الأحبار في ذلك؟! وسيأتي ما عندنا في ذلك في الحلقة الثالثة إن

____________________

(١) الطبقات ٧ / ق ٢ / ١٥٦.

(٢) مجلة المجمع العلمي العراقي ١ / السنة الأولى / ٢١٣.

(٣) أنظر طبقات ابن سعد ٧ / ٣٠٩.

١٣٨

شاء الله عند تفسير الآية ( ٨٦ ) المباركة من سورة الكهف. ومن تعجّل فليرجع إلى تفسير القرطبي (١) ، وتفسير السيوطي (٢) ، فقد ذكرا الخبر نقلاً عن عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر ، وعند سعيد بن منصور وابن المنذر من طريق عطاء أيضاً. كما أخرج الخبر البلاذري في ( أنساب الأشراف ) في ترجمة ابن عباس (٣) ، وهذا من أغرب الغرائب أن يروي هؤلاء جميعاً خبر الإلتقاء بين ابن عباس وبين كعب عند معاوية وفي أيام حكومته ، دون الإلتفات إلى وفاة كعب قبل حكومة معاوية بعقدٍ من السنين تقريباً!! وإن تعش رجباً تزدد عجباً حين ترى بعض أصحاب الدراسات الحديثة عن ابن عباس يذكر الخبر دون التنبيه على ما فيه من استبطان الكذب في لقاء ابن عباس مع كعب عند معاوية ، ولعلّ هذا ما دعا الدكتور جواد عليّ إلى إعتقاده بعدم وجود دليل قويّ يثبت اللقاء بينهما.

وقفة عابرة مع الشيخ أبي ريّة       

وأخيراً رحم الله الشيخ محمود أبو رية حيث قال : ( انّ الاستاذ سعيد

____________________

(١) تفسير القرطبي ١١ / ٤٩.

(٢) تفسير السيوطي ٤ / ٢٤٨.

(٣) ترجمة ابن عباس رقم ١٠٨ نسخة مخطوطة بقلمي.

١٣٩

الأفغاني نشر مقالاً بمجلة الرسالة المصرية قال فيه : انّ وهب بن منبّه الصهيوني الأوّل ، وصححت هذا الرأي بمقال نشر في العدد ( ٦٥٦ ) من هذه المجلة أثبت فيه بالأدلة القاطعة أن كعب الأحبار هو الصهيوني الأوّل ، وما كان هذا المقال ينشر حتّى هبّ في وجهنا شيوخ الأزهر وأمطرونا وابلاً من طعنهم المعروف وقالوا : كيف تصف ( سيدنا كعباً ) بأنّه الصهيوني الأوّل وهو من كبار التابعين وخيار المسلمين ، وممّا يؤسف له إنّهم لا يزالون يذكرون اسمه بالسيادة إلى اليوم ) (١).

أقول : وما دام رحمة الله قد صحّح في مقاله الذي أشار اليه ـ رأي سعيد الأفغاني في جعله وهب بن منبّه هو الصهيوني الأوّل ، وقال : ( أثبتّ فيه بالأدلة القاطعة أن كعب الاحبار هو الصهيوني الأوّل ... ) ، وهبّ في وجههما شيوخ الأزهر فأمطراهما بوابل من طعنهم ، فأنا الآن أكرّر له الرحمة ما دام التصحيح من شأنه ، ولا أمطره إلاّ بوابل من الدعاء بالمغفرة على هفوته في هذا المجال ، وعثرته التي لا تقال ، حيث قال في كتابه ( أضواء على السنة المحمدية ) : ( وفي تفسير الطبري أنّ ابن عباس سأل كعباً عن ( سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى )؟ فقال : إنّها على رؤوس حملة العرش ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، وليس لأحد وراءها علم ، ولذلك سُمّيت ( سدرة المنتهى ) لانتهاء العلم بها. هذا ما قاله لتلميذه الثاني ، أمّا تلميذه الأوّل فهو أبو هريرة ... ) (٢).

____________________

(١) شيخ المضيرة / ٩٣ دار المعارف ط٣.

(٢) أضواء على السنة المحمدية / ١٢٣.

١٤٠